نماذج ممن سكنوا القمم:
فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: يقول عنه شقيق بن عبد الله : مرض عبد الله بن مسعود، فعدناه، فجعل يبكى، فعوتب فقال:' إني لا أبكى لأجل المرض، وإنما أبكى أنه أصابني على حال فترة، ولم يصبني في حال اجتهاد، فإنه يكتب للعبد من الأجر إذا مرض، ما كان يكتب له قبل أن يمرض، فمنعه منه المرض'.. والإمام الطبري جلس أربعين سنة..وهو يكتب كل يوم أربعين ورقة في التأليف.
وابن الأثير ألف كتبه الرائعة، كـ'جامع الأصول'، و'النهاية في غريب الحديث'، بسبب أنه مقعد. وابن القيم كتب 'زاد المعاد' وهو مسافر، والقرطبى شرح 'صحيح مسلم' وهو على ظهر سفينة، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، جل فتاويه كتبها وهو في السجن, وابن الجوزى يتحدث عن نفسه ويقول:'نظرت إلى علو الهمة فرأيتها عجبًا، وذلك أنني أروم نيل كل العلوم، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه..وأروم نهاية العمل بالعلم، مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق، وأروم الغنى عن الخلق، والاشتغال بالعلم مانع من الكسب، وها أنا ذا احفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة '.
وهذا عبد الله بن المبارك، نور مرو وجمالها, يقول عنه محمد بن أعين، وكان صاحبه في أسفاره:' كان ذات ليلة ونحن في غزاة الروم، ذهب ليضع رأسه ليريني أنه ينام، فقمت أنا برمحي في يدي قبضت عليه ووضعت رأسي على الرمح كأني أنام كذلك, قال فظن أنى قد نمت، فقام فأخذ في صلاته، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر وأنا أرمقه, فلما طلع الفجر أيقظني وظن أنى نائم، فقال يا محمد, فقلت: إنى لم أنم قال، فلما سمعها منى ما رأيته بعد ذلك يكلمني، ولا ينبسط إلى في شيء من غزاته كلها كأنه لم يعجبه ذلك منى لما فطنت له العمل، فلم أزل أعرفها فيه حتى مات، ولم أر رجلًا أسر بالخير منه'.
وكان على بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل ويتصدق به، ويقول:'إن صدقة السر تطفئ غضب الرب'. قال عمرو بن ثابت:' لما مات على بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد بظهره فقالوا: ما هذا، فقيل: كان يحمل جراب الدقيق ليلًا على ظهره، فيعطيه فقراء أهل المدينة' .
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
إذا رأته قريش قال قائلهــا إلى مكارم هذا ينتهي الكـرم
وداود ابن أبى هند صام أربعين سنة، لا يعلم به أهله ولا أحد من الناس, وكان خبازًا فيحمل معه طعامه من عند أهله، فيتصدق به في الطريق ويرجع عشيًا فيفطر معهم, فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهله أنه قد أكل في السوق .
ينقسم الناس في سكنى القمم إلى أقسام:
1- فمن الناس من يطلب المعالي بلسانه، وليس له همة في الوصول إليها، فهذا متمن مغرور,
2- ومن الناس من لا يطلب إلا سفا سف الأمور وهم فريقان:
أ- فريق ذو همة في تحصيل تلك الدنايا, فتجده السباق إلى أماكن اللهو، ومغاني الغواني.
ب- وفريق لا همَّ له, فهو معدود من سقط المتاع, وموته وحياته سواء, لا يفتقد إذا غاب، ولا يسأل إذا حضر.
3- ومن الناس من تسمو مطالبه إلى ما يحبه الله ورسوله, وله همة عظيمة في تحصيل مطالبه وأهدافه.
وبين هذه الأقسام مراتب كثيرة متفاوتة.
ونرى اليوم من تفاوت الهمم أمرًا عجبًا:فإذا استثنى الناظر في أحوال الناس، أمر العامة، واستثناؤهم واجب، لأنه قد ماتت هممهم، وقعدت بهم عن تحصيل معالي الأمور, واطلع على أحوال الخاصة، من الشباب والدعاة وطلاب العلم، سيصاب بالدهشة لما يراه من فتور الهمة:
فمنهم من إذا قرأ ساعة في اليوم، ظن أنه أتى بما لم يأت به الأوائل.
ومنهم من تتغلب عليه زوجه وعيال فيقطع عامة وقته في مرضاتهم.
ومنهم من اقتصر في تحصيل العلم، على سماع بعض الأشرطة، وحضور بعض المحاضرات.
ومنهم من غلب عليه الركون إلى الدنيا، والتمتع بمباحاتها, تمتعًا يفضى به إلى نسيان المعالي العلية.
وهكذا يندر أن تجد إنسانا استطاع أن يسكن القمم، وان يعلو بهمته، ويجمع شمله ويقصر من الاعتذارات والشكايات, فتصبح حياته مثلًا أعلى يحتذي به, ولكن القليل هم الذين يستثمرون هممهم حق الاستثمار, ويحاولون أن يرتقوا بأنفسهم حق الارتقاء.
