|
|
مبدع
|
|
المشاركات: 2,307
|
#1
|
قصص وحكايات عن الجاحظ
يرى البعض أن الجاحظ وفي مقاطع من كتبه يجيد بشكل كبير النثر القصصي لبراعته في تصوير الشخصيات والنفوس وما يؤكد ذلك قصته هذه التي يرويها في كتاب الحيوان :
( كان لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سوار ، لم يرى الناس حاكما قط ولا زميتا ( وقورا ) ولا ركينا ( رزينا ) ولا وقورا حليما ضبط من نفسه ، وملك من حركته ، مثل الذي ضبط وملك .
كان يصلي الغداة في منزله ، وهو قريب الدار من مسجده ، فيأتي مجلسه ، فيحتبئ ، ولا يتكئ ، فلا يزال منتصبا ، لا يتحرك له عضو ولا يلتفت ولا يحل حبوته ، ولا يحول رجلا عن رجل ، ولا يعتمد على أحد شقيه ، حنى كأنه بناء مبني أو صخرة منصوبة فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة الظهر ، ثم يعود إلى مجلسه ، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة المغرب ... كذلك كان شأنه في طوال الأيام وفي قصرها وفي صيفها وشتائها ، وكان مع ذلك لا يحرك يده ولا يشير برأسه ، وليس إلا أن يتكلم فيوجز ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة .
فبينما هو كذلك ذات يوم وأصحابه حواليه في السماطين ( مثنى سماط وهو الصف ) بين يديه ، إذ سقط على أنفه ذباب ، فأطال المُكث ، ثم تحول إلى مؤق ( طرف العين مما يلي الأنف ) عينه ، فرام الصبر في سقوطه على المؤق وعلى عضه ونفاذ خرطومه ، كما رام الصبر على سقوطه على أنفه من غير أن يحرك أرنبته ( طرف أنفه ) أو يغضن وجهه أو يذب بإصبعه .
فلما طال ذلك عليه من الذباب وشغله وأوجعه وأحرقه ، وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل ، فلم ينهض ( الذباب ) فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح ، فتنحى ( الذباب ) ريثما سكن جفنه ، ثم عاد إلى مؤقه بأشد من مرته الأولى ، فغمس خرطومه في مكان كان قد أواهاه قبل ذلك ، فكان احتماله له أضعف ، وعجزه عن الصبر في الثانية أقوى ، فحرك ( القاضي ) أجفانه وزاد في شدة الحركة وفي فتح العين وفي تتابع الفتح والإطباق ، فتنحى عنه بقدر ما سكنت حركته ، ثم عاد إلى موضعه ، فما زال يلح عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده ، فلم يجد بداً من أن يذب عن عينيه بيده ، ففعل ، وعيون القوم إليه ترمقه ، فتنحى عنه بقدر ما رد يده وسكنت حركته ، ثم عاد إلى موضعه ، ثم ألجأه إلى أن ذب عن وجهه بطرف كمه ، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك .
وعلم أن فعله كله بعين من حضره من أمنائه وجلسائه . فلما نظروا إليه قال : أشهد أن الذباب ألج من الخنفساء وأزهى من الغراب ، وأستغفر الله ، فما أكثر من أعجبته نفسه ، فأراد الله عز وجل أن يعرفه من ضعفه ما كان عنه مستورا .
وقد علمت أني عند الناس من أزمت الناس ، فقد غلبني وفضحني أضعف خلقه ، ثم تلا قوله تعالى : ( وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب )
*************
يطربني كثير طريقة الجاحظ في رواية القصة ، ففيها من الإمتاع والقدرة في جذب القارئ ما لا حد له ..
والعجيب من أمره أنه يجيد رواية القصة الواحدة بأكثر من طريقة وأسلوب .
