PDA

View Full Version : و من (القصص) نأخذ العبرة ...


العهد
20-10-2005, 01:07 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ..

الحمدلله الذي جعل لنا في القرآن نورا و ضياء و شفاء لصدورنا .. و جعل فيها سلوتنا اطمئناننا ...

من تأمل في حال الأمة و ما وصلت إليه .. استولى عليه اليأس و ظن أن لا مخرج من هذه المحنة و قد تكالبت علينا الأمم ... و لكن من يعود ليقرأ كتاب الله ينبعث الأمل في نفسه من جديد و يستيقن بنصر الله ..و أنه آت لا محاله ..

هذه سورة القصص ... وجدتها راحة لقلبي و سلوة لروحي .. فلنتأملها و نتدبرها معا ..

***



سُورَة القَصَص

بدأت سورة القصص بطمأنة المؤمنين على مستقبلهم مؤكدة أن عاقبة الظلم مظلمة، وأن عاقبة الصبر جميلة، وأن المستضعفين في الأرض ستتكسر قيودهم ويستردون حرياتهم.

وقد ساقت ما وقع لموسى وقومه مثالا على أن التاريخ يعيد نفسه.

«طسم. تلك آيات الكتاب المبين. نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون»(1-3).
«إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين». (4)
وقتل الأبناء واستبقاء النساء حتى لاتكون لهن عزوة، ويستسلمن لما يراد بهن، ولاشك أن هذا عذاب عظيم، وفتنة مزعجة.
ولكن أيبقى هذا الفتك الى آخر الدهر؟ كلا، لابد لليل من آخر...
«ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين».(5)
وهذا الكلام وإن كان حكاية للماضى إلا أنه يلقى سكينة في نفوس المسلمين الذين يعانون من بطش المشركين وأذاهم، ويعلق قلوبهم بغد أفضل لاسيما، وقد جاء في آخر السورة أن المطاردة التي أكرهت المسلمين على التفكير في ترك مكة سوف تتلاشى، «إن الذين فرض عليك القرآن لرادّك الى معاد قل ربّي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين». (85)

