PDA

View Full Version : رِيَالُ الجَدّة !!


أبو لـُجين ابراهيم
12-09-2000, 06:32 AM
رِيَالُ الجَدّة !!

بقلم: صالح علي العمري


عاد أحمد إلى بيته بعد غروب الشمس و هو يكاد يسقط من شدّة الإعياء، ترتعد فرائصه، ويتصبّب عرقه، ويترنح به الدرب، يفتح الباب في عناء وبدون تركيز، فتستقبله زوجته المخلصة خديجة، ومن ورائها مهرجان من الهتاف العاطر والفرح البريء تقوده ابنتهما أمل التي تناهز ربيعها التاسع، ترّف في البيت كالفراشة الملونة، وتقفز بين أحضان الدار فكأنما تشاركها قطع الأثاث ابتهاجا بمقدم أبيها، تتثنى كنحلة الربيع بين زهور الرابية، وتردد أرجوزتها اليوميّة: "بابا جاء .. بابا جاء" ، ثم تعتنق أباها كعادة البنيات بآبائهن عند الباب، يتأرجح أحمد ويكاد يسقط، وتحاول خديجة تهدئة أمل: يا أمل.. رفقا بأبيك.. إنّه مرهق..

أحمد: دعيها يا خديجة.. دعيها.

خديجة: هاه يا أبي: هل أحضرت لي الحلوى التي وعدتني منذ أشهر؟!

أحمد: أوه يا أمل.. لقد نسيت..

أمل: كم تنسى يا أبي هذه الأيام، إن والد زميلتي لا ينسى هديتها دائما، أخشى أن تنسى طريق بيتنا يوما ما!!

خديجة: عيب يا أمل.. تفضّل يا أحمد.. الحمد لله على سلامتك.. سوف أحضر القهوة..
أمل تحادث اباها وهو يلقي بجسده المتهالك على أريكة عتيقة: أبي.. لقد حضرت جدتي اليوم، وطلبتُ منها ريالا لأعطيكه كي تشتري لي به الحلوى.. أرجو الاّ تنسى هذه المرّة فقد كفيتك المئونة!!

أحمد وهو يكاد يختنق: طيب.. يا أمل طيّب..

تحضر له خديجة القهوة، يحاول أن يعدّل جلسته.. تهتزّ ذراعه وترتعش أطرافه.. يتناول فنجان القهوة بكفّه الراعشة.. يغرق في تفكير عميق ويحدّث نفسه: آه.. أكاد أموت.. لابد لي منها .. لابد لي منها مهما كان الثمن.. تحدّق خديجة في عينيه الحمراوين.. تقرأ على وجهه علامات الإجهاد وسواد العناء، هذا الوجه الذابل يخفي وراءه هموما طويلة وأسرارا عجيبة!!.. تستعيد في صمت ذكريات الأيام السابقة في تحرّق: يا أ الله!! ماذا فعلت بنا هذه المشاريع التجاريّة؟! أين أحمد الممتليء نضارة وريّا؟! أين الفكاهة وخفّة الدم وسماحة النفس؟! يارب!! ليتنا ما عرفنا هذه التجارة البائسة الخاسرة!! لقد أحرقت الأخضر واليابس، ووأدت براعم السعادة في ريعان شبابها!! لقد تغيّر كل شيء في حياتنا من أجل إنجاح مشروعه التجاري هذا.. حتى ملابس أمل، ودلالها ولهوها.. ما هذه التجارة التي أخذت حتى أقراط الأذنين؟!

خديجة تخرج من دوامة صمتها: ما لك يا أحمد.. تبدو اليوم مرهقا أكثر من ذي قبل..

أحمد: هاه..هاه.. أبدا يا خديجة ولكن خديجة هل عندك ما يباع؟!

