PDA

View Full Version : شرح رسالة تحكيم للقوانين للشيخ محمد بن ابراهيم .. شرحها الشيخ سفر الحوالي


yazeed6
10-06-2004, 12:58 PM
شرح رسالة
تحكيم القوانين
للشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية سابقا
رحمه الله



شرحها الشيخ العلامة
سفر بن عبدالرحمن الحوالي



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد : فموضوع هذه الرسالة هو الحكم بما أنزل الله أو الحكم بغير ما أنزل الله ، على أساس فهم الآية : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (المائدة:44).
هذا هو الموضوع ، وقد قدمنا له بمقدمتين ، وهي ما يتعلق بتفسير الآيات ، وتفصيل القول في أنواع الحكم بغير ما أنزل الله.
وما الذي منها يخرج من الملة ، وما الذي لا يخرج من الملة ؛ أي ما هو الكفر الأكبر وما هو الكفر الأصغر من أنواع الحكم بغير ما أنزل الله ؟
وفي ذلك رسالة قيمة صغيرة الحجم ولكنها كبيرة الفائدة ، عظيمة النفع ، كتبها سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله المفتي السابق لهذه البلاد والعالم الجهبذ ، المجتهد المعروف ، الذي لا يخفى علمه وفضله في هذه البلاد ، وغيرها من بلاد العالم الإسلامي ، والرسالة بعنوان : " تحكيم القوانين " ، هذه الطبعة الأولى سنة 1380 ، وتوجد طبعة منها حديثة .
وأحب أن أذكر إخواني وأنبههم إلى أن مثل هذه الرسائل القيمة ينبغي أن تنشر بقدر المستطاع ، وتكلفتها لا تتعدى ريالين إذا كانت بسعر المفرق ، وربما تكون أقل من ذلك أو هي كذلك بسعر الجملة ، فلو أن كل واحد منا اشترى منها ما استطاع وأهداها وأعطاها لمن يحب أو من يعرف من إخوانه من المسلمين ليستفيدوا منها ، لكان ذلك خيرا عظيما ، فإنها مسألة جديرة بالعلم ، وفي الوقت نفسه فإن الأقوال والآراء فيها مختلفة متباينة ، وهذا كلام إمام عالم مجمع على علمه وتبحره وتمكنه وفقهه ، وفيها تفصيل ربما لم يسبق إليه رحمه الله ؛ حيث فصّل أنواعا تفصيلا قيما.
* * * *

يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله : (إنّ من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين)
أول عبارة بدأها الشيخ - لعلمه بالاختلاف في مسألة الحكم - أيُخرج من الملة أو لا يخرج ؟ بدأ بتأصيل الأصل ، وهذا من كمال الفقه والحكمة في الدعوة ، أنّ الداعية إذا أراد أن يتكلم في أمر وفيه تفصيل ؛ فالحكمة أن يبدأ بتقرير الأصل العام والقاعدة الكلية ، ثم بعد ذلك يبين ما يستثنى من ذلك ، أو ما لا يدخل ضمن هذه القاعدة .
فهو يقول له رحمه الله : ( إن من الكفر المستبين ..إلخ ) هذه حقيقة بدهية لا يجوز أن يماري فيها أي مسلم ، وانطلاقا منها تأتي التفريعات ، كيف يُجعل القانون الذي يضعه البشر بأهوائهم وشهواتهم ، ويفترون على الله به الكذب ، يُجعل في منزلة ما نزل به الروح الأمين - جبريل - عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم ، هنا لا يمكن أن يرضى به مؤمن أبدا.
يقول : ( والردّ إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله عزّ وجلّ : {فإنْ تنازعتُم في شيءٍ فرُدّوه إلى اللهِ والرسولِ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً}.
وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عمن لم يُحَكِّموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم نفيا مؤكدا بتكرار أداة النفي ، وبالقسم ؛ قال تعالى: {فلا وربِّك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شَجَر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيتَ ويُسَلِّموا تسليمًا})
أكد سبحانه نفي الإيمان عمن لم يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم بأمرين : بتكرار أداة النفي وهي : " لا " في قوله : "فلا" ، وقوله :"لا يؤمنون" ، وبالقسم وهو قوله : "وربك" .
يقول رحمه الله تعالى : (ولم يكتف تعالى وتقدس منهم بمجرد التحكيم للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من الحرج في نفوسهم بقوله جل شأنه: {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت}. والحرج: الضيق. بل لا بدّ من اتساع صدورهم لذلك وسلامتها من القلق والاضطراب)
الحرج هو الضيق ؛ ولهذا يقال أرض حرجة ، أو مكان حرج (بل لا بدّ من اتساع صدورهم لذلك ) أي تتسع صدورهم وتنفتح وتسر بحكم الله سبحانه وتعالى ( وسلامتها من القلق والاضطراب) فلا قلق واضطراب من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(ولم يكتف تعالى أيضا هنا بهذين الأمرين) أي بالتحكيم وعدم الضيق ، لا؛ بل قال (حتى يضموا إليهما أمرا ثالثا) وهو (التسليم) .

ويقول رحمه الله تعالى : (وهو كمال الانقياد لحكمه صلى الله عليه وسلم، بحيث يتخلّون ها هنا من أي تعلق للنفس بهذا الشيء ، ويسلموا ذلك إلى الحكم الحق أتمّ تسليم ، ولهذا أكّد ذلك بالمصدر المؤكّد) أي أكد التسليم بالمصدر . قال :( وهو قوله جلّ شأنه: "تسليمًا") ويسلموا تسليما. يقول: بالمصدر أي (المبين أنه لا يُكتفى هاهنا بالتسليم ، بل لا بدّ من التسليم المطلق).
ويقول رحمه الله :( وتأمل ما في الآية الأولى، وهي قوله تعالى: {فإنْ تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً})
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في "مدارج السالكين" : " إن هذه الآية اشتملت على مراتب الدين الثلاث "، فالدين مراتب ثلاث كما جاء في حديث جبريل عليه السلام ، فهو يقول : إن هذه الآية بالنسبة لتحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاتباع هديه وشرعه ، جاءت على مراتب الدين الثلاث ، وهي مرتبة الإسلام ؛ مقام الإسلام ، وهو مقام التحكيم ، من لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فليس بمسلم .
ثم إن حكّمَه صلى الله عليه وسلم ولكن كان في صدره ضيق وحرج ولم يسلِّم تسليما فهذا ليس بمؤمن ، انتفت عنه صفة الإيمان حتى تتوفر فيه المرتبة الثانية ، فهو وإن كان قد حكّم فخرج بذلك عن أن يكون كافرا ، لكن لأنه لم ينتف الحرج والضيق من صدره بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدخل في عداد المؤمنين .
والله تبارك وتعالى إنما أثنى في القرآن ووعد بالجنة على مرتبة من اتصف بالإيمان "قد أفلح المؤمنون" ، "إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا" ، "والعصر، إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين ءامنوا" وغير ذلك.
فإذن مقام نفي الحرج في مقام الإيمان ؛ فلو أن إنسانا حكّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن في نفسه حرج من حكمه صلى الله عليه وسلم لكن لم يبلغ الغاية العظمى في ذلك ، لأنه لم يسلّم كمال التسليم ، فهذا مسلم مؤمن لكن يحتاج إلى مرتبة الإحسان ، هذه الدرجة العليا : "ويسلموا تسليما" بدون أي اعتراض ، إذا قال الله أو قال رسوله صلى الله عليه وسلم فهو عين الحق ، فهو عين الصواب ، فهو الذي لا يقبل مجادلة ولا منازعة ولا يقول العقل أو الشيخ أو المذهب أو الرأي أو كذا .. يخالف ذلك أو يتردد فيه ، وإنما كمال التسليم .
فهذه الآية اشتملت على هذه المراتب الثلاث ، والأساس : من لم يحكِّم ؛ من لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا ليس بمسلم وإن زعم أو ادعى ذلك .
يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله : (وتأمل ما في الآية الأولى، وهي قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإنْ تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً..} ) يقول تأمل (كيف ذكر النّكِرة ) ماهي النكرة في الآية؟ (هي قوله: "شيء" في سياق الشرط، وهو قوله جلّ شأنه: "فإنْ تنازعتم" المفيد العمومَ فيما يُتصوّر التنازع فيه جنسا وقدرًا) في أي جنس من أجناس التنازع وفي أي قدر أيضا وفي أي أمر كان كبيرا أو صغيرا (ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطا في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر، بقوله: {إنْ كُنتُم تؤمنون بالله واليوم الآخر})
كلمة شيء هي أعم كلمة في اللغة كما يقول اللغويون ؛ لأنها تطلق على الكبير والصغير وكل ما يمكن أن يطلق عليه ، فهي عامة تماما لأنها جاءت نكرة في سياق الشرط ؛ فمثلا يمكن أن يطلق شيء على الله سبحانه وتعالى كما في قوله عز وجل : "قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم" إذن الله تبارك وتعالى يجوز أن يطلق عليه شيء ، لكن أي شيء هو ؟ هو جلّ وتعالى أعظم وأكبر من كل شيء .
رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنودا
وكذلك يطلق على أدنى أو أتفه ما يمكن أن يسمى شيئا.
فالقضية الكبرى لو تخاصم اثنان أو تنازعا في مملكة عظيمة ، هذه نقول : إن القضية هذه شيء ، وكذا لو تنازعا في درهم أو ربع درهم لقلنا إنهما قد اختصما وتحاكما أو تنازعا في شيء .
إذن فإذا تنازعتم في أي شيء كائنا أيُّما كان النزاع ، في أسماء الله وصفاته ، أو في الإيمان ، أو في القدر ، أو في أمور العقيدة أو في حكم من الأحكام الفقهية أو في الحقوق والدماء والأعراض والأموال ..إلخ .
إذن كل أجناس وأنواع القضايا تدخل في وجوب التحاكم ورد التنازع فيها إلى الله ورسوله لأنها من ضمن كلمة شيء في قوله :"فإن تنازعتم في شيء" ولهذا قال في الآية الأخرى :"وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله" من شيء كائنا ما كان ، فأيضا في هذه الآية نجد الشرط أيضا :"وما اختلفتم" فحكم هذا الشرط "من شيء" ، وتقدمها أيضا الجار لزيادة تأكيد العموم ، وهو التحاكم إلى الله سبحانه وتعالى ورد التنازع إلى الله عز وجل في كل شيء ، بحيث لا يخرج شيء عن ذلك.
جُعِل هذا شرطا للإيمان بالله واليوم الآخر :"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا" إذن شرط الإيمان بالله واليوم الآخر هو رد التنازع في أي شيء إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا قال تعالى :"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا".
فدعوى الإيمان هي زعم ، أما حقيقتهم فليسوا بمؤمنين ، ولهذا قال :"وما أولئك بالمؤمنين" ، وقال :"من الذين قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم" في آخر الآيات التي سنعرض لها إن شاء الله بالتفصيل في سورة المائدة في آيات التحاكم.
يقول رحمه الله : (ثم قال جل شأنه: {ذلك خيرٌ} فشيء يُطلقِ اللهُ عليه أنه خير، لا يتطرّق إليه شرّ أبدا، بل هو خيرٌ محضٌ عاجلا وآجلاً. ثم قال: "ذلك خير وأحسن تأويلاً" أي: عاقبةً في الدنيا والآخرة)
رد الأمر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم "ذلك خير وأحسن تأويلا" أي أحسن عاقبة في دار الدنيا وفي دار الآخرة ، في الحاضر والمستقبل ، في كل أمر من الأمور ، وفي كل زمن وفي كل عصر وفي كل مصر هو خير وأحسن تأويلا ، مهما قال أعداء الله تبارك وتعالى أو أرجفوا .
فقال : (فيفيد أنّ الردَّ إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم، عند التنازع شرٌّ محضٌ، وأسوأ عاقبة في الدنيا والآخرة)
وهذا واقع تشهد به أحوال الأمم في هذا الزمان وفي غيره ، أن التحاكم إلى غير شرع الله والتقاضي إلى غير ما أنزل الله سبحانه وتعالى شر في الدنيا ، وما ينتظرهم عند الله سبحانه وتعالى أعظم من ذلك وأشد ، قال تعالى :"ولعذاب الآخرة أكبر".
يقول : (عكس ما يقوله المنافقون)
أي هذا الذي قرره الله وبينه عكس ما يقوله المنافقون ، الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ، حيث يقولون :(إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا).
وهذه الدعاوى قديمة حديثة . وليس أحد يتجرأ على الله عز وجل من غير تأويل ، ومن غير شبهة ومن غير دعوى حتى الأصنام لما عبدت إنما عبدت بتأويل. ‍ حجارة صماء بكماء كما يراها العقلاء ، لا تملك نفعا ولا ضرا ، وعبدت من دون الله ، لماذا؟ قالوا : هذه الأحجار نحتت في الأصل على صورة "ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر" وهؤلاء رجال صالحون لهم عند الله مكانة ، فينبغي أن ننحت صورهم لنتذكر عبادتهم ، ونعبد الله مثل عبادتهم ثم عبدت تلك الأحجار ، ثم عبد أي حجر .
وكما ورد في السير أن الناس كانوا يأتون إلى البيت الحرام إلى الكعبة ويعظّمون البيت الحرام ، يُعظمونه لأنه بيت الله ، وفيه الحجر الأسود ، فأصبح بعض الناس يحمل الحجارة من مكة ويذهب بها إلى بلاده ، ويقول هذه من مكة ، هذه من الكعبة ، هذه من بلد الله الحرام ، فيعظمها الناس ويتمسحون بها ويحتفظون بها ، فآل الزمن إلى أن يعبد ويسجد لهذا الحجر .
إذن كل شيء بالتأويل . وهؤلاء المتحاكمون إلى القوانين الوضعية يقولون : نحن لم نقصد مخالفة أحكام الدين ولم نقل إن القرآن حكمه ليس صالحا ؛ لا نقول ذلك وإنما نريد الإحسان ونريد التوفيق . نفس الكلام الذي قالوه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقولونه الآن .
(وقولهم: إنّما نحنُ مُصلِحون)
فهم يقولون : نوفق بين الإسلام وبين متطلبات الحياة الحديثة ، فنتحاكم إلى القوانين ، وفي نفس الوقت لا نخرج عن الإسلام ، ونحب القرآن ونحب السنة . وربما يعتمرون ويحجون ويتصدقون ويصلون لكن يقولون : الآن نحن في القرن العشرين ، والعالم تحضر والأحوال تغيرت والأمور تطورت فبدلا من أن نكفر بالدين كله ، نوفق بين الإسلام وبين متطلبات الحياة الحديثة ؛ نسمح بالأنظمة ، ونسمح بالقوانين ، ونطور موضوع المرأة ، وموضوع الحياة الاجتماعية ، ولا نزال مسلمين .