وسورة القصص التي افتتحت بحال موسى وقومه تضمنت أمورا لم تذكر في قصة موسى في السورتين السابقتين:
(1) فقد تضمنت ميلاد موسى، والمحنة التي مر بها اول حياته: وأوحينا الى ام موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولاتحزني انا رادّوه اليك وجاعلوه من المرسلين...».(7)
وتكليف أم أن ترمي وليدها في البحر شيء عظيم ، ولكنها ثقة في الله فعلت ما أمرت به.
وعندما انطلق الصندوق بوديعته الثمينة رمت به الأمواج أمام قصر فرعون، فكاد فؤاد أم موسى يطير فزعا، ولكنها تطلعت الى الله في أمل ويقين: «وأصبح فؤاد أم موسى فارغا، إن كادت لتبدي به، لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين».
(2) وقد كسا الله ملامح الطفل جاذبية تجعل من يراه يعطف عليه ويحبه.
وذاك ما جعل امرأة فرعون تقول لزوجها: «قرة عينْ لي ولك لاتقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا» (9) فبقى الطفل حيا، ورأته أخته التي كانت بأمره من أمها تتبع أخباره فتقدمت الى بيت فرعون تعرض عليهم أن تجيئهم بمرضعة! لأنه أبى ان يرضع ممن اقتربن منه!.
وعاد موسى الى حضن أمه ترضعه، ولايدري أحد ما قصتها؟
(3) وكبر موسى في قصر فرعون، وكأنما يسر الله له هذه النشأة حتى لايشب ذليلا مثل أمه، وتعهدته الأقدار بما يرشحه لمستقبله الخطير «ولما بلغ أشدّه واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين».
وفي هذه الفترة من شبابه عرضت له حادثة عكرت مقامه بمصر، فقد شاهد رجلا من بني اسرائيل يحاول أحد المصريين تسخيره في حمل لاصلة له به، ولا طاقة له عليه، واشتعلت الخصومة بينهما «فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه».(15)
وكان موسى على درجة بالغة من القوة، ولكنه لم يكن يدري ان لكمته قاتلة! فدعا الله: قال ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له..»(16)
فلما أحس ان الله غفر له شكر نعمة الغفران بتعهد منه أن ينصر المظلومين ويخاصم المجرمين!.
ويبدو أن حاشية فرعون عرفت بالقصة وذيولها فتآمرت على قتل موسى، الذي عرف من أحد الناصحين بما وقع، فقرر مغادرة مصر متوجها الى مدين شمالي جزيرة العرب...
(4) وفي مدين تزوج موسى من ابنة الرجل الصالح الذي آواه بعدما عرف قصته وقال له: «لا تخف نجوت من القوم الظالمين» واليهود ينقمون من موسى أن تزوج من أمرأة ليست عبرانية!
ونحن لا نعرف هوية الرجل الصالح الذي أسدى لموسى هذا الجميل، ولانظنه النبي شعيبا، وأيا ما كان هو فقد قال لموسى: «اني أريد ان أنكحك احدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فان أتممت عشرا فمن عندك وما أريد ان أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين».(
27)
وهكذا انتقل من أمير قصر ملكي الى راعي غنم.
والرجال العظام لاتزيدهم ولا تنقصهم هذه المناصب، وانما تزينهم خلال المروءة والشهامة التي تبدو في رجولتهم، ويعرفها الناس من مسيرتهم.
ولاشك أن هذه الفترة من حياة موسى كانت فترة تذكر وتأمل فيها عرض له وما يعرض لقومه، وكأنما جعلها القدر استعدادا للأعباء التي سترمى على كاهله في المستقبل القريب «فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا اني آنست نارا..» (29)
وكانت هذه النار شارة اجتذبت موسى لقدره الجليل «فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن ياموسى إني أنا الله رب العالمين...»(
30)
وهكذا تحول الراعي الى رسول كريم مكلف بتحرير شعب وتبليغ رسالة! ولكن موسى تذكر قصته مع الفراعنة، وطلب من الله ان يؤازره بأخيه هارون! فقال الله له: «سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون اليكما، بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون»(
35).
كان لقاء موسى بالسحرة يوما مشهودا، فقد أبطل كيدهم وأذل كبر فرعون وآله، وقد شرح هذا اللقاء في سورة الاعراف وطه والشعراء، وصار مثلا يضرب .
ولكن قصة السحرة طويت في سورة القصص، وأشير اليها بقوله تعالى: «فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات، قالوا ما هذا الا سحر مفترى ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين»(36).
ولكن شيئا آخر ذكر مكانها، فان فرعون طلب من وزيره هامان أن يبحث في السماء عن إله موسى! «وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري، فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع الى إله موسى، وإني لأظنه من الكاذبين»(38).
إن الأحمق ظن أن الله مع الطيور في الجو، أو لعله جالس على السحاب!!
وآياته في الأرض أقرب ألينا من آياته في السماء، ولكنه العمى الذي طمس الأفئدة (وجعلناهم أئمة يدعون الى النار ويوم القيامة لاينصرون، وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين»(41-42).
وانتقل السياق من الكلام عن موسى الى الكلام عن محمد نبي العقل والنور، وصاحب الكتاب الذي بنى الإيمان على الفكر والنظر والاستدلال والاستقراء.
لقد ذكر محمد قصة موسى أن أرض مدين وكيف بنى بأهله هناك، وذكر كيف نودي لتلقى الرسالة، وكلف بالعوددة الى مصر لدعوة الفراعنة الى الحق!
من أين جاءته هذه الأنباء وهو أمي نشأ في بيئة وثنية! «وما كنت بجانب الغربي اذ قضينا الى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين. ولكنا أنشانا قرونا فتطاول عليهم العمر، وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين» (43 -44).
لقد أيد الله نبيه بكتاب جدد الرسالات الأولى وصححها، فماذا كان موقف الناس منه؟ طلبوا خوارق كالتي صاحبت رسالة موسى! فهل آمنوا بموسى عندما شهدوا معجزاته؟
إن اليهود الذين نجوا من الغرق طلبوا من موسى بعد نجاتهم أن يصنع لهم وثنا يعبدونه كسائر الوثنيين، فأي إيمان هذا؟
