weld-dubai
15-06-2001, 04:14 PM
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ، وبعد ؛
فمن البلاء المنتشر هذه الأيام لاسيما في أوساط الشباب النظر إلى المحرمات ، والتي تعددت صورها وأشكالها وأماكنها ، من مجلات وجرائد ، وتلفاز وفيديو ، وسينما ومسرح ، وأخيراً الكمبيوتر والإنترنت ، إلى جانب التبرج المشين الذي تقع به كثير من بنات المسلمين ، والذي يواجه المسلم في كل مكان في عمله وفي سوقه وفي طريقه وإلى جانب بيته ؟!.
وقد حذر الشرع الحنيف من غوائل النظر إلى ما حرم الله تعالى ، وأمر بغض الطرف عن ذلك ، لما فيه من الخير للجميع والمصلحة ، وهاك الأدلة في ذلك :
1- قال تعالى : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن } ( النور :30-31) .
فلما كان غض البصر أصلاً لحفظ الفرج ، بدأ الله تعالى بذكره ، وتحريمه تحريم الوسائل ، فيباح للمصلحة الراجحة ، ويحرم إذا خيف منه الفساد ، ولم يأمر سبحانه بغضه مطلقا بل أمر بالغض منه ، وأما حفظ الفرج فواجب بكل حال ، لا يباح إلا بحقه ، فلذلك عمَّ الأمر بخفضه .
وقد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب ، فإذا غضَّ العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته ، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته . (1)
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة ، فالعينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرِّجل زناها الخُطا ، والقلب يهوي ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج و يكذبه . (2)
قال ابن القيم رحمه الله : فبدأ بزنى العين لأنه أصل زنى اليد والرجل والقلب والفرج ، ونبّه بزنى اللسان بالكلام على زنى الفم بالقبل ، وجعل الفرج مصدقاً لذلك إنْ حقق الفعل ، أو مكذبا له إنْ لم يحققه ، وهذا الحديث من أبين الأشياء على أن العين تعصي بالنظر ، وأن ذلك زناها ، ففيه رد على من أباح النظر مطلقا !.
3- وفي حديث جابر رضي الله عنه في صفة الحج : أن الفضل بن عباس رضي الله عنهما كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر من مزدلفة إلى منى ، فمرت ضُعُن يجرين ( أي : نساء على الإبل ) فطفق الفضل ينظر إليهن ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل ، فحوّل الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر ، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر .."(1) .
وهذا إنكار من النبي صلى الله عليه وسلم على الفضل بيده ومنع له ، ولو كان النظر جائزا لأقره عليه .
4- وعن ابن بريدة عن أبيه : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي : يا علي ، " لا تُتْبع النظرة النظرة ، فإن لك الأولى ، وليست لك الآخرة " (2) .
قال الخطابي : النظرة الأولى إنما تكون له لا عليه إذا كانت فجأة من غير قصد أو تعمد ، وليس له أن يكرر النظرة ثانية ، ولا له أن يتعمده بدءاً كان أو عوداً .
5- وعن جرير رضي الله عنه قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة ، فامرني أن أصرف بصري " .(3) والصرف : أن يقلبه إلى الشق الآخر أو الناحية الأخرى ، قاله الخطابي .
وقال ابن القيم : وأرشد من ابتلى بنظرة الفجأة أن يداويه بإتيان امرأته ، وقال : " إن معها مثل الذي معها " (1) فإن في ذلك التسلي عن المطلوب بجنسه .
والثاني : أن النظر يثير قوة الشهوة ، فأمر بتنقيصها بإتيان أهله ، ففتنة النظر أصل كل فتنة ، كما ثبت في الصحيحين : من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما تركت بعدي فتنة أَضَرَّ على الرجال من النساء " (2) .
وفي صحيح مسلم : من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الدنيا واتقوا النساء " .(3)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يكفر من كفر ممن مضى إلا من قِبَل النساء ، وكُفر من بقي من قِبل النساء . (4)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : ووقعت مسألة :
ما تقول السادة العلماء : في رجل نظر إلى امرأة نظرة فعلق حبُّها بقلبه ، واشتد عليه الأمر ، فقالت له نفسُه : هذا كله من أول نظرة ، فلو أعدت النظر إليها لرأيتها دون ما في نفسك ، فسلوت عنها ، فهل يجوز له تعمد النظر ثانيا لهذا المعني ؟
فكان الجواب : الحمد لله ، لا يجوز هذا لعشرة أوجه :
أحدها : أن الله سبحانه امر بغض البصر ، ولم يجعل شفاء القلب فيما حرمه على العبد .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن نظر الفجأة ، وقد علم أنه يؤثر في القلب فأمر بمداواته بصرف النظر ، لا بتكرار النظر !.