فهم لا يقولون : اكفروا بالله . ومشكلة الشعوب المغفلة والأمم التي يخدعها مكر الليل والنهار : أنها تنتظر من يقول : اكفروا بالله ، حتى تنتبه إلى خطورة المؤامرة ، وأعداء الله أذكى من أن يقولوا ذلك ، فهم لديهم أساليبهم ومهاراتهم ؛ لأن معلمهم الأول إبليس ، وإبليس ليس - حتما - يقول ذلك ، ولم يقله لأبينا آدم عليه السلام وإنما كما قال الله سبحانه :"وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين" قال :"يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى"، وقال :"مانهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين".
فكل عصر فيه تلبيس وكيد يناسبه ، وإن من السذاجة أن نتصور أنه لا بد أن يقال لنا : اكفروا بأحكام الله ، اكفروا بما أنزل الله ، حتى نقول : لا ، والله لا نكفر بالله. إنهم لا يفعلون ذلك أبدا ، بل يحتالون ؛ فيقولون مثلا : نحن نريد التوفيق ، نريد الإحسان ، نريد الإصلاح .. و والله ليسوا مصلحين أبدا ، وإنما كما قال الله تعالى: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لايشعرون) .
ومن العجب أن كل من يكتب في تنحية شرع الله يسمون في اصطلاح المفكرين الغربيين والمستشرقين وأذنابهم : "المصلحين" "زعماء الإصلاح" ؛ فيقولون المصلح عبدالرحمن الكواكبي ، والمصلح جمال الدين الأفغاني ، حتى كمال أتاتورك يقولون عنه : إنه من الزعماء ، ومن قادة الإصلاح وحركته يسمونها "الحركة الإصلاحية" .
قال: (وعكس ما عليه القانونيون من حكمهم على القانون بحاجة العالم بل ضرورتهم إلى التحاكم إليه، وهذا سوء ظن صِرْفٍ بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم)
معنى ذلك أن من يقول : لا بد أن نضع القوانين أو نتحاكم إلى القوانين في أي شيء ؛ نتحاكم إلى قانون العقوبات أو الجزاء أو القانون المدني أو القانون التجاري و المعاملات التجارية والمالية عموما .. من يقولون ذلك ، إنما يسيئون الظن وينتقصون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن معنى كلامهم ولازمه : أن الله سبحانه وتعالى إما أنه لم يعلم بأن العصر سيتغير وأن الأحوال سوف تتطور - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - فمن قال أو اعتقد ذلك فقد كفر .
وإما أنه يعلم لكن لم ينزل الله لذلك أحكاما ، فيكون الله - تعالى الله عن ذلك - قد تركنا هملا في أمور عظيمة نحتاجها ، ويكون هذا الكتاب ليس فيه تفصيل كل شيء ويكون أمره بأن نحتكم إلى الله ورسوله في كل شيء ، وأن نرد ما تنازعنا فيه من شيء إلى الله كله لغو ؛ لأنه يأمرنا أن نرجع إليه في كل شيء في حين أنه لم ينزل لنا أحكاما لكل شيء ، وهذا تناقض لا يفعله أي عاقل ، فكيف بالله؟ تعالى الله عن ذلك ، فهو سبحانه وتعالى عليم حكيم ، وهو الذي أنزل هذا الكتاب مفصلا "تبيانا لكل شيء" ، وهو الذي أمرنا أن نجتهد وأن نبحث ، وجعل للمجتهد المصيب أجرين ، وجعل للمخطئ أجرا حتى نستنبط الأحكام من هذا الكتاب ، ولا يمكن أن يقع شيء يخرج عما في هذا الكتاب ، وما في هذه السنة أبدا كما سيبين الشيخ رحمه الله فيما بعد .
يقول : فهذا أيضا (محضُ استنقاص لبيان الله ورسوله، والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة إن هذا لازمٌ لهم)
لا بد أن يلزمهم ذلك أو أن يذعنوا لحكم الله ، ويتوبوا ويعودوا إلى شرع الله وإلى ما أنزل الله .
قال : ( وتأمّل أيضا ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم}. فإنّ اسم الموصول مع صِلته من صيغ العموم عند الأصوليين وغيرهم، وذلك العمومُ والشمولُ هو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القدْر)
الاسم الموصول في الآية هو "ما" ، واسم الموصول مع صلته من صيغ العموم ، والعموم من ناحية النوع :دمًا ، مالاً،عرضًا،حقوقا - كائنة ما كانت - بين الدول بعضها مع بعض ، وبين الدولة والفرد ، بين جماعة وجماعة ، وبين فرد وفرد ، كل ذلك "فيما شجر بينهم " لأنها تدل على العموم .
يقول: (فلا فرقَ هنا بين نوع ونوع، كما أنّه لا فرق بين القليل والكثير، وقد نفى اللهُ الإيمانَ عن مَن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، من المنافقين، كما في قوله تعالى: {أَلمْ تَرَ إلى الذينَ يَزْعُمونَ أنّهم آمنوا بما أُنْزِلَ إليكَ وما أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُريدونَ أنْ يَتَحاكَموا إلى الطاغوتِ وقدْ أُمِروا أنْ يكفُروا به ويُريدُ الشيطانُ أنْ يُضلّهم ضلالا بعيدًا})
ويظهر هنا فقه الشيخ رحمه الله ودقة استنباطه فإن قوله عز وجل "ألم تر" أسلوب يستلفت الذهن ، فكأنه يقول انظر ، تأمل ، تعجب أيها المخاطب . وإن كان الأصل للنبي صلى الله عليه وسلم وكل آية يأتي فيها هذا الأسلوب فإنه يفيد ذلك كما في قوله عز وجل "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل" وقوله :"ألم تر كيف فعل ربك بعاد".
وقوله عز وجل :"ألم تر إلى الذين يزعمون" يعني أنهم لم يؤمنوا في الحقيقة ، ولكنهم يزعمون ، والزعم هو الكذب ، هو الظن فقط . وكون الإنسان يعتقد خلاف الحق فهو زعم ، وفلان يزعم كذا أي : يقوله ولا حقيقة له، ولا صحة لما يقول .
يقول: (فإنّ قوله عز وجل: "يَزْعُمون" تكذيب لهم فيما ادّعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبدٍ أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر)
فقوله عز وجل :" أَلمْ تَرَ إلى الذينَ يَزْعُمونَ أنّهم آمنوا بما أُنْزِلَ إليكَ وما أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ" أي يدّعون ، ثم قال الله بعد ذلك :"يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت" ، لم يقل الله : إنهم تحاكموا إلى الطاغوت واستمرءوا ذلك ، واتبعوه واتخذوه دينا، وألزموا الناس به وردوهم إليهم بالقوة ، بل قال :"يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت" ويستسيغون ذلك ويرون أنه لا بأس به .
كأنهم في أول طرق التحاكم ، ومع ذلك نفى الله عنهم الإيمان ، ووصمهم بما وصمهم به بمجرد أنهم يريدون .
وهنا يتبين أن الأمر يتعلق بالإرادة ، فإن الإنسان قد يكفر وإن لم يفعل الكفر ، فإذا أراد الإنسان الكفر فإنه يكفر بذلك إذا استحله ؛ فمثلا بعض الناس ليس لديه بنك ولا درهم ولا دينار ، وهو فقير مفلس ، لكنه يدافع عن أكلة الربا وعن البنوك ، فلا يقال : إن هذا ليس عنده بنك ولا يأكل الربا ، بل كونه يدافع عنهم يجعله في حكمهم ، ويكفر إن استحل ذلك وإن لم يأكل الربا ، وهكذا .
يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله : (والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو: مجاوزة الحدّ. فكلُّ مَن حَكَمَ بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو حاكَمَ إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد حَكَمَ بالطاغوت وحاكم إليه. وذلك أنّه مِن حقِّ كل أحدٍ أن يكون حاكمًا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقط لا بخلافه)
فلا يحق لأحد أن يحكم أو أن يريد التحاكم إلى خلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم .
ويقول : (كما أنّ من حقِّ كل أحدٍ أن يُحاكِمَ إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فمَن حَكَمَ بخلافه أو حاكم إلى خلافه فقد طغى، وجاوز حدّه، حُكْمًا أو تحكيما، فصار بذلك طاغوتا لتجاوزه حده)
فهو إما أن يكون هو طاغوتا لأنه تجاوز حده ، وافترى على الله الكذب ، وقال : أنا أشرع للناس ما فيه المصلحة وأضع القوانين ، كما تجرأ بعضهم على الله وقال : كيف يرجم الزاني؟ إن الرجم فيه وحشية - نعوذ بالله من كفرهم ومن ضلالهم - نريد أن نستبدله بغرامة أو سجن. الذي يفعل ذلك طاغوت ؛ من شرَّع ، من أحلّ الربا ، من أحل الخمر ، من فعل أي شيء من هذا فهو طاغوت ، ومن ارتكب شيئا من هذا الجنس فهو طاغوت ؛ لأنه تجاوز حده .
وأحيانا يُتجاوز بالشيء حده ، وهو ليس بمتجاوز بذاته ، كما لو اجتهد الإمام من الأئمة المجتهدين في مسائل وحكم فيها ، ثم جاء أناس من أتباع الطريقة - مثلا - فقدموا كلامه على كلام الله ورسوله ، وردوا كل شيء اختلفوا فيه إلى كلامه فهم بذلك جعلوه طاغوتا ، لأنهم تجاوزوا به حده ، فحده أن يكون عبدا صالحا لله مثلا ، أو إماما أو مجتهدا إن كان كذلك ، حتى الملك المقرب جبريل عليه السلام حده أن يكون ملكا لله ، والرسول صلى الله عليه وسلم حده أن يكون عبد الله ورسوله و خيرته من خلقه إلى آخر ما ذكر الله تعالى عنه ، لكن أن يعبد من دون الله أو يُدعى جبريل أو محمد عليهما الصلاة والسلام أو غيرهم أو يستغاث بهما ، أو أن يصرف لهما شيء من الربوبية ، من فعل شيئا من ذلك فقد تجاوز به حده وجعله طاغوتا وإن لم يكن كذلك .
فعيسى عليه السلام ليس بطاغوت حاشا وكلا ، بل هو عبد ، وأمر قومه بما أمر الله تبارك وتعالى "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم" ، "وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم" ولكن النصارى غلوا فيه وجاوزوا به حده.
فهناك فرق بين أن يكون الطاغوت هو طاغوتا على الحقيقة ، وبين أن يتخذ أو يجعل طاغوتا وليس هو بطاغوت ، لكن تجاوز به من تجاوز حده الشرعي .
قال: (وتأمل قوله عز وجل: "وقدْ أُمِروا أنْ يكفُروا به" )
فبعد أن قال الله يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت" أكد ذلك بقوله :"وقد أمروا أن يكفروا به" ، وهذا من أصرح الأدلة على أن تحكيم غير الشرع كفر ، وأن تحكيم القانون كفر.
قال : (تعرف منه معاندة القانونيين، وإرادتهم خلاف مراد الله منهم حول هذا الصدد، فالمراد منهم شرعًا والذي تعبّدوا به هو: الكفر بالطاغوت لا تحكيمه..{فبدَّل الذينَ ظَلموا قولاَ غيرَ الذي قيلَ لهُم})
قال تعالى :"وقد أمروا أن يكفروا به" ، "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى" والعروة الوثقى: هي شهادة أن لا إله إلا الله ، ولا إله إلا الله نفي وإثبات ، الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، فمن لم يكفر بالطاغوت أو بهؤلاء المتحاكم إليهم أو بالقوانين المتحاكم إليها فهذا لم يشهد أن لا إله إلا الله .
فإذن الله أمرهم أن يكفروا به "وقد أمروا أن يكفروا به" وهم مع ذلك يريدون أن يتحاكموا إليه . إذا تأمل الإنسان ذلك - كما يقول الشيخ رحمه الله - عرف معاندة القانونيين وإرادتهم خلاف مراد الله ، فالله تعالى أمر أن يكفر بالطاغوت ، وأن يتحاكم إلى ما أنزل الله ، وهؤلاء يوجبون على الناس التحاكم إلى ما يشرعون ، ويصرفونهم ويحولونهم عن التحاكم إلى شرع الله وإلى دينه.
قال: (ثم تأمل قوله: "ويُريدُ الشيطانُ أنْ يُضلّهُم ضلالا بعيدا " كيف دلَّ على أنّ ذلك ضلالٌ)
قال الله تعالى عن حال من يتحاكمون أو من يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت :"ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا" إذن هذا الأمر ضلال ، هكذا سماه الله. أما القانونيون فيقول عنهم الشيخ : ( وهؤلاء القانونيون يرونه من الهدى) فهم يقولون : هذا شيء طيب ، هذا تحضّر ، هذا تطور ، بل ربما يفتخرون بأنهم في عام كذا وضعوا نظاما وقانونا لكذا ، وفي عام كذا وضعوا نظاما للنواحي الاقتصادية وللبنوك ، وفي عام كذا وضعوا القانون المدني ، يفتخرون بذلك ويرون هذا اهتداء ، وأن الأمة قبله كانت في حالة تخلف وفي ضلال ، عكس ما قال الله تبارك وتعالى تماما كما دلت الآية السابقة.
يقول الشيخ : (كما دلّت الآية على أنّه من إرادة الشيطان)
فالتحاكم إلى الطواغيت وإلى القوانين من إرادة الشيطان ، فهو يريد أن يضلهم فيتحاكمون إليه.
يقول الشيخ: (عكس ما يتصور القانونيون من بُعدهم من الشيطان، وأنّ فيه مصلحة الإنسان، فتكون على زعمهم مرادات الشيطان هي صلاح الإنسان، ومراد الرحمن وما بُعث به سيدُ ولد عدنان معزولا من هذا الوصف، ومُنحىً عن هذا الشأن)
إذن : هم قلبوها ، فجعلوا الحكمة والرحمة والمصلحة في مرادات الشيطان ، وأما ما أنزله الرحمن وما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا فيه - كما يزعمون - التأخر والانحطاط ، أو عدم الصلاحية .
