|
عضو شرف
|
|
المشاركات: 4,124
|
#3
|
أمحجوب ! "ويح لأعين الهجاد"
بقلم:
أ.د. عز الدين عمر موسى
كلية الآداب جامعة الملك سعود
الرياض
لم يكن العلم وحده هو سر تعلق الناس به ، وحبهم له … فكم من عالم كان أبرز منه فما تعلق بحبه أحد .. فالعلم وحده يدعو إلى الإعجاب .. وشتان بين الحب والإعجاب .. ولكن محجوب ربط العلم بالإيمان ، وربط الإيمان بالعمل ، فكان مصحفاً يتحرك بين الناس … وقد خبرت ذلك وبلوته أخيراً إذ صحبته ما يقارب العشرين عاماً في رياض الخير بفضل من الله ومنّه يوم يُسير لأخ المروءات احمد ادريس عبد الماجد فجمعنا في مجلسه العامر – بإذن الله - ولم يمض على وصولي الرياض غير بضعة أيام .. وتواصلت اللقاءات .
لم ير محجوب العلم غاية في ذاته ، فاتخذه وسيلة للغاية من حياته . فربط العلم بالإيمان والتدين .. وجسّر بين العلم والدين .. ووصل بين عالم الطبيعة وما وراء الطبيعة … وأعاد العلوم البحتة إلى الفلسفة أو أعاد الفلسفة الى العلوم البحتة .. وله في هذه صولات وجولات في الدوريات المتخصصة والمجلات الفكرية او الثقافية … وعطر بها ديوانيات الرياض .. في أحدية أبي بسام وأحدية الشيخ إبراهيم وخميسية باجنيد .. وكان الناس يتقاطرون زرافات ووحدانا للاستماع لعلمه والإستفادة منه .. لأنه لم يكن يستعل بشيء لا نفقهه .. ولو أراد لصك أسماعنا واغلق إفهامنا .. ولكنه عالم رسالي ، فقرب علمه لعقولنا القاصرة ، وبسط مسائل الفيزياء الغامضة ، وسهل قضايا الكون العويصة وعضدها بالقرآن .. فعمق الإيمان في قلوبنا فأحببناه .
وكذلك كان حاله مع طلابه في مدرجات كلية العلوم ومختبراتها ومكاتبها بل في منزله .. فالتعليم عنده رسالة ومسؤولية ربانية .. فلما اشتدت وطأة المرض العضال والداء الفتاك ، وكان القرار أن يسافر إلى أمريكا للاستشفاء ، لم يهمل طلابه ، بل أن أحدهم كان يكتب أطروحة الدكتوراه ، بإشرافه ، فظل محجوب يراجع معه حتى ساعة المغادرة … ولم يتوقف عن التدريس والداء يفتك به حتى توقف عقله وغاب وعيه .. أي رجل هذا !؟ هكذا يكون المرء عندما يقترن والعمل بالإيمان .
اسألوا مجلس الجامعة العلمي وكلية الدراسات العليا ولجان الجوائز العالمية وجائزة الفيصل منها ، والموسوعة العربية العالمية . فكل عضو فيها ياتيك بانباء تضيق المجلدات عن احتوائها ، فكل هذه المجالات انهد فيها بموت محجوب ركن ركين من أعمدتها .. وكل ينادي مع حافظ إبراهيم :
إيه يا ليل هل شهدت المصابا كيف ينصب في النفوس انصيابا
وكل واحد منهم كان ساهراً يدعو فهجد أمحجوب " ويح لأعين الهجاد" .
لقد جعلت العناصر الثلاثة المركبة ، العلم والعمل والعبادة ، التي شكلت شخصية محجوب أن لا يري الفضيلة إلا وسطاً بين نقيضين مذمومين .. والفضيلة وحدها الحق .. فرزق فضيلة الاعتدال ، فما عرف التفريط ولا الإفراط ، فكان يري أن العقل الحق لا يناقض الشرع المحض .. والعلم الصحيح لا يعارض صريح النقل .. فحيثما ظهر تناقض أو بان تعارض لا يكون ذلك إلا نتيجة علم للأشياء ناقص أو تأويل للشرع فاسد .. فأوتي في هذا الحكمة وفصل الخطاب .. والله (يؤتي الحكمة من يشاء ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ، وما يذكر إلا أولوا الألباب) "البقرة 45 " وكان محجوب منهم .
لهذا كان يؤمن بالحوار في قضايا الإيمان .. الحوار الهادي الرصين المتمترس بالمنطق المستقيم ، والمنهج الموضوعي السليم ، ذلك لأن مقتضى العلم والإيمان عنده هو العمل ، فقد سعى سعياً حثيثاً للحوار بين أهل الفكر الماركسي والتوجه الإسلامي في قضايا الإيمان ومتعلقاته . سيما وأن الحركتين كانتا في صراع فكري وإن لبس ثوب السياسة .
