UAE_EYES
25-11-2004, 12:48 AM
اختار الرئيس الأمريكي جورج بوش، أن يبعث “عيدية” مناسبة، إلى العراقيين خصوصا وإلى العرب عموما، فدمّر الفلوجة تدميراً وحشياً على رؤوس من تبقى من أبنائها.
بعد نجاحه في انتخابات الرئاسة لفترة ثانية بأيام قلائل، بدأ الهجوم على الفلوجة العراقية، بحجة القضاء على “الإرهابيين والمرتزقة الأجانب” الذين يقاتلون تحت قيادة الشبح “أبو مصعب الزرقاوي”. بلغ الهجوم ذروته يوم عيد الفطر المبارك، وانتهى عمليا في ما بعد بانتصار القوة المفرطة التي مارستها القوات الأمريكية بكل أنواع الأسلحة التقليدية، وربما غير التقليدية!
وأمامنا الآن نتيجة ورسالة، علينا أن نتعرف الى ما فيهما من معان.. أما النتيجة فهي أن جيش الاحتلال الأمريكي، المسلح بأحدث ترسانات الأسلحة وأكثرها تقدما، نفذ أوامر قيادته العليا، بتحويل الفلوجة من رمز للمقاومة الوطنية العراقية إلى مقبرة كبرى لكل الأشخاص والأفكار والاتجاهات التي تتحدى إرادة الاحتلال وسياسة المحتل الأمريكي، هكذا تذكرنا الفلوجة المدمرة بوارسو البولندية التي دمرها النازي أو بدرسدن الألمانية التي دمرها الحلفاء بقيادة أمريكا في الحرب العالمية الثانية، وقد أراد كل من الغريمين أن يفرض على الآخر روح الانكسار، ربما قبل الأوان.. وهو أمر حاول السفاح شارون تكراره في جنين الفلسطينية.
بقيت أمامنا الرسالة، التي أراد المحتل الأمريكي للعراق توجيهها للعراقيين ولكل العرب العاربة والمستعربة، وهي أن فترة الرئاسة الثانية للرئيس بوش لن تكون كالأولى، فقد تغيرت أفكار وآراء، تحتم تغييرا في الأشخاص والسياسات، وهو أمر بدأ بالفعل يظهر واضحا خلال الأيام القليلة الماضية، حاملا معه رياح التغيير في الفكر والسياسة الأمريكية، تقوم على أساس فلسفة القوة وحدها هي التي تحكم وتسود، وسياسة التشدد هي وحدها التي تطبق.
والأمر المؤكد أن العالم كله سيتأثر سلبا على الأرجح بمثل هذه الفلسفة السياسية المتشددة، لكننا نحن في الشرق الأوسط عموما، والعرب خصوصا، ومصر تحديدا سنكون الأكثر تأثرا ووقوعا تحت مطرقة هذا التشدد المنفلت والمنتظر من جانب الإدارة الأمريكية الجديدة بكل رموزها اليمينية المتطرفة، والسبب أننا أصحاب اخطر المشكلات المعقدة المثارة الآن، والموضوعة على جدول أعمال هذه الإدارة الجديدة من فلسطين إلى العراق، ومن دارفور وجنوب السودان إلى سوريا ولبنان، ومن صراع الصحراء الغربية والتوتر بين المغرب والجزائر، إلى سحابات التوتر فوق الخليج حيث مخزون النفط الهائل من ناحية، وحيث أزمة التصنيع النووي الإيراني من ناحية أخرى، وبين هذا كله وذاك تأتي مشكلة الإرهاب وضرورات الإصلاح الديمقراطي في المنتصف.
وإذا كانت هذه هي المشكلات الدولية الإقليمية الرئيسية المثارة الآن في العالم، فإن القبضة الحديدية الأمريكية، تمارس فيها الضرب واللعب منفردة، منتقلة مع انتقال الإدارة الجديدة إلى الفترة الرئاسية الثانية، من الضرب الخفيف إلى الضرب العنيف، ولذلك كانت حرب تدمير الفلوجة العراقية بهذه الشراسة مجرد رسالة أولية إلى كل من يهمه الأمر شرقا وغربا، بصرف النظر عن الاستياء العربي الرسمي الخجول، أو الاستنكار الشعبي المعلن الذي يزداد يوما بعد يوم، عداء وكراهية لمثل هذه السياسة الأمريكية المنفلتة.
