USAMA LADEN
20-06-2004, 08:59 PM
حَقِيقَةُ الْنَّصْرِ
قد ينظر الكثير منا إلى فتح مكة باعتباره مَعلم النصر لصدر الأمة الأول، وهو مَعلم انتصار عظيم وفتح من الله مبين لا ريب، ولكن هل هو حقيقة الانتصار، أم ثمرته؟ وهل التمكين في الأرض هو جوهر النصر، أم هو تتويج له؟ وإن لم يكن كذلك: فما هي حقيقة النصر التي لا يضر معها تخلف حصول الثمرة، وتأخر حفل التتويج؟
لقد سبقت فتحَ مكة معاركُ عظام، وأحداث جسام، لم تكن ساحتها ميدان القتال بعد، كما لم تكن عدتها السيف والسنان بعد، وإنما كانت معركةً من نوع آخر، وكان تدافعًا من نوع آخر:
كانت معركة اسمها:{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ[94]}[سورة الحجر].
وكانت معركة اسمها:{ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[6]}[سورة الكافرون].
ودارت رحى المعركة الأولى حول تجريد التوحيد:{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا[8]رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا[9]}[سورة المزمل].
وكانت عُدة المعركة الثانية:{ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ[8]وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[9]}[سورة القلم].
واشتدت أتون هذه الحرب، و تمحضت معها حقيقة التوحيد في قلوب أولئك النفر، فإذا بهم يتلذذون في آهاتهم، ويتنعمون في أنَّاتهم، قد أغناهم حب الله عن كل ما سواه، وشغلهم مشهد العبودية
عن مشهد التسخط على الأذى فيه سبحانه وتعالى، وكانت تلك بداية معركة التحرير، وأولى ملامح الانتصار.
ثم أخذ مشهد المعركة يتميز شيئاً فشيئاً وأخذت معالم الطريق تتضح شيئاً فشيئاً: نعم لقد بدأ أولئك النفر يدركون أنه لابد من تسديد بعض أقساط الجنة.
فكانت الأقساط من أموالهم تارةً، ومن أجسادهم ولحومهم تارةً، كانت من الولد والأهل تارةً، ومن العشيرة والوطن تارةً، قطعوا ما بينهم وبين الناس؛ ليقيموا ما بينهم وبين الله، وطلقوا الدنيا ليخطبوا الآخرة، وأفرغوا قلوبهم من كل ما سوى الله، فتهيأت لغرسة التوحيد فيها، هُجِّروا فهاجروا، وعُذِّبوا فصابروا ، استُنصروا فنصروا، واستُنفروا فنفروا، وكلما تجردوا من علائق الدنيا كلما تميزت عندهم معالم النصر، وغدت ملامح الانتصار وحقيقته أكثر وضوحاً، وأشد نوراً من ذي قبل.
ثم كان أن تحول ميدان المعركة إلى السيف والرمح: وكانت بدر، وما أدراك ما بدر! ولكن بريق النصر العسكري، ونشوة اندحار العدو ومادته قد يخطف الأبصار أحياناً، فلربما ظن المسلمون أن النصر العسكري، والغلبة والظهور المادي أمرٌ لازمٌ ملازم، بل قد تزين نفس المرء له استحقاقها لهذا الظهور حتماً، كيف لا وقد اجتمعت الدواعي من التزام الحق، وتأييد السيف له، والإثخان في العدو، وكسر شوكته وشكيمته، ولكن ليس هذا هو تمام النصر، بل كان لا بد من جولة أخرى يكتمل فيها انتصار الإسلام والمسلمين، وهكذا كانت غزوة أحد.
