فتى دبي
27-02-2002, 11:47 AM
خرجت، هذا الصباح، لأضع كيس الزبالة في البرميل. وما إن فتحت الغطاء حتى رأيت في قعر البرميل رأساً بشرياً لطيف التكوين.
لم أفزع، ولم أندهش، لأنّ مثل هذا الأمر كثير الوقوع في أيامنا. لكنني، والحق يقال، استغربت عندما فتح الرأس فمه وجأر بلهجة المستعطف قائلاً: خذني .
قلت له: كيف استطعت ان تتكلّم؟!
خفض جفنيه متضجّراً، وزفر محتجاً: لماذا لا أتكلم؟ عندما تكلّمت فيما مضى عاقبوني بأن أخذوا جثّتي.. فإن كنت تودّ معاقبتي، الآن، فليس بوسعك إلاّ ان تأخدني.
قلت: لا يهمني ان تتكلم، لكنني مستغرب أن تتكلّم وأنت رأس بلاجثة!
قال: عندك أكثر من قائد فذّ .. كلّهم جثّة بلا رأس، ولكنهم يتكلّمون، فلماذا لا تستغرب منهم بدلاً من أن تصفّق لهم؟
هتفت محتجا: أنا لا أصفّق للقادة الأفذاذ.
قال: لكنك لا تستغرب منهم أيضاً.
قلت: من الطبيعي ألاّ أستغرب.. فأنا شرقي.
(2)
الرأس البشري الذي فوجئت بوجوده، هذا الصباح، في قاع برميل الزبالة، لم يكن سيئا ولا قذراً.
كان في نحو الثلاثين. شعره أسود لامع مصفف بعناية، ومفروق من الجانب الأيسر. له شارب رفيع يذكرّني بالشرف الحكومي، وشفتان غليظتان كإحساس سلطاني. أمّا عيناه فواسعتان كحيلتان، وخدّاه ممتلئان مشرّبان بحمرة العافية.
سألته بتهذيب: إسمح لي بإزاحتك قليلاً، لأضع كيس الزبالة. إنني لا أستطيع ان اضعه فوقك، فمن المحتّم أنّه سيوسّخك، وليس من اللياقة ان افعل هذا برأس متأنق مثلك.
هتف مستنجداً: خذني .
قلت منتهراً: إنك لم تجاوبني، وسأضطر إلى وضع الكيس فوق شعرك السبط الجميل.
قال: خذني.. أرجوك.. خذني.
نهرته بشدّة: كفّ عن اللّجاجة.. إلى أين تريدني ان آخذك؟
ـ إلى أيّة مزبلة.
ـ أنت الآن في مزبلة.
ـ أنا، الآن، في برميل زبالة. برميل يفرّغ كلّ يوم. أريد مزبلة أصيلة لا يحيق بها التنظيف، وبوسعها ان تتحرك، وتصعد، وتنزل، وتتنزّه.
ـ لا توجد مزبلة بهذه المواصفات.
ـ توجد.. ضعني على جثّة أيّ قائد فذ.
ـ مزابل القادة الأفذاذ لا توجد إلاّ في رؤوسهم.
ـ يا غبي.. القائد الفذّ لا رأس له.
ـ يا ذكي.. إذا وضعتك فوق جثته فسيكون له رأس.
ـ يا غبي. عندما سيكون له رأسي فإنه لن يعود مزبلة.. سيتخلّص كلانا من محنته.
ـ يا ذكي.. كلاكما سيسببمحنة للأخر.
فإمّا ان تتغلّب عليك الجثة فتصبح زبالة، وإما ان تتغلّب عليها فلا تعود الجثة مزبلة.
ـ هذا ما أريده.. يا غبي.
ـ يا ذكي.. أنت غبي جداً. إذا لم يكن رأس الجثة مزبلة فكيف ستكون جثة قائد فذ؟!
(3)
قال لي الرأس المقطوع الذي وجدته في برميل زبالتنا: خذني من هنا.
قلت: عندي عيال كثيرون في هذا البيت، ولا طاقة لي بإضافة رأس اخر.
توسّل إليّ: لن أكلّفك شيئاً، فأنا لا آكل ولا أشرب، ولا أشغل حيّزاً كبيراً.. يمكنك ان تضعني في موضع مطفأة السجائر. إعتبرني تحفة. سأسلّي ضيوفك. عندي كمية هائلة من النكت التي تميت البكاء من الضحك.
وجدتني أسأله بلا وعي: ما آخر نكتة؟
قال فرحاً: دولتنا.
ثم طفق يضحك بحرارة حتى خشيت أن يموت من الضحك، لولا أنني تذكّرت أنه غير صالح للموت.
قلت له: قديمة.. وبنت ستين قديمة. إنّ نوعية نكتك مزعجة، وستزعج ضيوفي دون ريب.
قال متوسلا: خذني أرجوك.. لابدّ أن تنتفع بي.
قلت: إذا كنت لا أستطيع الانتفاع برأسي المثبّت فوق جثتي، فكيف سيمكنني أن انتفع برأس مقطوع؟
قال ببهجة المكتشف: عندما يريدون قطع رأسك قدّمني لهم نيابة عنه.
صحت بإمتعاض: أعوذ باللّه.. لماذا يقطعون رأسي؟ إنني في حياتي كلّها لم أفعل شيئاً سيّئا.