والحقيقة التي يجب أن نصارح أنفسنا بها، أن السنوات الأربع المقبلة، قد تكون هي الأصعب والأقسى في مسيرة العلاقات مع أمريكا الجديدة، ونعني مع الإدارة الجديدة التي أفرزتها انتخابات الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، والتي تحتاج إلى قراءة جيدة ودراسة جادة لاستكشاف معانيها وسبر أغوارها، حتى لا نظل عائمين فوق موجات من الوهم، يغرقنا في وهمها تحالف بعض العرب المروجين بقوة لعصر السيادة الأمريكية وقيمها المتشددة.
فعلى نقيض ما نسمعه ونقرأه لمعظم هؤلاء، فإن الأمريكيين العاديين أصبحوا أكثر قلقا على مستقبل بلادهم، بل أكثر خوفا على “الحلم الديمقراطي الأمريكي” نتيجة الصعود الهائل لتيارات التشدد اليميني والتطرف السياسي والديني، الذي يقوده المحافظون الجدد، الذين أصبحوا وحدهم القوة المهيمنة على صناعة القرارات وتشكيل السياسات في ظل الإدارة الجديدة، وبدرجة أشد وأعنف، مما كان الحال عليه في الفترة الرئاسية الأولى للرئيس بوش 2000- 2004.
صحيح أن “المحافظين الجدد” بزعامة ديك تشيني نائب الرئيس، ورامسفيلد وزير الدفاع ونائبه وولفويتز، وباقي المجموعة كانوا هم الأكثر بروزاً في الفترة الرئاسية الأولى، لكنهم لم يكونوا وحدهم، أما في الفترة الرئاسية الثانية فقد أصبحوا بالفعل، مثل كولن باول وزير الخارجية المستقيل، رمز الحمائم الذي ظل لسنوات أربع يمثل تيار الاعتدال والواقعية في مواجهة تيار الصقور المتشددين.
***
وليس الأمر هو أمر تغيير شخص باول وزير الخارجية، والإتيان بكوندوليزا رايس مكانه، وهي الأميل إلى المتشددين، ولكن الأمر يؤشر إلى أن مجرد اختلاف الآراء، بين تيارين حول السياسة الخارجية والدفاعية، لم يعد مقبولا من الآن فصاعدا، ولكن ثمة تياراً واحداً هو الذي سيحكم ويطبق فلسفته فيما يتعلق بأزمات العالم وصراعاته، خصوصا تلك الملتهبة في الشرق الأوسط.
أيضا، ليس الأمر هو فوز الرئيس بوش على منافسه الديمقراطي، بفترة ولاية ثانية، بأغلبية واضحة، سواء في التصويت الشعبي أو في تصويت المجمعات الانتخابية، لكن الأمر الأخطر، هو أن انتخابات الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني ،2004 تشير إلى تحولات سياسية فكرية اجتماعية عميقة في المجتمع الأمريكي، بحكم ما أفرزته من نتائج سواء على مستوى انتخاب الرئيس، أو انتخابات الكونجرس بمجلسيه (الشيوخ والنواب) والتي حققت للجمهوريين اليمينيين سيطرة كاملة عليهما.
وعند التحليل الأعمق، نكتشف أن هذه الانتخابات أعطت للحزب الجمهوري أعلى تفويض شعبي وبرلماني وبأغلبية كبيرة، بحكم فوز الرئيس من ناحية، وبحكم أضخم نصر للجمهوريين في الكونجرس منذ عشرات السنين للمرة الثانية على التوالي من ناحية ثانية، الأمر الذي يعبّر بوضوح عن انتصار هائل لأجندة “المحافظين الجدد” وسياساتهم اليمينية المتشددة، مما يطلق أيديهم خلال السنوات المقبلة بلا ضابط صارم.