دخل المسلمون غزوة أحد و لربما كانت نشوةُ النصر في بدر آخذةً بلب بعضهم، و لربما خال بعضهم أنه ومنذ بدر نصرٌ بلا هزيمة وغلبةٌ بلا انكسار، و لربما توهم البعض أن مجرد التزامِ طريق الحق موجبٌ لدوام الظهور والتمكين، وعندما انقلبت موزاين المعركة، وتجرد المسلمون من كل رداء خلا العبودية المطلقة لله؛ تمحضت آنذاك معالم النصر؛ عندما كُسرت ثنية النبي صلى الله عليه وسلم، وشُجَّ وجهه الشريف؛ تمحضت معالم النصر في أمةٍ هكذا قائدها، أمة رأس الحربة فيها هو الإمام القائد، أو قل: الرئيس الحاكم، أمةٌ لا ينشغل حاكمها بكرسي الدنيا عن كرسي الآخرة، قائدٌ يستشير الصغير والكبير، وينزل عند رأي المخالف فيما لا يغضب الله؛ تطييباً للقلوب، وجبراً للخواطر، قائدٌ يصمد حين يلتفت الناس، ويرفع لواء الحق حين يتواني عنه الناس، قائدٌ يسدد شيئاً من أقساط الجنة من لحمه ودمه حين يلوذ الناس بلحومهم ودمائهم.
وعندما لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد، وعندما قام أبو دجانة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترَّس عليه بظهره، والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك، وعندما جعلت أم عمارة نسيبة بنت كعب تذود عن النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما أوتيت من قوة في تسعة رهطٍ اجتمعوا حول النبي صلى الله عليه وسلم حين انفض عنه الناس، هنالك لاحت معالم النصر.
وعندما أصيب زوج وأب، وأخ المرأة من بني دينار، وهي لا تسأل إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا رأته قالت:' كل مصيبةٍ بعدك جلل' أي: هينة.
عندها كان أحد معالم الانتصار، عندما تحقق تقديم حب الله ورسوله على كل ما سواهما عندها كان النصر.
وعندما انحسر المسلمون، وقد أعجبتهم قوتهم وعددهم، لا يلوي أحدٌ منهم على أحد في كمين العدو لهم في حُنين، تقدَّم النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه آنذاك؛ ليعلن للناس جميعاً مسلمين وكفاراً أن أمر هذه الدعوة قائمٌ مهما انحسر عنه الناس، وأن راية الحق أبداً مشرعة مهما انكسرت لجندها شوكة، فأخذ صلى الله عليه وسلم يدفع بغلته نحو الكفار، وهو ينادي:
[أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ] رواه البخاري و مسلم .
عندها كان النصر، وعندها جلجلت كلمة الحق، أما ما كان بعد ذلك من اجتماع كتائب الحق على كلمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقهر عدوهم فلم يكن إلا ترجمة لهذا النصر، وثمرة من ثماره ليس إلا.
وليس هذا النصر الذي نتحدث عنه ظاهرة عابرة في تاريخ أمتنا، بل هو جزء لا يتجزأ من مسيرة كلمة التوحيد عبر العصور.
فلقد انتصرت كلمة التوحيد من قبل حين سمت أرواح الموحدين فوق حضيض الدنيا، ورضيت بأن تحرق أجسادها في أخدود الكفر؛ لتحلق أرواحها في سماء التوحيد، ولتتعانق في حواصل طير خضر في سماء الجنة.
إن سورة البروج في القرآن ليست تسجيلاً لمذبحة لا يسعنا سوى التألـمُ لحال أصحابها.. كلا!
إن سورة البروج تسجيلٌ لانتصارٍ تاريخي لكلمة التوحيد على شرذمة الكفر.. نعم لقد قهر أصحاب الأخدود أجسادَ الموحدين وأحرقوها، لكنهم لم يهزموا ولا نفسَ طفلٍ واحد منهم!
وليس القول بانتصار الموحدين يومها ضرباً من المبالغة، أو تطييب الخواطر.. كلا، بل هو والله الانتصار الحقيقي، وأي انتصار لأهل التوحيد أعظم من شهادة الله تعالى لهم بالإيمان، وأي هزيمة على الكفار أشد من تربص عذابِ الحريق بهم، وأي حريق!
وقل مثلَ هذا في لقطات الانتصار التاريخية لكلمة الحق على الباطل:
- فلقد انتصرت كلمة الحق من ذي قبل حين قال هابيل:{ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ[28]}[سورة المائدة].
- وانتصرت كلمة الحق حين قالت:{...هَيْتَ لَكَ...} فقال الكريم بن الكريم بن الكريم:{ ...قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ[23]}[سورة يوسف].
