علي الشمري
24-01-2004, 06:02 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
غيمه ملل تلاحقني كظلي .. والضجر ينمو ويتشجر بسرعة ويمد أغصانه .. على كل محتويات ذاكرتي الشاحبة ..
تحملني خطواتي الذابلة ..عبر الأزقة الملتحفة بالصمت و الممرات الضيقة الملتوية التي تكتنز بين جدرانها كآبة كل المدن ..
إلى مقهى يتنفس رائحة القهوة بشهوة المدمنين .. ويجتر الدخّان وضحكات الزبائن المتعالية
دلفت ببطء إلى الداخل استرق نظرات سرعان ما ترتد إلّي خاسئة وهي حسيرة
لم يكن هناك .. سوى أجساد متوارية خلف طاولات مستديرة منتشرة كبقع سحاب في سماء صيفية ..
و نكات تافهة تجوب المقهى تحاول أن تخطف ابتسامه ترضي غرور الفكاهة فيها ..
وقفتُ .. وبصري يثقب كل الصور ذات الطباع المسمارية.. التي تتطاول في العلو بعيداً عن عرق المتخمين بأعقاب سجائر يابسة..
انتظرتُ مع ثلاثة آخرين حتى تغازلنا طاولة فارغة من بين هذه الجموع الخاوية إلا من بقايا ثرثرة ضلت طريق الخروج
دقائق ... حتى نفضت طاولتان الزبائن
ورغم أن ترتيبي الثاني .. إلا أنى آثرت الانتظار لأحظى بمكان مطل على الشارع الممتد بين أجيال المباني حتى عنق البلدة
لم يطل بي الأمر كثيراً .. حتى لمحت أحد الزبائن يجمع أوراقه المشتعلة بلهيب تنهداتٍ تُسمعُ عن بعد .. وبعض بقايا تعاسته المتمكنة من صدره استعداداً للخروج
أسرعت باتجاهه ..
انتظرت حتى اتسع الفارق بيني وبينه .. ألقيت بثقلي على الكرسي المهترء .. الذي تلقفني بحميمة كما فعل مع آلاف آخرين قبلي ..
أوقعني حظي بالقرب من شيخ ستيني يتمتم بكلمات تتبلور على نفسها عند أول لحظه تلامس فيها الهواء ..
لا املك حيالها إلا الاقتراب في محاولة فاشلة لاستقطاب المعاني المختبئة في طقم أسنانه الأصفر ..
الذي يفاجأني هو الآخر بروائح طعام فاسد عالق كحذاء عتيق بين فكيه النحيلين ..
ما برحت أتقمص المسافات التي بيننا .. حتى أحس بحرارة جسدي تسرق نسمات الهواء النادرة
زرع عينيه في جسدي لوهلة .. وأجال بصره في جسدي المنكمش على نفسه
بدأً من قدمي المرتجفتين حتى عينيي التي ولت هاربة باتجاه الأحذية التي تحاصر المكان ..
اشغلت نفسي بقراءة قائمه الموجودات .. وانفجرت اصرخ طالباً ( القهوجي)
طلبت قهوة .. وشطيرة لتقاسمني شعور الغربة
أغرقت شفتاي في البخار المتصاعد من الكوب .. ثم دسستها بسرعة في حرارة القهوة .. وعيناي تتابعه بـ ارتياب
انصرفت أتابع عن قرب ما يلوكه الشيخ في فمه مع كل التفاتة له باتجاه الشارع الفسيح .. المنكفئ على نفسه والسيارات .. والعربات .. والأقدام
أمسكت بعنف بكل الخيوط التي تخرج من فمه .. وضيقت الخناق على حروفه الفارة المتعثرة بعرقه .. ولوعته في التحديق
كان يقضي يومه في تحليل أحوال المارقين على هذا الرصيف الذي تلعنه الشمس .. وتحقره أقدام المتسوقين .. وبصاق عمال النظافة
يجلس هنا .. قدم تلعق لسان الشارع .. والأخرى على موعدٍ مع الرصيف ذاته.. أقامت صداقه مع (طوبة) تلتحف السواد ..
أرخيت لأذني الغارب .. و أودعتها الجدار النائم بقربه .. حتى عاد إلى هذيانه
"
ذاك الشاب المهمل الذقن .. أراهن على انه ممل لدرجه أن جميع حلاقي الحي ... يتظاهرون بالمرض .. مع أول غيوم لرائحته تهطل في أول الشارع
و
ذلك الطفل المشرد الذي يلاحق القطط المشردة .. ويشاطرها رغيف التشرد
أبن حرام أمه بائعة القماش المتنقلة .. وأبوه هو البقال الوسيم < ذوالأصول الباكستانية >
و
تلك الخادمة التي تخرج القمامة بانتظام .. اقسم أنها تغازل سائق (أبو صالح) .. في كل يوم يعتلون السور ..