ويلفت النظر عند التحليل الأعمق أيضا إلى أن الانتخابات الأخيرة هذه، قد أحدثت انقساما حادا في المجتمع الأمريكي، ربما هو الأعمق في المائة سنة الأخيرة، كما قال عدد معتبر من المفكرين والمحللين الأمريكيين، وهو انقسام ليس سياسيا فقط، بين الحزبين المسيطرين (الجمهوري والديمقراطي)، ولكنه أيضا انقسام اجتماعي ديني فكري بين تيار يعتمد على قاعدة دينية كنسية محافظة، تساندها تحالفات كبار رجال الصناعة والتجارة والمال والاحتكارات، تميل إلى التشدد بل إلى التطرف، وتيار آخر يعتمد على قاعدة ليبرالية منفتحة تميل إلى فصل الدين عن السياسة، تساندها الأقليات الدينية والعرقية مثل الزنوج والعرب واليهود والهسبانكس والمرأة ونقابات العمال، ولكنها تميل إلى الانفتاح والحوار والحرية الفردية.
والدليل أن 52% من الكاثوليك الملتزمين مثلا صوتوا لمصلحة بوش والجمهوريين، في مقابل تصويت 51% من النساء، و74% من اليهود، و88% من الزنوج، و58% من الهسبانكس، ومعظم الأصوات العربية والمسلمة صوتت لمصلحة المرشح الديمقراطي جون كيري، إلا أن قراءة الخريطة التصويتية تظهر بوضوح أن نجاح الرئيس بوش وجماعة المحافظين الجدد، قد تحقق بفضل التصويت الغلاب في ولايات ما يعرف ب “الحزام الإنجيلي” المسيطر على ولايات الجنوب والوسط والغرب الأشد ميلا لليمين المحافظ الملتزم دينياً، في حين صوتت المدن الرئيسية والولايات التي يمكن أن نطلق عليها بالمقابل “الحزام الليبرالي” لمصلحة المرشح الديمقراطي، وخصوصا ولايات الساحل الشرقي، مثل نيويورك وواشنطن وبوسطن، المعروفة بالانفتاح الفكري والنشاط الثقافي والوجه الحضاري لأمريكا، الأكثر انفتاحا على أوروبا والعالم.
هكذا يبدو الانقسام الأمريكي واضحا، خصوصا حين يتعلق الأمر بالدين والمعتقدات الدينية وليس بالمبادئ والأفكار السياسية فقط، ففي حين تراجعت التيارات الليبرالية التي تفصل الدين عن الدولة، وتؤمن بالحرية الفردية والدينية. فقد صعدت إلى قمة القيادة والسيادة تيارات محافظة بل متشددة، تضفي الصفة الدينية على العمل السياسي والفكري في الداخل كما في الخارج، انطلاقا من إيمان بعض الكنائس، وخصوصا البروتستانتية، بنبوءات توراتية قديمة، توحد بين الأهداف المسيحية واليهودية، فيما أصبح يعرف نظرياً بالمسيحية الصهيونية الجديدة، الأمر الذي يتناقض تناقضاً كاملاً مع الدستور والمبادئ والقيم الديمقراطية الأمريكية.
***
والمؤكد أن نجاح هذه التيارات المتطرفة، وعلى رأسها جماعات المحافظين الجدد، والقرن الأمريكي، وبهذا التفويض التصويتي الملحوظ، يؤكد بروز حقيقتين هما:
* الأولى: إن فكر “طالبان” قد نقل عدواه من أفغانستان شرقا إلى أمريكا غربا، فقد أصبحت “طالبان الأمريكية” على قمة السلطة في بلد الحلم الديمقراطي، في وقت يحارب فيه هذا البلد طالبان الأفغانية بحجة كسر موجات التطرف الديني والهجوم الإرهابي. ثمة من يلاحظ أن نسيج التطرف ورموز التشدد، يمتد بين الجانبين المستندين إلى أسس عقائدية دينية مغلقة ومحافظة، ونحن بين الاثنين نتلظى ونحترق.