- وانتصرت كلمة الحق حينما قال سليمان عليه السلام :{أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ[36]}[سورة النمل].
- وانتصر الحق أيضاً يوم أن قذف الله تعالى نور الإيمان في قلوب سحرة فرعون، فإذا أنصار الباطل بالأمس شهداء الحق اليوم:{ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى[70]}[سورة طه]. ولعل الانتصار قد بلغ ذروته حين استخف المؤمنون الجدد بعذاب الدنيا لما لاقوه من حلاوة الإيمان:{ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[72]}[سورة طه].
نعم.. هذه مواقف من الانتصار على النفس حيث مُنعت ولُجِمت عن التعدي على الدم المعصوم والفرج الحرام والمال غير المستحَق والمنصب والجاه الفارغين، فسِجل هذه الأمة سجل حافل بالانتصار بل هو سلسلة متصلة من الانتصار، أثمر غلبةً عسكرية، أم لم يثمر.
وإن المتأمل في طبيعة النصر الذي قدمنا نماذج منه ليدرك أن حقيقة الأمر ومداره على التمسك بالحق مهما كان الثمن، والثقة بوعد الله مهما تأخرت الثمرة: ولهذا فإني أقول إن مشهد النصر الحقيقي لم يكن في قوله تعالى:{ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ...[251]}[سورة البقرة]. بقدر ما كان في قوله تعالى:{... إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ...[249]}[سورة البقرة].
نعم هنا كانت معالم النصر لأقوام، ومعالم الهزيمة لآخرين:{... فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ...[251]}[سورة البقرة].
وهؤلاء القليل هم الذين تعول عليهم أمة الإسلام في كل زمان ومكان:أما عند الغلبة العسكرية والظهور والتمكين، فما أكثر المسلمين حينذاك، وما أكثر من يحبون الدين آنذاك، ولكن شتان بين من أحب الدينَ والدين غريب، وبين من أحب الدينَ والدين تجبى إليه ثمرات كل شيء، وهذه هي حقيقة النصر.
من :'حقيقة النصر' د.وسيم فتح الله
قد ينظر الكثير منا إلى فتح مكة باعتباره مَعلم النصر لصدر الأمة الأول، وهو مَعلم انتصار عظيم وفتح من الله مبين لا ريب، ولكن هل هو حقيقة الانتصار، أم ثمرته؟ وهل التمكين في الأرض هو جوهر النصر، أم هو تتويج له؟ وإن لم يكن كذلك: فما هي حقيقة النصر التي لا يضر معها تخلف حصول الثمرة، وتأخر حفل التتويج؟
لقد سبقت فتحَ مكة معاركُ عظام، وأحداث جسام، لم تكن ساحتها ميدان القتال بعد، كما لم تكن عدتها السيف والسنان بعد، وإنما كانت معركةً من نوع آخر، وكان تدافعًا من نوع آخر:
كانت معركة اسمها:{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ[94]}[سورة الحجر].
وكانت معركة اسمها:{ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[6]}[سورة الكافرون].
ودارت رحى المعركة الأولى حول تجريد التوحيد:{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا[8]رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا[9]}[سورة المزمل].
وكانت عُدة المعركة الثانية:{ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ[8]وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[9]}[سورة القلم].
واشتدت أتون هذه الحرب، و تمحضت معها حقيقة التوحيد في قلوب أولئك النفر، فإذا بهم يتلذذون في آهاتهم، ويتنعمون في أنَّاتهم، قد أغناهم حب الله عن كل ما سواه، وشغلهم مشهد العبودية
عن مشهد التسخط على الأذى فيه سبحانه وتعالى، وكانت تلك بداية معركة التحرير، وأولى ملامح الانتصار.
ثم أخذ مشهد المعركة يتميز شيئاً فشيئاً وأخذت معالم الطريق تتضح شيئاً فشيئاً: نعم لقد بدأ أولئك النفر يدركون أنه لابد من تسديد بعض أقساط الجنة.