الثالث : انه صرح بأن الأولى له وليست له الثانية ، ومحال أن يكون داؤه مما له ، ودواؤه فيما ليس له .
الرابع : أن الظاهر قوة الأمر بالنظرة الثانية لا تناقصه ، والتجربة شاهدة به ، والظاهر أن الأمر كما رآه أول مرة ، فلا تحسن المخاطرة بالإعادة .
الخامس : أنه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه فزاد عذابه .
السادس : أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية ، يقوم في ركائبه فيزيِّن له ما ليس بحسن لتتم البلية .
السابع : أنه لا يعان على بليته إذا اعرض عن امتثال أوامر الشرع ، وتداوي بما حرمه عليه ، بل هو جدير أن تتخلف عنه المعونة .
الثامن : أن النظرة الأولى سهم مسموم من سهام إبليس ، ومعلوم أن الثانية أشد سماًّ ، فكيف يتداوي من السم بالسم ؟!!!
التاسع : أن صاحب هذا المقام في مقام معاملة الحق عز وجل في ترك محبوب كما زعم ، وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبين حال المنظور إليه ، فإن لم يكن مرضيا تركه ، فإذاً يكون تَرْكُهُ لأنه لا يلائم غرضه ، لا لله تعالى ، فأين معاملة الله سبحانه بترك المحبوب لأجله ؟.
العاشر : يتبين بضربِ مثلٍ مطابق للحال ، وهو أنك إذا ركبت فرسا جديدا فمالت بك إلى درب ضيق لا ينفذ ولا يمكنها أن تستدير فيه للخروج ، فإذا همت بالدخول فيه فأكبحها لئلا تدخل ، فإذا دخلت خطوة أو خطوتين فصحْ بها ، وردها إلى وراء عاجلا قبل أن يتمكن دخولها ، فإن رددتها إلى ورائها سَهُل الأمر ، وإن توانيت حتى ولجت وسقتها داخلا ثم قمت تجذبها بذَنَبها عسُر عليك ، أو تعذّر خروجها ، فهل يقول عاقل : إن طريق تخليصها سوقها إلى داخل ؟!
فكذلك النظرة إذا أثّرت في القلب ، فإن عَجِلَ الحازم وحَسَم المادة من أولها ، سهل علاجه ، وإن كرر النظر ، ونقّب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه ، تمكنت المحبة ، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة ، فلا تزال شجرة الحب تنمى حتى يفسد القلب ، ويعرض عن الفكر فيما أُمر به ، فيخرج بصاحبه إلى المحن ، ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن ، ويلقي القلب في التلف .
والسبب في هذا : أن النَّاظر التذَّت عينه بأول نظرة ، فطلبت المعاودة ، كأكل الطعام اللذيذ إذا تناول منه لقمة ، ولو أنه غضَّ أولا استراح قلبه وسلم (1) .
فوائد غض البصر
وللإمام ابن القيم رحمه الله تعالى مبحث رائع في هذا إذ يقول : وفي غض البصر عدة فوائد :
أحدها : تخليص القلب من ألم الحسرة ، فإنَّ من أطلق نظره دامت حسرته ، فأضر شيء على القلب إرسال البصر ، فإنه يريه ما يشتد طلبه ولا صبر له عنه ، ولا وصول له إليه ، و ذلك غاية ألمه وعذابه .
وقد أحسن من قال :
وكنت متى أرسلتَ طرفَك رائدا لقـلبك يوما أتْـعَبَتْك المناظر
رأيـتَ الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرميَّة ، فإنْ لم تقتله جرحته ، وهي بمنزلة الشرارة من النار تُرمى في الحشيش اليابس ، فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه ، كما قيل :
كلُّ الحوادث مبداها مـن النظر ومُعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرةٍ فتكتْ في قلب صاحبها فتـْكَ السهام بلا قوسٍ ولا وَتَر
والمـرءُ ما دام ذا عين يـقلِّبـها في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مـقلتَـه ما ضر مـهجـته لا مـرحبا بسرور عاد بالـضرر
والناظر يَرمى من نظره بسهام غرضها قلبه وهو لا يشعر ، فهو إنما يرمى قلبه ،ولي من أبيات :
يا راميا بسهام اللحظ مجـتهدا أنت الـقتيل بما ترمى فلا تُصِبِ
وباعث الطرف يرتاد الشـفاء له توقَّـه إنه يأتيـك بالـعـطبِ
وقال المتنبي :
وأنا الذي جـلب المـنية طرفُه فَـمَن المـطالبُ والقتيلُ القاتل ُ
الفائدة الثانية : أنه يورث القلب نورا و إشراقا ، يظهر في العين ، وفي الوجه ، وفي الجوارح ، كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه .ولهذا - والله أعلم - ذكر الله سبحانه آية النور في قوله تعالى : { الله نور السموات والأرض } عقيب قوله : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } ( النور :35، 30 ).
