PDA

View Full Version : (( ..اقبل معاذير من يأتيك معتذراً … ))


أبو لـُجين ابراهيم
08-11-2000, 09:30 AM
(( ..اقبل معاذير من يأتيك معتذراً … ))

وهي قاعدة مرتبطة بقاعدة العفو والصفح ، ولكن لها خصوصيتها التي جعلت من المستحسن إفرادها كقاعدة من قواعد التعامل مع الناس ، وهذه الخصوصية هي أن يطلب المخطئ العفو ، ويرجو ممن أساء إليه الصفح ، ويقدم اعتذاره وانكساره واعترافه بزلته ، وربما يتعهد بعدم العودة إليها ، أما العفو فيمكن أن يكون دون أن يطلب المخطئ الصفح ممن أساء إليه .

إن قبول اعتذار المعتذر خلق كريم يدل على فضل صاحبه وعلو شأنه ، ولا يليق بالمسلم أن يرد هذا الاعتذار ويرفض ذلك الانكسار ، لا سيما إذا جاءه المعتذر إلى بيته أو مجلسه أو إلى مقر عمله أو شفع له بعض الكرام من أهل العلم والدين والمروءة والوجاهة وكبر السن .

إن أصعب شيء على نفوس الناس أن يتوقعوا الخير أو يرجوه من إنسان ثم يفاجئهم بخلاف ذلك ، فتنكسر قلوبهم ، وتسود الدنيا أمامهم ، ولقد اعتاد الناس أن يصفوا من يرد اعتذار المعتذر بالنذالة والخسة واللؤم وسوء الخلق ، وغالباً ما يحجمون عن التعامل معه ويصرمون علاقتهم به .

لقد ختم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حياته بالعفو عن الجلاد الذي ألهب بالسياط ظهره ، وذلك عندما سمع الناس صائحاً ينادي خارج المنزل ويقول : يا أحمد ، يا أحمد فأوسعوا له حين استدعا الإمام أحمد ، فإذا هو شيخ كبير ينشج تشيج النساء في لوعة وحرقة ويقول :

لقد كنت ممن قام بتعذيبك في عهد المعتصم وإني لأرجو المعذرة ، فيهز الموقف الإمام أحمد ، وينسيه غمرات الموت ، فيلتفت إلى الشيخ مخففاً عنه مستغفراً له عما اقترفت يداه ،وهنا سأله ابنه عمن آذاه ، ولماذا يستغفر لهم فقال الإمام أحمد : يا بني ( وليعفوا وليصفحوا )) ماذا ينفعك أن يعذب أخوك بسببك ؟ وقد قال تعالى : ( فمن عفى وأصلح فأجره على الله ) ، فإذا كانت القيامة وجثت الأمم بين يدي الله رب العالمين ، نودوا : ليقم من كان أجره على الله ، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا ، وإني لأرجو أن أكون واحداً منهم .

وقيل للمهلب بن أبي صفرة : ماذا تقول في العفو والعقوبة ؟ قال : هما بمنزلة الجود والبخل فتمسك بأيهما شئت .

وأنشد الثعلب فقال :

إذا أنت لم تستقبل الأمر لم تجد

بكفيك في أدباره متعلقاً

إذا أنت لم تترك أخاك وزلة

إذا زلها أوشكتما أن تفرقا

وروي أن الإمام الشافعي قال : ( من استُغضب فلم يغضب فهو حمار ، ومن استُرضي فلم يرض فهو شيطان ) .

وقال بعض أهل العلم : ( الكريم من أوسع المغفرة إذا ضاقت الذنب المعذرة ) .

وقال آخر : ( شفيع المذنب إقراره ، وتوبته اعتذاره ) .

ويقول الشاعر :

اقبل معاذير من يأتيك معتذراً

إن برّ عندك فيما قال أو فجرا

فقد أطاعك من يرضيك ظاهره

وقد أجلك من يعصيك مستترا

وقال بعض البلغاء : ( من لم يقبل التوبة عظمت خطيئته ، ومن لم يحسن إلى التائب قبحت إساءته ) . وقال بعض الحكماء ( من عاشر إخوانه بالمسامحة دامت له مودتهم ) .

وأكرم من قبول اعتذار المعتذر أن تعفو عنه وتصفح إذا جاءك معتذراً دون أن تلجئه إلى مزيد من الاعتذار أو تضطره إلى الكذب فيه حتى يرضيك .

لذا يقول الشاعر :

العذر يلحقه التحريف والكذب

وليس في غير ما يرضيك لي أرب

وقد أسأت فبالنُّعمى التي سلفت

إلا مننت بعفو ما له سبب

ولكن بالرغم من ضرورة الصفح وقبول اعتذار المعتذر ، إلا أنه لا ينبغي أن يكون ذلك في كل الأحوال ، ومع كل الناس ، إذ يمكن للمرء أحياناً أن لا يقبل الاعتذار وذلك إذا تيقن أن هذا القبول لا ينفع المعتذر ولا يؤدبه ، أو إذا علم أن المعتذر يستخدم هذا الاعتذار من قبيل المراوغة والمخادعة والاستغفال والاستهبال ، أما غير ذلك وفي غالب الأحوال والظروف ، فإن الأولى بالمرء أن يسمو بنفسه فيقيل انكسار المنكسرين واعتذار المعتذرين .

المرجع : الكنز الذي لا يكلف درهما .