* الثانية: ان صعود هذا التيار الطالباني الأمريكي إلى قمة السلطة، يقلق بلا شك أنصار الديمقراطية والانفتاح الأمريكي، لكنه يهدد بدرجة أخطر القيم والمصداقية الأمريكية في العالم، وينعكس بكل الخطورة على أوضاعنا نحن، لأنه بوضوح تيار سياسي ديني يخدم “إسرائيل” والفكرة الصهيونية والدولة “اليهودية” الدينية التوراتية القابعة في عمق أعماق جماعة المحافظين الجدد.
من هنا جاءت الإشارات الخطيرة التي أطلقتها إدارة الرئيس بوش فور نجاحه في انتخابات الرئاسة الثانية، ابتداء من مجزرة الفلوجة تعبيرا عن الإفراط المطلق في استخدام القوة المسلحة، مروراً بتصعيد ما يعرف بالحرب ضد الإرهاب في كل مكان، وبإعلان الرئيس بوش تأجيل إقامة الدولة الفلسطينية التي تعهد بإقامتها عام 2005 إلى عام ،2009 حتى ينتهي شارون من مشروعه العدواني الاستيطاني التوسعي، وبالتعهد بممارسة الضغط على الدول العربية والإسلامية لإجراء الإصلاح وفق الوصفة الأمريكية، وانتهاء بالضغط الأقوى على سوريا ولبنان، بل على إيران بحجة التصنيع النووي.
أما الأخطر فهو ما تصر عليه طالبان الأمريكية الجديدة، وتطرحه الآن علناً، وهو المطالبة ب “تعديل الإسلام وتطويره” انطلاقا من إيمان فيه شبه الديني والسياسي، يرى أن الإسلام ليس ديناً سماوياً، وأن القرآن ليس وحياً منزلاً، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس نبياً مرسلاً كموسى وعيسى عليهما السلام، وبالتالي فإنه لا حرج في تعديل كل ذلك، حتى يتوافق “الإسلام المعدل والمجدد” مع حقائق العصر الجديد.
ألم نقل لكم إن طالبان الأمريكية، تنذر بمستقبل سيئ، وبزوغ عصر جديد قوامه التشدد السياسي المحكوم بالتطرف الديني.
***
* آخر الكلام: قالوا
آفةُ العقلِ.. الهَوَى!
منقول
بعد نجاحه في انتخابات الرئاسة لفترة ثانية بأيام قلائل، بدأ الهجوم على الفلوجة العراقية، بحجة القضاء على “الإرهابيين والمرتزقة الأجانب” الذين يقاتلون تحت قيادة الشبح “أبو مصعب الزرقاوي”. بلغ الهجوم ذروته يوم عيد الفطر المبارك، وانتهى عمليا في ما بعد بانتصار القوة المفرطة التي مارستها القوات الأمريكية بكل أنواع الأسلحة التقليدية، وربما غير التقليدية!
وأمامنا الآن نتيجة ورسالة، علينا أن نتعرف الى ما فيهما من معان.. أما النتيجة فهي أن جيش الاحتلال الأمريكي، المسلح بأحدث ترسانات الأسلحة وأكثرها تقدما، نفذ أوامر قيادته العليا، بتحويل الفلوجة من رمز للمقاومة الوطنية العراقية إلى مقبرة كبرى لكل الأشخاص والأفكار والاتجاهات التي تتحدى إرادة الاحتلال وسياسة المحتل الأمريكي، هكذا تذكرنا الفلوجة المدمرة بوارسو البولندية التي دمرها النازي أو بدرسدن الألمانية التي دمرها الحلفاء بقيادة أمريكا في الحرب العالمية الثانية، وقد أراد كل من الغريمين أن يفرض على الآخر روح الانكسار، ربما قبل الأوان.. وهو أمر حاول السفاح شارون تكراره في جنين الفلسطينية.
بقيت أمامنا الرسالة، التي أراد المحتل الأمريكي للعراق توجيهها للعراقيين ولكل العرب العاربة والمستعربة، وهي أن فترة الرئاسة الثانية للرئيس بوش لن تكون كالأولى، فقد تغيرت أفكار وآراء، تحتم تغييرا في الأشخاص والسياسات، وهو أمر بدأ بالفعل يظهر واضحا خلال الأيام القليلة الماضية، حاملا معه رياح التغيير في الفكر والسياسة الأمريكية، تقوم على أساس فلسفة القوة وحدها هي التي تحكم وتسود، وسياسة التشدد هي وحدها التي تطبق.