خديجة في استغراب: ولماذا يا أحمد؟! وهل بقي شيء يباع في بيتنا المقفر؟! لعلك تريد أن تغيّر الديكور مرّةً أخرى لإنجاح مشروعك التجاري الذي أرهقنا وأثقل كواهلنا واذلني بين أخواتي وجيراني!! لقد أصبحت أنا وابنتك محل إشفاق الجميع!!

أمل تدخل سائلة: أمي.. أمي .. أين الريال الذي أعطتنيه جدتي؟!

خديجة: اذهبي عني يا أمل.. ثم تستأنف شوط الحديث مع أحمد: انظر إلى ملابس ابنتك الداخلية المهترئة!! انظر إلى فستانها.. لقد أهدتها إياه خالتها هند بعد أن ضاق على ابنتها.. ماذا بعد كل هذا يا أحمد؟! ليتنا ما عرفنا التجارة ولا طرقنا بابها المشؤوم!! يا ليتنا بقينا كعامّة الناس على بساط العيش الهانيء والرضا بالقليل الطيّب خير من أعاصير التجارة والأسواق.. يا أخي أترك هذا المشروع واعرضه للبيع.. خلصنا من هذا الكابوس الجثوم!!

أحمد بصوت خافت وهو يكاد يتشحّط: اطمئني يا خديجة.. سوف تلعبين بالآلف بين يديك..
تدخل أمل مقاطعة حديثهما: أبي.. أبي.. هذا هو ريال جدتي لقد وجدته.. الحمد لله.. لقد وجدت ريال جدتي..

يدقّ جرس الباب..

يفزَّ أحمد واقفا.. إنّه صديقي سليم!! أرجو أن يكون هو.. وينطلق في حماس إلى الباب..
يفتح الباب.. مرحبا يا سليم.. أهلا وسهلا.. تفضّل تفضّل.. لقد جئت في وقتك..
سليم في حدّة: هل أنت جاهز للصفقة؟! أرجو ألاّ تقل لي لا..

أحمد: الحقيقة يا سليم..

يقاطعه سليم: إذاً فأنا ذاهب.. أخطرني إذا اصبحت مستعدا.. فلدي مواعيد أخرى..
أحمد في ا‘شفاق: تفضّل يا سليم حلفت عليك إلاّ أن تدخل.. دعنا نتفاهم قليلا.. أنا مضطر لأن أُبين لك بعض المستجدات.. مجرد دقائق معدودة.. هيا تفضّل..
يدخل سليم إلى غرفة الجلوس..

أحمد: مرحبا بك يا سليم.. لأول مرّة تدخل بيتي بعد كل هذه السنوات من التعارف والصفقات..

سليم: المهم أرجو ألاّ تطيل عليّ..

أحمد في استعطاف: تعلم ياسليم كل الظروف المحيطة بي الآن.. لقد فُصلت من عملي نتيجة التأخر والغياب المتكرر.. ولقد بعت سيارتي وكلّ مجوهرات زوجتي.. واستدنت من والدتي و جميع أصدقائي.. بل لقد بعت حتى حليّ ابنتي أمل التي تبلغ تسع سنوات.. يا سليم أنا في حالة يرثى لها.. إنّي أكاد أموت.. ارحمني يا أخي واجعلها على الحساب..
سليم: ولكن عملائي لا يمهلونني كما تعلم..
تدخل أمل عليهما وهي تحمل طبقا فيه كوبان من العصير..
سليم: هذه أمل يا أحمد هاه؟!

أحمد: نعم.. نعم.. ولكن يا سليم أنا مرهق جدا.. لاأكاد أتنفس.. لا أحتمل المزيد.. اطلبني ما شئت.. أنقذني ولك ما تريد.. لكن ليس عندي مال الآن.. هذا جسدي بين يديك..
تخرج أمل.. وينظر إليها سليم بخبث.. يسيل لعابه.. يلتفت إلى أحمد ويغمزها بعينه الخائنة قائلا: حسنا يا أحمد أريد هذه!!

يتصنع أحمد الإثارة: ماذا تقول يا مجرم!!