حدثني ، رحمه الله ، شخصياً بأنه قبل عقود من السنين تخير من ظن أنهم أهل عقل وروية وأصحاب حجة ونظرية من الطرفين ، وبدأ بالجمع بين د. فاروق محمد إبراهيم النور ود. جعفر شيخ إدريس .. وفرح لذلك فرحاً عظيماً .. واستبشر خيراً . ولكن خاب سعيه ، فما أن اجتمعا حتى اشتجرا وأوشكا أن يختصما .. وافترقا على خير .
بيد أن محجوب – رحمه الله = لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلا ، فداوم في سعيه مع فاروق وغيره ، واصبحوا له أصدقاء أوفياء .. ألم تشهد في المقبرة في النسيم !! لقد جاء من غير السودانيين جماعات غير قليلة ، ليسو من أهل تخصصه ، وفنونهم شتى ، وعدد منهم ممن يظنون إلى العلمانية أقرب . أو إلى الحداثة أنسب . وكانت له مع كل واحد منهم حوارات هادئة موزونة مؤثرة ، شهدت بعضها وقد رأيت الكل والحزن يعتصره .. والدمع ينطق واللسان صموت .
أما ما أعرفه عن فاروق يكفيك … فقد جمعت المحبة بينهما ، فما حدثني أحدهما عن الآخر إلا ظننته له شقيقاً … فربطا بين آسرتيهما .. وحاول فاروق أن يستعير جناحي طير القطا ليرى محجوب في امتحانه .. وجاء الحج وسعى لدخول الرياض لرؤيته وحالت العوائق .. فلم يتوقف عن تتبع أخباره يوماً .. فانظر إلى إلفهما وقد جسده القدر .. كان أخر هاتف يوم السبت قبيل الوفاة ، وأعلم فاروق بالحال فبكى وما صبر .وهنا أيضا تجد حول محجوب ساهرين سواء للتمريض أو بالسؤال والدعاء فهجدوا ، ثم فاضت أعينهم بالدمع . أمحجوب "ويح لأعين الهجاد" .
أيضا إن الحوار والقدرة عليه والمكنة منه تثير الإعجاب ولا تولد الحب والتعلق .. بيد أن العلم والأيمان أصّلا واظهرا أمرين كانا في نفسه دفينين ، وفي جبلته مطبوعين .. وغدوا شنشنتين له ملازمتين ، وبهما عرف واشتهر … وجعلهما هو عملين لا يفترقان في حياته اليومية .. فهما جزء من عبادته .. ذلكما هما التواضع والزهد .
فإذا كانا في فطرته ، واتسقا مع نزعة التدين فيه ، فقد زادهما العلم صقلاً لا يناله كل الناس إلا من أوتي مثل علمه ، وكان التدين في سجيته .. فإن علم الفيزياء الذي فيه تخصص دفعه إلى النظر في سائر الكون ، حجماُ وحركة ونظاما . فاستبصر عظمة خالقه ، وتبين ضآلة الكوكب الذي نعيش فيه ، وأن الإنسان إن هو إلا ذرة في هذا الوجود الأعظم .. وصدق الله المبدع (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون) "فاطر57" . فزاده علمه وإيمانه تواضعاً وزهداُ .. فأدمن الذكر والتسبيح محتسباُ .
لقد أجمع كل الناس على خصلة التواضع فيه .. وهو أول ما يحدثونك عنه ويلهجون بذكره فيه . أتذكر ذلك الشاب اليافع الذي إلتقيناه عام 1955م لأول مرة .. ذلك الدقيق الجسم .. الصادق الود .. الكثير الصمت .. قد ظل هو هو لم يتغير حتى فارق الحياة مع الستين .. بل زاد ، فلا تلقاه أبداً إلا متهللاُ باسماُ نضراً طلق المحيا. فأحبه أبناؤنا جميعاً أكثر من حبنا له .. فهو يتفقدهم ويسألهم ، ويأتونه مستذكرين .. ونرسلهم له طالبين . فما رد أحداً ولا تأفف ..وهم في نهاية المرحلة الثانوية أو بداية الجامعة.. وهو من هو .. وما عاد منهم أحد إلا وهو به متعلقاً .. وعنه وعن أخباره يظل يسأل وإن شط المزار وبعدت الأقطار .. اسألوا ابن منصور فارس وأبناء فاروق محمد إبراهيم وابني أيمن . وابن عبد الله الزيدان الذي بعد عنا هناك في القصيم .. واسألوا أبناء السكن أجمعين . فكأن القائل خاطبه :
رُحمت ، فقد كنت حلو اللسان جلي البيان صدوق الخــبر
قليل التعجب جم الأنـــاة حكيم الورود حكيم الصّـدر
شمائلك الغر هن الريـــاض روى عن شذاها نسيم السحر
لها مثل روح الدعاء استُجـب فعافى وأروى وأغنى وســرّ
كل هؤلاء كانوا ساهرين راجين آملين ففجعهم الطبيب فهجدوا ، أمحجوب "ويح لأعين الهجاد" .