فمن البلاء المنتشر هذه الأيام لاسيما في أوساط الشباب النظر إلى المحرمات ، والتي تعددت صورها وأشكالها وأماكنها ، من مجلات وجرائد ، وتلفاز وفيديو ، وسينما ومسرح ، وأخيراً الكمبيوتر والإنترنت ، إلى جانب التبرج المشين الذي تقع به كثير من بنات المسلمين ، والذي يواجه المسلم في كل مكان في عمله وفي سوقه وفي طريقه وإلى جانب بيته ؟!.
وقد حذر الشرع الحنيف من غوائل النظر إلى ما حرم الله تعالى ، وأمر بغض الطرف عن ذلك ، لما فيه من الخير للجميع والمصلحة ، وهاك الأدلة في ذلك :
1- قال تعالى : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن } ( النور :30-31) .
فلما كان غض البصر أصلاً لحفظ الفرج ، بدأ الله تعالى بذكره ، وتحريمه تحريم الوسائل ، فيباح للمصلحة الراجحة ، ويحرم إذا خيف منه الفساد ، ولم يأمر سبحانه بغضه مطلقا بل أمر بالغض منه ، وأما حفظ الفرج فواجب بكل حال ، لا يباح إلا بحقه ، فلذلك عمَّ الأمر بخفضه .
وقد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب ، فإذا غضَّ العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته ، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته . (1)
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة ، فالعينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرِّجل زناها الخُطا ، والقلب يهوي ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج و يكذبه . (2)
قال ابن القيم رحمه الله : فبدأ بزنى العين لأنه أصل زنى اليد والرجل والقلب والفرج ، ونبّه بزنى اللسان بالكلام على زنى الفم بالقبل ، وجعل الفرج مصدقاً لذلك إنْ حقق الفعل ، أو مكذبا له إنْ لم يحققه ، وهذا الحديث من أبين الأشياء على أن العين تعصي بالنظر ، وأن ذلك زناها ، ففيه رد على من أباح النظر مطلقا !.
3- وفي حديث جابر رضي الله عنه في صفة الحج : أن الفضل بن عباس رضي الله عنهما كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر من مزدلفة إلى منى ، فمرت ضُعُن يجرين ( أي : نساء على الإبل ) فطفق الفضل ينظر إليهن ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل ، فحوّل الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر ، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر .."(1) .
وهذا إنكار من النبي صلى الله عليه وسلم على الفضل بيده ومنع له ، ولو كان النظر جائزا لأقره عليه .
4- وعن ابن بريدة عن أبيه : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي : يا علي ، " لا تُتْبع النظرة النظرة ، فإن لك الأولى ، وليست لك الآخرة " (2) .
قال الخطابي : النظرة الأولى إنما تكون له لا عليه إذا كانت فجأة من غير قصد أو تعمد ، وليس له أن يكرر النظرة ثانية ، ولا له أن يتعمده بدءاً كان أو عوداً .
5- وعن جرير رضي الله عنه قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة ، فامرني أن أصرف بصري " .(3) والصرف : أن يقلبه إلى الشق الآخر أو الناحية الأخرى ، قاله الخطابي .
وقال ابن القيم : وأرشد من ابتلى بنظرة الفجأة أن يداويه بإتيان امرأته ، وقال : " إن معها مثل الذي معها " (1) فإن في ذلك التسلي عن المطلوب بجنسه .
والثاني : أن النظر يثير قوة الشهوة ، فأمر بتنقيصها بإتيان أهله ، ففتنة النظر أصل كل فتنة ، كما ثبت في الصحيحين : من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما تركت بعدي فتنة أَضَرَّ على الرجال من النساء " (2) .
وفي صحيح مسلم : من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الدنيا واتقوا النساء " .(3)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يكفر من كفر ممن مضى إلا من قِبَل النساء ، وكُفر من بقي من قِبل النساء . (4)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : ووقعت مسألة :
ما تقول السادة العلماء : في رجل نظر إلى امرأة نظرة فعلق حبُّها بقلبه ، واشتد عليه الأمر ، فقالت له نفسُه : هذا كله من أول نظرة ، فلو أعدت النظر إليها لرأيتها دون ما في نفسك ، فسلوت عنها ، فهل يجوز له تعمد النظر ثانيا لهذا المعني ؟
فكان الجواب : الحمد لله ، لا يجوز هذا لعشرة أوجه :
أحدها : أن الله سبحانه امر بغض البصر ، ولم يجعل شفاء القلب فيما حرمه على العبد .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن نظر الفجأة ، وقد علم أنه يؤثر في القلب فأمر بمداواته بصرف النظر ، لا بتكرار النظر !.
الثالث : انه صرح بأن الأولى له وليست له الثانية ، ومحال أن يكون داؤه مما له ، ودواؤه فيما ليس له .