فكانت الأقساط من أموالهم تارةً، ومن أجسادهم ولحومهم تارةً، كانت من الولد والأهل تارةً، ومن العشيرة والوطن تارةً، قطعوا ما بينهم وبين الناس؛ ليقيموا ما بينهم وبين الله، وطلقوا الدنيا ليخطبوا الآخرة، وأفرغوا قلوبهم من كل ما سوى الله، فتهيأت لغرسة التوحيد فيها، هُجِّروا فهاجروا، وعُذِّبوا فصابروا ، استُنصروا فنصروا، واستُنفروا فنفروا، وكلما تجردوا من علائق الدنيا كلما تميزت عندهم معالم النصر، وغدت ملامح الانتصار وحقيقته أكثر وضوحاً، وأشد نوراً من ذي قبل.
ثم كان أن تحول ميدان المعركة إلى السيف والرمح: وكانت بدر، وما أدراك ما بدر! ولكن بريق النصر العسكري، ونشوة اندحار العدو ومادته قد يخطف الأبصار أحياناً، فلربما ظن المسلمون أن النصر العسكري، والغلبة والظهور المادي أمرٌ لازمٌ ملازم، بل قد تزين نفس المرء له استحقاقها لهذا الظهور حتماً، كيف لا وقد اجتمعت الدواعي من التزام الحق، وتأييد السيف له، والإثخان في العدو، وكسر شوكته وشكيمته، ولكن ليس هذا هو تمام النصر، بل كان لا بد من جولة أخرى يكتمل فيها انتصار الإسلام والمسلمين، وهكذا كانت غزوة أحد.
دخل المسلمون غزوة أحد و لربما كانت نشوةُ النصر في بدر آخذةً بلب بعضهم، و لربما خال بعضهم أنه ومنذ بدر نصرٌ بلا هزيمة وغلبةٌ بلا انكسار، و لربما توهم البعض أن مجرد التزامِ طريق الحق موجبٌ لدوام الظهور والتمكين، وعندما انقلبت موزاين المعركة، وتجرد المسلمون من كل رداء خلا العبودية المطلقة لله؛ تمحضت آنذاك معالم النصر؛ عندما كُسرت ثنية النبي صلى الله عليه وسلم، وشُجَّ وجهه الشريف؛ تمحضت معالم النصر في أمةٍ هكذا قائدها، أمة رأس الحربة فيها هو الإمام القائد، أو قل: الرئيس الحاكم، أمةٌ لا ينشغل حاكمها بكرسي الدنيا عن كرسي الآخرة، قائدٌ يستشير الصغير والكبير، وينزل عند رأي المخالف فيما لا يغضب الله؛ تطييباً للقلوب، وجبراً للخواطر، قائدٌ يصمد حين يلتفت الناس، ويرفع لواء الحق حين يتواني عنه الناس، قائدٌ يسدد شيئاً من أقساط الجنة من لحمه ودمه حين يلوذ الناس بلحومهم ودمائهم.
وعندما لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد، وعندما قام أبو دجانة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترَّس عليه بظهره، والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك، وعندما جعلت أم عمارة نسيبة بنت كعب تذود عن النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما أوتيت من قوة في تسعة رهطٍ اجتمعوا حول النبي صلى الله عليه وسلم حين انفض عنه الناس، هنالك لاحت معالم النصر.
وعندما أصيب زوج وأب، وأخ المرأة من بني دينار، وهي لا تسأل إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا رأته قالت:' كل مصيبةٍ بعدك جلل' أي: هينة.
عندها كان أحد معالم الانتصار، عندما تحقق تقديم حب الله ورسوله على كل ما سواهما عندها كان النصر.
وعندما انحسر المسلمون، وقد أعجبتهم قوتهم وعددهم، لا يلوي أحدٌ منهم على أحد في كمين العدو لهم في حُنين، تقدَّم النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه آنذاك؛ ليعلن للناس جميعاً مسلمين وكفاراً أن أمر هذه الدعوة قائمٌ مهما انحسر عنه الناس، وأن راية الحق أبداً مشرعة مهما انكسرت لجندها شوكة، فأخذ صلى الله عليه وسلم يدفع بغلته نحو الكفار، وهو ينادي:
[أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ] رواه البخاري و مسلم .