قال : (وقد قال تعالى منكرا على هذا الضرب من الناس، ومقررا ابتغاءهم أحكام الجاهلية، وموضحا أنه لا حُكم أحسن من حُكمه: {أَفَحُكمَ الجاهليةِ يَبْغونَ ومَنْ أحسنُ مِن اللهِ حُكمًا لِقومٍ يُوقِنون}. فتأمل هذه الآية الكريمة وكيف دلّت على أنّ قِسمة الحكم ثنائية)
فالحكم في الدنيا لا يخرج عن هذين الحكمين ، وهما حكمان لا ثالث لهما .
يقول : (وأنّه ليس بعد حكم الله تعالى إلاّ حُكم الجاهلية) الموضح أن القانونيين في زمرة أهل الجاهلية( شاءوا أمْ أبوا، بل هم أسوأ منهم حالاً، وأكذب منهم مقالاً، ذلك أنّ أهل الجاهلية لا تناقُضَ لديهم حول هذا الصدد)
الجاهلية هي الجاهلية ، وإن كانت الجاهلية الأولى المطلقة انتهت ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهناك جاهلية حديثة لكنها مقيدة ؛ بلد ما يكون بلدا جاهليا ، حكم ما يكون حكما جاهليا ، فرد ما يكون فردا جاهليا ، وهكذا .. فالآن عندنا الجاهلية الغربية بأحكامها ، وعندنا من يزعم أو من يريد أن يتحاكم إلى الطاغوت من أبناء هذه الأمة.
يقول الشيخ : إن أهل الجاهلية ليسوا متناقضين ؛ لأنهم لا يؤمنون ولا يدعون الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يزعمون أنهم يؤمنون بالقرآن فلذلك تحاكموا إلى خلاف ما جاء في القرآن وما جاء في السنة ، أما من يزعم الإيمان ويدعيه ثم يتحاكم إلى أحكام هؤلاء الجاهليين فهذا هو المتناقض لأنه ابتغى حكم الجاهلية.
يقول الشيخ : (وأما القانونيون فمتناقضون، حيث يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويناقضون ويريدون أنْ يتّخذوا بين ذلك سبيلاً)
سبحان الله كأن هذه الآيات تتنزل علينا في هذا الزمن .. ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا.
يقول الشيخ: (وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء: {أُولئكَ هُمُ الكافرونَ حَقَّا وأَعْتدنا للكافرينَ عذابًا مُهينًا})
الذين يفرقون بين الله ورسله ، ويقولون : نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ، وقال تعالى :"كما أنزلنا على المقتسمين" أي قسموا القرآن ، وقسموا الدين ، وقال :"الذين جعلوا القرآن عضين" أي أجزاء وأعضاء يأخذون بعضا ويتركون بعضا.
فنجد هؤلاء فيما يتعلق مثلا بالإيمان بالله ، وأن الله تعالى حق ، وأنه موجود ، وأنه الحي القيوم ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وخاتم النبيين ، وأنه نبي للعالمين أجمعين ، وأنه أمرنا بالحج ، وأمرنا بالصلاة ، وأمرنا بالصدقة ، وبصوم رمضان.. كل هذا مقبول ، وهو من القسم الذي يؤمنون به.
لكن إذا جئنا إلى الربا ، وإذا جئنا لموضوع المرأة ونحو هذه من القضايا المعاصرة ، فهنا يبدأ الجدل ، ويضطرب الكلام ، فقائل يقول: نريد الاشتراكية ، لأنها تمنع الربا ، وتمنع الاستغلال ، وتجعل الشعب والحكومة يملكون الشيء ملكية متساوية .. فهو في الجانب الاقتصادي يريد الاشتراكية ، وهو مع كل ذلك يصلي ويصوم ، وقد يكون من الشيوخ أو من العلماء نسأل الله العافية.
وآخر يقول : لا نريد الاشتراكية ، لابد من الاقتصاد الحر ؛ حر من أحكام الله ، ليس فيه قيود : هذا حرام وهذا حلال ، فهو السبيل لأن تربح الشركات ما تشاء، بحسب السوق ، والعرض والطلب ، سعر الفائدة أي الربا ، فتسير الأمور وفق العالم الرأسمالي الحر.
وثالث يقول : كل الدين طيب ، فنحن نؤمن بالصلاة وبالزكاة وبكل شيء ، أما موضوع المرأة فهو مشكلة ، فالآن المرأة في بعض الدول رئيسة ، وفي بعض الدول وزيرة ، حتى الناطقة بوزارة الخارجية الأمريكية امرأة.
مثال آخر : مسألة الموالاة للكفار . فالله تعالى بيّن لنا أحكامهم في القرآن ، وبيّن لنا ماذا نعتقد في اليهود ، وماذا نعتقد في النصارى ، وماذا نعتقد في سائر ملل الكفر ، فيقول قائلهم : كان هذا أيام زمان هذا قبل النظام الدولي الجديد وأيام الحرب الحارة والباردة ، والآن انتهت الحرب الباردة وأصبحنا كلنا باردين مثل بعض ، وأصبحنا أسرة دولية ومجتمعا دوليا، ولم يعد هناك عداوات ، صحيح أن في القرآن لكن.. ويبدأ في التأويل ؛ فهو لا يستطيع أن ينكر هذه الآيات أو يمحوها من القرآن ، لكن يفرغها من محتواها ومن معناها ، ويقول : لا ، كلنا الآن وضع واحد وهدف واحد ونظام واحد ، أما أن تقول : إن هؤلاء كفار .. فمشكلة.
ولهذا لم نر في إذاعات العالم الإسلامي وصحافة العالم الإسلامي وفي تلفاز العالم الإسلامي ، أنهم وصفوا الدول التي تموج بالكفر بقولهم : إنها دول كافرة ، وإنما قد يقولون : دول غير إسلامية.
فيؤمنون ببعض الكتاب ويتحاكمون إليه فيه ، ويكفرون ببعض كما كان حال اليهود بالضبط ، وكما قال حذيفة رضي الله عنه مستنكرا متعجبا :"ما كان من حلوة فهي لنا ، وماكان من مرة لهم".
يقول الله تعالى :"وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" أصل ذلك أن الله تعالى حرم على اليهود في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم ، وكانت اليهود فريقين ؛ فبنو قينقاع والنضير حلفاء الخزرج ، وقريظة حلفاء الأوس ، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرج كل طائفة منهم مع حلفائها وظاهروهم على إخوانهم ، حتى تسافكوا دماءهم بينهم ، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما لهم وما عليهم ، ويعرفون أن ذلك حرام عليهم في دينهم وبنص كتابهم ، فإذا وضعت الحرب أوزاها افتدوا أسراهم فيما بينهم تصديقا لما في التوراة ، فذلك قول الله فيهم :"أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" ؛ أي تفادونهم بحكم التوراة ، فتؤمنون بهذا الجانب، وتقتلونهم وفي حكم التوراة ألا يقتلوا ولا يخرجوا من ديارهم ولا يظاهر عليهم ، فتكفرون بهذا وهو مسطور في التوراة .
يقول الشيخ رحمه الله : (وأما القانونيون فمتناقضون)
فإنهم يفرقون بين أحكام الله ، يفرقون بين أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقبلون ما يوافقهم ويردون ما خالف أهواءهم ، وهذا كثير جدا ؛ فنجد بعض الناس حتى في السنن - وأقصد بالسنن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وليس المندوب فقط - يقول ابدأو بالعَشاء قبل العِشاء ، فهذه هي السنة . فإذا جئنا إلى اللحية مثلا أو رفع الإزار عن الكعبين قال : لا . فالسنة حيث ما يريد هو ، وحيث ما يجد منفذا أو متسعا له ليحقق بعض الرغبات .
ويفعلون مثل ذلك في الخلاف الفقهي؛ فيقول أحدهم إذا أراد أن يكشف وجه المرأة: قال بعض العلماء : الوجه فيه شيء . أما إذا كان الكلام عن زوجته فهو لا يريد أن يراها أحد فيقول : لا يجوز الكشف.
وهذا هو ما سماه الله تبارك وتعالى نفاقا؛ لأنه جعل القرآن عضين ، وجعل السنة عضين ، أي أجزاء وأعضاء يأخذ منها ما يوافق الهوى ، ويترك منها ما يخالفه نعوذ بالله من ذلك .
يقول: (ثم انظر كيف ردّت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حُسن زبالة أذهانهم، ونحاتة أفكارهم، بقوله عزّ وجلّ: {ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقوْمٍ يُوقِنون})
كل كلامهم هذا هو زبالة أذهان ، ونحاتة أفكار ساقطة ، لا قيمة لها أبدا "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون" لا أحد.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله : (قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: ينكر اللهُ على من خرج من حكم الله المُحْكم المشتمل على كل خيرالناهي عن كل شرّ، وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم)
هذا هو المثال الأول ؛ فقد كان أهل الجاهلية يتحاكمون في مجنة ، وفي عكاظ ، وفي ذي المجاز من أسواق العرب ، وكان الجاهليون يتحاكمون إلى الطواغيت والكهان فيذهبون إلى الكاهن ليحكم بينهم ، وإلى شيخ القبيلة ، وإلى الأزلام يضربونها .
قال والكلام ما زال لابن كثير : (وكما يحكم به التتارُ من السياسات الملكية المأخوذة عن مَلِكهم الذي وضع لهم كتابًا مجموعًا من أحكامٍ قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه)
هذا من فقه ابن كثير رحمه الله وفهمه للواقع . والكتاب الذي وضعه [ جنكيز خان ] هو الياسق ، وهو كتاب قانون ، وأي قانون يوضع فيه أصوله التي أُخذ منها
، وفي آخرها يذكر المصادر ، إذا لم يوجد كل ما لم ينص عليه في هذا القانون يُرجع فيه إلى القانون الطبيعي ، وإلى مبادئ العدالة - كما يسمونها - وإلى الشريعة الإسلامية ! أحيانا؛ أي أنهم يجعلون الشريعة الإسلامية مصدرا يسمونه مصدرا احتياطيا ، وليس هو أول المصادر الاحتياطية فغالبا ما يكون الثالث أو الرابع .
فالأحكام تؤخذ بهذا النظام : إن لم يوجد يرجع إلى العرف ، فإن لم يوجد فإلى القانون الطبيعي ، وإن لم يوجد فإلى مبادئ العدالة - ويمكن أن يجعلوا القانون الطبيعي ومبادئ العدالة شيئا واحدا - فإن لم يوجد يرجع إلى مبادئ الشريعة الإسلامية ، فهم لا يرجعون فيها إلى الأحكام أيضا بل إلى المبادئ.
وقد اقتبس جنكيز خان أحكام الياسق من شرائع شتى ؛ من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها مما وضعها من هواه . فكثير مما في الياسق من أحكام مأخوذة من الشريعة الإسلامية ، فجنكيز خان جعل الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع الأصلي ، ولم يجعله احتياطيا ، وقد يكون أدخلها في الأصل ، قالوا : هذا الكتاب فيه أشياء كثيرة يحكم فيها بالشرع وأخرى كثيرة لا يحكم فيها بالشرع ، لكن يلتمس له المعاذير فكيف بالذين يجعلون الشريعة مصدرا احتياطيا ، كما هو حال القوانين الوضعية المنتشرة في العالم الإسلامي . نسأل الله السلامة والعافية.
يقول: (فصارت في بَنيهِ شرعا مُتّبعا يقدِّمونها على الحكم بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافرٌ يجب قتاله حتى يرجعَ إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحَكِّم سواه في قليل ولا كثير. قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الجاهليةِ يَبْغون}. أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. {ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يوقِنونَ}. أي: ومن أعدل من الله في حكمه، لِمَن عَقَل عن الله شرعه وآمن به وأيقن وعلِم أنّ الله أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء القادر على كل شيء العادل في كل شيء. [انتهى قول الحافظ ابن كثير])
إن علم الله تبارك وتعالى أحاط بكل شيء ، ولا يستحق أن يشرع إلا من كان علمه محيطا بكل شيء ، والله وحده هو القادر على كل شيء والعادل في كل شيء سبحانه وتعالى فإن العاجز الضعيف لا يصلح أن يكون مشرعا.
ثم إن الله أرحم من الوالدة بولدها ، ولما قال الله في حق عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم :"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" ظن كثير من الناس أن رحمة الله بالنبي صلى الله عليه وسلم مختصة بالمسلمين . والحقيقة أن الله رحم به العالمين حتى الكفار نالهم من رحمة الله ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير؛ فأهل الذمة أمنوا على أنفسهم وعلى أموالهم ،و المحاربون - الذين يحاربهم المسلمون - وجدوا هذه الحرب الإسلامية التي لا نظير لها في التاريخ ؛ فلا مُثلة فيها ولا قتل لصغير ولا لشيخ كبير ولا لامرأة ولا للرهبان المعتكفين في الصوامع ، وذلك كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه.
حتى حرب المسلمين لغيرهم ، الرحمة ظاهرة وواضحة فيها؛ فقد انتشر بين الناس جميعا العدل والخير لأن مبادئه التي رسخت في الأمة الإسلامية وانتشرت في شرق الدنيا وغربها قد فاضت على أمم الدنيا.
ولهذا كله نقول : إن أوروبا لم تعرف أن الإنسان إنسان وأن له حقوقا وأن العدل واجب إلا بعد أن عرفت هذا الدين ، وبعد أن ظهر هذا الدين وهذا النور المبين ؛ فرسالته صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين حتى لمن لم يؤمن ، فهي رحمة من وجوه عدة ذكرنا بعضها ، ولا يتسع المقام لذكر البعض الآخر.
يقول: (وقد قال عزّ شأنه قبل ذلك مخاطبا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم: {فاحْكُمْ بَيْنهُم بما أنزل اللهُ ولا تَتَّبِعْ أهْواءهُم عَمّا جاءَك مِن الحقّ})
يقصد الشيخ الآيات التي هي في سورة المائدة ، والتي ابتدأها الله تبارك وتعالى بقوله:"يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " ..إلى قوله :"أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون" فهذه الآيات كلها في موضوع الحكم ، وسوف نأتي على تفسيرها بإذن الله.
يقول: (وقال تعالى: {وأنِ احْكُمْ بَيْنهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ واحْذَرْهُم أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إليك}. وقال تعالى مُخيرا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، بين الحُكم بين اليهود والإعراض عنهم إنْ جاءُوه لذلك: {فَإنْ جاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم أوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وإنْ تَعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ}. والقسط هو: العدل ولا عدل حقا إلاّ حُكم الله ورسوله، والحكم بخلافه هو الجور، والظلم والضلال والكفر والفسوق، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرون} {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظالِمُون} {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقون})
إن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات الثلاث بأن يحكم بما أنزل الله قال :"فاحكم بينهم بما أنزل الله" وفي الأخرى "وأن احكم بينهم بما أنزل الله"وفي الثالثة "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط" فهذه كلها تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يحكم إلا بما أنزل الله ، وأن الحكم بما أنزل الله هو القسط والعدل ، وأن ما عداه هو الجور والظلم والكفر.