الرابع : أن الظاهر قوة الأمر بالنظرة الثانية لا تناقصه ، والتجربة شاهدة به ، والظاهر أن الأمر كما رآه أول مرة ، فلا تحسن المخاطرة بالإعادة .
الخامس : أنه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه فزاد عذابه .
السادس : أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية ، يقوم في ركائبه فيزيِّن له ما ليس بحسن لتتم البلية .
السابع : أنه لا يعان على بليته إذا اعرض عن امتثال أوامر الشرع ، وتداوي بما حرمه عليه ، بل هو جدير أن تتخلف عنه المعونة .
الثامن : أن النظرة الأولى سهم مسموم من سهام إبليس ، ومعلوم أن الثانية أشد سماًّ ، فكيف يتداوي من السم بالسم ؟!!!
التاسع : أن صاحب هذا المقام في مقام معاملة الحق عز وجل في ترك محبوب كما زعم ، وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبين حال المنظور إليه ، فإن لم يكن مرضيا تركه ، فإذاً يكون تَرْكُهُ لأنه لا يلائم غرضه ، لا لله تعالى ، فأين معاملة الله سبحانه بترك المحبوب لأجله ؟.
العاشر : يتبين بضربِ مثلٍ مطابق للحال ، وهو أنك إذا ركبت فرسا جديدا فمالت بك إلى درب ضيق لا ينفذ ولا يمكنها أن تستدير فيه للخروج ، فإذا همت بالدخول فيه فأكبحها لئلا تدخل ، فإذا دخلت خطوة أو خطوتين فصحْ بها ، وردها إلى وراء عاجلا قبل أن يتمكن دخولها ، فإن رددتها إلى ورائها سَهُل الأمر ، وإن توانيت حتى ولجت وسقتها داخلا ثم قمت تجذبها بذَنَبها عسُر عليك ، أو تعذّر خروجها ، فهل يقول عاقل : إن طريق تخليصها سوقها إلى داخل ؟!
فكذلك النظرة إذا أثّرت في القلب ، فإن عَجِلَ الحازم وحَسَم المادة من أولها ، سهل علاجه ، وإن كرر النظر ، ونقّب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه ، تمكنت المحبة ، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة ، فلا تزال شجرة الحب تنمى حتى يفسد القلب ، ويعرض عن الفكر فيما أُمر به ، فيخرج بصاحبه إلى المحن ، ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن ، ويلقي القلب في التلف .
والسبب في هذا : أن النَّاظر التذَّت عينه بأول نظرة ، فطلبت المعاودة ، كأكل الطعام اللذيذ إذا تناول منه لقمة ، ولو أنه غضَّ أولا استراح قلبه وسلم (1) .
فوائد غض البصر
وللإمام ابن القيم رحمه الله تعالى مبحث رائع في هذا إذ يقول : وفي غض البصر عدة فوائد :
أحدها : تخليص القلب من ألم الحسرة ، فإنَّ من أطلق نظره دامت حسرته ، فأضر شيء على القلب إرسال البصر ، فإنه يريه ما يشتد طلبه ولا صبر له عنه ، ولا وصول له إليه ، و ذلك غاية ألمه وعذابه .
وقد أحسن من قال :
وكنت متى أرسلتَ طرفَك رائدا لقـلبك يوما أتْـعَبَتْك المناظر
رأيـتَ الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرميَّة ، فإنْ لم تقتله جرحته ، وهي بمنزلة الشرارة من النار تُرمى في الحشيش اليابس ، فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه ، كما قيل :
كلُّ الحوادث مبداها مـن النظر ومُعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرةٍ فتكتْ في قلب صاحبها فتـْكَ السهام بلا قوسٍ ولا وَتَر
والمـرءُ ما دام ذا عين يـقلِّبـها في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مـقلتَـه ما ضر مـهجـته لا مـرحبا بسرور عاد بالـضرر
والناظر يَرمى من نظره بسهام غرضها قلبه وهو لا يشعر ، فهو إنما يرمى قلبه ،ولي من أبيات :
يا راميا بسهام اللحظ مجـتهدا أنت الـقتيل بما ترمى فلا تُصِبِ
وباعث الطرف يرتاد الشـفاء له توقَّـه إنه يأتيـك بالـعـطبِ
وقال المتنبي :
وأنا الذي جـلب المـنية طرفُه فَـمَن المـطالبُ والقتيلُ القاتل ُ
الفائدة الثانية : أنه يورث القلب نورا و إشراقا ، يظهر في العين ، وفي الوجه ، وفي الجوارح ، كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه .ولهذا - والله أعلم - ذكر الله سبحانه آية النور في قوله تعالى : { الله نور السموات والأرض } عقيب قوله : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } ( النور :35، 30 ).