أما الذين تدبروا القرآن وانتفعت أفئدتهم بالوحي فقد هدموا الأصنام، وأناروا بالتوحيد المشارق والمغارب، يقول الله سبحانه في طلاب الخوارق: «فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا: لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا، وقالوا: إنا بكل كافرون».(48)
إن فقدان النظر السديد واتباع الهوى الغالب لايقودان الا الى البوار. والواقع أن الوثنية الأولى قاومت الاسلام بكل ما أوتيت من قوة فلم يؤمن الا من عصم الله.
أما أهل الكتاب فقد حاسبهم الوحي وطالبهم بالانصاف، فمن آمن وجد أعظم ترحيب، وفيهم يقول الله سبحانه: «الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. واذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا كنا من قبله مسلمين. أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا...(52-54).
أما وثنيوا الجزيرة العربية فقد صدوا عن السبيل او أمرهم، وأعلنوا على الدين الجديد حربا ضارية، وقد تألم الرسول لهذا الموقف، فقال الله له: «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء» (56).
ومثل ذلك ما روى عن واحد من رجالات قريش:
«إنا لنعلم أن الذي تقول حق، ولكن إن اتبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرض مكة» فنزل قوله تعالى: «وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا، أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبي اليه الثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لايعلمون»(57).
وقد تهدّدهم القرآن الكريم بعواقب هذا الكفر: «وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم الا قليلا وكنا نحن الوارثين» (58).
وتتابعت النصائح تغرى باتباع الحق، والحذر من شهوات الدنيا: «وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون». (60).
ما ضر الفرعون الحاكم لو عقل وعدل بدل ان يستكبر ويطغى ويمشي مختالا على رقاب العباد؟ ما ضر الاتباع المسحورين لو أنصفوا وأحسنوا بدل ان يأووا اليه ويسارعوا في هواء؟
إن القرآن الكريم يعني على الفريقين هذه الوثنية البشرية فيقول جل شأنه للأولين: «ويوم يناديهم فيقول: أين شركائي الذين كنتم تزعمون. قال الذين حق عليهم القول» يعني السادة «ربنا هؤلاء الذين أغوينا، أغويناهم كما غوينا تبرأنا اليك ما كانوا أيانا يعبدون» (62-63) ويقول للآخرين: «وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون» (64).
وهذا المشهد من مشاهد القيامة عجل بعرضه حتى يرعون الخادع والمخدوع..
وبعد مشاهد أخرى او في خلالها جاء كلام عن الله الحق انه خالق البشر، ومنشئ خصائصهم التي يتفاوتون بها، والتي يصطفى على أساسها من شاء ويؤخر من شاء «وربك يخلق ما يشاء و يختار، ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون». (68).
ثم تحدث عن النظام الذي خطه لهذا الكون الذي نحيا بين أرضه وسمائه «قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا الى يوم القيامة، من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون؟». (71)
ان الله جعل الظلمات والنور لكدح طويل، يسأل كل أمرئ بعده عما قدم وأخر، يستوي في هذا التساؤل الملوك والصعاليك...
وفي ختام الحديث عن الاستبداد السياسي، بدأ حديث آخر عن الطغيان والرأسمالي، أساسه أن النجاة عند الله لاتتم الا بالبراءة منهما والبعد عنهما.
ومن ثم شرع القرآن يروي قصة قارون، الذي بلغ من الغنى حدا هائلا، والمال ليس في ذاته شرا ولا خيرا، إنه أداة تعاب أو تحمد وفق طريقة استعمالها، فالسلاح في يد اللص أداة للقتل، وفي يد الجندي أداة للدفاع أو القصاص.
ولذلك قيل لقارون صاحب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة: «... وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولاتنس نصيبك من الدنيا وأحسن الله اليك ولاتبغ الفساد في الأرض إن الله لايحب المفسدين» (77)
إن هناك أغنياء يبذلون ما لديهم بسخاوة نفس، ويبحثون عن كل خلة ليسدوها، ويستقبلون الفقراء بحفاوة، ويعطونهم قبل أن يسألوا...
ويشكرون الله على ما أعطى وأعان، ولا يرون المال سبب استعلاء ولا مصدر تطاول على الآخرين.
لكن قارون رأى أنه كسب المال بعبقريته وحده، وأن من حقه أن يشمخ به ويترف فيه وينظر الى غيره شزرا! «قال إنما أوتيته على علم عندي! أولم يعلم ان الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا؟ ولايسأل عن ذنوبهم المجرمون» (78).
وفتنة المال في شتى الحضارات كانت قاسية، وهي في الحضارة الحديثة مصدر بلاء كبير، وقد نشأت نظم ساخطة على التفاوت بين الناس، فلم تصنع شيئا بل تولت مسخوطا عليها.
والعلاج الصحيح يلتمس في تعاليم الاسلام التي تصلح الأرض بوحي السماء، وتؤكد للناس حقيقة واحدة هي قوله جل شأنه: «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين» (83).
إن هذه الآية من سورة القصص جاءت بعد ما قص المولى سبحانه تاريخ الفرعونية الحاكمة، والقارونية الكانزة، ثم قال عن النهج السوي: «من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلايجزى الذين عملوا السيئات الا ما كانوا يعملون»(84).
ينبغي أن نعلم أن الحياة لا تصلح بغير دين، ولاتستقيم بغير قلب سليم، وأن التشريعات والنظم الوضعية لاتغني عن الايمان باليوم الآخر، والتأهب له بالعمل الصالح...لقد ختمت سورة القصص بخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزلزل النفوس، ويبين أن صاحب الرسالة أثقل الناس حملا من التكاليف الشاقة: «وما كنت ترجو أن يلقي اليك الكتاب إلا رحمة من ربك، فلاتكونن ظهيرا للكافرين. ولايصدنك عن آيات الله بعد اذ أنزلت اليك وادع الى ربك، ولاتكونن من المشركين. ولاتدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو... » (86-88).
إن العلم النظري بوحدانية الله لا يكفي، فقد كان إبليس يعلم أن الله واحد، بيد أنه رفض الخضوع له والامتثال لأمره فهوى.
وأمتنا لابد أن تجمع بين إيمان واضح، وعمل صالح، حتى يمكن لها، وتستعد لآخرتها.

منقول ...