وبالنسبة لتخييره صلى الله عليه وسلم في الحكم بين الكفار وتركه ، فبعض العلماء يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم خير في أول الآيات ، ثم أوجب الله عليه أن يحكم بينهم بقوله :"وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم" فلا تخيير ، بل يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل الله وليس مخيّرا في أن يحكم أو لا يحكم.
وبعض العلماء يقول: لا نسخ في الآيات ، وإنما المقصود بالآية الأولى قوم والمقصود بالآية الأخرى آخرون ؛ فالذين خُيّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم قوم ليسوا داخلين تحت حكمه صلى الله عليه وسلم ، وليسوا من أتباع الدولة الإسلامية التي رأسها وحاكمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما أولئك فهم أهل الذمة الذين تحت حكمه صلى الله عليه وسلم والذين كان منهم أولئك الذين أتوا إليه.
والراجح كما يبدو لنا هو هذا القول الذي يقول : إن كل آية من هذه الآيات في قوم ، فليس المخير فيهم هم الذين أمر الله تعالى أن يحكم بينهم ، لأن اليهود كانوا أنواعا؛ فمنهم من كان داخلا تحت حكم النبي صلى الله عليه وسلم وهم الذين وادعوه وسالموه صلى الله عليه وسلم عند مقدمه إلى المدينة ودخلوا تحت حكمه ، وكان منهم قبائل أخر كالذين كانوا في خيبر فهؤلاء لم يدخلوا في طاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن جاهدهم صلى الله عليه وسلم.
المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في هذه الآيات الثلاث أن يحكم بينهم بما أنزل الله ، وأن الحكم بما أنزل الله هو القسط وما عداه هو ظلم وكفر وفسوق.
ثم يقول الشيخ بعد ذلك : (ولهذا قال تعالى بعد ذلك: "ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرون" .. والظالِمُون .. والفاسِقون)
وهذه الجمل الثلاث ذيلت بها ثلاث آيات في موضوع الحكم ، وهي ضمن الآيات التي سوف نتعرض لها إن شاء الله تعالى بالتفصيل لنبين : هل ينطبق على الذين يحكمون بغير ما أنزل الله هذه الصفات الثلاث ، أو أن الكافرين قوم والظالمين قوم والفاسقين قوم . ثم هل هؤلاء أهل الكتاب خاصة أو أنهم كل من تشمله الآية من اليهود ومن المسلمين ومن غيرهم ، أو أن هناك تفصيلا وهناك كفر دون كفر.
كل ذلك سيرد - إن شاء الله - ولكن المقصود هو أن الله تعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث آيات بأن يحكم بينهم بما أنزل ، وأن يحكم بينهم بالقسط ، وأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق.
يقول : (فانظر كيف سجّل تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل اللهُ الكفرَ والظلمَ والفسوقَ، ومِن الممتنع أنْ يُسمِّي اللهُ سبحانه الحاكمَ بغير ما أنزل اللهُ كافرًا ولا يكون كافرًا ، بل هوكافرٌ مطلقًا، إمّا كفر عمل وإما كفر اعتقاد، وما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير هذه الآية من رواية طاووس وغيره يدلُّ أنّ الحاكم بغير ما أنزل اللهُ كافرٌ إمّا كفرُ اعتقادٍ ناقلٌ عن الملّة، وإمّا كفرُ عملٍ لا ينقلُ عن الملّة.
أمّا الأول: وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع: )
هذا من فقه الشيخ رحمه الله حيث إنه فصّل تفصيلا لا أظن أحدا قد سبقه إليه.
قال : (أمّا الأول: وهو كفر الاعتقاد) هذا هو الكفر المخرج من الملة الذي يكون صاحبه به قد ارتد وخرج من دين الإسلام بالكلية ، ولا يرجع إلا بتجديد الإيمان والتوبة من هذا الكفر.
قال: (فهو أنواع ؛ أحدها: أن يجحد الحاكمُ بغير ما أنزل الله أحقيّة حُكمِ الله ورسوله)
النوع الأول : أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية الحكم بما أنزل الله فيقول : لا يجب على الناس أن يتحاكموا بما أنزل الله ، فهو إذن جحد الوجوب ، وهذا لا ريب ولا شك في تكفيره ، لأنه أنكر معلوما من الدين بالضرورة ، وجحد أمرا قطعيا في كتاب الله سبحانه وتعالى ، ومتواترا في سيرة وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول : (وهو معنى ما رُوي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير أنّ ذلك هو جحودُ ما أنزل اللهُ من الحُكم الشرعي)
فعلى الرواية التي نقلت عن ابن عباس أن الذي يكفر ويخرج من الملة هو من جحد الحكم.
قال : (وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم)
أي إن جحد أي حكم من الأحكام الثابتة القطعية لا نزاع بين أهل العلم أنه كفر ، فلو أن أحدا جحد وجوب الصلاة أو وجوب الزكاة أو وجوب صوم رمضان أو وجوب الجهاد أو أي أمر من هذه الأمور الظاهرة المعلومة فإنه يكفر ويخرج من الملة.
قال الشيخ : (فإنّ الأصول المتقررة المتّفق عليها بينهم أنّ مَنْ جَحَدَ أصلاً من أصول الدين أو فرعًا مُجمعًا عليه، أو أنكر حرفًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، قطعيًّا، فإنّه كافر الكفرَ الناقل عن الملّة)
وهذا النوع هو الذي لا يكون إلا ممن جاهر بالردة ، أو ممن لم يلتزم دين الإسلام أصلا ، اليهود والنصارى وأشباههم ، فهم لا يرون أن التحاكم إلى الكتاب والسنة واجب ، أو أن الإنسان يجب عليه أن يصلي أو يصوم أو يعف عن الزنا أو الخمر ، هذه الأمور خارجة عندهم عن دائرة الوجوب ، لأنهم أصلا جاحدون لما أنزل الله ومن جحد شيئا من ذلك فهو كمن جحد كل ما أنزل الله حتى وإن زعم أنه مسلم ، فإن من أنكر أو جحد أمرا من هذا فإنه يكون جاحدا للكل.
وهذا بالنسبة للأحكام موجود فيمن ينتسب للإسلام ، فإن منهم من يقول : إن الحكم بما أنزل الله غير واجب ومنهم من يقول: إن العصر قد تغير ، وإن الزمان قد اختلف ، وإن الحكم بما أنزل الله إنما كان واجبا في زمن كانت الإنسانية فيه بدائية، والحياة بدائية ، والأحوال أقرب إلى البساطة ، أما الآن فعصر الحضارة والتعقيد والتطور .. إلخ . يقولون ذلك إما بلسان الحال وإما بلسان المقال ، وهذا كفر مخرج من الملة وهذا هو النوع الأول.
وعندما ذكر سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله نواقض الإسلام العشرة جعل هذا منها . فالذين لا يحكمون بما أنزل أو لا يعتقدون وجوب الحكم بما أنزل الله أو لا يعتقدون صلاحية الإسلام لهذا العصر فهؤلاء ليسوا من المسلمين أصلا.
(الثاني: أنْ لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كونَ حُكم اللهِ ورسولِهِ حقًّا. لكن اعتقد أنّ حُكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسنُ من حُكمه، وأتمّ وأشمل.. لما يحتاجه الناسُ من الحُكم بينهم عند التنازع)
فالفرق بين النوع الأول والثاني أن الأول يقول: إن الحكم بما أنزل الله لا يصلح أصلا، أما الثاني فيقول : نعم، الحكم بما أنزل الله حق وخير لكن حكم غيره أفضل ، فهذا أيضا واضح الكفر نسأل الله العافية.
وهذا المعنى يقع في كثير من الكتابات أو التعبيرات ، يأتي بعض الناس ويتكلم في التربية أو في القانون أو في النظام الاجتماعي ، فيبين كيف كان الحال عند الرومان ثم عند اليونان ثم في الإسلام ، ويبين أن الإسلام جاء بتوجيهات في ذلك ، ويذكر بعض الأحاديث ، ثم يذكر النظريات الحديثة ويتوسع فيها ويبين فضلها ومزاياها. فهذا يتضح من حاله أنه يرى أن هذه النظريات أفضل مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم ينطق ، لكن عرضه وسياقه للموضوع يشعر ويوحي بذلك. نسأل الله السلامة والعافية.
يقول : (إما مطلقا)
أي إن بعض الناس يرى أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من حكمه صلى الله عليه وسلم مطلقا وبعض الناس يقول: لا.
يقول رحمه الله: (أو بالنسبة إلى ما استجدّ من الحوادث التي نشأت عن تطوّر الزمان وتغير الأحوال)
الدول تقول: إن ما تعلق بالأحوال الشخصية كالطلاق أو المعاشرة بين الزوجين أو النفقة أو العدة ، فهذا في الإسلام طيب ، ولا يوجد أحسن منه ، ويُتحاكم إليه ، أما النواحي التجارية وأنظمة العمل والعمال والقوانين المدنية وما إلى ذلك ، فهذا لا دخل للدين فيه ؛ لأن الأمور قد تغيرت.
والبعض يقول: حتى بالنسبة للأحوال المدنية أو الأحوال الشخصية ، ويدعون أن تغير الإنسان اقتصاديا واجتماعيا يغيره أيضا نفسيا وسلوكيا ، فما دام أن هذا تغير ولا يصلح ، فكذلك لا يصلح حكم الدين في ذلك ، فينكرون حكم الله في الكل نسأل الله السلامة والعافية.
يقول: (وهذا أيضًا لا ريب أنه كفرٌ، لتفضيله أحكامَ المخلوقين التي هي محضُ زبالةِ الأذهان، وصرْفُ حُثالة الأفكار، على حُكم الحكيم الحميد )
هذا تعليل من الشيخ رحمه الله في تكفير القائل بهذا القول .
قال الشيخ عقب ذلك: (وحُكمُ اللهِ ورسولِه لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال، وتجدّد الحوادث، فإنّه ما من قضية كائنة ما كانت إلاّ وحُكمها في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصًّا أو ظاهرًا أو استنباطًا أو غير ذلك ، عَلِمَ ذلك مَن علمه وجَهِلَه مَن جهله)
حكم الله لا يتغير ، والله تبارك وتعالى قد أتمه "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا" . فقد أتم الله الكتاب صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأحكام ، وأنزله مفصلا وجعله تبيانا لكل شيء ، فهو شامل ، والحكم الذي فيه حكم معين ومحدد ، لا يختلف باختلاف الأزمان وتغير الأحوال والبيئات أبدا.
وما من قضية ولا كائنة ولا واقعة تقع إلا وحكمها في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما (نصا) : بآية تدل عليها أو حديث ، كما جاء في الآيات ؛ كآيات الدين وآيات الربا ، وكالأحكام المعروفة ؛ كالصيام والزكاة وما أشبه ذلك. وكذلك في السنة كما هو معلوم.
(أو ظاهرا) : بأن تدل عليها النصوص دلالة ظاهرة ، وتكون الدلالة على غيرها أرجح ، لأن النص هو ما لا يحتمل إلا وجها واحدا ، وأما الظاهر فيحتمل وجها آخر ؛ ولذلك يختلف العلماء وتتنوع اجتهاداتهم.
(أو استنباطا) : فإن الله قد جعل هذا الكتاب العظيم مجالا لأولي الألباب ، لأولي النهى ، لقوم يعقلون ، لقوم يتفكرون ؛ أي يتفكرون ويستنبطون ويستخرجون من هذا الذكر الحكيم والقرآن العظيم ما يقيمون به حياتهم ، فيتحاكمون إليه ، وأكثرهم فقها من وفقه الله سبحانه وتعالى فكان أكثر استنباطا وأكثر فقها وأكثر تدبرا ، فإنه يستنبط ويعلم مالا يعلمه الآخر ولكل أجره ونصيبه.
فالاستنباط وجه من وجوه الاستدلال بالكتاب والسنة ، وهذا ظاهر الآن ؛ فإن كثيرا من الأشياء التي استجدت في هذا العصر يستدل عليها علماؤنا الأجلاء بالآيات من كتاب الله سبحانه وتعالى ؛ فيستنبطون من الآية ما يفيد حكما في هذه الواقعة التي لم تقع إلا في هذا العصر وهذه الأيام ، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على العلماء وعلى الناس.
ومن فضله ومن حكمته - أيضا - أن جعل هذا الكتاب بهذه المنزلة والمكانة ، ولو جاءت عصور أخرى وتغيرت الأحوال وتجددت أيضا في أشكال أخر ، فإنه يُقيض ويُسخر من يستنبط الأحكام ويأخذها من هذا الكتاب ، ويتحاكم الناس إليها ، ويكونون فعلا سائرين على ما أنزل الله بمقتضى هذا الاستنباط الذي آتاه أرباب الفقه والفهم والفكر والتدبر.
يقول: (وليس معنى ما ذكره العلماء من تغيّر الفتوى بتغير الأحوال ما ظنّه مَن قلَّ نصيبُه أو عدم من معرفة مدارك الأحكام وعِلَلها، حيث ظنّوا أنّ معنى ذلك بحسب ما يُلائم إراداتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية وتصوّراتهم الخاطئة الوبية. ولهذا تجدُهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعة لها منقادة إليها، مهما أمكنهم فيحرفون لذلك الكَلِم عن مواضعه)
هذه قضية مهمة ، وما أشبه الليلة بالبارحة ، وكأن الشيخ رحمه الله يرد على من أثاروا في هذه الأيام مسألة تغير الفتوى ، ففي نظرهم أن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان معناه أن الدين يتجدد ويتقلب بحسب هذه الإرادات الشهوانية والأغراض البهيمية كما يشاءون ، فيغيرون الحكم ويقولون : الفتوى تتغير.
فمثلا لما ظهرت مسألة قيادة المرأة السيارة وأفتى العلماء بأنها حرام ، حينئذ قالوا : انتظروا ، تمهلوا .. الفتوى سوف تتغير ، فإذا ألف المجتمع ذلك واستأنس به ، يصبح أمرا عاديا وسوف يأتي علماء أو نفس العلماء ويفتون بأن ذلك حلال مثلما أفتوا في أول الأمر أن تعليم البنات حرام - مع العلم أنه لم يفت أحد بهذا ولكن هكذا يقولون - ولما انتشر التعليم بعد ذلك وانتشرت الحاجة إليه ، فإذا بهؤلاء الذين كانوا يقولون حرام يتسابقون لإيفاد بناتهم إلى الدراسات العليا.
