PDA

View Full Version : ذهنية (التحريم)


زهر الليالي
03-04-2005, 02:02 PM
بعض الناس هداهم الله يستسهل اطلاق احكام التحريم بدون دراية وفهم ,,,
والحلال اوسع بكثير من الحرام وهذا من رحمة الله بعباده ,,,
وتنطلق ذهنية التحريم من شبهات علمية خاطئة، وربما احتجت بأصول وقواعد علمية، هي من قبيل الحق الذي أريد به باطل، وذلك حين أسيء فهمها وتطبيقها، فمن ذلك:

1- قاعدة "سد الذرائع".
والذريعة: عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، قويت التهمة في أدائه إلى فعل محظور، فشرطه: أن تكون الوسيلة داخلة ضمن إرادة المكلف. وشرطه الآخر: أن تكون التهمة قطعية، أو غالبة الظن في إفضائها إلى المفسدة، وبهذا التعريف المتضمن الشرطين الأساسيين، نتبين مدى إفراط ذهنية التحريم في استعمال هذه القاعدة، حتى ربما حرموا صوت المرأة وخروجها من بيتها لمصلحة، كدراسة العلوم المفيدة، كالطب مثلاً، الأمر الذي يعرض عورات النساء لإشراف الرجال لغير ضرورة.
ومع الفهم أو الممارسة الخاطئة لهذه القاعدة، يمكن تحريم سائر الجوارح والآلات، لكون ما من شيء إلا وجرى استعماله لدى كثير من أهل الشر والفسوق في الحرام، كالكمبيوتر، والإنترنت، والهاتف النقال "الجوال" ووسائل الإعلام المنوعة، تحت ذريعة سد الذرائع المؤدية إلى المحرمات، وقد قال تعالى: "ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، الأمر الذي فتح الذرائع إلى تحريم كثير مما أحله الله لبعاده، وأوقع الناس في الحرج والعنت والمشقة، ومن أمثلة هذه القاعدة: قول الفقهاء بحرمة بيع العنب لمن يتخذه خمراً، وحرمة بيع السلاح زمن الفتنة، فليلزم مراعاة شرطي قوة التهمة وقصد المفسدة، وأن يقتصر به على محل التهمة، ولا يتجاوز بها غيره، ومع عدم التهمة عدم الحكم.

2- قاعدة "اجتناب المشتبهات واتباع الأحوط والأورع".
وهي قاعدة أيضاً لا غبار عليها، ولكن ذلك من قبيل المستحب الذي يلتزمه في نفسه المسلم الورع، ولا يلزم الآخرين بالعزائم، وصح عن أم عطية رضي الله عنها أنها قالت: "نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا".
أي ولم يشدد صلى الله عليه وسلم على النساء في ذلك، فلا ينبغي أن ينزل المستحب منزلة الواجب، ولا المكروه منزلة المحرم، كما ينبغي مراعاة اختلاف الظروف والأحوال، فللشدة موضعها، وللرفق موضعه، وأما حديث "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" فالمعنى: يوشك أن يواقع الحرام، لا أنه واقعه حقيقة، ويدل عليه التشبية الوارد في آخر الحديث "كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه".
ولا يخفى أن قضية الشبهات نسبية، فما قد يكون مشتبها عند قوم قد يكون مقطوعاً عند قوم بحلة أو بحرمته، بحسب فهم الدليل وثبوته عندهم، وقد كان علماء السلف، إذا شددوا فعلى أنفسهم، ولكنهم يأخذون الناس بالأرفق بهم، والأيسر فيما لم ينص عليه دليل من إيجاب أو تحريم، وقد قالوا في الإمام محمد بن سيرين، وهو من أبرز العلماء التابعين بالفقه والحديث والورع: "كان محمد أرجى الناس لهذه الأمة، وأشدهم أزراً على نفسه" وقالوا في الإمام المزني، تلميذ الشافعي وصاحبه: "كان أشد الناس تضييقاً على نفسه في الورع، وأوسعه في ذلك على الناس".
وعليه، فليس التزام الفتوى بمقتضى ذهنية التحريم، من دلائل العلم والاستقامة والورع، بل في اتباع الدليل الشرعي، ومراعاة القواعد والمقاصد والظروف والأحوال، ودفع الحرج عن الأمة، والفتنة والتكفير، ذكر الإمام النووي في مقدمة المجموع عن سفيان الثوري، وهو المشهور بإمامته في الفقه والورع والحديث، أنه قال: "إنما العلم الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد".
وروى الحافظ أبو الفضل بن طاهر، في كتاب السماع بسنده عن عمر بن إسحاق والتابعين، قال: "كان من أدركت من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من مائتين، لم أر قوماً أهدى سيرة، ولا أقل تشديداً منهم".
ومن هنا، يتبين لنا السر في ميل الراسخين في الفقه والعلم إلى اتباع منهجية التيسير في الفتاوى والأحكام والمعاملات والمواقف، بخلاف ما نلمسه من حال كثير من غير الراسخين في المسارعة إلى تبني المواقف المتشددة والخطابات المتشنجة والمؤثرة والممارسات المتهورة، وكلها فروع منهجية وذهنية التحريم.
كما ندرك سر التناقض العجيب والمريب من عدم مراعاة الحكم في عدم وضع الأشياء مواضعها اللائقة بها، فيحرص قوم على وضع الحزم والتشديد موضع الرفق والتيسير وعكسه عكسه، ويصدق فيه قول الحسن البصري -رحمه الله- في قوم من أهل العراق: تسألون عن دم البعوضة وتسفكون دم ابن ابنة رسول الله -الحسين-؟!.
أو قول الشاعر: أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامة!!.