يروي قصة جبل العمي مع صديقه أبو مازن الأحدب وبخله الشديد فيقول في كتاب البخلاء :
( وكان جبل خرج ليلا من موضع كان فيه ، فخاف الطائف ( الذي يطوف بأحياء المدينة من قبل الحاكم ليلا ليتفقد أحوالها ) ولم يأمن المستقفي ( أي الذي يقتفي أثره لسلبه ) فقال : لو دققت الباب على أبي مازن ، فبت عنده في أدنى بيت ( أقرب حجره من باب منزله ) أو في دهليزه ، ولم ألزمه من مؤنتي شيئاً ، حتى إذا انصدع عمود الصبح ، خرجت في أوائل المدلجين ( السائر من أخر الليل ) .
فدق عليه الباب دق واثق ، ودق من يخاف أن يدركه الطائف ، أو يقفوه المستقفي ، وفي قلبه عز الكفاية ، والثقة بإسقاط المؤنه .
فلم يشك أبو مازن ،اه دق صاحب هدية ، فنزل سريعا ، فلما فتح الباب وبصر بجبل ، بصر بملك الموت ! فلما رآه جبل واجما ، لا يحير كلمة ، قال له : أني خفت معرة الطائف ، وعجلة المستقفي ، فملت إليك لأبيت عندك .
فتساكر أبو مازن ، وأراه أن وجومه إنما كان بسبب السكر ، فخلع جوارحه ( أي أنه تظاهر بإن فيه تفكك من أثر السكر ) وخبل لسانه ( تظاهر بإن في لسانه فساد من أثر السكر ) وقال : سكران والله ، أنا والله سكران !
قال له جبل : كن كيف شئت ، نحن في أيام الفصل لا شتاء ولا صيف ، ولست أحتاج إلى سطح ، فأغم عيالك بالحر ، ولست أحتاج إلى لحاف ، فأكلفك أن تؤثرني بالدثار ، وأنا كما ترى ثمل من الشراب ، وشبعان من الطعام ، ومن منزل فلان خرجت ، وهو أخصب الناس دخلا ، وإنما أردت أن تدعني أغفي في دهليزك إغفاءة واحدة ، ثم أقوم في أوائل المبكرين .
قال أبو مازن ، وأرخى عينيه وفكيه ولسانه ، ثم قال : سكران والله ! أنا سكران ! لا والله ما أعقل أين أنا ! والله إن أفهم ما تقول ! ثم أغلق الباب في وجهه ، ودخل لا يشك أن عذره قد وضح ، وأنه قد ألطف النظر ، حتى وقع على هذه الحيلة )
وقد ذكر الجاحظ هذه القصة في كتابه " البرصان والعرجان والعميان والحولان " فقال :
( ومن الحدبان أبو مازن الأحدب " ............ " وهو الذي دق عليه الباب جبل العمي بعد أن مضى من الليل وهدأت الرجل ( كناية عن انصراف القوم إلى النوم ) فخرج إليه أبو مازن وهو لا يظن أنه إنسان يريد أن يبيت عنده ، فلما رآه جبل العمي قال له : ليس نحن في الصيف فأضيق على عيالك السطح ، ولا نحن في الشتاء فتكره أكون قرب حُرمتك ، ونحن في الفصل ، وقد تعشيت ، وإنما خفت الطائف ، فدعني أبيت بقية ليلتي في الدهليز ، وفي ثيابي التي علي ، فإذا كان مع الفجر مضيت .
قال ( أبو مازن ) : أنا والله سكران ما أفهم عنك قليل ولا كثير ، فأعاد عليه القول ، فقال : سكران والله ، ليس أفهم عنك ! وأصفق الباب في وجهه .
فضحك جبل ، فمر به الطائف فسأله عن شأنه ، فضحك الطائف وشيعه إلى أهله )
***************
وللجاحظ قصص وكتب عن البخلاء والمعلمين والمتنبيين قصص عن الحمقى ونوادرهم والجواري وقصصهم وغيرهم ..
ويبدوا لي أن الكثير من الكتاب قد أخذوا من قصص الجاحظ وما رواه ، وأدل من ذلك عند مراجعتك لكتاب العقد الفريد ستجد أن كثير من قصص البخلاء ليس مرجعها إلا كتب الجاحظ !