وهذا الذي قالوه له نصيب من الحق ، ولكن ليس لأن الفتوى تتغير ، لكن لأن الناس تغيروا ، ونحن يجب علينا أن نرد تغير الناس إلى الحق الذي لا يتغير . فالناس كانوا يكرهون الكفار، ولم يكن أحد منهم يصافحهم ، كان الكافر إذا دخل جزيرة العرب إما أن يدّعي أنه حاج من إحدى الدول الإسلامية - كما فعل بعضهم - وإما أن يتبين أمره فيقتل ، فكان لا يستطيع أن يذهب إلى اليمن ولا إلى الحجاز ولا إلى نجد إلا بهذه المنزلة . أما الآن فمنهم السائق والخادم ومدير الأعمال والمهندس والمستشار والخبير..إلخ.
فهل تغيرت الفتوى أو نحن الذين تغيرنا ؟ نحن تغيرنا، أما حكم الله عز وجل فلم يتغير ، فحكم الله : إنهم نجس ، ولا يجوز أن يقربوا المسجد الحرام ، وإنه لا يجتمع في جزيرة العرب دينان . هذا حكم مطلق قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، وأوصى به في مرض موته وهو في النزع الأخير صلوات الله وسلامه عليه قبيل التحاقه بالرفيق الأعلى ، فلا يمكن أن يتغير ، ولا يمكن أن ينسخ ، لكن نحن الذين تغيرنا.
والفتوى لم تتغير ، وإنما الشهوات وحب الدنيا وإيثار هذه الدار الفانية على ما أعد الله سبحانه وتعالى في الدار الباقية ، هذا هو سبب ضعف الإيمان ، وضعف الموالاة والمعاداة ، وضعف الولاء والبراء . فأصبح الناس يقدمون حب الشهوات على أمر الله ، وعلى حكم الله ورسوله ، ولذلك هذا لا حجة فيه ، إنما الحجة في الدين نفسه.
وحكم الله سبحانه وتعالى ثابت ، والأحكام الشرعية مبنية على مقاصد وعلى علل وعلى مصالح ثابتة لا تتغير مهما تغير الزمان والمكان ، ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى بين لنا أن الكافرين كانوا لنا عدوا مبينا "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا" ، "ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم" ، "ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم" إلى آخر ما ذكر الله سبحانه وتعالى في هؤلاء . فهذه الأحكام وهذه الآيات تنص على مقاصد شرعية وحكم وعلل ثابتة لا تتغير أبدا ، فالكافر هو الكافر ونظرته لك هي هذه لا تتغير أبدا ، فإذن لا يجوز لك أن تغير موقفك منه.
وكل الأحكام جعلها الله سبحانه وتعالى محققة لمصالح ونافية لمفاسد ، والمصالح والمفاسد والخير والشر ثابت لا يتغير . أما مسألة الضرورات أو ما يباح وقت الضرورة فهذا شيء آخر ، فهناك أمور تدخلها الضرورة ، وهناك أمور لا تدخلها الضرورة - كما بيّن ابن القيم رحمه الله - فمثلا كون الميتة تباح أو شرب الخمر أو ما أشبه ذلك ، كما قال تعالى :"فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه" فهذا يدخل في بعض الأحكام ، أما مسألة الإيمان والكفر والموالاة بالقلب فلا اضطرار في ذلك أبدا وإنما نص الله سبحانه وتعالى وعفا عن أمر واحد فقط في حال الاضطرار ، وهو أن يقول الإنسان بلسانه "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" فالقلب لا ضرورة فيه ، ولا يستطيع أحد كائنا من كان أن يبحث أو أن يفتش عن قلبك أو أن يعلم ما في داخله ، أما اللسان فيسمعونه ، فلهذا يجوز للإنسان إذا اضطر في حالة التعذيب الشديد - كما وقع لبعض الصحابة رضوان الله عليهم في أول الإسلام - أن يقول كلمة الكفر بلسانه ليوافقهم بها فقط . وكذلك إن اضطر المسلم فله أن يعرّض بلسانه ، ولكنه في قلبه يعتقد الحق ويؤمن به ولا يتزحزح عنه ، كما ذكر الله سبحانه وتعالى :"إلا أن تتقوا منهم تقاة" .
فالفتوى تتغير - كما يقولون - لكن الأحكام لا تتغير ، والنصوص لا تتغير ، ومقاصد الشارع لا تتغير والحِكَم التي جعلها الله سبحانه وتعالى مناطا للأحكام لا تتغير ، ولذلك إذا تغيرت الفتوى - كما في حالات الضرورة - فإننا نجد أن هناك مناط ، هناك حكمة ، هناك علة ، هناك مصلحة شرعية مقصودة.
فمثلا لما حرّم الله تبارك وتعالى علينا الميتة حرمها لحكم ومصلحة مقصودة من ذلك . فإذا أباحها للمضطر فإن الحكم والمصالح لم تتغير بل هي موجودة وهي حفظ النفس . فإذا وصل الحال للإنسان إما أن يموت ، وإما أن يأكل من الميتة ، فله حينئذ أن يأكل ، فالمصالح موجودة ثابتة ، وفي هذا الموضوع المصلحة أعظم وأظهر في حفظ نفسه ، منها في أنه يترك ما حرم الله سبحانه وتعالى من الميتة لما فيه من الضرر في دينه ودنياه ، فهنا نقدم مصلحة على مصلحة .
إذن المصالح باقية ، والحكم باقية ، والنصوص باقية ، وكذلك الأحكام باقية ، وإنما تتغير بحسب الأحوال فتكون فقط مصلحة أهم أو أعظم من مصلحة . أما إذا خضع الأمر لأهواء الناس أو لآرائهم أو لشهواتهم أو لنمو المجتمع ومسايرة المجتمعات الحديثة والمجتمعات الملحدة والكافرة ، فإن ذلك خروج عن هذه الحكم والمصالح جميعا ، ولذلك لا حجة فيه.
ولا يجوز إذن أن يدعي أحد أن الفتوى تتغير ، ويقول ما علينا إلا أن نبث الفساد في هذا المجتمع وننشره ، فإذا انتشر بينهم ، فإنهم سوف يتقبلون إباحته ، فننتظر مثلا عشرين سنة ، وبعد ذلك لو عرضنا الموضوع لكان الأكثر موافقين ؛ إذن نجتهد ونعمل في نشر هذا الفساد ، ثم بعد ذلك يوافقون.
إذن المناط في نظرهم هو رغبة الناس وأهوائهم . بينما نحن نقول : المسألة مرتبطة بأصول وبأحكام شرعية قطعية ثابتة لا تتغير ، كما ذكر الشيخ رحمه الله.
يقول الشيخ : (فيحرفون لذلك الكَلِم عن مواضعه)
ما أكثر ما يقع من تحريف الكلم عن مواضعه والاستدلال بالآيات في غير موضعها. فمثلا يوردون قوله تعالى :"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" ، وقوله :"من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة" ، وقوله :"أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى" ثم يقولون : كل الآيات تدل على أن الذكر والأنثى سواء ، فلماذا يختلف الحال في الميراث؟ ولماذا نجعل المرأة تعمل في البيت والرجل لا يعمل مع أن الله تعالى - كما قال في الآيات - جعلهما سواء ، وجعل لها حقا؟
فهم يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويستدلون بالآيات في غير ما أنزلها الله سبحانه وتعالى ، وفي غير موضعها التي شرعت فيه ، فنعم هذه الآية حق ، وهذه الآية أيضا حق ، فالذي قال لها هذه هو الذي قال :"وقَرنَ في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" فعلم من ذلك أن هذه الآيات ليست فيما نزلت فيه هذه الآية ، وأن هذه لها حكم ومناط شرعي ، وهذه لها حكم ومناط شرعي، لكل منهما مناطه الشرعي، ولا تعارض بينهما أبدا.
يقول: (وحينئذٍ معنى تغيُّر الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مراد العلماء منه: ما كان مُستصحبة فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جِنْسُها مرادٌ لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم)
مثال المصلحة في هذا الزمن أن يكثر في الناس مثلا شرب الخمر أكثر من ذي قبل ، فقيل : إنه مادام ذلك قد وقع فلنجعل عقوبة السائق إذا خالف أو عمل حادثا وهو سكران ضعف ما إذا كان غير سكران في العقوبة المعروفة العادية في النظام أو الحق ، ليكون زجرا له عن ذلك . فالمصلحة هنا أن ينزجر الناس عما حرم الله ؛ فلنا إذن أن نراعيها.
مثال المصلحة أيضا أن نعزر تعزيرا بالغا من يكتب مقالة فيها الدعارة والخلاعة والفساد التي ترغب في الزنا، فلا مانع أن نعزره بأن يسجن شهرا أو شهرين ولا مانع لو رأينا أن يزاد على ذلك مائة جلدة - مثلا - توزع على خمسة أسابيع أو كذا ، فكل ذلك وارد ، والمصلحة جنسها مراد لله ، وهي حفظ المجتمع وصيانته وطهارته ، لئلا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
ويجوز لنا أن نجتهد وأن نحدث ما يمنع ويردع الإخلال بهذه المصلحة من أحكام أو من عقوبات ، ما دام في ضمن التعزير الشرعي والضوابط الشرعية ، وهكذا .. وهذه هي الفتوى التي يمكن أن نقول عنها: تغيرت لأن الناس تغيروا ، كما قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه : يجِدّ للناس من الأقضية مثل ما يُجِدّون من القضايا.
ومثال المصلحة كذلك ما رأيناه قبل سنوات الطفرة الأخيرة والترف الباذخ الكاذب الذي عشنا فيه ، فكانت الدية خمسين ألفا، ثم بعد ذلك صارت ثمانين أو مائة وعشرين لأن قيمة النقد تغيرت ، فالأصل في ذلك مثلا هو الإبل ، والإبل نفسها زادت قيمتها ، فعندما تغيرت تغيرت الفتوى ، والمصلحة مراعاة ، وهي أن يكون ما يُدفع نظير ما شرعه الله سبحانه وتعالى.
وهكذا ما دامت المصلحة والعلة والحكمة مراعاة ، فإن تغيير الفتوى جائز ، بل قد يكون ضروريا ، بل يظهر في ذلك حكمة عظيمة من حكم التشريع ، وهو أن الله سبحانه وتعالى قد جعل هذا الكتاب محكما وجعل أحكامه محكمة ، فتحقيق المصلحة في أي حال كانت ، وفي أي ظرف كانت ، وفي أي زمان ومكان ؛ ولهذا قال العلماء: إن من القواعد الأصولية "حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله" وليس معنى هذا أن يأتي واحد فيقول : مصلحة الناس في أن يأكلوا الربا. نقول : لا، فما نص الشرع على تحريمه فهو مفسدة لا مصلحة فيه بأي حال من الأحوال . لكن في الأمور المتغيرة المتجددة الحادثة حيث ما كانت المصلحة فثم شرع الله ، وعلينا أن نجتهد ، وأفقه الناس في ذلك أكثرهم وأوسعهم اجتهادا.
يقول الشيخ : (ومن المعلوم أنّ أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وأنهم لا يقولون إلاّ على ما يلائم مراداتهم، كائنة ما كانت، والواقع أصدقُ شاهدٍ)
أهل القوانين الوضعية لا ينظرون إلى مسألة المصالح الشرعية والعلل المرعية ، إنما ينظرون إلى أهوائهم وشهواتهم.
وبهذا ينتهي الحديث في النوع الثاني من أنواع كفر الاعتقاد المخرج من الملة.
يقول: (النوع الثالث: أنْ لا يعتقد كونَه أحسن من حُكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله)
أي يرى أنهما سواء ، فيقول هذا طيب وهذا طيب ، كما قال التتار رجلان عظيمان: محمد وجنكيزخان ، وكما يقول بعض الناس اليوم : وفي أحكام الشريعة الإسلامية وفي القوانين الوضعية النفع وكذا وكذا.. ، كما يقول بعض الناس: ينبغي للناس أن يتبعوا هذه الأحكام التي جاءت بها الشريعة الإسلامية وكذلك ما ورد في القوانين الوضعية . وكأن الأمر سواء نسأل الله السلامة والعافية.
فيقول: (فهذا كالنوعين اللذين قبله، في كونه كافرًا الكفرَ الناقل عن الملّة)
من اعتقد أن حكم غير الله ورسوله مساويا لحكم الله ورسوله فإنه يكون كمن سبقه ، أي كمن فضل الوضعي على المنزّل أو كمن جحد أحقية الحكم المنزل.
يقول الشيخ: (كافرًا الكفرَ الناقل عن الملّة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق)
فهو كافر الكفر الناقل من الملة ؛ لأنه سوى بين الخالق والمخلوق ، فقال: حكم هذا مثل حكم هذا ، وذلك كما يقول أهل النار نعوذ بالله منها :"تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين" فهم في ضلال مبين ، لماذا؟ لأنهم سوّوهم برب العالمين في التعظيم والمحبة والإجلال واتباع أمرهم وتقدير كلامهم ، وهذا هو العدل الذي قال الله تبارك وتعالى فيه :"الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون" ، فالعدل هو التسوية في المحبة والإجلال ، كما قال تعالى :"ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله" .
فلا يشترط إذن أن يسووا بينهم في الخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير . بل كان الجاهليون يعتقدون أن الخلق والرزق والإحياء وتدبير الأمر وإنزال المطر من فعل الله وحده لا شريك له ، قال تعالى :"ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم" ، وفي الآية الأخرى :"ليقولن الله" إذن لم تكن القضية عندهم في الخلق ، إنما كانت في الإجلال والتعظيم والتوقير ، فمن قال : إن كلام الله وحكم الله تعالى مثل حكم ذلك القانون الوضعي الخبيث أو مثله أو نظيره ، فإنه يكون كافرا كفرا ينقل عن الملة لأنه سوى بين الخالق والمخلوق.
يقول: (لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق والمناقضة والمعاندة لقوله عزّ وجلّ: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء" ونحوها من الآيات الكريمة الدالّة على تفرُّدِ الربّ بالكمال، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين في الذات والصفات والأفعال والحُكم بين الناس فيما يتنازعون فيه)
هذا الكلام يذكرنا بكلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله حيث يقول : ما صفات من يستحق أن يكون هو الذي يحكم بين الناس "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السموات والأرض" وفي الآية الأخرى :"لقوم يوقنون" وآيات كثيرة لا نحتاج إعادتها. فمن كانت هذه صفته فهو وحده الذي يُتحاكم إليه ، فإذا قال أحد حكم الله وحكم غير الله سواء ، فمعنى ذلك أنه خلع تلك الصفات التي تفرد الله سبحانه وتعالى بها على ذلك المخلوق الذي لا يمكن أن تكون فيه هذه الصفات.
