من منا لم يسمع بقصة المعتصم مع المرآة التي استنجدت به بعد تعرضها للأذى فهب لنجدتها الخليفة المعتصم وجيشه العظيم من أجل إنقاذها وكان هذا سبب من أسباب غزوة ( عمورية ) !
كانت هذه القصة أحد القصص التي تروى من أجل ضرب الأمثال على تلك النخوة التي أظهرها المعتصم وغيره من حكام المسلمين العظماء ، كما أنها كثيراً ما تستحضر في هذا الزمن الذي كادت تنعدم فيه النخوة في حكام العرب والمسلمين :
رُبّ وامعتصماهُ انطلقت ** ملء أفواه الصبايا اليتيمِ
لامست أسماعهم لكنها ** لم تلامس نخوة المعتصم
غير أنني اطلعت على بعض المواقع الإنترنت العربية تزعم أن قصة المعتصم مع تلك المرأة مجرد أسطورة لا حقيقة لها ، وللأسف الشديد أن هذه المقولة انتشرت في أكثر من موقع ومنها موقع السوالف ، فسجل أحد الأخوان الأفضل موضوع ذكر فيها بعض الأدلة والتي يرجح بسببها أكذوبة هذه القصة واختلاقها وأنها أشبه ما تكون بالأسطورة ، أنظر الرابط التالي :
http://www.swalif.com/forum/showthread.php?t=221229
وقد عقبت في ذلك الموضوع وذكرت بعض النقاط التي أرى أنها ترجح صدق هذه القصة تاريخياً ، غير أني لم اكتفي بتلك النقاط التي ذكرتها فبحثت في الكتب الورقية والالكتروني مدة من الزمن فازداد عندي رجحان صحة القصة بأدلة تاريخية سأذكرها الآن بإذنه تعالي ..
ولكن قبل هذا سأذكر القصة حسبما يذكرها المؤرخون .
تقول الرواية كما يذكر ابن الأثير في تاريخه وهو أحد المصادر المهمة في التاريخي العربي الإسلامي في حوادث سنة 223هـ وهو يتحدث عن فتح عمورية ، قال :
(( لما خرج ملك الروم، وفعل في بلاد الإسلام ما فعل، بلغ الخبر إلى المعتصم، فلما بلغه ذلك استعظمه، وكبر لديه، وبلغه أن امرأة هاشمية صاحت، وهي أسيرة في أيدي الروم: وامعتصماه! فأجابها وهو جالس على سريره: لبيك لبيك! ونهض من ساعته، وصاح في قصره: النفير النفير ))
ما يثبت القصة تاريخيا :
أولاً / أن القصة لم تكن غريبة على الخلفاء والأمراء المسلمين فقد روي مثلها في كتب التاريخ الإسلامي كقصة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه والتي رواها المسعودي في كتابه ( مروج الذهب ج4 ص 215 - - المكتبة الإسلامية – تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ) قال المسعودي :
((فأما خبر معاوية وما ذكرناه من خبر الرجل الذي أسرَ البطريق من مدينة القسطنطينية، فهو أن المسلمين غَزَوْا في أيام معاوية، فأسر جماعة منهم، فأوقفوا بين يدي الملك، فتكَلم بعض أسارى المسلمين، فدنا منه بعض البطارقة ممن كان واقفاً بين يدي الملك فلَطَمَ حُرَّ وجهه فآلمه - وكان رجلًا من قريش - فصاح: وا إسلاماه، أين أنت عنا يا معاوية؟ إذ أهملتنا وضيعت ثغورنا وحكمت العدو في ديارنا وعمائنا وأعراضنا، فنمي الخبر إلى معاوية فآلمه، وامتنع من لذيذ الطعام والشراب )) إلى أخر القصة في مروج الذهب والتي تذكر ما قام به معاوية رضي الله عنه للانتقام من ما حدث لذلك القرشي ..
وكذلك حدث للحجاج بن يوسف الثقفي مثل ذلك وقصة الحجاج تشبه قصة المعتصم كثيراً فقد ذكروا أن امرأة مسلمة اغتصبها لصوص الديبل فنادت يا حجاج فبلغه الخبر فأجابها لبيك لبيك وقد ذكرها البيروني المتوفي سنة 440 وقارنها بقصة المعتصم فقال في كتابه الجماهر في معرفة الجواهر [ كتاب ألكتروني ] :
(( ثم حكى ان صاحب تلك الجزيرة وجه الى الحجاج بن يوسف بنسوة مسلمات ولدن بها من التجار ومات آباؤهن فبقين عطلا واراد به التقرب اليه بذلك فقطع ميدوهم لصوص الديبل والبوارج أصحاب بيره وهي السفن بلغتهم على ذلك المركب واغتصبوا تلك النسوة - فصاحت واحدة منهن من بني يربوع مستغيثة ونادت - يا حجاج - فبلغه الخبر فاجابها بيا لبيك كما اجاب المعتصم نداء الأرملة في ثغور الروم، وامعتصماه - بيا لبيكاه - ثم ان الحجاج راسل داهر بن ججه في تخلية النسوة فلم يعبأ بقوله واجاب بأنه لايقدر على ارتجاعهن من اللصوص فولى محمد بن القاسم بن منبه وهو ابن ستة عشر سنة ثغر السند وشكا اليه عوز الخل واضطرار اصحابه اليه فنقع الحجاج القطن المحلوج في خل خمر ثقيف مرات كل مرة يجففه في الظل حتى يشربه ثم عباه ووجهه اليه ثم كتب بان ينقع منه في الماء يصطنع به ويعمل في الطبيغ فورد محمد السند وكابد داهر بن ججه حتى اهلكه واستولى على السند ومدينتها بمهنو وتسميها الفرس بمناباذ وفي ذبج الاركند برهمنآباذ - ولما دخلها قال، نصرت - فسميت المنصورة وقصد مولتان وفتحها - قال عند دخولها عمرت فسميت المعمورة )) .