إن تحقيق كثير من الأمور، مما يعده الناس خيالًا لا يتحقق, يستطيع سكان القمم بتوفيق الله لهم أولا، وبهمتهم ثانيا, إنجاز الكثير من الأعمال التي يستعظم بعضها من قعدت به همته وظنها خيالًا, وأعظم مثال على هذا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ المعروف عند أهل التواريخ أن بناء الأمم يحتاج إلى أجيال لتحقيقه, لكنه عليه الصلاة والسلام استطاع بناء خير أمة أخرجت للناس في أقل من ربع قرن من الزمان, واستطاعت هذه الأمة أن تنير بالإسلام غالب الأجزاء المعروفة آنذاك, وجهاده عليه الصلاة والسلام وعمله وهمته العالية في بناء الأمة أمر معروف.
والصديق رضي الله عنه استطاع في أقل من سنتين أن يخرج من دائرة حصار المرتدين, ولم يمت رضي الله عنه إلا وجيوشه تحاصر أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت, هذا وقد نهاه كبار الصحابة عن حرب المرتدين، وظنوا أنه لا يستطيع أن يقوم في وجه العرب كلهم, ولكن همته العالية أبت عليه ذلك، واستطاع أن ينجز ما ظنه الناس خيالًا لا ينجز .
سكان القمم يعتمد عليهم، وتناط بهم الأمور الصعبة، وهذا أمر مشاهد معروف, سكان القمم أحدهم يكون بمثابة فريق من الدعاة, يرفع الله به الدعوة درجات, وقد قيل: ذو الهمة وإن حط نفسه تأبى إلا العلو, كالشعلة من النار يخبيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعًا.
سكان القمم قدوة في مجتمعهم, ينظر إلى حاله القاعدون وأنصاف الكسالى والفاترون, فيقتدون بهمته، ويرون ما كانوا يظنونه أمرًا مسطورًا في الكتب القديمة, قد انتهى وعدم من دنيا الناس, يجدونه واقعًا في حياتهم, فيظل هذا الشخص رمزًا للناس ومحل ضرب أمثالهم .
أظنك تريد بعد هذا أن تكون من سكان القمم, إن الارتقاء بالنفس أمر مطلوب, ويتأكد هذا عند عقلاء الناس ودعاتهم ومصلحيهم, و أظنك منهم, وهذه جملة أمور تساعدهم على ذلك :
أولا : المجاهدة: فبدونها لا يتحقق شيء, قال تعالى:{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69]}[سورة العنكبوت]. من لم يباشر حر الهجير في طلب المجد, لم يَقِل في ظل الشرف, خلق الإنسان في نصب وكبد, هناك من يكدح في سبيل نزوة وشهوة, والعظيم يكدح في سبيل عقيدة ودعوة, وليس للعابد مستراح إلا تحت ظل شجرة طوبى
قــف بالديـار فهذه آثارهــم تبكى الأحبــة حسرة وتشوقا
كم قد وقفت بها أســائل مخبرا عن أهلها أو صادقا أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمها من تهــوى فعــز الملتقى
ثانيًا: الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله: فهو المسئول سبحانه أن يقوى إرادتنا, ويعلى همتنا.
ثالثًا: اعتراف الشخص بقصور همته, وأنه لابد أن يطورها ويعلو بها: وهذا أمر أولى، ثم لابد أن يعتقد أنه قادر على أن يكون من سكان القمم
رابعًا: قراءة سير سلف هذه الأمة, أهل الاجتهاد ممن سكنوا القمم: إنها خير وسيلة لإشعال العزائم, وإثارة الروح الوثابة, والتسامي إلى معالي الأمور, إن أخبار العلماء العاملين, والنبهاء الصالحين, تغرس الفضائل في النفوس، وتدفعها إلى تحمل الشدائد والمكاره في سبيل الغايات النبيلة، والمقاصد الجليلة, وتبعثها إلى التأسي بذوي التضحيات والعزمات, وقد قيل قديمًا:' الحكايات جند من جنود الله عز وجل يثبت الله بها قلوب أوليائه'.
خامسًا : مصاحبة بعض من سكن القمم: والنظر في أحواله, وما هو عليه, فهذا من أعظم البواعث على علو الهمة, لأن البشر قد جبلوا على الغيرة والتنافس، ومزاحمة بعضهم بعضا, وحب المجاراة في طبائع البشر أمر لا ينكر, فاتخذ من سكان القمم أعوانًا, واخلط نفسك مع الأبرار, وطهرها من الفجار, واجتنب الصغار الأخطار، فالمرء يعرف بقرينه, فاصحب من يحملك في سيرك إلى الله، لا من تحمله, من يعظك بلحظه قبل أن يعظك بلفظه.