ولهذا قلنا: لكي تتضح أهمية هذا الأمر وعلاقته بالتوحيد وبصفات الله سبحانه وتعالى ننقل ما ذكره الشيخ الأمين رحمه الله ، وأشار أيضا الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله إلى ذلك ، ودائما نقول : أهل السنة ينهلون من منهل واحد ، ويغترفون من معين واحد ، فمهما اختلفت عصورهم أو ألفاظهم أو اجتهاداتهم فإن هناك تشابها واتفاقا فيما يذهبون إليه من الأحكام والآراء.
يقول : (الرابع: أنْ لا يعتقد كون حُكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله، فضلاً عن أنْ يعتقدَ كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحُكم بما يخالف حُكم الله ورسوله، فهذا كالذي قبله يصدُقُ عليه ما يصدق عليه، لاعتقاده جوازَ ما علم بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه)
فهذا حال كثير من الناس ، فيقولون: نحن لا نقول: حكم القوانين مثل حكم الله ، فالإسلام أفضل ، والإسلام فوق كل القيم ، وأحكام الشريعة فوق كل الأحكام ، لكن يجوز أن نتحاكم للقوانين الوضعية.
ويتعلل لقوله هذا بعلل إما من الظروف الحالية ، وإما من أجل ألا يغضب علينا الغرب ..إلخ . وهذه دعوى قديمة ، فكلما دعيت دولة للحكم بما أنزل الله قالوا: لو فعلنا لغضب منا الغرب ، ولحرمنا البنك الدولي للإنشاء والتعمير القروض ، ولقالت إسرائيل: أصبحوا متطرفين ، إلى غير ذلك من العلل.
فالذي يقول: يجوز لنا أن نحكم بغير ما أنزل الله في حالات مستثناة ، ويتعلل بأي علة ، مع اعتقاده أن حكم الله هو الأفضل وأنه حق ، وأن لا يساويه ولا يدانيه أي حكم ، وهو العدل ، وهو القسط ، لكن يجوز أن يتحاكم إلى غيره ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍فهذا أيضا نوع من أنواع الكفر الأكبر الناقل عن الملة نسأل الله السلامة والعافية.
وكثير من الناس لا يأبهون ولا يتنبهون لهذا. ولو أن المسلمين عرفوا حقيقة العقيدة ، وحقيقة التوحيد ، وحقيقة تعظيم كتاب الله ، وتعظيم شعائر الله ، وتعظيم حرمات الله ، وكان فيهم غيرة على دين الله لأصبح حالهم اليوم غير هذا الحال ولما أصبحوا - كما هو واقع مع الأسف الآن - يُخدعون بمجرد أن حاكما أو قانونيا أو محاميا يقول: لا ، الشريعة أفضل من القانون ، قالوا هذا رجل طيب ، وهذا مسلم ، وهذا فيه خير. وهذا هو الفرق بين من يعرف حقيقة هذا الدين وبين من لا يعرفها إلا لما يقيس على مجرد الأحوال.
يقول: (الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقّة لله ورسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعدادا وإمدادا وإرصادا وتأصيلا، وتفريعا وتشكيلا وتنويعا وحكما وإلزاما، ومراجع ومستندات. فكما أنّ للمحاكم الشرعية مراجعَ مستمدّات، مرجعها كلُّها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فلهذه المحاكم مراجعٌ هي: القانون المُلفّق من شرائعَ شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك)
هذا النوع الخامس هو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه ؛ لأن الأنواع الأولى قد تفعل على سبيل الاعتقاد ، أو فرديا ؛ يعتقد فرد في نفسه أن الحكم بغير ما أنزل الله جائز ، فهذا يكفر في نفسه. لكن النوع الخامس أعظم وأشد ضررا وخطرا ، لأنه عام للأمة ؛ وهو أن يأتي أحد فيفتح المحاكم غير الشرعية ، ويقيمها في البلاد طولا وعرضا ، ويجعل لها أنواعا وتفريعات ومراجع واستمدادات .. إلى آخر ما ذكر الشيخ رحمه الله ، ويلزم الناس بالتحاكم إليها والرجوع إليها عند التنازع وألا يرجعوا إلى سواها.
فهذا أكبر وأعظم وأشد في جحد ما أنزل الله تبارك وتعالى وإنكاره ، وعدم الإقرار به ، وإن قالوا بألسنتهم : إنا نقر به ، وذلك لأن المقصود أمر واقعي عملي ، فهو إلزام للأمة به وإجبار لها عليه ، وفي ذلك - كما ذكر الشيخ - معاندة للشرع حيث يفرض حكم غير حكم الله تبارك وتعالى على الناس ، وفيه مكابرة لأحكامه ومشاقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم كأن يُتخذ شرع غير ما أنزل الله ، وأن يتخذ سبيل غير سبيل المؤمنين . وهذه أيضا من العلامات أنه كفر أكبر . ومن دلائل ذلك أن في بناء هذه المحاكم وفتحها وتفريعها مضاهاة بالمحاكم الشرعية التي لا يجوز أن ينتشر غيرها ، فهي التي تنتشر في البلاد وفي القرى وفي المدن ، ويكون لها الفروع والسجلات والمراجع والمصادر وكل شيء ، أما أن يكون ذلك لمحاكم أخرى ولأحكام أخرى فهذا فيه مضاهاة لشرع الله ، وللمحاكم الشرعية التي تحكم بما أنزل الله إعدادا وإمدادا وإرصادا وتأصيلا وتفريعا وتشكيلا وتنويعا وحكما وإلزاما ومراجع ومستندات.
أي إن هذه المحاكم القانونية وضعت ورتبت كما لو كانت محاكم شرعية من حيث المراجع والمصادر والإمداد والسجلات والأنواع وهذا شيء عجيب جدا.فنجد في معظم بلاد العالم الإسلامي الآن هذه المحاكم ، محاكم ابتدائية - كما يسمونها- ثم محاكم النقض ، وهي المحاكم الاستئنافية التي تستأنف عندها الأحكام وتنقض أحكام المحاكم التي دونها ، وهناك فوق ذلك أيضا المحكمة العليا ، أو المحكمة الدستورية ، أو المجلس الأعلى للقضاء - طبعا القضاء غير الشرعي - هناك محاكم إدارية ، ومحاكم تجارية ، ومحاكم مدنية ، ومحاكم جزائية ، ومحاكم عمالية - كما ذكر الشيخ - ولها مصادر ومراجع.
وفي المحكمة الشرعية يرجع القاضي إلى أحكام الله سبحانه وتعالى من القرآن والسنة وما قاله العلماء في كتب الفقه المعروفة ، أما هؤلاء فإنهم يرجعون إلى أصول القانونيين التي استمدت منها القوانين . فيقول أحدهم : قد رجعنا إلى ما قاله الفقيه فلان - ويسمون أصحابهم فقهاء أيضا - وما قاله القانوني فلان وفلان ، ورجعنا إلى أصل هذه المادة في القانون الفرنسي ووجدنا فيها كذا ، ووجدنا كذا ، وبناء عليه حكمنا بكذا فيرجعون رجوعا صريحا واضحا إلى ذلك.
بل إن الأمر تجاوز هذا ، وهو امتداد طبيعي له في الحقيقة ، وهو أن المعصية دائما إذا استمرت فإنها دائما تنتشر وتمتد . فأول ما أنشئت محاكم ، تلا ذلك إنشاء القوانين (الكليات القانونية) ، وبدأت بفروع وأقسام صغيرة ، ثم في النهاية أصبحت قوانين ، فأصبح هناك كليات مستقلة للقوانين من الدراسات ما بعد الثانوية إلى الدكتوراه ، ويدرسها الطالب ، ولها أساتذة متخصصون ، ولها مراجع ، ولها استمدادات ، ولها كذا .. ثم بعد ذلك يتخرج الطالب من الكلية التي يسمونها "كلية الحقوق" أو "كلية القانون" ، ويتعين في درجة دنيا من درجات السلم القضائي ، ثم يرتفع ويرتفع حتى يصبح في المحكمة العليا أو رئيسا للمحكمة العليا ، وهو المنصب الأعلى في تلك البلاد التي تحكم بغير ما أنزل الله نسأل الله العفو والعافية.
هذا فيه - كما ذكر الشيخ - مكابرة ومعاندة ومشاقة ومضاهاة لحكم الله وللمحاكم الشرعية ، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستمدات ؛ مراجعها كلها إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلهذه المحاكم مراجع أيضا ، وهي القانون الملفق من شرائع شتى وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني.
وقد سبق أن بيّنا أن أكثر القوانين في العالم الغربي وغيره من الدول الإسلامية تستمد من القانون الفرنسي وأشباهه ؛ لأنها قوانين تقوم على التقنين فكل شيء يضعون له قانونا مشتملا على قانون أو مواد بحسبه ، وكل حكم أو كل جانب كذلك ؛ فمثلا الجانب المدني ، الجانب التجاري ، الجانب الجزائي ، الجانب المالي ..إلخ يضعون له مواد مقننة ثم تفرض على الناس فيتحاكمون إليها ويرجعون إليها .. المادة كذا ..المادة كذا .. المادة كذا ..إلخ ، ويسمونه التقنين ، وهو التشريع المكتوب الذي يفصّل في مواد قانونية.
أما القانون الأمريكي أو الإنجليزي - الأمريكان تبع للإنجليز في هذا - فهو لا يقوم على الكتابة القانونية المفصلة ، أي إن الحكم عندهم يعتمد على نظام السوابق ؛ العرف القضائي ، ثم ما تعارفت عليه المحكمة ، ولذلك إذا جاءت قضية ينظرون هل سبق أن حكمت المحكمة ولو قبل ثلاثين أو أربعين سنة أو أكثر في مثل هذه القضية ، فإن وجدوا لها سابقة حكموا مثل ما حكم من قبلهم ، فإن لم يجدوا لها سابقة أو نظاما معينا يجتمعون ويقررون ، ثم يصبح هذا الحكم سابقة ويبنى عليها أو يقاس عليها في المستقبل.
ولذلك أكثر القوانين في الدول العربية هي في الحقيقة مأخوذة من القانون الفرنسي وما نحا نحوه ، كالقانون السويسري والقانون النمساوي وأشباهها. أما القانون الأمريكي والإنجليزي فهي ليست قوانين ، حتى في أمريكا غالبا ليس المعمول به قوانين مكونة من مواد ، وإنما المعمول به أعراف أو قرارات يتلو بعضها بعضا في أكثر الولايات ، وفي أكثر الأنظمة ، وهناك أنظمة مأخوذ فيها شيء من التشريع أو التقنين كما يسمونه.
يقول : (ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك)
أيضا قد يخلطون مع القوانين الوضعية الأخذ من مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة . فقد ينتسب بعض الناس إلى الشريعة ، ويأتي ببدع في الأحكام ، وهذا مع الأسف هو النموذج الذي يراد له الآن أن يظهر وينتشر في العالم الإسلامي ، مثل بدعة "الإسلام العصري" ، هذه البدعة الخطيرة مؤداها أن الإسلام يُحوّر لمصلحة العصر ، أو نضفي عليه ثوب العصر ، أو يطور ليلائم العصر ، أو ما أشبه ذلك من العبارات . وهذه الدعوى الخبيثة لا تنكر نفس النص القرآني ، أي إن القرآن كما هو مكتوب لكنها تفقده قيمته ، وتفقده معناه بما يحوره ليوافق - كما يزعمون - روح العصر والحياة والحضارة الحالية الآن.
فهم ليسوا دعاة بالضرورة إلى تحكيم القوانين الوضعية مباشرة ، لكن يقولون : الفتوى تتغير بتغير الأحوال والأزمان ، والحدود ممكن أن توقف في بعض الأحيان ، وبعض الأمور لا بد من تعديلها وإعادة النظر فيها ، وبعض القضايا لا بد أن نرجع فيها إلى أقوال معينة ولا نلتزم بأقوال ، حتى قالوا : لو وجدنا ما يوافق العصر في أحد الأقوال للزيدية أو للهادوية أو للجعفرية الروافض أو للظاهرية أو في أي مذهب لأخذنا به.
أما أن نلتزم أن نأخذ برأي الجمهور أو بالمجمع عليه ، ونترك ما شذ عن هذا الإجماع ، فهذا فيه تضييع بزعمهم لأنه ربما يكون الإجماع قائما على شيء لا يوافق العصر ، ولا يتماشى مع روح الحياة الحديثة ، ويمكن أن يكون القول الشاذ أو المرجوح أو الذي قالت به إحدى الطوائف أو أحد المجتهدين في عصور التاريخ الطويلة هو الأفضل.
مثلا يأخذون عن الطوفي ، والطوفي هذا غريب جدا ؛ لأنه كان حنبليا من الحنابلة وفي نفس الوقت كان أشعريا وكان يترفض ويتشيع .كيف يجتمع ذلك؟ فكان مما أحدثه هذا الطوفي - وهي سابقة لا نظير لها في تاريخ الفقه الإسلامي والفكر الإسلامي - القول بأن المصلحة تقدم على النص.‍‍‍
ونحن نعلم أن ما خالف النص فهو مفسدة ، لكنه يقول إذا كان هناك مصلحة نقدمها على الدليل الشرعي ، فجاء المعاصرون والعصريون وفرحوا بهذا ، وجعلوا منه قاعدة ، بل أصول فقه عظيمة طويلة عريضة تقوم على أن المصلحة فيما يرون هم أنه مصلحة، ويجوز أن نخالف النص باعتبار هذه المصلحة، وهكذا..
يحسن ويحلو للقانونيين أن يأخذوا من هؤلاء البدعيين المنتسبين إلى الشريعة ؛ لأنهم في الحقيقة لا يختلفون كثيرا عن أصحاب القوانين الوضعية ، والمقصود واحد من الجميع وهو الذي ذكره الله تبارك وتعالى في الأصل عن المنافقين :"إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا" ، فهم يريدون أن يوفقوا بين هذا الدين وبين لوازم الحياة أو متطلبات الحياة الحديثة ، فيبقى الدين نصوصا مكتوبة يقرؤها الناس ويتعبدون بها ويتبركون بها ، ولكن في الواقع يؤول ويحرّف الكلم عن مواضعه ، ويُحرّف من بعد مواضعه ، وتصرف الأحكام فمنها ما يلغى ، ومنها ما يُلوى عنقه ، ومنها ما يغير عن حقيقته ..إلخ ، لتوافق أهواء أولئك الذين يريدون التوفيق بين الدين وبين الحياة كما يزعمون.