يدس لها ( دسته) قبلات تلعن حاجز الهدوء
(لم اكن أستطيع أن اقدم نصف تلك القبلات .. في كل زيارة لي لزوجة ضابط الحي .. تخور قواي قبل أن اشرع في تناول ما في الداخل ..) . "
ذلك المساء لم يكن ينوي الرحيل لولا أن شخص ما شق صخب المقهى ليفزع أحلام المتدثرين بالأمنيات المستحيلة .. قبل وصوله إلى الشيخ ..
فقط القُبلة التي طبعها بين عينيه هي من أوحى لي بعلاقة الرحم بينهما ..
حمل إليه مجموعة كتب و أوراق فاخره وقلم ثمين..
وأمنيات زرعها مع قُبلته .. بأن يكف والده عن الهذيان هكذا أمام جمهور المقهى الطفولي ..
حرض والده على كتابة مذكراته .. وتسطير بطولاته في خدمة الوطن عندما كان على رأس العمل ..
وكيف حارب اليهود مع الجيوش العربية ..
استقبل والده الفكرة .. وبدأ يقلبها في رأسه المتشح بدخان غليونه الرخيص ..
حرك رأسه للأعلى للأسفل مرتين كإثبات موافقته .. بعد أن همس في إذن ابنه بأن يدفع كل الفواتير المتراكمة منذ شهر ..
ابتسامة رضا ارتسمت على وجه ابنه ..
انكب الشيخ على الأوراق في محاولة لاستفراغ ذاكرته ..
كتب بسم الله ..
وبدأ في الكتابة ..
لم اكن أحظى بتلك الزاوية المناسبة لرؤية تعانق الحبر بعطش الصفحة.. لم اكن أرى إلا سواده في عين الشيخ .. يتناثر فوق الورقة
ثم يسرق صخب المكان .. ويمزقها مبيناً عدم رضاه إطلاقاً عن محتواها ..
عاود الكّرة .. مرة ومرتين وثلاث .. في كل مرة كانت تسقط شجاعته ..و تخونه الفكرة
عشرة أوراق متكورة على نفسها .. حصيلة سعيه لاستدراك أمنيات ابنه من السقوط مع بقايا قهوته الباردة ..
ورقه وحيده بقيت أمامه ..
لا تكفي لاحتضان حقول أحلام أبنه .. ولا تكفي لاستفراخ حمام ذاكرته البالية ..
.
وقف .. ووجه يلتهم الشارع ببطء .. وعيناه تمضغان الأرصفة ..
و انطلق ليكتب
" ذلك الخباز . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .."
تحياتي للجميع
هيرو:banana:
غيمه ملل تلاحقني كظلي .. والضجر ينمو ويتشجر بسرعة ويمد أغصانه .. على كل محتويات ذاكرتي الشاحبة ..
تحملني خطواتي الذابلة ..عبر الأزقة الملتحفة بالصمت و الممرات الضيقة الملتوية التي تكتنز بين جدرانها كآبة كل المدن ..
إلى مقهى يتنفس رائحة القهوة بشهوة المدمنين .. ويجتر الدخّان وضحكات الزبائن المتعالية
دلفت ببطء إلى الداخل استرق نظرات سرعان ما ترتد إلّي خاسئة وهي حسيرة
لم يكن هناك .. سوى أجساد متوارية خلف طاولات مستديرة منتشرة كبقع سحاب في سماء صيفية ..
و نكات تافهة تجوب المقهى تحاول أن تخطف ابتسامه ترضي غرور الفكاهة فيها ..
وقفتُ .. وبصري يثقب كل الصور ذات الطباع المسمارية.. التي تتطاول في العلو بعيداً عن عرق المتخمين بأعقاب سجائر يابسة..
انتظرتُ مع ثلاثة آخرين حتى تغازلنا طاولة فارغة من بين هذه الجموع الخاوية إلا من بقايا ثرثرة ضلت طريق الخروج
دقائق ... حتى نفضت طاولتان الزبائن
ورغم أن ترتيبي الثاني .. إلا أنى آثرت الانتظار لأحظى بمكان مطل على الشارع الممتد بين أجيال المباني حتى عنق البلدة
لم يطل بي الأمر كثيراً .. حتى لمحت أحد الزبائن يجمع أوراقه المشتعلة بلهيب تنهداتٍ تُسمعُ عن بعد .. وبعض بقايا تعاسته المتمكنة من صدره استعداداً للخروج
أسرعت باتجاهه ..
انتظرت حتى اتسع الفارق بيني وبينه .. ألقيت بثقلي على الكرسي المهترء .. الذي تلقفني بحميمة كما فعل مع آلاف آخرين قبلي ..
أوقعني حظي بالقرب من شيخ ستيني يتمتم بكلمات تتبلور على نفسها عند أول لحظه تلامس فيها الهواء ..
لا املك حيالها إلا الاقتراب في محاولة فاشلة لاستقطاب المعاني المختبئة في طقم أسنانه الأصفر ..
الذي يفاجأني هو الآخر بروائح طعام فاسد عالق كحذاء عتيق بين فكيه النحيلين ..