والأمر المؤكد أن العالم كله سيتأثر سلبا على الأرجح بمثل هذه الفلسفة السياسية المتشددة، لكننا نحن في الشرق الأوسط عموما، والعرب خصوصا، ومصر تحديدا سنكون الأكثر تأثرا ووقوعا تحت مطرقة هذا التشدد المنفلت والمنتظر من جانب الإدارة الأمريكية الجديدة بكل رموزها اليمينية المتطرفة، والسبب أننا أصحاب اخطر المشكلات المعقدة المثارة الآن، والموضوعة على جدول أعمال هذه الإدارة الجديدة من فلسطين إلى العراق، ومن دارفور وجنوب السودان إلى سوريا ولبنان، ومن صراع الصحراء الغربية والتوتر بين المغرب والجزائر، إلى سحابات التوتر فوق الخليج حيث مخزون النفط الهائل من ناحية، وحيث أزمة التصنيع النووي الإيراني من ناحية أخرى، وبين هذا كله وذاك تأتي مشكلة الإرهاب وضرورات الإصلاح الديمقراطي في المنتصف.
وإذا كانت هذه هي المشكلات الدولية الإقليمية الرئيسية المثارة الآن في العالم، فإن القبضة الحديدية الأمريكية، تمارس فيها الضرب واللعب منفردة، منتقلة مع انتقال الإدارة الجديدة إلى الفترة الرئاسية الثانية، من الضرب الخفيف إلى الضرب العنيف، ولذلك كانت حرب تدمير الفلوجة العراقية بهذه الشراسة مجرد رسالة أولية إلى كل من يهمه الأمر شرقا وغربا، بصرف النظر عن الاستياء العربي الرسمي الخجول، أو الاستنكار الشعبي المعلن الذي يزداد يوما بعد يوم، عداء وكراهية لمثل هذه السياسة الأمريكية المنفلتة.
والحقيقة التي يجب أن نصارح أنفسنا بها، أن السنوات الأربع المقبلة، قد تكون هي الأصعب والأقسى في مسيرة العلاقات مع أمريكا الجديدة، ونعني مع الإدارة الجديدة التي أفرزتها انتخابات الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، والتي تحتاج إلى قراءة جيدة ودراسة جادة لاستكشاف معانيها وسبر أغوارها، حتى لا نظل عائمين فوق موجات من الوهم، يغرقنا في وهمها تحالف بعض العرب المروجين بقوة لعصر السيادة الأمريكية وقيمها المتشددة.
فعلى نقيض ما نسمعه ونقرأه لمعظم هؤلاء، فإن الأمريكيين العاديين أصبحوا أكثر قلقا على مستقبل بلادهم، بل أكثر خوفا على “الحلم الديمقراطي الأمريكي” نتيجة الصعود الهائل لتيارات التشدد اليميني والتطرف السياسي والديني، الذي يقوده المحافظون الجدد، الذين أصبحوا وحدهم القوة المهيمنة على صناعة القرارات وتشكيل السياسات في ظل الإدارة الجديدة، وبدرجة أشد وأعنف، مما كان الحال عليه في الفترة الرئاسية الأولى للرئيس بوش 2000- 2004.
صحيح أن “المحافظين الجدد” بزعامة ديك تشيني نائب الرئيس، ورامسفيلد وزير الدفاع ونائبه وولفويتز، وباقي المجموعة كانوا هم الأكثر بروزاً في الفترة الرئاسية الأولى، لكنهم لم يكونوا وحدهم، أما في الفترة الرئاسية الثانية فقد أصبحوا بالفعل، مثل كولن باول وزير الخارجية المستقيل، رمز الحمائم الذي ظل لسنوات أربع يمثل تيار الاعتدال والواقعية في مواجهة تيار الصقور المتشددين.