يقول الشيخ رحمه الله : (فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيّأة مكملة، مفتوحةُ الأبواب، والناس إليها أسرابٌ إثْر أسراب)
فهم لا يجدون مكانا يتحاكمون فيه إلا هذه المحاكم بمختلف أسمائها وأنواعها وأشكالها.
يقول : (يحكُمُ حُكّامُها بينهم بما يخالف حُكم السُنّة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، وتُلزمهم به)
تلزم السلطة التنفيذية - أي الدولة من رئيس الوزراء وما يتعلق به إلخ - الناسَ بأحكام هذه المحاكم.
يقول رحمه الله : (وتُقِرُّهم عليه، وتُحتِّمُه عليهم.. فأيُّ كُفر فوق هذا الكفر، وأيُّ مناقضة للشهادة بأنّ محمدًا رسولُ اللهِ بعد هذه المناقضة)
أي كفر فوق هذا الكفر ، وإن زعم أصحابه أنهم مسلمون ، وإن صلوا وصاموا وحجوا البيت ، ولكنهم يتحاكمون إلى هذه القوانين ، ويلزمون بها ويحتمونها على الأمة ، ويعرضون عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويجعلونها وراء ظهورهم.
فلا كفر أشد من هذا ، حتى وإن قالوا : كتاب الله خير وحق ولكنهم ألقوه وراء ظهره ، ويتحاكمون ويحاكمون ويلزمون الناس بهذه القوانين الملفقة.
ففاعل هذا لا يمكن أن يكون أبدا مؤمنا ، ومثله كمثل أحبار أهل الكتاب الذين كانوا يقولون : إن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق ، وإنه رسول ، وإنه كذا ، لكنهم لا يؤمنون به ولا يتبعونه ولا يطبقون سنته . فهؤلاء لا يُعدّون مسلمين وكذلك هؤلاء وإن قالوا بألسنتهم : إنهم مسلمون ، فما داموا لا يحكمون بما أنزل الله فمن أين جاءهم وصف الإسلام وهم بهذا الحال وبهذه المناقضة لشهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ : (وذِكْرُ أدلّة جميع ما قدّمنا على وجه البسْطِ معلومةٌ معروفة، لا يحتمل ذكرها هذا الموضوع)
الأدلة على أن هذا كفر أكبر مخرج من الملة معلومة معروفة ، وقد سبق ذكر بعضها والحمد لله.
يقول: (فيا معشر العُقلاء! ويا جماعات الأذكياء وأولي النُهى! كيف ترضون أنْ تجري عليكم أحكامُ أمثالكم، وأفكارُ أشباهكم، أو مَن هم دونكم، مِمّن يجوز عليهم الخطأ بل خطأهم أكثرُ من صوابهم بكثير، بل لا صواب في حُكمهم إلاّ ما هو مُستمدٌّ من حُكم اللهِ ورسولهِ، نصًّا أو استنباطًا)
وهذا هو الواقع ، كيف يرضى الناس أن يؤلهوا هؤلاء؟! فهم بشر مثلهم أو أقل منهم ، ولا خير في أحكامهم ولا صواب فيها ولو عرضت واحدا واحدا إلا ما كان منها موافقا الكتاب والسنة إما عمدا أو دون أن يقصدوا ذلك.
يقول: (تَدَعونهم يحكمون في أنفسكم ودمائكم وأبشاركم، وأعراضكم وفي أهاليكم من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم وسائر حقوقكم ! ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحُكم الله ورسوله، الذي لا يتطرّق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)
هنا يخاطب الشيخ رحمه الله العلماء والعقلاء والأمة عامة التي فُرضت عليها هذه الأحكام ، فيستنكر عليهم رضاهم بها ، ولو أن الناس أنكروا لغُيرت هذه المحاكم وهذه الأحكام لكنهم استمرءوا ذلك وسكتوا وأخلدوا إليه وأصبحوا يرونه كأنه أمرعادي.
يقول : كيف تقبلون ذلك وأنتم مسلمون مؤمنون ، وأنتم عقلاء؟ كيف ترضون أن تُحكّم هذه القوانين الوضعية في أموالكم ودمائكم وأعراضكم وحقوقكم جميعا وأهليكم وذراريكم؟ كيف يكون ذلك؟!
ولهذا لما تأثر بعض العلماء وبعض الدعاة بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله - جد الشيخ محمد بن إبراهيم - وأعلنوا ضرورة الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى وأن يكون التحاكم إلى شرع الله وحده ، حينئذ قامت القائمة عليهم في كل البلاد ، وحوربوا وخاصة من قِبَل اليهود والنصارى الذين يعلمون أن في تحاكم الأمة إلى قوانينهم تبعية لهم.
لا شك أن أي أمة تحكم بقانون أمة أخرى تكون تابعة لها في أعرافها وأوضاعها وأحوالها وفي سائر أمورها. وإلا لو قال قائل من هؤلاء: أنا أحرم الزنا - ولا شك أن كل مسلم يحرم الزنا - لكن قال: نتحاكم إلى القانون الفرنسي في أحكام الزنا، نجد أن القانون الفرنسي يقول إن المرأة إذا زنا بها الرجل وكان عمرها فوق سن الثامنة عشرة ، وفي بعض القوانين السابعة عشرة ، وبعضها يجعلها العشرين ، المهم إذا كانت بالغة ورشيدة ، وكان الزنا على سبيل التراضي ، ولم تكن متزوجة فلا شيء عليها أبدا.
إذن قد يقول القائل: إنه يعتقد أن الزنا حرام ، لكن في الواقع لا يقام أي حكم ولا عقوبة ، في حين أن خلوة الرجل بالمرأة شرعا يجب فيها تعزير ، ولو بالتوبيخ بحسب الحال والمقام ، وقد يصل التعزير إلى السجن وإلى الجلد ..إلخ ، لأنه ارتكب أمرا محرما أما هم فيرون أن الفاحشة نفسها لا شيء فيها.
إذن ما معنى أن هذا الإنسان يقول: نحن مسلمون ، ويقول: الزنا حرام ، والواقع أن هذا الزنا مقر بحكم القانون ؟! لذلك علم الكفار أن من يقر قوانينهم ومن يأخذها فإنه تابع لهم. إذن الأمة التي تربت على هذا القانون ستصبح في النهاية أمة إباحية كالأمة الفرنسية نفسها ، لأنها تحتكم إلى نفس القانون الذي تحتكم إليه الأمة الفرنسية أو غيرها من الأمم وهكذا.
ولذلك أعداء الله سبحانه وتعالى حريصون أشد الحرص على الوقوف في وجه كل داعية يدعو الناس في أي بلد من البلاد إلى الاحتكام الكامل والكلي إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأن ذلك يخالف تمام المخالفة ما يريدون هم من نشر الفاحشة والرذيلة وإبقاء التبعية وفرض العبودية على هذه الأمة لتظل تعيش في ركاب الأمم النصرانية الغربية.
وهذا يعني أن الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله يستثير ويستنفر الهمم لتقف في وجه هذا التيار الخبيث الذي يريد أن يجعل هذه الأمة تابعا ذليلا لتلك الأمم في هذا الكفر وفي هذا الشرك الأكبر والعياذ بالله.
يقول الشيخ: (وخُضوع الناس ورضوخهم لحكم ربِّهم خضوعٌ ورضوخٌ لِحُكم مَنْ خلقهم تعالى ليعبدوه)
يقول الشيخ : معنى أنكم مؤمنون وأنكم تعبدون الله وأنكم مسلمون أن ترضخوا لأحكام الله سبحانه وتعالى وأن تنقادوا لها وحدها ، وإلا فكيف تقولون: لا نعبد إلا إياه ولا نسجد إلا له ثم تتحاكمون إلى غير شرعه. هذا لا يمكن وهذا هو الشرك ، الله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في القرآن ، فقد ذكر سبحانه وتعالى من صفات أهل الكتاب الذين أوجب الله تبارك وتعالى على المؤمنين جهادهم وضرب الجزية عليهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، أنهم "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله" .
فأهل الكتاب اتخذوا الأحبار والرهبان أربابا من دون الله ؛ أي إنهم اتخذوا الشرائع المنسوخة قوانين يحتكمون إليها ، أما هؤلاء فيتحاكمون إلى الشرائع والقوانين الوضعية ، فأيهم أشد ؟! فلو قال إنسان: نحن نريد أن نتحاكم إلى التوراة في بلد ما من بلاد المسلمين هذا الرجل كافر مرتد لأنه يريد أن يحكم بشريعة منسوخة والله سبحانه وتعالى قد نسخها ، وقد أنزل هذا الكتاب الحكيم مهيمنا عليها وناسخا لها جميعا.
فالذي يريد أن يتحاكم إلى التوراة كافر مرتد ، مع أن التوراة كتاب أنزل من عند الله وفيها ما حُرّف وفيها أيضا ما لم يحرف وخاصة في الأحكام ، فتحريف اليهود والنصارى أكثر ما جاء في جانب العقائد أما الأحكام فالتحريف فيها أقل فالربا عندهم حرام لكن - كما ذكرنا - اليهود حرفوه قالوا: لا ترابي بمال أخيك أما عند النصارى فالربا عندهم حرام ، والغش حرام عند اليهود والنصارى وبعض البيوع المحرمة في الإسلام كبيع الغرر محرمة كذلك عند اليهود والنصارى ، والفواحش محرمة ما ظهر منها وما بطن سواء كانت زنا أو لواطا أو ما أشبه ذلك.
إذن حكم التوراة أخف ضررا من أن يكون الحكم إلى شرائع وضعية ، وضعها بشر من عند أنفسهم مثل نابليون وأمثاله ؛ فهم لا يرون أن الفواحش فواحش ، ولا يرون أن الربا ربا ، ولا يرون أن البيوع المحرمة محرمة ولا شيء من ذلك.
ورغم ذلك ، ومع الأسف الشديد المسلمون اليوم في غفلة عظيمة عن هذا الجانب من جوانب الشرك ، ومن جوانب الكفر الذي يطبق على البلاد ، وقليل من ينكره ، وقليل من يتحدث عنه ، بل تجده صائما وهو يحكم بين الناس بغير ما أنزل الله ولا يرى في ذلك غضاضة ويحج ويزور المسجد النبوي ويتقرب ويتصدق أيضا وهو يدرس القانون ويحكم به بين الناس ، وأحكام الأحبار والرهبان هي أيضا أقرب إلى الشرائع المنسوخة منها إلى القوانين الوضعية ، ونظير أحكام الأحبار والرهبان أحكام المنتسبين إلى الإسلام من مشايخ الطرق الذين أباحوا ما حرم الله أو حرموا ما أحل الله ، فهذا حبر من أحبار اليهود غيّر في التوراة ويحكم ويؤمن بالتوراة ، وهذا شيخ من شيوخ الطرق أيضا أحل وحرم وزاد في الدين وأنقص منه لكنه من أهل التدين والتعبد في نظر نفسه وهذا هو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله" وهؤلاء لم يكونوا يسجدون لهم ولا يركعون ولا يصومون ولا يصلون ، وإنما كانوا يطيعونهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال ، هذا كفرهم الذي ذكره الله تبارك وتعالى.
وأشد منهم كفرا الذي يتبع أقواما لا صلة لهم بالدين ، وإنما هم علمانيون لا دينيون ، ملحدون كالمشرعين الغربيين اليوم ، فمن تحاكم إليهم فهو أشد كفرا وأشد عبودية لغير الله من ذلك الذي تحاكم إلى الأحبار والرهبان.
يقول الشيخ : (فكما لا يسجدُ الخلقُ إلاّ للهِ، ولا يعبدونَ إلاّ إياه ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب أن لا يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلاّ لحُكم الحكيم العليم الحميد، الرءوف الرحيم)
القرآن صريح في هذا وواضح ، فنجد مثلا في سورة الأنعام سورة التوحيد العظمى والكبرى ، والتي ذكر فيها التشريعات ، ذكر فيها ضرورة الحكم بما أنزل الله ، نجد قوله سبحانه وتعالى :"قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يُطعِم ولا يُطعَم قل إني أمرت أن اكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين" فمن الشرك أن يتخذ الإنسان وليا من دون الله يخافه ويدعوه ويرجوه ويتقيه كما يفعل عباد الأولياء وعباد الصالحين وعباد الموتى ..إلخ ، فهذا نوع من أنواع الشرك وهذا واضح لا نقاش فيه.
وقال الله أيضا في آخر السورة :"قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء" فالله تبارك وتعالى رب كل شيء . إذن كيف يكون الله تبارك وتعالى رب كل شيء "ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها" "وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم" يأتي هذا الإنسان المخلوق الضعيف فلا يتخذه ربا وإنما يتخذ غيره من الأرباب إما الأصنام وإما الطواغيت من البشر كفرعون وأمثاله.. إلى غير ذلك ، هذا أيضا نوع معروف ومعلوم من أنواع الكفر ومن فعله فهو كافر.
وقال الله كذلك في نفس السورة :"أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا" وقال في الآية التي بعدها :"وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله" فكما أنك لا تتخذ غير الله إلها ولا وليا ولا ربا ولا خالقا ولا رازقا ، فكذلك كيف تتخذ غير الله حكما وهو الذي أنزل الكتاب مفصلا ، وتمت كلمته صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام؟ كيف نطيع الناس ونطيع البشر في مخالفة أمر الله وإن كثروا؟ وقال بعد ذلك : "وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله" وقال الله بعد ذلك :"وإن أطعتموهم إنكم لمشركون" .
فالقضية واحدة - كما ذكر الشيخ - وهي اتخاذ غير الله سبحانه وتعالى حكما مثل اتخاذ غير الله تعالى وليا وإلها وربا وخالقا ورازقا بزعم العباد المتخذين لا يختلف هذا عن هذا.
إذن لماذا يستنكر بعض المسلمين ويستفظعون ويستبشعون أن يعبد غير الله ، وأن يُصلى ويسجد لغيره ، وفي نفس الوقت لا يستبشعون ولا يستفظعون أن يتحاكم إلى غير الله ، وأن يلقى كتاب الله ظهريا ، وأن تؤتى قوانين البشر المتألهين المتسلطين وتتحكم في الدماء والأموال والأعراض والرقاب والأبشار.
هذا ما يريد الشيخ رحمه الله أن يقوله وقد سبق الإشارة إلى كثرة الأدلة في ذلك والحمد لله.