علا محجوب علماً بالكون فتواضع وزاده علمه زهداً في الدنيا على زهد .. وقد أتته الدنيا تجرجر أذيالها فركلها . وراودته عن نفسه فاستعصم .. وأعلم أنه لو أراد أن يكون من أغنى أهل العلم لكان .. فهو يبذل علمه ولا يتكسب به …
ذا بنان لا تلمس الذهب الأحـ مر زهداً في العسجد المستفاد .
من عرفوه يحكون في زهده قصصاً ينبغي أن تروى فتستعبر … وليت أخدانه يفعلون .. ففي هذا الباب وغيره لهم متسع .. وحسبك أن يروي لك من ذلك بعض أخبارها ، وللعزيزين د. على كرار ود. كمال الهادي في هذا الباب كثير … وهما ممن يعزي في محجوب قبل أسرته ..
كان لابد من الاستنجاد بأهل الخير في مرضه الذي قضى به ، فالتكلفة شئ لا يطاق .. فأشار عليه بعضهم بإرسال برقية لسلطان الخير ابن عبد العزيز فما قوي على ذلك .. فاضطر آخر الأمر وفعل وقلبه للطلب من الآخرين كاره .. وزرته بعد إرسالها بسويعات وكان مغتماُ .. وظننته بفعل المرض فناولني البرقية .؟ فبكى عندما وصلت في القراءة إلى قوله "لأول مرة في حياتي أسأل الآخرين" .. هكذا كان معنى العبارة فيما أذكر .. فواسيته بأن قلت مثلك لا يطلب وإنما يطلب له .. ما أظن أحداً رأى أو سمع محجوب يبكي في غير عبادة إلا لحظات نادرة إذا ودعه اللصقاء ، وشعر أن لا لقاء في هذه الزائلة بعد ذلك اللقاء .
بعد أيام جاء عن البرقية مال .. وجاء عن الطلب الأول مال آخر وأصر على ألا يأخذ المالين معاً.. وطلب إرجاع الأول وإلا لن يسافر ، ولن يستشفي بمال قد لا يكون صاحبه يعلم بالأمرين ، ففي ذلك شبهة الغش ، فامتنع .
وذات يوم اضطر لكتابة أمر وهو بالمسجد فتناول رفيقه ورقة من أوراق المسجد وقلماً من أقلامه ، فنهاه وانتفض غاضباً قائلا إن من تركه أوقفه على المسجد .. وكان ينهي أبناءه وبناته عن استخدام ما يأتي به من أوراق الجامعة التي لا يستخدمها هو إلا في أعمالها ، وما ذلك إلا لأنهم ليسوا من خدامها .. وهذه فطرات من بحر لا ساحل له …
لهذا ليس بغريب أن يستصحب خشية الله صباح مساء ، ولا تعرف له نزوة صبا ولا هفوة كبر . فكأن حافظ رثاه لما قال في إسماعيل صبري :
لقد كنت براُ بظل الشباب فلما تقلص كنت الأبـر
فلم تستبق نزوة في الصبا ولم تستبح هفوة في الكبر
أُهني الثرى أم أعزي الورى لقد فاز هذا وهذا خسر
أمحجوب "ويح لأعين الهجاد" .
-
الخاتمة تجمل ودعاء
رجل تلك صفاته ، وتلك هي سجاياه ليس بغريب أن يصارع المرض العضال عامين وأزيد ولا يتضجر ، ولا يبدي ألمه ، وتلقاه في كل حال وهو يبتسم ، والأسقام غالت كل أعضائه ، وقلبه عنها في شغل واللسان بالدعاء يتحرك وهو يستغفر .. فما جزع ولا تمنى الموت ولا خافه ، ولما جاءه كان وكأنه الشهد ..
أليس هذا برجل يحب !؟ بلى وربي .. فقد أحبه من عرفه ، ومن سمعه ، ومن قرأ له ، أو قرأ عليه ، أو رأه .. حتى تلك الممرضة الأجنبية في مكتب د. حسن أبو سبعة التي لا يزيد دورها عن تحديد مواعيد مراجعته للمشفى زرفت عليه دمعاُ سخيناُ لما سمعت بوفاته .. لهذا شيعناه وما استطعنا أن نحمل نعشه لأن فوق أعواده سماوي سر وعلا خلقه عن البشر . وما استطعنا أن نهيل الثرى على رسمه ، ولا دفن لحده ، لأنه "طود حطوا في ثرى القبر " وكأننا كنا نردد مع حكيم المعرة :
فيا قبر واه من ترابك ، ليناً عليه ، وآه من جنادلك الخشن
وقوله :
فيا دافنيه في الثرى إن لحده مقر الثريا ، فادفنوه على علم
أتعجب بعد ذلك أن تحزن قلوبنا وتدمع عيوننا .. لا والله ليس من عجب ، ولكننا لا نقول إلا ما يرضي الرب ؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون . فقد جاءنا الحزن مستجدياً أجرنا في الصبر فلا نجده .. فالأسى ليس بفرض ..
|
|
22-05-2003 , 11:33 PM
|
الرد مع إقتباس
|