عندها كان النصر، وعندها جلجلت كلمة الحق، أما ما كان بعد ذلك من اجتماع كتائب الحق على كلمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقهر عدوهم فلم يكن إلا ترجمة لهذا النصر، وثمرة من ثماره ليس إلا.
وليس هذا النصر الذي نتحدث عنه ظاهرة عابرة في تاريخ أمتنا، بل هو جزء لا يتجزأ من مسيرة كلمة التوحيد عبر العصور.
فلقد انتصرت كلمة التوحيد من قبل حين سمت أرواح الموحدين فوق حضيض الدنيا، ورضيت بأن تحرق أجسادها في أخدود الكفر؛ لتحلق أرواحها في سماء التوحيد، ولتتعانق في حواصل طير خضر في سماء الجنة.
إن سورة البروج في القرآن ليست تسجيلاً لمذبحة لا يسعنا سوى التألـمُ لحال أصحابها.. كلا!
إن سورة البروج تسجيلٌ لانتصارٍ تاريخي لكلمة التوحيد على شرذمة الكفر.. نعم لقد قهر أصحاب الأخدود أجسادَ الموحدين وأحرقوها، لكنهم لم يهزموا ولا نفسَ طفلٍ واحد منهم!
وليس القول بانتصار الموحدين يومها ضرباً من المبالغة، أو تطييب الخواطر.. كلا، بل هو والله الانتصار الحقيقي، وأي انتصار لأهل التوحيد أعظم من شهادة الله تعالى لهم بالإيمان، وأي هزيمة على الكفار أشد من تربص عذابِ الحريق بهم، وأي حريق!
وقل مثلَ هذا في لقطات الانتصار التاريخية لكلمة الحق على الباطل:
- فلقد انتصرت كلمة الحق من ذي قبل حين قال هابيل:{ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ[28]}[سورة المائدة].
- وانتصرت كلمة الحق حين قالت:{...هَيْتَ لَكَ...} فقال الكريم بن الكريم بن الكريم:{ ...قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ[23]}[سورة يوسف].
- وانتصرت كلمة الحق حينما قال سليمان عليه السلام :{أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ[36]}[سورة النمل].
- وانتصر الحق أيضاً يوم أن قذف الله تعالى نور الإيمان في قلوب سحرة فرعون، فإذا أنصار الباطل بالأمس شهداء الحق اليوم:{ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى[70]}[سورة طه]. ولعل الانتصار قد بلغ ذروته حين استخف المؤمنون الجدد بعذاب الدنيا لما لاقوه من حلاوة الإيمان:{ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[72]}[سورة طه].
نعم.. هذه مواقف من الانتصار على النفس حيث مُنعت ولُجِمت عن التعدي على الدم المعصوم والفرج الحرام والمال غير المستحَق والمنصب والجاه الفارغين، فسِجل هذه الأمة سجل حافل بالانتصار بل هو سلسلة متصلة من الانتصار، أثمر غلبةً عسكرية، أم لم يثمر.
وإن المتأمل في طبيعة النصر الذي قدمنا نماذج منه ليدرك أن حقيقة الأمر ومداره على التمسك بالحق مهما كان الثمن، والثقة بوعد الله مهما تأخرت الثمرة: ولهذا فإني أقول إن مشهد النصر الحقيقي لم يكن في قوله تعالى:{ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ...[251]}[سورة البقرة]. بقدر ما كان في قوله تعالى:{... إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ...[249]}[سورة البقرة].
نعم هنا كانت معالم النصر لأقوام، ومعالم الهزيمة لآخرين:{... فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ...[251]}[سورة البقرة].
وهؤلاء القليل هم الذين تعول عليهم أمة الإسلام في كل زمان ومكان:أما عند الغلبة العسكرية والظهور والتمكين، فما أكثر المسلمين حينذاك، وما أكثر من يحبون الدين آنذاك، ولكن شتان بين من أحب الدينَ والدين غريب، وبين من أحب الدينَ والدين تجبى إليه ثمرات كل شيء، وهذه هي حقيقة النصر.
من :'حقيقة النصر' د.وسيم فتح الله