***
وليس الأمر هو أمر تغيير شخص باول وزير الخارجية، والإتيان بكوندوليزا رايس مكانه، وهي الأميل إلى المتشددين، ولكن الأمر يؤشر إلى أن مجرد اختلاف الآراء، بين تيارين حول السياسة الخارجية والدفاعية، لم يعد مقبولا من الآن فصاعدا، ولكن ثمة تياراً واحداً هو الذي سيحكم ويطبق فلسفته فيما يتعلق بأزمات العالم وصراعاته، خصوصا تلك الملتهبة في الشرق الأوسط.
أيضا، ليس الأمر هو فوز الرئيس بوش على منافسه الديمقراطي، بفترة ولاية ثانية، بأغلبية واضحة، سواء في التصويت الشعبي أو في تصويت المجمعات الانتخابية، لكن الأمر الأخطر، هو أن انتخابات الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني ،2004 تشير إلى تحولات سياسية فكرية اجتماعية عميقة في المجتمع الأمريكي، بحكم ما أفرزته من نتائج سواء على مستوى انتخاب الرئيس، أو انتخابات الكونجرس بمجلسيه (الشيوخ والنواب) والتي حققت للجمهوريين اليمينيين سيطرة كاملة عليهما.
وعند التحليل الأعمق، نكتشف أن هذه الانتخابات أعطت للحزب الجمهوري أعلى تفويض شعبي وبرلماني وبأغلبية كبيرة، بحكم فوز الرئيس من ناحية، وبحكم أضخم نصر للجمهوريين في الكونجرس منذ عشرات السنين للمرة الثانية على التوالي من ناحية ثانية، الأمر الذي يعبّر بوضوح عن انتصار هائل لأجندة “المحافظين الجدد” وسياساتهم اليمينية المتشددة، مما يطلق أيديهم خلال السنوات المقبلة بلا ضابط صارم.
ويلفت النظر عند التحليل الأعمق أيضا إلى أن الانتخابات الأخيرة هذه، قد أحدثت انقساما حادا في المجتمع الأمريكي، ربما هو الأعمق في المائة سنة الأخيرة، كما قال عدد معتبر من المفكرين والمحللين الأمريكيين، وهو انقسام ليس سياسيا فقط، بين الحزبين المسيطرين (الجمهوري والديمقراطي)، ولكنه أيضا انقسام اجتماعي ديني فكري بين تيار يعتمد على قاعدة دينية كنسية محافظة، تساندها تحالفات كبار رجال الصناعة والتجارة والمال والاحتكارات، تميل إلى التشدد بل إلى التطرف، وتيار آخر يعتمد على قاعدة ليبرالية منفتحة تميل إلى فصل الدين عن السياسة، تساندها الأقليات الدينية والعرقية مثل الزنوج والعرب واليهود والهسبانكس والمرأة ونقابات العمال، ولكنها تميل إلى الانفتاح والحوار والحرية الفردية.
والدليل أن 52% من الكاثوليك الملتزمين مثلا صوتوا لمصلحة بوش والجمهوريين، في مقابل تصويت 51% من النساء، و74% من اليهود، و88% من الزنوج، و58% من الهسبانكس، ومعظم الأصوات العربية والمسلمة صوتت لمصلحة المرشح الديمقراطي جون كيري، إلا أن قراءة الخريطة التصويتية تظهر بوضوح أن نجاح الرئيس بوش وجماعة المحافظين الجدد، قد تحقق بفضل التصويت الغلاب في ولايات ما يعرف ب “الحزام الإنجيلي” المسيطر على ولايات الجنوب والوسط والغرب الأشد ميلا لليمين المحافظ الملتزم دينياً، في حين صوتت المدن الرئيسية والولايات التي يمكن أن نطلق عليها بالمقابل “الحزام الليبرالي” لمصلحة المرشح الديمقراطي، وخصوصا ولايات الساحل الشرقي، مثل نيويورك وواشنطن وبوسطن، المعروفة بالانفتاح الفكري والنشاط الثقافي والوجه الحضاري لأمريكا، الأكثر انفتاحا على أوروبا والعالم.