ومما يذكر أن ياقوت الحموي يذكر هذه القصة أيضاً وإن كان يرويها عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي المتوفي سنة 194 هـ مما يدل على أن ياقوت الحموي نقل هذا عن مصدر أخر غير البيروني ، يقول ياقوت الحموي في معجم البلدان في مادة ( واسط ) :
(( وذكر الحجاج عند عبد الوهاب الثقفي بسوءٍ فغضب وقال إنما تذكرون المساوي أوَما تعلمون أنه أول من ضرب درهما عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله وأول من بنى مدينة بعد الصحابة في الإسلام وأول من اتخذ المحامل وأن امرأة من المسلمين سُبيت بالهند فنادت يا حجاجاه فاتصل به ذلك فجعل يقول لبيك لبيك وأنفق سبعة الاف ألف درهم حتى افتتح الهند واستنقذ المرأة وأحسن إليها واتخذ المناظر بينه وبين قزوين وكان إذا دَخنتَ أهل قزوين دخنت المناظر إن كان نهاراً وإن كان ليلاَ أشعلوا نيراناً فتجرد الخيل إليهم فكانت المناظر متصلة بين قزوين وواسط فكانت قزوين ثغراً حينئذ )) ..
بل حتى المأمون وهو اخو المعتصم عرف عنه مثل هذه النخوة يقول المسعودي في مروج الذهب [ ج 4 ص 42 ، 43 ] في قصة تشبه قصة المعتصم:
((قال المسعودي: وأخبرنا القاضي أبو محمد عبد اللّه بن أحمد بن زيد الدمشقي بدمشق، قال: لما توجَّه المأمون غازياً، ونزل البديدون، جاءه رسول ملك الروم فقال له: إن الملك يخيرك بين أن يَرُدَّ عليك نفقتك التي أنفقتها في طريقك من بلدك إلى هذا الموضع، وبين أن يخرج كل أسير من المسلمين في بلد الروم بغير فداء ولا درهم ولا دينار، وبين أن يعمر لك كل بلد للمسلمين مما خربت النصرانية ويرعَّه كما كان، وترجع عن غَزَاتِكَ، فقّام المأمون ودخل خيمة، فصلى ركعتين، واستخار اللهّ عزّ وجلّ وخرج، فقال للرسول: قل له، أما قولك تَرُدًّ عليَّ نفقتي، فإني سمعت اللّه تعالى يقول في كتابه، حاكياً عن بلقيس: " وإنِّي مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون، فلما جاء سليمان قال: أتمدونني بمال؟ فما أتاني اللّه خيرٌ مما آتاكم، بل أنتم بهديتكم تفرحون " وأما قولك: إنك تخرج كل أسير من المسلمين في بلد الروم، فما في يدك إلا أحد رجلين: إما رجل طلب اللّه عز وجل والدار الآخرة، فقد صار إلى ما أراد، وإما رجل يطلب الدنيا، فلا فَكَّ اللّه أسْرَهُ، وأما قولك: إنك تعمر كل بلد للمسلمين قد خربته الروم، فلو أني قلعت أقصى حجر في بلاد الروم ما اعتضت بامرأة عثرت عثرة في حال أسرها، فقالت: وامحمداه وامحمداه، عُدْ إلى صاحبك، فليس بيني وبينه إلا السيف، يا غلام اضرب الطبل، فرحل، فلم ينثن عن غَزَاتِهِ، حتى فتح خمسة عشر حصناً )) .
و يظهر هنا من قول المأمون :
((ما اعتضت بامرأة عثرت عثرة في حال أسرها، فقالت: وامحمداه وامحمداه ))
أن هذه كانت سياسة الدولة الإسلامية في ذلك الزمن ، بل أكد أجزم أن هذه كانت سياسة الدولة التي سنها المأمون للمعتصم والتي سار عليها المعتصم من بعد ذلك ..