ما برحت أتقمص المسافات التي بيننا .. حتى أحس بحرارة جسدي تسرق نسمات الهواء النادرة
زرع عينيه في جسدي لوهلة .. وأجال بصره في جسدي المنكمش على نفسه
بدأً من قدمي المرتجفتين حتى عينيي التي ولت هاربة باتجاه الأحذية التي تحاصر المكان ..
اشغلت نفسي بقراءة قائمه الموجودات .. وانفجرت اصرخ طالباً ( القهوجي)
طلبت قهوة .. وشطيرة لتقاسمني شعور الغربة
أغرقت شفتاي في البخار المتصاعد من الكوب .. ثم دسستها بسرعة في حرارة القهوة .. وعيناي تتابعه بـ ارتياب
انصرفت أتابع عن قرب ما يلوكه الشيخ في فمه مع كل التفاتة له باتجاه الشارع الفسيح .. المنكفئ على نفسه والسيارات .. والعربات .. والأقدام
أمسكت بعنف بكل الخيوط التي تخرج من فمه .. وضيقت الخناق على حروفه الفارة المتعثرة بعرقه .. ولوعته في التحديق
كان يقضي يومه في تحليل أحوال المارقين على هذا الرصيف الذي تلعنه الشمس .. وتحقره أقدام المتسوقين .. وبصاق عمال النظافة
يجلس هنا .. قدم تلعق لسان الشارع .. والأخرى على موعدٍ مع الرصيف ذاته.. أقامت صداقه مع (طوبة) تلتحف السواد ..
أرخيت لأذني الغارب .. و أودعتها الجدار النائم بقربه .. حتى عاد إلى هذيانه
"
ذاك الشاب المهمل الذقن .. أراهن على انه ممل لدرجه أن جميع حلاقي الحي ... يتظاهرون بالمرض .. مع أول غيوم لرائحته تهطل في أول الشارع
و
ذلك الطفل المشرد الذي يلاحق القطط المشردة .. ويشاطرها رغيف التشرد
أبن حرام أمه بائعة القماش المتنقلة .. وأبوه هو البقال الوسيم < ذوالأصول الباكستانية >
و
تلك الخادمة التي تخرج القمامة بانتظام .. اقسم أنها تغازل سائق (أبو صالح) .. في كل يوم يعتلون السور ..
يدس لها ( دسته) قبلات تلعن حاجز الهدوء
(لم اكن أستطيع أن اقدم نصف تلك القبلات .. في كل زيارة لي لزوجة ضابط الحي .. تخور قواي قبل أن اشرع في تناول ما في الداخل ..) . "
ذلك المساء لم يكن ينوي الرحيل لولا أن شخص ما شق صخب المقهى ليفزع أحلام المتدثرين بالأمنيات المستحيلة .. قبل وصوله إلى الشيخ ..
فقط القُبلة التي طبعها بين عينيه هي من أوحى لي بعلاقة الرحم بينهما ..
حمل إليه مجموعة كتب و أوراق فاخره وقلم ثمين..
وأمنيات زرعها مع قُبلته .. بأن يكف والده عن الهذيان هكذا أمام جمهور المقهى الطفولي ..
حرض والده على كتابة مذكراته .. وتسطير بطولاته في خدمة الوطن عندما كان على رأس العمل ..
وكيف حارب اليهود مع الجيوش العربية ..
استقبل والده الفكرة .. وبدأ يقلبها في رأسه المتشح بدخان غليونه الرخيص ..
حرك رأسه للأعلى للأسفل مرتين كإثبات موافقته .. بعد أن همس في إذن ابنه بأن يدفع كل الفواتير المتراكمة منذ شهر ..
ابتسامة رضا ارتسمت على وجه ابنه ..
انكب الشيخ على الأوراق في محاولة لاستفراغ ذاكرته ..
كتب بسم الله ..
وبدأ في الكتابة ..
لم اكن أحظى بتلك الزاوية المناسبة لرؤية تعانق الحبر بعطش الصفحة.. لم اكن أرى إلا سواده في عين الشيخ .. يتناثر فوق الورقة
ثم يسرق صخب المكان .. ويمزقها مبيناً عدم رضاه إطلاقاً عن محتواها ..
عاود الكّرة .. مرة ومرتين وثلاث .. في كل مرة كانت تسقط شجاعته ..و تخونه الفكرة
عشرة أوراق متكورة على نفسها .. حصيلة سعيه لاستدراك أمنيات ابنه من السقوط مع بقايا قهوته الباردة ..
ورقه وحيده بقيت أمامه ..
لا تكفي لاحتضان حقول أحلام أبنه .. ولا تكفي لاستفراخ حمام ذاكرته البالية ..
.
وقف .. ووجه يلتهم الشارع ببطء .. وعيناه تمضغان الأرصفة ..
و انطلق ليكتب
" ذلك الخباز . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .."
تحياتي للجميع
هيرو:banana: