بو عبدالرحمن
01-04-2002, 06:33 PM
-
قال الرواي :
هذه القصة المثيرة كانت نقطة تحول كبيرة في حياتي ..
بحيث أنني عزمت بعدها على تغيير كثير من عاداتي وسلوكياتي .
منذ سنوات ثلاث تقريباً لم اكن على هذه الصورة الطيبة التي أحمد الله عليها اليوم
كأنما أخرجني الله من ظلمات متراكبة ، إلىنور مشرق وهاج ..
كانت القصة كالتالي :
طارت الأخبار بنبأ استشهاد فتى في عمر الزهور ، تحول إلى قنبلة ..
-لا أدري هل كان هناك عمليات مماثلة قبل هذه أم لا ،
لأني كنت مشغولا حتى العظم بهمومي الصغيرة أعني الشهوات _
هز الخبر قلوب كثيرة غافلة كقلبي الذي كان سادرا في غيه ،
وأحدث في كثير من النفوس رجة ، كما فعل بي ..
قرأ الخبر على صفحات الجرائد ، أخ له شقيق يعيش في بلد آخر
فدمعت عيناه ، ولهج بحمد الله ، والثناء عليه ..
وحين قدم الناس لتعزيته _ وكنت واحداً منهم _ أبى إلا أن يتقبل التهاني لا التعازي ..
وقام فينا خطيبا مفوها يحدثنا حديثا دمعت له عيوننا ..
وارتفعت أصواتنا بالتكبير ..
كان ما قال :
أن الشهادة في سبيل الله درجة عزيزة لا ينالها كل أحد ..
بل هي اصطفاء من الله تعالى وتكريم .. وتلا بصوت شجي مؤثر :
)إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)
فالشهادة اصطفاء من الله لمن يحبهم .. ليرفع اقدارهم عنده ..
والشهيد حي يُرزق بنص كتاب الله .. والعزاء لا يكون إلا في الأموات !!
و أخذ يتحدث عن منزلة الشهيد عند الله وكراماته التي يكرمه الله بها .
ثم ارتفع صوته بنبرة حادة منشدا مترنماً :
شباب لم تحطّمه الليالي
ولم يُسلِم إلى الخصمِ العرينا
ولم تشهدهُمُ الأقداحُ يومًا
وقد ملأوا نواديهم مجونا
وما عرفوا الأغاني مائعاتٍ
ولكن العلا صيغتْ لحونا
وما عرفوا الخلاعةَ في بناتٍ
ولا عرفوا التخنّث في بنينا
ولم يتشدقوا بقشورِ علْمٍ
ولم يتقلّبوا في الملحدينا
ولم يتبجّحوا في كل أمرٍ
خطير كي يقالَ مثقفونا
إلى آخر القصيدة ..
وصمت المكان .. وتهللت القلوب .. وفاضت العيون .. وطربت الملائكة .!
وشرع يستقبل وفود المهنئين هاشا باشا مبتسما ..
في نفس اليوم كانت أمه توزع الحلوى على وفود المهنئين
وهي تعدهم أن تجهز ابنا آخر على طريق الشهادة ..
( أحسبها كانت تعني هذا الذي نتحدث هنا عنه )
أما صاحبنا فبعد أن فرغ من التهاني ..
اختلى بنفسه وأخذ يسطر رسالة معطرة ، إلى أخيه الشهيد
نشرتها في اليوم التالي صحيفة مغمورة .. فكان مما كتبه ..
على خط النار أبيت إلا أن تكون ..
ورفضت أن تنتقل من أرض الرباط رغم كل الإغراءات التي عُرضت عليك ..
في الصفوف الأولى وسط اللهيب قررت أن تغرز رايتك ..
وفي وجه الزحف التتري صممت أن تقف شامخا لا تلين ،
ولم تشأ إلا أن تنهي دروك في الحياة واقفاً كالراية ...
لله درك .. صغيرٌ لم يتجاوز السادسة عشرة ولكنا منك نتعلم كيف نحيا كرماء ..
من ظن أنك خسرتَ .. فلا أنامَ اللهُ له عيناً ..
ومن زعم بأن غيرك ممن يموتون موت البعران قد ربح ، فعجّل الله له بداهية
تعيد إليه صواب عقله المخدر ، حتى يعي حقائق الموت والحياة ..
سنتان لم أرك فيهما .. غير أن صورتك الوضيئة لم تفارق قلبي ..
لم أعرفك إلا بساما حتى في أحلك الظروف ..
التربية المسجدية أفاضت عليك ببركاتها ، وغمرتك بأنوارها
فعرفت كيف تواجه الحياة .. وعرفت كيف تختار طريق الحياة الأبدية ..
ومن بركات تلك التربية : أن جليسك كان يأنس بك ..
ولا يمل من طول الإصغاء إليك ..
وأنت تتحدث في حماس لا نراه حتى في كثير من الشيوخ الذين يعتلون المنابر ..
وبين الجملة والجملة تشمر عن ساعديك ،
كأنما تتحفز لتنقض على عدو منتصب أمام عينيك تهم أن تصرعه ..
ثم كان أن قدر الله لي أن أفارقكم ، ومرت السنة تتلوها السنة ،
ولكن أخبارك لم تنقطع عني . ويبلغني أنك أصبحت تسابق الريح طلبا للشهادة ..
لا يدور لسانك إلا بالحديث عنها ، والشوق إليها ..
تخرج من البيت وأنت تودع أهلك وداع من لا يعود إليهم ..
تقبل راس الوالدة الكريمة ، وتستحلفها بالله العظيم :
أن تدعو لك أن تلقى الشهادة في يومك هذا ..
تخرج بصدرك العاري ، ويدك التي لا تحمل سوى الحجارة ، ولكن قلبك مترع بأنوار الإيمان ..
ثم بلغني أنك تعد العدة بأكثر من الحجارة .. لقد نفذ صبرك ، وطفح الشوق إلى الجنة …
ولم يعد في قوس الصبر منزع .. فكان قراراك أن تتحول إلى قنبلة ..
وبلغني أنه خلال إعدادك لهذه المهمة الكبيرة ، وأن تتهيأ لاستقبال الحور العين ، وملائكة الرحمن ..
كنت تترك في كل بقعة أثرا طيبا ، وصدى واضحا ،
وأصبحت مجالسك متميزة ، ومن يجلس إليك تصيبه عدوى الشوق إلى الجنة ..
ويا لها من عدوى رائعة .. تجعل الصغار هم رجال اليوم ، وأبطال الأمة ..
وملقنو العالم دروس التضحية في أروع معانيها ..
كذلك أخرج الإسلام قومي
شبابًا مخلصًا حرًّا أمينا
وعلمه الكرامة كيف تبنى
فيأبى أن يُقيَّد أو يهونا
دعوني من أمانٍ كاذباتٍ
فلم أجد المنى إلا ظنونا
وهاتوا لي من الإيمانِ نورًا
وقوّوا بين جنبيَّ اليقينا
أمدُّ يدي فأنتزع الرواسي
وأبني المجد مؤتلفًا مكينا
ومضيت متألقا .. وقد نسفت في طريقك ارتالا من الخنازير بين قتيل وجريح ..
ولا سواء … قتلانا في الجنة ، وقتلاهم في النار ..
مضيت مستبشرا بموعود الله لك ، وتركتنا مع الخوالف ..
تركتنا نعلك الكلام ، ونسمع الغثاء ، ونعيش مع الجعجعة التي لا طحن فيها ..
مضيت وتركتنا منغمسين في المستنقع الذي صنعوه لنا بدهاء ..
وهم يزعمون أنهم .. وأنهم . وأنهم …. ونحن ننظر في بلاهة ..!
قال لي أحدهم .. لقد سقط أخوك شهيدا ..
واستفزني التعبير .. وهاج غضبي .. لقد عرفتك تكره السقوط ومعاني السقوط ..
فلنقل في ثقة : لقد ارتفع شهيدا حياً عند ربه يرزقه من حيث لا يحتسب ..
مضى شهيدا على أن الإسلام لا يزال قادر على أن يصنع الرجال حتى في زمن الذل والمهانة ..
شهيدا على أن هذه الأمة بمقدورها أن تنجب ملائكةً يدبون على الأرض بروح السماء ..
شهيدا أن منهج الله لا زال قادرا على إخراج رجال يكونون قدرا من أقدار الله يغير بهم ويبدل ..
شهيدا أن هذه الأمة مهما أصابها من ذل وهوان قادرة أن تستعيد عافيتها في وقت مثالي قصير ..
بشرط واحد .. واحد لا غير :
أن تعود إلى الله صادقة ، تلزم هدي ربها ، وتقتفي خطوات نبيها الكريم ،
وتبذل من أجله الغالي والنفيس ..
إذا فعلت ذلك بحق وصدق ، فلها أن تبشر بكل خير ..
إن طاحونة الموت ما زالت تدور وتدور ، تدك بين رحاها أكوام اللحم والدم والشحم .. ولا يملك أحد منها فرارا ..
الشهداء وحدهم هم الذين يتأبون عليها لأنهم قرروا أن يكونوا أحياء عند ربهم يرزقون
طريق الحرية مفروش بالدماء ..
وشجرة الحرية لا تُسقى بالماء وإنما تسقى بالدم ..
والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..
أخي الكريم الحبيب .. شهداءنا الأحبة ..
الناس يموتون ، وأنتم تحيون ..
الناس يمضون عن هذه الدنيا .. وأنتم تبقون منارات هدى على الطريق ..
تنادي الحائرين : هلموا .. هلموا ايها الأحباب ..الطريق من هاهنا ..
الناس لا يُدرى ما مصيرهم بعد الموت .. وأنتم فزتم ورب الكعبة بعز الدارين
الناس إذا ماتوا كانوا بين خوف ورجاء .. وأنتم في لحظات استشهادكم :
تطرب أرواحكم فرحة وهي ترى وفود الملائكة تصطف لاستقبالكم والترحيب بكم .
تستبشرون بالذين لم يلحقوا بكم ..
وتحزنون على من لا زال مخدوعا بالوهم نائما في عسل الشهوة الذي يعرضه لسخط الله ...!
شهداءنا الأحبة ..
يظن الناس أنهم فازوا بالطيبات دونكم ..
وتنظرون إليهم من عل عالٍ من عالم الغيب نظرة رثاء ورحمة وإشفاق ..
وتنادونهم في يقين :
ليس للطيبات والله مكان إلا ها هنا .. وليس للسعادة معنى حقيقيا إلا هنا ..
ومن لم يصل إلى الجنة بعد ، فلا يزعمن أنه عرف شيئا عن السعادة والطمأنينة ..
فهنيئا لكم باتخاذ الله سبحانه إياكم من الشهداء ..
ولا حرمنا الله هذه المنزلة على تقصير فينا وقصور .. وما ذلك على الله بعزيز ..
قال الراوي :
وتأثرت غاية التأثر بهذه القصة ، وانفعلت اشد الانفعال مع هذه الكلمات
وقارنت بين ما أنا فيه من غفلات وزلات وهفوات ..
فرأيت نفسي مرتميا في أحضان الشيطان أرضع من أثدائه ،
في الوقت الذي يكون هؤلاء الأشبال ( الرجال ) يصنعون لهذه الأمة مجدها ..
وخلوت إلى نفسي .. أفكر وأقارن فإذا بي أجهش بالبكاء
وأنا أرى نفسي لا أستطيع أن أقاوم شهوة من شهوات النفس ..
في الوقت الذي يواجه شباب في عمر الزهور الموت عيانا وهم يتبسمون ..
ثم كان قراري الحاسم الصارم :إن كنت غير قادر على جهاد أعداء الله
فلا أقل من أن أعلن الجهاد على نفسي الأمارة بالسوء ..
وشرعت أحمل سيف المجاهدة بلا هوادة ، واصبح شعاري معها :
إما الله وإما الدمار .. والله يا نفس لن تذوقي لذة معصية بعد اليوم إلا مغلوبا بغفلة عارضة .. والله المستعان ..
وقال لي رفقاء السوء الذي كانوا يزينون الباطل في عيني :
لن تستطيع الصمود .. وستعود أسوأ مما كنت ..
غير أني استعنت بالله .. ومضيت في الطريق مستعيناً بالله ..
وهجرت صحبتهم مستبدلا إياهم بصحبة قد أشرقت قلوبهم بنور الإيمان ، وتعلقت أرواحهم بالرحمن .
وكان فضل الله علي كبيرا . ثبتني وأعانني ومضيت وعيناي في السماء .
قال الرواي :
هذه القصة المثيرة كانت نقطة تحول كبيرة في حياتي ..
بحيث أنني عزمت بعدها على تغيير كثير من عاداتي وسلوكياتي .
منذ سنوات ثلاث تقريباً لم اكن على هذه الصورة الطيبة التي أحمد الله عليها اليوم
كأنما أخرجني الله من ظلمات متراكبة ، إلىنور مشرق وهاج ..
كانت القصة كالتالي :
طارت الأخبار بنبأ استشهاد فتى في عمر الزهور ، تحول إلى قنبلة ..
-لا أدري هل كان هناك عمليات مماثلة قبل هذه أم لا ،
لأني كنت مشغولا حتى العظم بهمومي الصغيرة أعني الشهوات _
هز الخبر قلوب كثيرة غافلة كقلبي الذي كان سادرا في غيه ،
وأحدث في كثير من النفوس رجة ، كما فعل بي ..
قرأ الخبر على صفحات الجرائد ، أخ له شقيق يعيش في بلد آخر
فدمعت عيناه ، ولهج بحمد الله ، والثناء عليه ..
وحين قدم الناس لتعزيته _ وكنت واحداً منهم _ أبى إلا أن يتقبل التهاني لا التعازي ..
وقام فينا خطيبا مفوها يحدثنا حديثا دمعت له عيوننا ..
وارتفعت أصواتنا بالتكبير ..
كان ما قال :
أن الشهادة في سبيل الله درجة عزيزة لا ينالها كل أحد ..
بل هي اصطفاء من الله تعالى وتكريم .. وتلا بصوت شجي مؤثر :
)إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)
فالشهادة اصطفاء من الله لمن يحبهم .. ليرفع اقدارهم عنده ..
والشهيد حي يُرزق بنص كتاب الله .. والعزاء لا يكون إلا في الأموات !!
و أخذ يتحدث عن منزلة الشهيد عند الله وكراماته التي يكرمه الله بها .
ثم ارتفع صوته بنبرة حادة منشدا مترنماً :
شباب لم تحطّمه الليالي
ولم يُسلِم إلى الخصمِ العرينا
ولم تشهدهُمُ الأقداحُ يومًا
وقد ملأوا نواديهم مجونا
وما عرفوا الأغاني مائعاتٍ
ولكن العلا صيغتْ لحونا
وما عرفوا الخلاعةَ في بناتٍ
ولا عرفوا التخنّث في بنينا
ولم يتشدقوا بقشورِ علْمٍ
ولم يتقلّبوا في الملحدينا
ولم يتبجّحوا في كل أمرٍ
خطير كي يقالَ مثقفونا
إلى آخر القصيدة ..
وصمت المكان .. وتهللت القلوب .. وفاضت العيون .. وطربت الملائكة .!
وشرع يستقبل وفود المهنئين هاشا باشا مبتسما ..
في نفس اليوم كانت أمه توزع الحلوى على وفود المهنئين
وهي تعدهم أن تجهز ابنا آخر على طريق الشهادة ..
( أحسبها كانت تعني هذا الذي نتحدث هنا عنه )
أما صاحبنا فبعد أن فرغ من التهاني ..
اختلى بنفسه وأخذ يسطر رسالة معطرة ، إلى أخيه الشهيد
نشرتها في اليوم التالي صحيفة مغمورة .. فكان مما كتبه ..
على خط النار أبيت إلا أن تكون ..
ورفضت أن تنتقل من أرض الرباط رغم كل الإغراءات التي عُرضت عليك ..
في الصفوف الأولى وسط اللهيب قررت أن تغرز رايتك ..
وفي وجه الزحف التتري صممت أن تقف شامخا لا تلين ،
ولم تشأ إلا أن تنهي دروك في الحياة واقفاً كالراية ...
لله درك .. صغيرٌ لم يتجاوز السادسة عشرة ولكنا منك نتعلم كيف نحيا كرماء ..
من ظن أنك خسرتَ .. فلا أنامَ اللهُ له عيناً ..
ومن زعم بأن غيرك ممن يموتون موت البعران قد ربح ، فعجّل الله له بداهية
تعيد إليه صواب عقله المخدر ، حتى يعي حقائق الموت والحياة ..