صاح بابتهاج أعظم: يا غبي.. لهذا سيقطعون رأسك.
لم أفزع، ولم أندهش، لأنّ مثل هذا الأمر كثير الوقوع في أيامنا. لكنني، والحق يقال، استغربت عندما فتح الرأس فمه وجأر بلهجة المستعطف قائلاً: خذني .
قلت له: كيف استطعت ان تتكلّم؟!
خفض جفنيه متضجّراً، وزفر محتجاً: لماذا لا أتكلم؟ عندما تكلّمت فيما مضى عاقبوني بأن أخذوا جثّتي.. فإن كنت تودّ معاقبتي، الآن، فليس بوسعك إلاّ ان تأخدني.
قلت: لا يهمني ان تتكلم، لكنني مستغرب أن تتكلّم وأنت رأس بلاجثة!
قال: عندك أكثر من قائد فذّ .. كلّهم جثّة بلا رأس، ولكنهم يتكلّمون، فلماذا لا تستغرب منهم بدلاً من أن تصفّق لهم؟
هتفت محتجا: أنا لا أصفّق للقادة الأفذاذ.
قال: لكنك لا تستغرب منهم أيضاً.
قلت: من الطبيعي ألاّ أستغرب.. فأنا شرقي.
(2)
الرأس البشري الذي فوجئت بوجوده، هذا الصباح، في قاع برميل الزبالة، لم يكن سيئا ولا قذراً.
كان في نحو الثلاثين. شعره أسود لامع مصفف بعناية، ومفروق من الجانب الأيسر. له شارب رفيع يذكرّني بالشرف الحكومي، وشفتان غليظتان كإحساس سلطاني. أمّا عيناه فواسعتان كحيلتان، وخدّاه ممتلئان مشرّبان بحمرة العافية.
سألته بتهذيب: إسمح لي بإزاحتك قليلاً، لأضع كيس الزبالة. إنني لا أستطيع ان اضعه فوقك، فمن المحتّم أنّه سيوسّخك، وليس من اللياقة ان افعل هذا برأس متأنق مثلك.
هتف مستنجداً: خذني .
قلت منتهراً: إنك لم تجاوبني، وسأضطر إلى وضع الكيس فوق شعرك السبط الجميل.
قال: خذني.. أرجوك.. خذني.
نهرته بشدّة: كفّ عن اللّجاجة.. إلى أين تريدني ان آخذك؟
ـ إلى أيّة مزبلة.
ـ أنت الآن في مزبلة.
ـ أنا، الآن، في برميل زبالة. برميل يفرّغ كلّ يوم. أريد مزبلة أصيلة لا يحيق بها التنظيف، وبوسعها ان تتحرك، وتصعد، وتنزل، وتتنزّه.
ـ لا توجد مزبلة بهذه المواصفات.
ـ توجد.. ضعني على جثّة أيّ قائد فذ.
ـ مزابل القادة الأفذاذ لا توجد إلاّ في رؤوسهم.
ـ يا غبي.. القائد الفذّ لا رأس له.
ـ يا ذكي.. إذا وضعتك فوق جثته فسيكون له رأس.
ـ يا غبي. عندما سيكون له رأسي فإنه لن يعود مزبلة.. سيتخلّص كلانا من محنته.
ـ يا ذكي.. كلاكما سيسببمحنة للأخر.
فإمّا ان تتغلّب عليك الجثة فتصبح زبالة، وإما ان تتغلّب عليها فلا تعود الجثة مزبلة.
ـ هذا ما أريده.. يا غبي.
ـ يا ذكي.. أنت غبي جداً. إذا لم يكن رأس الجثة مزبلة فكيف ستكون جثة قائد فذ؟!
(3)
قال لي الرأس المقطوع الذي وجدته في برميل زبالتنا: خذني من هنا.
قلت: عندي عيال كثيرون في هذا البيت، ولا طاقة لي بإضافة رأس اخر.
توسّل إليّ: لن أكلّفك شيئاً، فأنا لا آكل ولا أشرب، ولا أشغل حيّزاً كبيراً.. يمكنك ان تضعني في موضع مطفأة السجائر. إعتبرني تحفة. سأسلّي ضيوفك. عندي كمية هائلة من النكت التي تميت البكاء من الضحك.
وجدتني أسأله بلا وعي: ما آخر نكتة؟
قال فرحاً: دولتنا.
ثم طفق يضحك بحرارة حتى خشيت أن يموت من الضحك، لولا أنني تذكّرت أنه غير صالح للموت.
قلت له: قديمة.. وبنت ستين قديمة. إنّ نوعية نكتك مزعجة، وستزعج ضيوفي دون ريب.
قال متوسلا: خذني أرجوك.. لابدّ أن تنتفع بي.
قلت: إذا كنت لا أستطيع الانتفاع برأسي المثبّت فوق جثتي، فكيف سيمكنني أن انتفع برأس مقطوع؟
قال ببهجة المكتشف: عندما يريدون قطع رأسك قدّمني لهم نيابة عنه.
صحت بإمتعاض: أعوذ باللّه.. لماذا يقطعون رأسي؟ إنني في حياتي كلّها لم أفعل شيئاً سيّئا.
صاح بابتهاج أعظم: يا غبي.. لهذا سيقطعون رأسك.