ثانياً / القصة رويت في كثير من المصادر التاريخية والأدبية كما ذكرت في بعض المصادر تلميحاً ومن أهم تلك المصادر التي ذكرتها أو لمحت لها التالي :
أ ) ذكرها أبو تمام في قصيدته البائية المشهورة ((السيف أصدق أنباء من الكتب )) فقد قال في البيت السادس والأربعين وما بعده :
(( لبيتَ صَوتاً زِبَطرِياً هَرَقتَ لَهُ ... كَأسَ الكَرَا ورُضَابَ الخُردِ العُرُبِ
عَدَاكَ حَرُ الثغُورِ المُستُضَامَةِ عَن ... بَردِ الثغُورِ وَعَنْ سَلسَالِهَا الحَصِبِ
أَجبتَهُ مُعلِناً بالسيفِ مُنصَلتاً ... وَلَو أَجَنتَ بِغَيرِ السيْفِ لم تُجِبِ ))
وقد أكد كثير من الشراح لديوان أبو تمام في شرحهم للأبيات السابقة أن المقصود بها هذه القصة يقول الخطيب التبريزي : ((تفسيره للبيت المذكور يقول [ انظر شرح ديوان أبي تمام للخطيب التبريزي الجزء الأول ص 34 ] :
(( " زبطري " منسوب إلى زبطرة وهي بلدة فتحه الروم فبلغ المعتصم فيما قيل أن امرأة قالت في ذلك اليوم وهي مسبية وامعتصماه ! فنقل إليه ذلك الحديث وفي يده قدح يريد أن يشرب ما فيه فوضعه وأمر أن يحفظ فلما رجع من فتح عمورية شرب ))
ب ) لمح للقصة البلاذري وهو معاصر لزمن المعتصم والمتوكل في كتابه فتوح البلدان [ ص 198 – منشورات مؤسسة المعارف ] فقال :
(( وأخبرني أمير المؤمنين المتوكل رحمه الله قال: سمعت شيخا من مشايخ بنى صالح بن على بن عبد الله بن عباس يحدث أمير المؤمنين المعتصم بالله
رحمه الله سنة غزا عمورية قال: لما ورد العباس بن زفر الهلالي حلب لاغاثة الهاشميين ناداه نسوة منهم: يا خال ! نحن بالله ثم بك.
فقال: لا خوف عليكم إن شاء الله، خذلني الله إن خذلتكم. )) .
ولا أجد من تفسير لهذه القصة إلا قصة المعتصم مع المرأة الهاشمية وإلا ما سبب ذكر عمورية هنا بالذات وذكر إغاثة الهاشمية ، بل أجد أن ارتباط هذه القصة برواية أخرى يعتبر من المصادفات الغريبة التي لا تجتمع إلا في القليل النادر .
كما يجب ذكر هنا أنه إن ثبت قطعاً أن البلاذري يقصد هذه القصة فقد يدل هذا على صدق الروايات التي ذكرت أن المرأة التي صرخت باسم العتصم كانت هاشمية بالفعل ..
ج) ذكرنا من قبل ما رواه البيروني في كتابه ( الجماهر في معرفة الجواهر ) وقد توفي البيروني سنة 440 هـ حسبما يذكر الزركلي في الاعلام .
د) كما ذكرها أكثر من مصدر تاريخي أخر كالخطيب التبريزي المتوفي سنة 502 هـ في شرح لديوان أبو تمام وذكرنا ذلك سابقاً ، كما ذكرها ابن الجوزي المتوفي سنة 597 هـ وكذلك ذكرها ابن الأثير المتوفي سنة 630هـ في الكامل في التاريخ .
وقد يقول قائل أن تلك الروايات لم تؤكد القصة تماما ولم يثبت كتابها صحة الرواية فالتبريزي يقول :
(( " زبطري " منسوب إلى زبطرة وهي بلدة فتحه الروم فبلغ المعتصم فيما قيل أن امرأة ))
وأنظر لقوله (( قيل )) فهي تثير الريبة في الرواية .
وكذلك ما ذكره ابن الجوزي في روايته يقول : ((وقد بلغنا أن امرأة مسلمة ببلاد الروم أسرت في حرب جرت بينهم وبين المسلمين، فجعلت تنادي: وامعتصماه. فلما بلغه ذلك قال على فوره: لبيك لبيك )) وأنظر إلى كلمته (( بلغنا )) فهي لا توضح هل ثبتت هذه الرواية عند ابن الجوزي أم لا .
وقد يثير هذا القول الشك في الرواية وقد يخلق هذا استنتاج مفاده أن هذه القصة قد تكون من القصص التي انتشرت في زمن هؤلاء المؤلفين أي ( بعد القرن السادس الهجري ) غير أن رواية البيروني التي ذكرناها من قبل تنقض هذا الاستنتاج تماماً !
ومن تلك النقاط التي ذكرتها من قبل فإني أرجح هنا صحة هذه الرواية تاريخياً بنسب عالية كما أرى أن القول و الزعم بأن هذه الرواية أسطورة لا حقيقة لها قد يكون مجانب كثيراً لأحداث التاريخ ورواياته الصحيحة ..