سنتان لم أرك فيهما .. غير أن صورتك الوضيئة لم تفارق قلبي ..
لم أعرفك إلا بساما حتى في أحلك الظروف ..
التربية المسجدية أفاضت عليك ببركاتها ، وغمرتك بأنوارها
فعرفت كيف تواجه الحياة .. وعرفت كيف تختار طريق الحياة الأبدية ..
ومن بركات تلك التربية : أن جليسك كان يأنس بك ..
ولا يمل من طول الإصغاء إليك ..
وأنت تتحدث في حماس لا نراه حتى في كثير من الشيوخ الذين يعتلون المنابر ..
وبين الجملة والجملة تشمر عن ساعديك ،
كأنما تتحفز لتنقض على عدو منتصب أمام عينيك تهم أن تصرعه ..
ثم كان أن قدر الله لي أن أفارقكم ، ومرت السنة تتلوها السنة ،
ولكن أخبارك لم تنقطع عني . ويبلغني أنك أصبحت تسابق الريح طلبا للشهادة ..
لا يدور لسانك إلا بالحديث عنها ، والشوق إليها ..
تخرج من البيت وأنت تودع أهلك وداع من لا يعود إليهم ..
تقبل راس الوالدة الكريمة ، وتستحلفها بالله العظيم :
أن تدعو لك أن تلقى الشهادة في يومك هذا ..
تخرج بصدرك العاري ، ويدك التي لا تحمل سوى الحجارة ، ولكن قلبك مترع بأنوار الإيمان ..
ثم بلغني أنك تعد العدة بأكثر من الحجارة .. لقد نفذ صبرك ، وطفح الشوق إلى الجنة …
ولم يعد في قوس الصبر منزع .. فكان قراراك أن تتحول إلى قنبلة ..
وبلغني أنه خلال إعدادك لهذه المهمة الكبيرة ، وأن تتهيأ لاستقبال الحور العين ، وملائكة الرحمن ..
كنت تترك في كل بقعة أثرا طيبا ، وصدى واضحا ،
وأصبحت مجالسك متميزة ، ومن يجلس إليك تصيبه عدوى الشوق إلى الجنة ..
ويا لها من عدوى رائعة .. تجعل الصغار هم رجال اليوم ، وأبطال الأمة ..
وملقنو العالم دروس التضحية في أروع معانيها ..
كذلك أخرج الإسلام قومي
شبابًا مخلصًا حرًّا أمينا
وعلمه الكرامة كيف تبنى
فيأبى أن يُقيَّد أو يهونا
دعوني من أمانٍ كاذباتٍ
فلم أجد المنى إلا ظنونا
وهاتوا لي من الإيمانِ نورًا
وقوّوا بين جنبيَّ اليقينا
أمدُّ يدي فأنتزع الرواسي
وأبني المجد مؤتلفًا مكينا
ومضيت متألقا .. وقد نسفت في طريقك ارتالا من الخنازير بين قتيل وجريح ..
ولا سواء … قتلانا في الجنة ، وقتلاهم في النار ..
مضيت مستبشرا بموعود الله لك ، وتركتنا مع الخوالف ..
تركتنا نعلك الكلام ، ونسمع الغثاء ، ونعيش مع الجعجعة التي لا طحن فيها ..
مضيت وتركتنا منغمسين في المستنقع الذي صنعوه لنا بدهاء ..
وهم يزعمون أنهم .. وأنهم . وأنهم …. ونحن ننظر في بلاهة ..!
قال لي أحدهم .. لقد سقط أخوك شهيدا ..
واستفزني التعبير .. وهاج غضبي .. لقد عرفتك تكره السقوط ومعاني السقوط ..
فلنقل في ثقة : لقد ارتفع شهيدا حياً عند ربه يرزقه من حيث لا يحتسب ..
مضى شهيدا على أن الإسلام لا يزال قادر على أن يصنع الرجال حتى في زمن الذل والمهانة ..
شهيدا على أن هذه الأمة بمقدورها أن تنجب ملائكةً يدبون على الأرض بروح السماء ..
شهيدا أن منهج الله لا زال قادرا على إخراج رجال يكونون قدرا من أقدار الله يغير بهم ويبدل ..