سادسًا: مراجعة جدول أعمالك اليومي ومراعاة الأولويات: الأهم ثم المهم, وهذا أمر مفيد في باب تطوير الهمة, إذ كلما كان ذلك الجدول بعيدًا عن الرتابة والملل, كان أجدى في معالجة الهمة .
سابعًا : التنافس والتنازع بين الشخص وهمته: فعلى مريد تطوير همته أن يضيف أعباء وأعمالًا يومية لنفسه لم تكن موجودة في برنامج حياته السابق، بحيث يحدث نوعًا من التحدي في داخل نفسه بإنجاز ما تحمله من أعمال جديدة, ويجب أن تكون هذه الإضافة مدروسة بعناية وإحكام حتى لا يصاب الشخص بالإحباط واليأس .
ثامنًا : العزم على الكمالات: فمن استوى عنده العلم والجهل, أو كان قانعًا بحاله وما هو عليه, فكيف تكون له همة أصلًا, قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله:'إن لي نفسا تواقة, وإنها لم تعط من الدنيا شيئًا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه, فلما أعطيت ما لا أفضل منه في الدنيا, تاقت إلى ما هو أفضل منه- يعنى: الجنة-' .
تاسعًا : التحول عن البيئة المثبطة: إن الماء يفسد بقربه من الجيف, وكذا الهواء, فكيف بأنفاس العصاة ! ألا تنظر إلى فعل المعصية بآبار ثمود بعد آلاف السنين لما مر عليها الصحابة، وأرادوا أن يستسقوا منها منعهم الرسول صلى الله عليه وسلم, وأمرهم أن يلقوا بعجينهم إلى النواضح.
عاشرًا: واقع المسلمين المر: في تاريخ الأمم كبوات وعثرات وآلام, إلا أن الأمة الحية تنهض من كبوتها، وتتجاوز آلامها, بل تكون هذه الآلام باعثًا لها على الكفاح حتى النصر, وفى تاريخ الأمة صعود وهبوط, ضعف الرجال في فترات تاريخية ثم أنجبت الأمة رجالًا غيروا مسار التاريخ, والحاضر الماثل أمامنا اليوم يدل على مولد الكثيرين الذين يستعدون لحمل راية الإسلام, وتغيير مسار التاريخ من جديد, إن الأحداث الجسام التي تمر بها الأمة, تبعث الهمة وتوقظ العزائم, هذا تاريخ الإسلام يحكى أن حالات الضعف والتردي وتسلط الأعداء, تحرك الأمة لكي تسترد التفكير السليم, والعمل الجاد الذي ترد به المعتدى, وتستعيد به عزها ومجدها, في مثل هذه الأحداث تنجب الأمة أبطالاً مجاهدين، وعلماء عاملين, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ] رواه ابن ماجة.
الحادي عشر : الابتعاد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمة وتضييعها: من له رغبة مفي أن يكون من سكان القمم, فليختر لنفسه مجالًا يبدع فيه، ويكون عطاؤه من خلاله, فمن وجد من نفسه انصرافًا للعلم وتحصيله؛ فليقبل عليه, ومن وجد منها ميلًا للأعمال الخيرية والإغاثة، فليشارك إخوانه.
فـ إياك إياك أن تكون ممن قال فيهم يحي بن معاذ الرازي رحمه الله:'عمل لسراب, قلب من التقوى خراب, وذنوب بعدد الرمل والتراب, ثم تطمع في الكواعب الأتراب, هيهات أنت سكران بغير شراب, ما أكملك لو بادرت أملك, ما أجلَّكَ لو بادرت أَجَلَكَ, ما أقواك لو خالفت هواك, يا هذا لقد أعظمت المهر وأسأت الخطبة' .
وأخيرًا:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ]رواه الترمذي .
يا سلعة الله لســت رخيصــة بل أنت غالية على الكسـلان
يا سلعة الرحمـــن ليس ينالها فــي الألف إلا واحد لا اثنان
يا سلعة الرحمـن ماذا كفؤهــا إلا أولوا التقــوى مع الإيمان
يا سلعة الرحمن سوقك كاســد الأراذل تفلــة الحيــــوان
يا سلعة الرحمـن أين المشترى فلقد عرضـــت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب فالمهــر قبل الموت ذو امكان
يا سلعة الرحمن كيـف يصـبر الخطــاب عنك وهم ذوو إيمان
يا سلعة الرحمــ،ن لولا أنهـا حجبــت بكل مكاره الإنســان
ما كــان عنها قط من متخلف وتعطلــــت دار الجزاء الثاني
لكنها حجبــت بكل كريهــة ليصـــد عنها المبطل المتوانى
وتنالهـا الهمـم التي تسمـو إلـى العــلا بمشيئة الرحمـن
اتعب ليوم معادك الأدنى تجـد راحـــاته يوم المعاد الثانــي
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
من محاضرة:' سُكَّانُ القِمَمِ' للشيخ ناصر الأحمد
|