PDA

View Full Version : دعوات أم مواعظ


الساري
30-11-2002, 02:25 PM
هذه مذكرة كتبها الشيخ عبدالوهاب الطريري فيما نلاحظه هذه الأيام من إطالة من بعض أئمة المساجد في دعاء القنوت ( أرجو له ولجميع المسلمين التوفيق والثبات )

دعوات أم مواعظ



الموقف في دعاء القنوت مظنة إجابة الدعاء حيث تبسط الأيدي في دبر قيام الليل ويؤمن الجميع على الدعاء وفيهم العباد والصلحاء والضعفاء ومن لو أقسم عل الله لإبره ، وهم في حال الخشوع والإخبات ورقة القلب ، وكل ذلك من أسباب إجابة الدعاء ، ولذا فإن اغتنام هذا الموقف باختيار جوامع الأدعية ومأثورها الجامعة لخيري الدنيا والآخرة ، وهو ما نلاحظه في كثير من المساجد حيث الأئمة من الحفاظ وطلبة العلم ، ولكن ثمة ملاحظات قليلة تصدر بحسن نية من البعض نذكرها من باب التذاكر والتواصي بالحق فمن ذلك :

( 1 ) الإطالة المملة في الدعاء والتي تشق على الناس وتثقل عليهم العبادة ، فيؤمنون وقلوبهم قد كلت وسئمت ، وهذا من فتنة الناس عن العبادة وتثقيلها عليهم ، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنكر على معاذ إطالته قراءة القرآن في الصلاة ، فكيف بإطالة الدعاء .

( 2 ) ترتيل الدعاء كما ترتل آيات الكتاب مع أن الأصل في الدعاء الانكسار والإخبات والخضوع بلا تكلف ولا تقصد لنغمة معينة أو أداء معين ولم ينقل إلينا أداء الدعاء مرتلاً كما نقلت آيات الكتاب العزيز ، فإثقال الدعاء بالمد اللازم والإدغام بغنة والقلقة ، تكلف يبعد عن لب الدعاء وهو الخشوع فيه .

( 3 ) التفصيل عند الدعاء بأحوال البرزخ ويوم القيامة بطريقة تحول الدعاء إلى موعظة فربما سمعت من يدعو بالثبات عند الممات إذا بردت القدمان، وشخصت العينان ، ويبس اللسان في وصف طويل لحالة الاحتضار ، وهذا من الوعظ وليس من المسألة في شي ومثله من يسأل أن يجيرنا الله من النار إذا جيء بها يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك ، فأين هذا كله من الدعاء القرآني الجامع ( وقنا عذاب النار ) ، ومثل ذلك التفصيل في نعيم الجنة والذي هو لازم دخولها ولذا أنكر سعد أبن أبي وقاص - رضي الله عنه - على ابنه لما سمعه يسأل الله الجنة ونعيمها واستبرقها ويستعيذ من النار وأغلالها وكذا وكذا وقال له : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء ) وإن بحسبك أن تقول : اللهم أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل .
وهذا التفصيل يخرج بالدعاء عن المقصود وهو المسألة إلى باب آخر وهو الوعظ والتذكير والترقيق وهو مطلوب ولكن في غير هذا الموقف .
أن الاسترسال بهذا يشعرك بأنك تستمع إلى خطيب قد ولاك ظهره وليس إلى قانت يسأل لك ربه .

( 4 ) التفصيل في الدعاء على الكفار ، بتجميد الدماء في عروقهم ، وحبسهم في جلودهم ، وأن يتمنوا الموت فلا يجدون له سبيلا وان ترمل نسائهم وييتم أطفالهم في طائفة من هذا النوع طويلة فأين هذا مما ورد عن الدعاء على المعتدين ( اللهم أهزمهم وزلزلهم ) ( اللهم أشدد وطأتك عليهم ) ( اللهم إكفناهم بما شئت ) ونحوه .
بل إنك تعجب غاية العجب عندما تسمع تعميم العقوبة على كل كافر من اليهود والنصارى والشيوعيين والدعاء عليهم بالفناء والهلاك وهذا فيما أحسب من الاعتداء في الدعاء لأمور منها :
أ - أننا نعلم بخبر نبينا أن ذلك مخالف لقدرة الله - عز وجل - الذي قدرة وخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أخبر ، فالروم في آخر الزمان أكثر الناس ، وستجري الملاحم الكبرى في آخر الزمان مع الكفار ، وستقوم الساعة على شرار الناس ، ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ) < هود :118 > .
ب - أننا عل يقين أن من الكفار من لهم نفوس سوية ، وفطر مستقيمة وأنهم مهيئون لقبول الدعوة وتلقي الهداية ، كما قال - عز وجل - عن مشركي قريش ( عسى أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ) ولو أيقنا أن كل الكفار قد شد على قلوبهم لما كان لراوية حديث ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) كبير معنى ، ولم يكن لكل جهد نبذله في الدعوة مبرر ولا جدوى .
ومثل ذلك الدعاء على الكفار أن يقطع الله نسلهم ، ونحن نتذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -استأنى بقومه وهو يقول " لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاًَ وقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد قيل له يا رسول الله أدع على المشركين فقال - صلى الله عليه وسلم - ( إني لم أبعث لعاناً ، وإنما بعثت رحمة ) .
نعم إن من أسباب هذا الانفعال كله الشعور بحرارة الظلم والبغي من الدول الكبرى والذي أمض القلوب ، وأقض المضاجع ، وعقد المرارات في أفواه المسلمين ، ولكن المسلم يصدر في دعائه وسائر عباداته من الأدلة الشرعية وليس من المشاعر النفسية .

( 5 ) النواح والصياح في البكاء بطريقة مجيشة ، وانفعال وتفاعل ربما تجاوز إلى الصراخ والعويل المزعج . وتقارنه بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تجد البون واسعاً ، فأين هذا وحديث أبن مسعود عندما قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - صدر سورة النساء حتى قال له : حسبك ، قال : فألتفت إليه فإذا عيناه تذرفان ، وهذا مشعر أن أبن مسعود م اشعر ببكائه إلا حين ألتفت إليه .

إن من جوامع الأدعية المأثورة غني عن كثير من التفصيل المطنب ، وفي الخشوع المخبت اقتفاء للهدي النبوي ، وعصمة من الأحوال التي يكون لرؤية الناس حضور فيها ، ومرادات النفوس غلابة ، ومساربها خفية ، والموفق من أستعصم بما ورد ، ومن اقتدى فقد اهتدى .



والله الموفق