3- تحذير السلف الصالح من ابتاع رخص الفقهاء وزلات العلماء والحكم بالتشهي.
هو أيضاً حق، لكن محله فيما كان في مخالفة الدليل الصحيح الصريح القاضي بالتحريم، فذلك من اتباع الهوى، ودليل ضعف الدين والورع، وفساد القلب وحب الشهوات.
ومعلوم أن هذا الدين لا ينهض به إلا أصحاب العزائم ممن يأخذونه بقوة وحزم، فينتقي صاحب الهوى والشهوة والبدعة من أقوال العلماء، ما يوافق هواه، لا ما يوافق الدليل، ويتصيد الأخطاء والعثرات والزلات المخالفة للدليل، وفيه حق قول السلف: من تتبع رخص الفقهاء فقد تزندق، أو فقد اجتمع فيه الشر كله.
لكن، من الرخص ما هو مطلوب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته". وفي لفظ: "كما يحب أن تؤتى عزائمه". واللفظ الأول عند أحمد، وصححه أحمد شاكر، واللفظ الثاني عند ابن حبان وهو ثابت أيضاً.
وقال صلى الله عليه وسلم في رخصة القصر للمسافر: "رخصة رخص الله بها لكم فاقبلوا رخصته". وسبق قول الثوري: إنما العلم الرخصة من ثقة، والمراد في دينه وعلمه، وهو إشارة إلى التفريق بين رخص العلماء الراسخين ورخص السفهاء الخاسرين.

4- شبهة قاعدة "التحذير من البدع المحدثة في الدين".
وفيها قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ا ليس منه فهو رد"، وفي مسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، هي من منطلقات ذهنية التحريم، لكن يجب فهم ضوابط البدعة، حتى لا تلتبس بالأمر الذي دل عليه قياس صحيح، أو دخل في باب المصلحة المرسلة، فمن ذلك أن البدعة مخصوصة بالعبادات دون العادات، أو وسائل العبادات كوسائل الدعوة مثلاً.
والمصلحة المرسلة تكون في العبادات، كما يقصد بالبدع التقرب والطاعة، ولم يدل عليها دليل من نص أو إجماع أو قياس.

5- قاعدة "الأصل في الأوامر الوجوب إلا لصارف يقتضي الاستحباب، وفي النواهي التحريم إلا لصارف يقتضي الكراهة".
وهي قاعدة مختلف فيها لدى الأصوليين، لكن الراجح اعتبارها، ولكن مشكلة الذهنية في جهل الكثيرين بهذه الصوارف الكثيرة، من قرائن لفضية ومعنوية، وقد زادت على الثلاثين صارفاً، ومن أبرزها: أن الأصل في باب الآداب والفضائل، أن الأمر فيه للاستحباب، وأن النهي فيه للكراهة إلا لصارف، لأن تحصيل الآداب والفضائل تحصيل كمال، وليس تحصيل غايات وأصول ومقاصد.
ومثاله قوله تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين".
وأخيراً، فالمؤمل من الله الكريم التوفيق والمغفرة والقبول، والمؤمل من القارئ حسن الظن، والمعذرة على الإيجاز الشديد المضطر إليه، لغرض ترك الملال والطول، وإنما غرض البحث لفت الانتباه والتحذير من هذه الظاهرة والذهنية والمناقشة فيها.. وليرجع المختصون والمهتمون للمراجع والمطولات. والله من وراء القصد.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وآله وصحبه أجمعين.
________________
(*) نقلاً (بتصرف) عن ( مجلة المنتدى) في عدد ذو القعدة/ذو الحجة 1425 الموافق ديسمبر 2004/يناير 2005


زهر