شهيدا أن هذه الأمة مهما أصابها من ذل وهوان قادرة أن تستعيد عافيتها في وقت مثالي قصير ..
بشرط واحد .. واحد لا غير :
أن تعود إلى الله صادقة ، تلزم هدي ربها ، وتقتفي خطوات نبيها الكريم ،
وتبذل من أجله الغالي والنفيس ..
إذا فعلت ذلك بحق وصدق ، فلها أن تبشر بكل خير ..
إن طاحونة الموت ما زالت تدور وتدور ، تدك بين رحاها أكوام اللحم والدم والشحم .. ولا يملك أحد منها فرارا ..
الشهداء وحدهم هم الذين يتأبون عليها لأنهم قرروا أن يكونوا أحياء عند ربهم يرزقون
طريق الحرية مفروش بالدماء ..
وشجرة الحرية لا تُسقى بالماء وإنما تسقى بالدم ..
والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..
أخي الكريم الحبيب .. شهداءنا الأحبة ..
الناس يموتون ، وأنتم تحيون ..
الناس يمضون عن هذه الدنيا .. وأنتم تبقون منارات هدى على الطريق ..
تنادي الحائرين : هلموا .. هلموا ايها الأحباب ..الطريق من هاهنا ..
الناس لا يُدرى ما مصيرهم بعد الموت .. وأنتم فزتم ورب الكعبة بعز الدارين
الناس إذا ماتوا كانوا بين خوف ورجاء .. وأنتم في لحظات استشهادكم :
تطرب أرواحكم فرحة وهي ترى وفود الملائكة تصطف لاستقبالكم والترحيب بكم .
تستبشرون بالذين لم يلحقوا بكم ..
وتحزنون على من لا زال مخدوعا بالوهم نائما في عسل الشهوة الذي يعرضه لسخط الله ...!
شهداءنا الأحبة ..
يظن الناس أنهم فازوا بالطيبات دونكم ..
وتنظرون إليهم من عل عالٍ من عالم الغيب نظرة رثاء ورحمة وإشفاق ..
وتنادونهم في يقين :
ليس للطيبات والله مكان إلا ها هنا .. وليس للسعادة معنى حقيقيا إلا هنا ..
ومن لم يصل إلى الجنة بعد ، فلا يزعمن أنه عرف شيئا عن السعادة والطمأنينة ..
فهنيئا لكم باتخاذ الله سبحانه إياكم من الشهداء ..
ولا حرمنا الله هذه المنزلة على تقصير فينا وقصور .. وما ذلك على الله بعزيز ..
قال الراوي :
وتأثرت غاية التأثر بهذه القصة ، وانفعلت اشد الانفعال مع هذه الكلمات
وقارنت بين ما أنا فيه من غفلات وزلات وهفوات ..
فرأيت نفسي مرتميا في أحضان الشيطان أرضع من أثدائه ،
في الوقت الذي يكون هؤلاء الأشبال ( الرجال ) يصنعون لهذه الأمة مجدها ..
وخلوت إلى نفسي .. أفكر وأقارن فإذا بي أجهش بالبكاء
وأنا أرى نفسي لا أستطيع أن أقاوم شهوة من شهوات النفس ..
في الوقت الذي يواجه شباب في عمر الزهور الموت عيانا وهم يتبسمون ..
ثم كان قراري الحاسم الصارم :إن كنت غير قادر على جهاد أعداء الله
فلا أقل من أن أعلن الجهاد على نفسي الأمارة بالسوء ..
وشرعت أحمل سيف المجاهدة بلا هوادة ، واصبح شعاري معها :
إما الله وإما الدمار .. والله يا نفس لن تذوقي لذة معصية بعد اليوم إلا مغلوبا بغفلة عارضة .. والله المستعان ..
وقال لي رفقاء السوء الذي كانوا يزينون الباطل في عيني :
لن تستطيع الصمود .. وستعود أسوأ مما كنت ..
غير أني استعنت بالله .. ومضيت في الطريق مستعيناً بالله ..
وهجرت صحبتهم مستبدلا إياهم بصحبة قد أشرقت قلوبهم بنور الإيمان ، وتعلقت أرواحهم بالرحمن .
وكان فضل الله علي كبيرا . ثبتني وأعانني ومضيت وعيناي في السماء .