هكذا يبدو الانقسام الأمريكي واضحا، خصوصا حين يتعلق الأمر بالدين والمعتقدات الدينية وليس بالمبادئ والأفكار السياسية فقط، ففي حين تراجعت التيارات الليبرالية التي تفصل الدين عن الدولة، وتؤمن بالحرية الفردية والدينية. فقد صعدت إلى قمة القيادة والسيادة تيارات محافظة بل متشددة، تضفي الصفة الدينية على العمل السياسي والفكري في الداخل كما في الخارج، انطلاقا من إيمان بعض الكنائس، وخصوصا البروتستانتية، بنبوءات توراتية قديمة، توحد بين الأهداف المسيحية واليهودية، فيما أصبح يعرف نظرياً بالمسيحية الصهيونية الجديدة، الأمر الذي يتناقض تناقضاً كاملاً مع الدستور والمبادئ والقيم الديمقراطية الأمريكية.
***
والمؤكد أن نجاح هذه التيارات المتطرفة، وعلى رأسها جماعات المحافظين الجدد، والقرن الأمريكي، وبهذا التفويض التصويتي الملحوظ، يؤكد بروز حقيقتين هما:
* الأولى: إن فكر “طالبان” قد نقل عدواه من أفغانستان شرقا إلى أمريكا غربا، فقد أصبحت “طالبان الأمريكية” على قمة السلطة في بلد الحلم الديمقراطي، في وقت يحارب فيه هذا البلد طالبان الأفغانية بحجة كسر موجات التطرف الديني والهجوم الإرهابي. ثمة من يلاحظ أن نسيج التطرف ورموز التشدد، يمتد بين الجانبين المستندين إلى أسس عقائدية دينية مغلقة ومحافظة، ونحن بين الاثنين نتلظى ونحترق.
* الثانية: ان صعود هذا التيار الطالباني الأمريكي إلى قمة السلطة، يقلق بلا شك أنصار الديمقراطية والانفتاح الأمريكي، لكنه يهدد بدرجة أخطر القيم والمصداقية الأمريكية في العالم، وينعكس بكل الخطورة على أوضاعنا نحن، لأنه بوضوح تيار سياسي ديني يخدم “إسرائيل” والفكرة الصهيونية والدولة “اليهودية” الدينية التوراتية القابعة في عمق أعماق جماعة المحافظين الجدد.
من هنا جاءت الإشارات الخطيرة التي أطلقتها إدارة الرئيس بوش فور نجاحه في انتخابات الرئاسة الثانية، ابتداء من مجزرة الفلوجة تعبيرا عن الإفراط المطلق في استخدام القوة المسلحة، مروراً بتصعيد ما يعرف بالحرب ضد الإرهاب في كل مكان، وبإعلان الرئيس بوش تأجيل إقامة الدولة الفلسطينية التي تعهد بإقامتها عام 2005 إلى عام ،2009 حتى ينتهي شارون من مشروعه العدواني الاستيطاني التوسعي، وبالتعهد بممارسة الضغط على الدول العربية والإسلامية لإجراء الإصلاح وفق الوصفة الأمريكية، وانتهاء بالضغط الأقوى على سوريا ولبنان، بل على إيران بحجة التصنيع النووي.
أما الأخطر فهو ما تصر عليه طالبان الأمريكية الجديدة، وتطرحه الآن علناً، وهو المطالبة ب “تعديل الإسلام وتطويره” انطلاقا من إيمان فيه شبه الديني والسياسي، يرى أن الإسلام ليس ديناً سماوياً، وأن القرآن ليس وحياً منزلاً، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس نبياً مرسلاً كموسى وعيسى عليهما السلام، وبالتالي فإنه لا حرج في تعديل كل ذلك، حتى يتوافق “الإسلام المعدل والمجدد” مع حقائق العصر الجديد.
ألم نقل لكم إن طالبان الأمريكية، تنذر بمستقبل سيئ، وبزوغ عصر جديد قوامه التشدد السياسي المحكوم بالتطرف الديني.
***
* آخر الكلام: قالوا
آفةُ العقلِ.. الهَوَى!
منقول