aziz2000
19-03-2003, 02:41 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
هذا حوار أجريته مع فضيلة الشيخ سعود الشريم إمام الحرم المكي ..
س : في بداية لقاءنا فضيلة الشيخ هل من مقارنة بسيطة بين واقع المسلم في الوقت الحاضر وواقعه في صدر الإسلام ؟
إنَّ مقارنةً سريعةً يقوم بها أيّ امرئ عاقلٍ بين واقع الفرد المسلم اليوم وبين واقع مثيله في صدرِ الإسلام الأوّل لتوضح لنا بوناً شاسعًا بين الواقعين دون بذل حدْس أو كبير تأمّل.
نعم قد نرى المسلمَ اليومَ أفخَر ملبساً وأدسَم مطعماً أو أرفَه مركباً، ولكنّه من حيث الخصائصُ الروحية أقلُّ فؤاداً وأضعف وازعاً.
وقولوا مثل ذلك في مقارنةٍ مثيلة بين المجتمعات المسلمة في القديم والحديث؛ إذ أمّتنا في الصدر الأول كانت قائدةً لا منقادة، متبوعَة لا تَابعة، دافعةً لا مدفوعة، يدُها هي اليد العليا وليست السفلى، بل كانت أمةَ العدلِ والقسط والخيار، لها ألقابُ مملكةٍ ودولة قد وُضعت موضعَها، ولم تكن يوماً ما كمثلِ سنّورٍ يحكي انتفاخًا صولةَ أسدٍ هصور، أو كمثلِ جمل قد استنوَق، أو صُرَد قد استنسَر، كلا فلَم يصلْ بها الحدّ إلى ضربٍ من ضروب قلبِ المعايير أو الخلط واللَّبس وعدم وضوح الهدَف وإنزال الأمور منازلها كما هو مُصاب أمّة الإسلام في هذا الزمن الذي تحكي بعضُ مآسيه بأنَّ الرويبضةَ يجب أن يُلقَّب بالعالم، وسائق السيّارة بالمهندس، والحلاق بالطبيب، والذي من أجله كثُرت آلام أمتنا المعاصِرة، ونُكِئت جراحُها، حتى استُبيحت حرماتُها، فتجرّعت مجتمعاتها جراحَها في صياصِيها، وقُذف في قلوب بنيها الرعب، وهي لا تكاد تسيغ ذلك، ويأتيها الموتُ من كلّ مكان، بل إنها تُدَعَّى إلى الاستكانة والاستجداء دعًّا، وتُؤَزّ من قِبَل أعداء الإسلام أزًّا، إلى أن تعترِفَ مكرهةً حينًا ومستسلمةً حيناً آخر بأنَّ حقَّها باطل وأنَّ باطلَ غيرها حقّ على تخوّف ومضَض.
س : وماسبب هذه الإستكانة من وجهة نظرك فضيلة الشيخ ؟
الحقيقة أنَّ هذا كلَّه لم يكن بدْعًا من الأمر، ولا كان طفرةً بلا مقدّمات، وإنما هو ثمرة خللٍ وفتوق، وضرامُ وميضٍ قد كان بادياً خِلَل الرماد وسطَ ميدانِ الأمة الإسلامية بعد أن بُحَّت فيهم أصواتُ الناصحين والمنذرين العُريانيِّين، غيرَ أن أمّة الإسلام لم تستبِن النصحَ إلا في ضحَى الغد، وهذا كلّه ـ عباد الله ـ ليس غريباً، وإنّما الغريبُ كلَّ الغرابة أن تضعَ الأمة كلَّ أنواعِ الاستفهامِ في مسامعها حيناً بعدَ آخر، ثمّ هي لا تهتَدي إلى السبب الرئيس لكلّ هذه البلايا، فصارت كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماءُ محمولٌ خلفَ ظهورها، وهذا السبب الرئيسُ هو الذي ذكرَه الله جل وعلا في خمسِ كلماتٍ لا سادسة لهنّ، لم ينسِب الباري ولا في كلمةٍ واحدة سببَ الهوان إلى جيشٍ أو معسكر، ولا إلى تحرّفٍ في قتال، وإنّما قال سبحانه ( قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ) [آل عمران:165].
س : شباب الإسلام يافضيلة الشيخ ينتظرون النصر من عند الله .. فماهي شروط نصر الله ؟
إنَّ من المعلوم يقيناً أنَّ الله كتبَ على نفسه النصرَ لرسله وأوليائه، فقال سبحانه ( كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ )[المجادلة:21]، وقال جل وعلا ( وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَـافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً )[النساء:141]، غيرَ أنَّ هذا الوعدَ والعهد لا يمكن أن يأتي هكذا جُزافاً دونما قيدٍ أو شرط، بل قد علّق الله هذا النصرَ بالإيمان واستيفاء مقتضياتِه في كلّ مناحي الحياة، تشريعاً وسياسة واقتصاداً وإعلاماً وتعليماً دون فصلِ بعضِها عن بعض، وهذه هي سنَّة الله في النصرِ، وسنتُه سبحانه لا تحابي أحداً ولا تصانعُه، وحين تقصّر الأمة وتفرّط وتتخاذَل أو تأخُذ من الإسلام ما تشاء وتهمِّش ما تشاء كيفَما اتَّفق فإنما هي تدقّ نواميسَ الخطر على أعتابها، وتكشِف أسقيَتَها لكلّ ناهبٍ والغ، ثمّ هي الهزيمةُ ما منها بدّ، ومن ثمَّ فإنَّ على الأمّة أن تتجرّع النتيجة المرّة على شرق، وهي وإن كانت أمةً مسلمة في الأصل إلا أنَّ ذلك لا يقتضي خرقَ السُّنَن وإبطالَ النواميس الإلهية، ( وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً )[فاطر:43].
س : مع تسارع الأحداث في المنطقة هذه الأيام .. ماذا يقول الشيخ لأمة الإسلام ؟
إنَّنا في هذه الأيام العصيبة نعيش وسط زوابعَ يموج بعضُها في بعض، وفي ثنايا نوازِل تتلاطمُ آحادها كموج بحرٍ لُجِّيٍّ يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب، نعم , فإنَّ النسيمَ قد لا يهبّ عليلا داخلَ المجتمعات المسلمَة على الدّوام، فقد يعلو القتَر، ويطغى الكدَر، أو تُرمَق سماء المجتمعاتِ المسلمة غياياتُ فوّهاتِ البراكين المضطرمة، غيرَ أنَّ من العقل والحكمة توطينَ النّفس على مواجهة بعضِ النوازل على أمّة الإسلام، والتي تمثَّلت في تضييقِ الخناق على الإسلام والمسلمين من قبَل أعدائهم، بل والاستعداد النفسي والحسّيّ لمجابهة أصابعِ الاتهام وعبارات اللّوم لديار المسلمين بعدَ كلّ حدثٍ سانح.
إنَّ علينا جميعاً أن نقفَ أمَامها بشجاعةٍ وإقدام وقناعةٍ واعتزاز بهذا الدين القويم، كما أنَّ علينا أيضاً تركَ إضاعة الأوقات في مجرّد التعليق المريرِ عليها دونَ عمل جادٍّ في رفعِها أو دفعها بحزمٍ وعزم؛ لأنَّ مجردَ التعليق لا يفقأ عيناً ولا يقتل صيداً، فلا يصحّ أن تكونَ أمّة الإسلام أمام الغارة الكاسحة من اتّهامات أهلِ الكفر كالريشةِ في مهبِّ الريح، تتهادَى بها في كلّ اتّجاه، حتى تكون لقمةً سائغة لتمرير قناعاتِ التنازل عن بعض أمور الدين، أو التّخلي عن بعضِ ثوابتِه، أو التشكيك فيها، أو الاقتناع بإعادة النظر في هيكلة التربية والتنشئة والتعليم التي أثمَرَت صحوةً مرْضيَّة ومعرفةً سويّة لدى الجمهور من الناس.
إنّه لا ينبغي أن يكونَ ذلك لمجرّدِ تهويشٍ وتشويش يذكيهما الخوفُ والقلق من المصير، فيصدق فينا حينئذ قولُ ربّنا ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ )[الحج:11]، وقوله سبحانه ( وَمِن النَّاسِ مَن يِقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِىَ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ )[العنكبوت:10]، ولأجل هذا كان لِزاماً علينا أن نحذَر أمريْن مهمَّين خطيرين:
أوَّلهما: الحذر من الحملة المسعورَة الشَّعواء على أمَّتنا وحياضِها من خلال تشكيك الأعداء بسموّ رسالتنا الإسلامية، أو الاستجابة لشيءٍ من المساوَمَة مع غير المسلمين في عقيدتنا ومناهجنا؛ لأنَّ ذلك خيانةٌ عظمى، وجنون لا عقل معه، وجُرم ما بعده جرم، فضلاً عن كونِه نقضاً بعدَ غزل وحَوراً بعد كَور، يستحقّ صاحبُه وصفَ الباري جلَّ شأنه لمثل هذا بقوله ( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَـارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَـانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَـائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـالَهُمْ ) [محمد:25-28]، جاء عند أحمدَ وابنِ أبي شيبة من حديث جابر رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبيَّ بكتاب أصابَه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه فغضِب وقال: ((لقد جئتُكم بها بيضاءَ نقيّة)) الحديث، إلى أن قال : ((والذي نفسي بيده، لو أنَّ موسى كان حيًّا ما وسِعه إلا أن يتَّبعني))
فحِذار حِذار من خطورة الرّكون إلى غير الإسلام، أو ميل العاطفة والقلب مع غير دينِ الله، أو التسلّل لواذا عن شعارِ الإسلام ولُبّه مهما كانت الظروف التي تحيط بالواقع، ومهما كانت زوابعُ الرغبة أو الرهبة مائلةً إلى مثل هذا، فإنَّ ذلك لا يُعدّ مسوِّغاً للميل عن دين الله أو التنازل عن بعض ثوابتِه وعمادِه، فقد صحَّ عن النبيّ أنَّ من كان قبلَنا يُؤتى له بالمناشير، ويُقطع نصفين، ما يصدّه ذلك عن دينه ، وفي حادث أصحابِ الأخدود قال كبيرُهم: من رجع عن دينه فدَعوه، وإلا فأقحِموه في النّار، فجاءت امرأةٌ بابن لها تُرضعه، فكأنها تقاعَست أن تقعَ في النار، فقال الصبي: اصبري يا أمَّاه؛ فإنّك على الحق.
أمَّا الأمر الثاني : فهو أن نحذرَ اختراقَ صفوفِ المسلمين أو هزّ كيانِهم من قبَل جبهاتٍ داخليّة ممَّن هم من بني الجلدَة ويتكلَّمون بذاتِ اللغة، والذين يعرفُهم أولو الألباب في لحنِ القول ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ )[محمد:26]، ترونَهم كالقطعان يهرِفون بما لا يعرِفون، ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ )[الانشقاق:24]، هم في الحقيقةِ لصوصُ حروبٍ ونشّالون وسطَ الأزماتِ، يجعلون من النوازل والتداعيات فرَصاً سانحَة لفتِّ العضُد من داخل المجتمع، وقلبِ الحقائق، وإشعال فتيل تغيير الواقعِ المسلمِ ليخرج عن إطاره المشروع، يُعدّ أمثالُهم في دولٍ كبرَى طابوراً خامِساً حسَب قواميسِهم، فهم يتَّقونهم في مجتمعاتِهم بكلّ ما يملكون من سبُل، وهؤلاء هُم أشدّ خطراً من العدو الخارجي، بل إنَّهم يقومون بما يُسمَّى الحربَ بالوكالة، فهم أعرفُ بلغتنا وعلمِنا وواقعِنا من الأجنبيّ عنّا، فبالتالي يكون أثرُهم أشدَّ بلاءً وأوقع فتكاً.
هذا حوار أجريته مع فضيلة الشيخ سعود الشريم إمام الحرم المكي ..
س : في بداية لقاءنا فضيلة الشيخ هل من مقارنة بسيطة بين واقع المسلم في الوقت الحاضر وواقعه في صدر الإسلام ؟
إنَّ مقارنةً سريعةً يقوم بها أيّ امرئ عاقلٍ بين واقع الفرد المسلم اليوم وبين واقع مثيله في صدرِ الإسلام الأوّل لتوضح لنا بوناً شاسعًا بين الواقعين دون بذل حدْس أو كبير تأمّل.
نعم قد نرى المسلمَ اليومَ أفخَر ملبساً وأدسَم مطعماً أو أرفَه مركباً، ولكنّه من حيث الخصائصُ الروحية أقلُّ فؤاداً وأضعف وازعاً.
وقولوا مثل ذلك في مقارنةٍ مثيلة بين المجتمعات المسلمة في القديم والحديث؛ إذ أمّتنا في الصدر الأول كانت قائدةً لا منقادة، متبوعَة لا تَابعة، دافعةً لا مدفوعة، يدُها هي اليد العليا وليست السفلى، بل كانت أمةَ العدلِ والقسط والخيار، لها ألقابُ مملكةٍ ودولة قد وُضعت موضعَها، ولم تكن يوماً ما كمثلِ سنّورٍ يحكي انتفاخًا صولةَ أسدٍ هصور، أو كمثلِ جمل قد استنوَق، أو صُرَد قد استنسَر، كلا فلَم يصلْ بها الحدّ إلى ضربٍ من ضروب قلبِ المعايير أو الخلط واللَّبس وعدم وضوح الهدَف وإنزال الأمور منازلها كما هو مُصاب أمّة الإسلام في هذا الزمن الذي تحكي بعضُ مآسيه بأنَّ الرويبضةَ يجب أن يُلقَّب بالعالم، وسائق السيّارة بالمهندس، والحلاق بالطبيب، والذي من أجله كثُرت آلام أمتنا المعاصِرة، ونُكِئت جراحُها، حتى استُبيحت حرماتُها، فتجرّعت مجتمعاتها جراحَها في صياصِيها، وقُذف في قلوب بنيها الرعب، وهي لا تكاد تسيغ ذلك، ويأتيها الموتُ من كلّ مكان، بل إنها تُدَعَّى إلى الاستكانة والاستجداء دعًّا، وتُؤَزّ من قِبَل أعداء الإسلام أزًّا، إلى أن تعترِفَ مكرهةً حينًا ومستسلمةً حيناً آخر بأنَّ حقَّها باطل وأنَّ باطلَ غيرها حقّ على تخوّف ومضَض.
س : وماسبب هذه الإستكانة من وجهة نظرك فضيلة الشيخ ؟
الحقيقة أنَّ هذا كلَّه لم يكن بدْعًا من الأمر، ولا كان طفرةً بلا مقدّمات، وإنما هو ثمرة خللٍ وفتوق، وضرامُ وميضٍ قد كان بادياً خِلَل الرماد وسطَ ميدانِ الأمة الإسلامية بعد أن بُحَّت فيهم أصواتُ الناصحين والمنذرين العُريانيِّين، غيرَ أن أمّة الإسلام لم تستبِن النصحَ إلا في ضحَى الغد، وهذا كلّه ـ عباد الله ـ ليس غريباً، وإنّما الغريبُ كلَّ الغرابة أن تضعَ الأمة كلَّ أنواعِ الاستفهامِ في مسامعها حيناً بعدَ آخر، ثمّ هي لا تهتَدي إلى السبب الرئيس لكلّ هذه البلايا، فصارت كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماءُ محمولٌ خلفَ ظهورها، وهذا السبب الرئيسُ هو الذي ذكرَه الله جل وعلا في خمسِ كلماتٍ لا سادسة لهنّ، لم ينسِب الباري ولا في كلمةٍ واحدة سببَ الهوان إلى جيشٍ أو معسكر، ولا إلى تحرّفٍ في قتال، وإنّما قال سبحانه ( قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ) [آل عمران:165].
س : شباب الإسلام يافضيلة الشيخ ينتظرون النصر من عند الله .. فماهي شروط نصر الله ؟
إنَّ من المعلوم يقيناً أنَّ الله كتبَ على نفسه النصرَ لرسله وأوليائه، فقال سبحانه ( كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ )[المجادلة:21]، وقال جل وعلا ( وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَـافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً )[النساء:141]، غيرَ أنَّ هذا الوعدَ والعهد لا يمكن أن يأتي هكذا جُزافاً دونما قيدٍ أو شرط، بل قد علّق الله هذا النصرَ بالإيمان واستيفاء مقتضياتِه في كلّ مناحي الحياة، تشريعاً وسياسة واقتصاداً وإعلاماً وتعليماً دون فصلِ بعضِها عن بعض، وهذه هي سنَّة الله في النصرِ، وسنتُه سبحانه لا تحابي أحداً ولا تصانعُه، وحين تقصّر الأمة وتفرّط وتتخاذَل أو تأخُذ من الإسلام ما تشاء وتهمِّش ما تشاء كيفَما اتَّفق فإنما هي تدقّ نواميسَ الخطر على أعتابها، وتكشِف أسقيَتَها لكلّ ناهبٍ والغ، ثمّ هي الهزيمةُ ما منها بدّ، ومن ثمَّ فإنَّ على الأمّة أن تتجرّع النتيجة المرّة على شرق، وهي وإن كانت أمةً مسلمة في الأصل إلا أنَّ ذلك لا يقتضي خرقَ السُّنَن وإبطالَ النواميس الإلهية، ( وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً )[فاطر:43].
س : مع تسارع الأحداث في المنطقة هذه الأيام .. ماذا يقول الشيخ لأمة الإسلام ؟
إنَّنا في هذه الأيام العصيبة نعيش وسط زوابعَ يموج بعضُها في بعض، وفي ثنايا نوازِل تتلاطمُ آحادها كموج بحرٍ لُجِّيٍّ يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب، نعم , فإنَّ النسيمَ قد لا يهبّ عليلا داخلَ المجتمعات المسلمَة على الدّوام، فقد يعلو القتَر، ويطغى الكدَر، أو تُرمَق سماء المجتمعاتِ المسلمة غياياتُ فوّهاتِ البراكين المضطرمة، غيرَ أنَّ من العقل والحكمة توطينَ النّفس على مواجهة بعضِ النوازل على أمّة الإسلام، والتي تمثَّلت في تضييقِ الخناق على الإسلام والمسلمين من قبَل أعدائهم، بل والاستعداد النفسي والحسّيّ لمجابهة أصابعِ الاتهام وعبارات اللّوم لديار المسلمين بعدَ كلّ حدثٍ سانح.
إنَّ علينا جميعاً أن نقفَ أمَامها بشجاعةٍ وإقدام وقناعةٍ واعتزاز بهذا الدين القويم، كما أنَّ علينا أيضاً تركَ إضاعة الأوقات في مجرّد التعليق المريرِ عليها دونَ عمل جادٍّ في رفعِها أو دفعها بحزمٍ وعزم؛ لأنَّ مجردَ التعليق لا يفقأ عيناً ولا يقتل صيداً، فلا يصحّ أن تكونَ أمّة الإسلام أمام الغارة الكاسحة من اتّهامات أهلِ الكفر كالريشةِ في مهبِّ الريح، تتهادَى بها في كلّ اتّجاه، حتى تكون لقمةً سائغة لتمرير قناعاتِ التنازل عن بعض أمور الدين، أو التّخلي عن بعضِ ثوابتِه، أو التشكيك فيها، أو الاقتناع بإعادة النظر في هيكلة التربية والتنشئة والتعليم التي أثمَرَت صحوةً مرْضيَّة ومعرفةً سويّة لدى الجمهور من الناس.
إنّه لا ينبغي أن يكونَ ذلك لمجرّدِ تهويشٍ وتشويش يذكيهما الخوفُ والقلق من المصير، فيصدق فينا حينئذ قولُ ربّنا ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ )[الحج:11]، وقوله سبحانه ( وَمِن النَّاسِ مَن يِقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِىَ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ )[العنكبوت:10]، ولأجل هذا كان لِزاماً علينا أن نحذَر أمريْن مهمَّين خطيرين:
أوَّلهما: الحذر من الحملة المسعورَة الشَّعواء على أمَّتنا وحياضِها من خلال تشكيك الأعداء بسموّ رسالتنا الإسلامية، أو الاستجابة لشيءٍ من المساوَمَة مع غير المسلمين في عقيدتنا ومناهجنا؛ لأنَّ ذلك خيانةٌ عظمى، وجنون لا عقل معه، وجُرم ما بعده جرم، فضلاً عن كونِه نقضاً بعدَ غزل وحَوراً بعد كَور، يستحقّ صاحبُه وصفَ الباري جلَّ شأنه لمثل هذا بقوله ( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَـارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَـانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَـائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـالَهُمْ ) [محمد:25-28]، جاء عند أحمدَ وابنِ أبي شيبة من حديث جابر رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبيَّ بكتاب أصابَه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه فغضِب وقال: ((لقد جئتُكم بها بيضاءَ نقيّة)) الحديث، إلى أن قال : ((والذي نفسي بيده، لو أنَّ موسى كان حيًّا ما وسِعه إلا أن يتَّبعني))
فحِذار حِذار من خطورة الرّكون إلى غير الإسلام، أو ميل العاطفة والقلب مع غير دينِ الله، أو التسلّل لواذا عن شعارِ الإسلام ولُبّه مهما كانت الظروف التي تحيط بالواقع، ومهما كانت زوابعُ الرغبة أو الرهبة مائلةً إلى مثل هذا، فإنَّ ذلك لا يُعدّ مسوِّغاً للميل عن دين الله أو التنازل عن بعض ثوابتِه وعمادِه، فقد صحَّ عن النبيّ أنَّ من كان قبلَنا يُؤتى له بالمناشير، ويُقطع نصفين، ما يصدّه ذلك عن دينه ، وفي حادث أصحابِ الأخدود قال كبيرُهم: من رجع عن دينه فدَعوه، وإلا فأقحِموه في النّار، فجاءت امرأةٌ بابن لها تُرضعه، فكأنها تقاعَست أن تقعَ في النار، فقال الصبي: اصبري يا أمَّاه؛ فإنّك على الحق.
أمَّا الأمر الثاني : فهو أن نحذرَ اختراقَ صفوفِ المسلمين أو هزّ كيانِهم من قبَل جبهاتٍ داخليّة ممَّن هم من بني الجلدَة ويتكلَّمون بذاتِ اللغة، والذين يعرفُهم أولو الألباب في لحنِ القول ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ )[محمد:26]، ترونَهم كالقطعان يهرِفون بما لا يعرِفون، ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ )[الانشقاق:24]، هم في الحقيقةِ لصوصُ حروبٍ ونشّالون وسطَ الأزماتِ، يجعلون من النوازل والتداعيات فرَصاً سانحَة لفتِّ العضُد من داخل المجتمع، وقلبِ الحقائق، وإشعال فتيل تغيير الواقعِ المسلمِ ليخرج عن إطاره المشروع، يُعدّ أمثالُهم في دولٍ كبرَى طابوراً خامِساً حسَب قواميسِهم، فهم يتَّقونهم في مجتمعاتِهم بكلّ ما يملكون من سبُل، وهؤلاء هُم أشدّ خطراً من العدو الخارجي، بل إنَّهم يقومون بما يُسمَّى الحربَ بالوكالة، فهم أعرفُ بلغتنا وعلمِنا وواقعِنا من الأجنبيّ عنّا، فبالتالي يكون أثرُهم أشدَّ بلاءً وأوقع فتكاً.