" عقبال الدكتوراه " لازمة تواجهنا كلما قرأنا تهنئة لمتخرج في أي مرحلة دراسية ابتداء من الروضة ، وانتهاء بالجامعة ، والطالب عندنا ومنذ طفولته المبكرة يواجه بهذا الشيء الذي اسمه (الدكتوراه) يتمناها له كل من يهنئه ، وتقرع سمعه باستمرار وتنغرس في ذهنه ومخيلته فتصبح الدكتوراه هدفا وقيمة عليا يحرص الكثير على الحصول عليها وامتلاكها ما امكن ، حتى وان لم تكن الامكانيات العقلية والاستعدادات الفكرية تسمح بذلك .

وهكذا اصبحت هذه الشهادة السحرية مطمح الكثيرين عندنا وحلمهم ومنتهى تفكيرهم ، ونحن هنا نتحدث عن (الدكتوراه) كقيمة اجتماعية وليس عن سبل الحصول عليها وتقويم هذه السبل العديدة التي لم تعد صعبة أو مستحيلة ، واصبح من المتيسر على الكثيرين الحصول عليها بطرق تصعب أو تسهل حسب الجامعات والبلدان والموضوعات المختلفة .
والدكتوراه كشهادة اكاديمية لا تعني أن صاحبها قد بلغ القمة في عمله وتحصيله ، ولكنها في أحسن الأحوال تعطينا فكرة أن حاملها انسان لديه المقدرة والاستعداد لإجراء البحوث العلمية وان أي مجتمع ليس بحاجة الى جيش من حملة الدكتوراه أو الحالمين بها ، ولكنه بحاجة إلى علماء ومتخصصين في مجالات واختصاصات عديدة تهم المجتمع وأفراده ، فنحن بحاجة الى مهارات اخرى كثيرة مما يحتاجه المجتمع لقيامه واستمراره وأمنه ، فلماذا لا نوسع في مجال الأمنيات هذه ونقول لمن نتوسم فيه ميولا معينة : عقبال أن تصبح عالم فيزياء ، عقبال ان تصبح مهندسا بارعا ، عقبال ان تصبح صانعا ماهرا يصنع لنا ما نحتاج اليه ، عقبال ان تصبح إنسانا زراعيا منتجا يؤمن لنا احتياجاتنا الغذائية ويحفظ ثروة وطنه وكرامته .
واما اذا كان المقصود من الدكتوراه ان يصبح حاملها أستاذا جامعيا ، فلا يعني هذا ان يقصر التدريس الجامعي على هؤلاء ونعلم انه في جامعات عريقة يوجد من بين أعضاء هيئة التدريس من لا يحملون غير الشهادة الجامعية الأولى ، وهم حجة في مجالهم وأساتذة في تخصصهم .

أعزائي القراء ، ليست الدكتوراه هي السبيل الوحيد للبحث العلمي والكتابة والابداع ، فهناك كثير من الباحثين والكتاب والعلماء الذين اثروا الفكر والعلم والأدب ولم يكونوا دكاترة ، ولم يكتبوا بغرض الترقية ، فكثير من حملة الدكتوراه أو الماجستير لا تجد لهم نتاجا علميا أو مقالة أو بحثا قبل انجازهم لرسائلهم ويبدو انه لولا ضرورة الكتابة بغرض الترقية الاكاديمية لخف زخم كبير مما تقذفه المطابع يوميا في بلادنا .
يقول أحد العلماء : (ان كثيرا من الابحاث الادبية التي يجد المرء نفسه مدينا لها بالفضل لم يؤلفها من تخرجوا في الدراسات العليا ، ولكن ألفها باحثون فرديون لم يكونوا يفكرون في الترقية الجامعية ، وكتبها – في أوقات الفراغ – دارسون كانوا يكدحون في طلب الرزق .

وها نحن في بلادنا العربية نملك أكثر من 60 ألف دكتوراه ، كما تذكر بعض التقارير ، ولكن ماذا قدمت هذه الآلاف من الشهادات للابداع والبحث والتفكير العلمي ، وما هو مدى اسهاماتها في حل اشكالية التنمية والتخلف التي تؤرق مجتمعاتنا منذ سنين طويلة ، وماذا قدمت كل معضلة التكنولوجيا ؟
وماذا كسبت اللغة العربية من هؤلاء ؟ وهل ساهمت هذه الشهادات ، والمفترض ان اصحابها قد حصلوا عليها بعد جهد علمي وبحث ، هل اسهمت في اشاعة المنهجية العلمية في مواجهة المشكلات وتحديدها وحلها .. وهل اعطتنا قدرا من الموضوعية والامانة العلمية والقدرة على الحوار؟

وختاما .. لا اقصد من هذا الكلام ، الانتقاص من قدر وقيمة حاملي الدكتوراه ولكن تذكيرا لهم بمسؤولياتهم العظيمة ، وما هو مطلوب منهم ، ومحاولة وضع الامور في نصابها بما يستطيعه جهد فردي .. ورأي شخصي .