من بين ما ألفه الجاحظ وسخر منهم المعلمين ، وقد ذكر له قصة وقبل أن يؤلف كتابه مع أحد معلمي الصبيان والذي عشق امرأة من غير أن يراها قال ( الجاحظ ) :
(دخلت يوما مدينة ، فوجدت فيها معلما في هيئة حسنة فسلمت عليه ، فرد علي أحسن رد ، ورحب بي ، فجلست عنده ، وباحثته في القرآن ، فإذا هو ماهر فيه ، ثم تفاتحنا الفقه والنحو وأشعار العرب ، فإذا هو كامل الأدب ، فقلت : سأختلف إليه وأزوره .
وجئت يوما لزيارته فإذا بالكُتاب مغلق ولم أجده ، فسألت عنه فقيل : مات له ميت ، فحزن عليه وجلس في بيت عزائه .
فذهبت إلى بيته وطرقت الباب ، فخرجت إلي جارية وقالت : ما تريد ؟ قلت : سيدك . فدخلت وخرجت ، وقالت : باسم الله ، فدخلت إليه وإذا به جالس . فقلت : عظم الله أجرك ، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، كل نفس ذائقة الموت ، فعليك بالصبر .
ثم قلت له : هذا الذي توفي ولدك ؟ قال : لا . قلت : فوالدك ؟ قال : لا . قلت فأخوك ؟ قال : لا . قلت : فزوجتك ؟ . قال : لا . فقلت : فمن هو ؟! قال : حبيبتي . فقلت في نفسي . هذا أول العجائب . فقلت : سبحان الله ! النساء كثير ، وستجد غيرها . فقال : أتظن أني رأيتها ؟ قلت ( في نفسه ) : هذه الثانية . . ثم قلت : وكيف عشقت من لم ترى ؟ فقال : أعلم أني كنت جالسا في هذا المكان ، وأنا أنظر من الطاق إذ رأيت رجلا عليه برد وهو يقول :
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة *** ردي علي فؤادي أينما كان
فقلت في نفسي : لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها ما قيل فيها هذا الشعر فعشقتها .
فلما كان منذ يومين مر ذلك الرجل بعينه وهو يقول :
لقد ذهب الحمار بأم عمرو *** فلا رجعت ولا رجع الحمار
فعلمت أنها ماتت ، فحزنت عليها ، وأغلقت الكُتاب وجلست في الدار !
فقلت ( الجاحظ ) : يا هذا ، إني كنت ، قد ألفت كتابا في نوادركم معشر المعلمين ، وكنت حين صحبتك عزمت على تقطيعه ، والآن قد قويت عزمي على إبقائه ، وأول ما أبدأ بك إن شاء الله ) .
*************
الجاحظ وذاكرته
يذكر الخطيب البغدادي في كتاب " تاريخ بغداد " عن الجاحظ هذه القصة :
( نسيت كنيتي ثلاثة أيام ، فأتيت أهلي فقلت : بما أكنى ؟ فقالوا : بأبو عثمان )
ورغم هذا فكثير من قصص الجاحظ قد رواها وبعد أربعين سنة بعد حدوثها كما صرح في بعض كتبه ، كم أن كتبه وروايته تنفي هذه القصة وتكذبها .
إلا أن الجاحظ وفي موضع من كتاب الحيوان يذكر عن حيوان يساعد البحارة عند الغرق ( الدلفين ) يقول : ( ولم أجدهم يشكون أن بعض الحيوان الذي يكون في البحر مما ليس بسمك ، قد ذهب عني اسمه ، إذا أبصر غريقا عرض له وصار تحت بطنه وصدره فلا يزال كالحامل له والمزجي المعين حتى يقذف به إلى جزيرة أو ساحل أو جبل )
ويبدوا أن الجاحظ قد نسى أسم هذا الحيوان وهو الدلفين ، مع أنه ذكر أسم الدلفين في كتابه هذا في مواضع أخرى من الكتاب ....
|
|
10-01-2002 , 09:34 PM
|
الرد مع إقتباس
|