سليم: إذاً فلست في حاجة إلى ما عندي..

أحمد: انت وحش لاترحم!!

سليم: إنها مرّة واحدة ولن تتكرر.. أم تريد أن تلقي بنفسك إلى التهلكة!! أليس من مصلحتها بقاؤك!!

أحمد: عليك غضب الله فقد ألقيت بنفسي إلى التهلكة منذ عرفتك.. ثم ينادي: أمل تعالي.. تعالي يا أمل!!

تأتي أمل وتدخل عليهما في أمان..

يسحبها أبوها بقوّة.. تصرخ بشدّة.. يمسكها بعد أن تكشّفَ وجهه الإنساني عن وجه تنيّن أزرق..يتقدم الوحش الآخر نحو الفريسة.. ترتفع البقيّة الباقية من قيم الإنسانية والرحمة..وتصرخ الفضيلة ويئن العفاف وتغمض الأخلاق عينيها.. ويكاد يظلم الوجود.. بكاء مخنوق و صرخات مرعوبة..

تسمع الأم الصراخ.. فتكاد لولا عُرى الإحتشام أن تقتحم المجلس.. يرّف فؤادها كما يهتز العصفور في شبكة الصيّاد.. ولو كانت القلوب تطير لطار فؤادها ليرى حال ابتها.. تتساءل في ارتباك.. يا أ الله ما هذا؟! ماذا حدث للبنت؟! تدخل وتخرج.. تجلس وتقوم.. تدور حول نفسها..تفرك أصابعها والوقت يمضي بتثاقل.. تمسك برأسها.. تسمع الصراخ.. تطرق باب الصالة.. لاتدري ماذا تفعل.. تتردد كثيرا.. تدخل غرفتها وتتشح بعبائتها وتهمّ بالدخول.. تتردد.. تخلع العباءة .. اللهم اجعله خير.. تسمع الصراخ المخنوق.. ترتدي عباءتها مرة أخري و تعزم على الدخول.. ولكنها تسمع قراع نعل الضيف خارجا بعد أن قبض الثمن وهو يقتاد البهيمة المدمن وراءه.. يغلقان الباب..

تدخل خديجة غرفة الجلوس ويدها على قلبها!! يا لهول المنظر!!.. ما هذا؟!.. أمل الصغيرة ملقاة على الأرض.. فستانها منزوع وملابسها الداخلية المهترئة ممزقة.. تصرخ خديجة عاليا.. تنفجر بالبكاء.. تصيح وتشهق.. وتنكّبُ على ابتها أمل.. الأكواب مكسّرة والعصير مندلق.. وعلى جانب البساط ريال الجدّة ملطخٌ ببراءة الدماء..

انتهت

زمردة
12-09-2000, 06:52 AM
نسأل الله العفو والعافية ..

وحسبنا الله ونعم الوكيل ..

أبو إبراهيم .. جزاك الله خيراً .

أبو لـُجين ابراهيم
23-09-2000, 06:55 AM
الأخت زمردا

شكراً لك على المتابعة و جزاك الله خيرا

S500
23-09-2000, 08:48 AM
الأخ / ابو لجين

السلام عليكم ورحمة الله

جزاك الله خيرا على اثراء هذه الجلسة بهذه المواضيع المفيدة والقصص والعبر.

ان هذه القصة وغيرها مما يحدث والله انها لتبكي العين وتدمي القلب ، اسأل الله العلي الكريم أن يحفظنا واياكم من جلساء السوء واهله انه سميع مجيب.

أخوك S500

http://www.autolove.com/Point_CounterPt/2000mb1.jpg

الرشيد
23-09-2000, 11:26 PM
شكرا ابا لجين وجزاك الله خيرا ولا نقول الا
اللهم احفظ علينا ديننا وزوجاتنا وذرياتنا واصلح شباب المسلمين

انا لله وانا اليه راجعون
لمثل هذا يذوب القلب من كمد.... ان كان في القلب اسلام وايمان