يقول الشيخ: (دون حُكم المخلوق الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوكُ والشهواتُ والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات)
إن المسلم لا يجوز له أن يقلد عالما من علماء الإسلام أو مفتيا في كل ما يقول وكل ما يفتي به ؛ لأن هذا لا يكون إلا للرسول صلى الله عليه وسلم ، فالرسول وحده هو الذي يؤخذ عنه كل قول يقوله ، أما من عداه فيؤخذ من قوله ويرد ، فإذا كان هذا في حق علماء الأمة وفي حق الأئمة الأربعة أو من هو أفضل منهم ممن تقدمهم من التابعين أو من الصحابة ، فكيف في حق أصحاب التشريع والقانون الوضعي الذين لا صفة لهم دينية ولا صلة لهم بالدين ولا بالعبودية لله؟
إذا كان قد يخطئ العالم المجتهد فكيف بالكافر الملحد الذي - كما قال الشيخ - الظلم والجهل والكفر والطغيان والشكوك والشبهات والشهوات كلها مجتمعة فيه. ولذلك تأتي أحكامهم وشرائعهم بالعجب العجاب من هذه التناقضات ، حتى إن العاقل لو تأمل لما صدّق كيف يحتكمون إلى هذا الشرائع، وكيف يؤمنون ويصدقون بها؟
وكثير من الناس للأسف يجهل حقائق الدين؛ لأن الإعلام الغربي يسيطر عليه - ولو من بعيد - عن طريق السياسات اليهودية الصهيونية ، وكذلك الإلحاد والنصرانية والعلمانية ..إلخ فتوجهه توجيها خاصا ، فيجهل كثير من الناس ما أنزل الله ، وحقيقة ما أنزل الله سبحانه وتعالى فيتعجبون عندما يجدون أن أحكام الله فيها أشياء لا يعرفونها ولا يحلمون بها.
جاء في صوت أمريكا برنامج عن المرأة المسلمة جاء فيه امرأة متخصصة في الدراسات القرآنية والإسلامية في جامعة أوهايو ، تقول: المرأة في الإسلام ترث . وتقول: إن المرأة في الإسلام يحق لها التملك إلى درجة تثير الدهشة عندنا نحن الغربيين. وإن في المملكة العربية السعودية حيث تطبق أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالميراث تملك المرأة ما يعادل 40% من الممتلكات.
ولا أدري من أين أخذت الرقم لكننا لا نستغربه لأن النساء يمكن أن يملكن ، فقد يموت مثلا صاحب أكبر مصنع في البلد ويرثه ابن وبنت ، وهذا متقرر حتى عند العامة، ولا يحتاج أن يقال هذا فخر كبير وأمر عظيم.
فهم يجهلون هذه الأحكام ولذلك ذات مرة في جريدة أظنها جريدة الرياض إحدى الكاتبات المتحررات كتبت فقالت: إن المرأة في الغرب تملك المصانع وتملك كذا وكذا. تقول ذلك الكلام مع أن النساء عندنا يملكن مؤسسات ويملكن مصانع إما ملكا أو إرثا هذا واضح جدا ولا يحتاج أن يقال متى نصل لهذه المرحلة لكن الله تعالى أعمى بصائرهم فأصبح الحسن عندهم هو ما عند الغرب ونسوا أي محاسن قد تكون موجودة لديهم.
فنقول: الغرب يعيش في ظلمات والدنيا كلها مظلمة ملعونة إلا ما طلع عليه شمس الرسالة. فهؤلاء فيهم شهواتهم وشكوكهم وشبهاتهم وغفلتهم.
يقول الشيخ رحمه الله: (فيجب على العُقلاء أن يربأوا بنفوسهم عنه، لما فيه من الاستعباد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء والأغراض، والأغلاط والأخطاء، فضلاً عن كونه كفرًا بنصِّ قوله تعالى: {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فأُولئكَ هُمُ الكافِرونَ})
فضلا عن أن هذا كفر فالعاقل يربأ بنفسه أن يكون عبدا لبشر مخلوق مثله، والله تعالى بعث الرسل في جميع الأزمان يذكرون الناس بهذا، ويقولون لهم: كيف تعبدون بشرا أمثالكم هؤلاء الذين تدعون من دون الله لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا حياة ولا موتا ..إلخ فهذه الأمور هي التي تستثير العقلاء لكي لا يعبدوا إلا الله الذي هو وحده يحيي ويميت ويُطعم ويسقي ويرزق ويشفي من المرض ويضحك ويبكي ويغني ويقني كل ذلك له سبحانه وتعالى فكيف يشرك معه سواه في ذلك.
وينبغي الإشارة إلى قضية مهمة يخطئ فيها كثير من الباحثين في هذا الموضوع فهم يقولون: نسأل هؤلاء الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ويؤصلون ويفرعون فنقول لهم: هل تقرون بحكم الله أو لا تقرون هل تفضلون حكم القوانين الوضعية على حكم الله أو لا تفضلون وبناءً عليه نحكم عليهم فقد يكونون لا يفضلون.
أقول: الله سبحانه وتعالى فطر النفوس على أنها تختار دائما الأفضل وتفعل الأفضل ولهذا إذا كان هناك طالب ما في كلية وتركها وانتقل إلى كلية أخرى فهل يتصور أنه يفضل الكلية التي تركها؟ هذا لا يفعله عاقل لذا لا نحتاج أن نسأله هل أنت تفضل الكلية هذه على هذه أو لا؟ وإنما نسأله: لماذا فضلت هذه على تلك؟ هكذا العقلاء فنحن نعرف التفضيل من عمله ومن واقع فعله.
وكذلك إذا خطب إنسان فتاة فعدل عنها إلى فتاة أخرى فالسؤال الطبيعي لهذا هو أن تقول له: لماذا فضلت هذه عليها؟ ولا تقول له: هل أنت فضلتها أو لا؟ لأنه ليس هناك عاقل يفضل ثم يترك الأفضل وكذلك هؤلاء القوم ، فالإقرارات اللفظية لا قيمة لها فالأخبار جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: نشهد أنك نبي ولكن لم يتبعوه في شيء ولم يؤمنوا به.
وكذلك قد نجد من هؤلاء القانونيين ومن الدستوريين الكبار من يقول: إن أحكام الشريعة الإسلامية عظيمة ورائعة ومفيدة وحققت الحضارة والخير ..إلخ كما قال اليهود في النبي صلى الله عليه وسلم . فمجرد هذا الكلام لا يؤثر أبدا في كونهم خارجين عن الملة والعياذ بالله لأنهم في الحقيقة يفضلون غير شرع الله. أما المؤمن الذي آمن على الحقيقة وفضل حكم الله على الحقيقة فإنه يتخلى كلية عن الحكم بغير ما أنزل الله.
فإذا جاء إنسان وقال: لا بد من تطوير المحاكم وفتح محاكم جديدة ولا بد من التوسع في الدراسات القانونية أكثر ومن استحداث وظائف وترتيب نظام ، ففي هذه الحال لا يتساءل عاقل: هل هو يفضل حكم الله أو حكم القانون؟ ولا يقول مثل هذه الشبهة الضعيفة إلا من لم يعرف ولم يدرك حقيقة الإيمان كما هي في مذهب أهل السنة والجماعة ؛ فالإيمان عند أهل السنة قول وعمل والإيمان عندهم أنواع أربعة: إقرار واعتقاد القلب وعمل القلب وإقرار اللسان وعمل الجوارح.
فإذا ظن واحد أن الدخول في الإيمان يكون بإقرار القلب وحده أو بإقرار اللسان وإقرار القلب دون عمل القلب و عمل الجوارح فهذا ليس من أهل السنة والجماعة ولا يعرف مذهب أهل السنة والجماعة وإلا فكثير من الناس الذين لا يصلون كثير منهم يقولون: الصلاة طيبة والذي يصلي أحسن من الذي لا يصلي. ومجرد هذا الكلام لا يخرجه عن أحكام تاركي الصلاة وإنما هذا زيادة في الحجة عليه.
فمع الأسف أن ما يجب أن نعتبره - نحن المسلمين - زيادة في إقامة الحجة على هؤلاء الذين يحكمون بشرائع غير شرع الله ، ويلزمون المسلمين بها في هذه البلاد وفي أكثر بلاد العالم الإسلامي نجعله أعذارا ومبررات لهم.
سبحان الله، رجل يقول: عبادة الله أفضل وليله ونهاره يذبح للأصنام ويدعوها وينذر لها ويقول: عبادة الله أفضل فهل هذا الكلام يقبل منه؟ وهل يكون مؤمنا موحدا؟
ولكن هاهنا تثار بعض التساؤلات، يقول: قال بعض الناس: إذن يكفر الجميع، وتكون الدار دار كفر، ويكفر الأفراد، ويكفر كذا..وجاء أناس يناقشون ، وزادت المشكلة فأصبح بعض الناس يحب ألا يدخل في الموضوع نهائيا، بل يترك الموضوع على ظاهره، وهذا لايجوز وإنما يجب دائما أن نواجه الحقائق بالحق من الكتاب ومن السنة ومن كلام العلماء؛ فهؤلاء الذين يقيمون هذه الأحكام في بلاد المسلمين ويتبعون هذه الشرائع ويلزمون المسلمين بها ، هؤلاء خارجون عن الملة ، وهؤلاء لو انتسبوا للإسلام فلا حقيقة لهذا الانتساب ، وهذه الأنظمة أنظمة غير شرعية إطلاقا.
وكلمة الشرعية عندنا للأسف أصبحت تستخدم بمعنى الشرعية الدولية والشرعية القانونية، والصواب أن الشرعية نسبة إلى الشرع ، والشرع هو من الله ونحن لا نعترف بشرع غير شرع الله أبدا ، فإذا قلنا الشرعية فنعني بذلك أن الله تعالى أذن بها وشرعها وأنزلها، أما غير ذلك فغير شرعي. هذا الذي يجب أن يعتقده كل مسلم ، ويجب أن يعلم أنه من صميم عقيدة أن لا إله إلا الله التي معناها: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله قال تعالى :"فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم" والطاغوت هو الذي قال الله تعالى فيه: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت" .
إن القضية واضحة ، والشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله هذا الإمام المجدد لما ذكر أنواع الطواغيت الخمسة ذكر نوعين؛ الأول: إبليس وهذا خارج من البشر، ويبقى أربعة هم من الإنس: اثنان منهم في جانب الحكم والتشريع؛ أحدهما الحاكم بغير ما أنزل الله ، والآخر الحاكم الجائر المغير لأحكام الله.
أي إن نصف طواغيت البشر هم في طاغوت الحكم والتشريع كما هم في طاغوت العبادة وعلم الغيب والكهانة وما أشبه ذلك. هذا شرك وهذا شرك ، هذا طاغوت وهذا طاغوت ، فلا يجوز للدعاة أن يتكلموا وأن يتحدثوا عن جانب من الشرك ونوع من الطاغوت ويهملوا النوع الآخر. وإنما بحسب البيئات والأحوال؛ يُتكلم في كل طاغوت أو في كل نوع من أنواع الشرك بمقدار انتشاره وخطره وضرره في البيئة المعينة ، لكن نحن الدعاة في الجملة يجب أن تكون نظرتنا متوازنة ومتساوية لهؤلاء.
يقول الشيخ: (السادس: ما يحكُم به كثيرٌ من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم وأجدادهم، وعاداتهم التي يسمُّونها "سلومهم"، يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به ويحُضُّون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاءً على أحكام الجاهلية، وإعراضًا ورغبةً عن حُكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله)
هذا النوع قديم جديد؛ هو قديم منذ أن انحرف الناس عن التوحيد وعن طاعة الله سبحانه وتعالى ، واتبعوا أهواءهم ، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم ، وهذا قديم في التاريخ ، وهو جديد كذلك وما يزال إلى اليوم في كثير من أنحاء الأرض الحكم العشائري أو القبلي ، طاغوت العشيرة أوطاغوت القبيلة ، وهو النظام أو القانون الذي تمشي عليه القبائل وهذا ما يزال إلى اليوم.
والأصل في القوانين المنحرفة عن دين الله وعن هدى الله سبحانه وتعالى هو أنها قوانين عرفية غير مكتوبة تتعامل بها القبيلة مع أفرادها والقبيلة مع القبيلة.
والمجتمعات القبلية هي المجتمعات المنتشرة في عصور التاريخ المختلفة قبل أن تنشأ مجتمعات المدن.فأكثر مجتمعات الأرض - لا سيما في التاريخ القديم - هو مجتمع القبيلة ، وهذه القبائل تتجمع ويكون بينها قانون أو نظام طاغوت يتحاكمون إليه، سواء وضعه شيخ القبيلة أو وضعه الساحر أو الكاهن ، أو أيا كان واضعه لأن العادة في أكثر القبائل وهذا موجود إلى الآن في قبائل أمريكا الوسطى والجنوبية وقبائل المناطق الاستوائية في أفريقيا وفي قبائل آسيا الوسطى في المناطق النائية من آسيا.
وكذلك في قبائل جزر الهند الشرقية وغيرها في استراليا لديها زعيم للعشيرة أو شيخ ، وكذلك يوجد لديها غالبا الساحر أو الكاهن الذي يقوم بوظيفة التطلع إلى السماء بزعمهم كعادة المنجمين ، وإخبار القبيلة بما ينبغي أن تفعله وإخبارها بالأمطار أو بعدم الأمطار ، والحكم فيما بينها عند الخلاف وما أشبه ذلك.
ومع الزمن تتولد وتترسب لدى القبيلة قوانين ترسخ وتثبت حتى تصبح هي القانون الذي يتحاكمون إليه ويقبلون حكمه ولا يقبلون حكم غيره.
وهذه الأحكام القبلية هي التي - فيما بعد - نشأت أو ظهرت منها القوانين المكتوبة؛ فعندما تتقدم المجتمعات أكثر أو تترقى أكثر في التمدن والاجتماع والحضارة المادية، فإنها تحول تلك القوانين إلى قوانين مكتوبة، فقد تجتمع وتتفق وتكتب هذه القوانين ، ثم تصبح دستورا مكتوبا مثل الحال الآن في الدول كما مر معنا في تاريخ التشريع أو في تاريخ التقنين الوضعي في العالم.
وهذا الجانب في أكثر أمم العالم ، ومن جانب آخر نجد أن أوروبا خاصة عاشت نظاما أبشع وأسوأ من الأنظمة القبلية الأخرى وهو النظام المعروف بالنظام الإقطاعي، وهذا النظام فيه من الظلم والحيف على الإنسان ما لم يشهده أي نظام آخر على ما يبدو في التاريخ ، وخاصة عندما كانت أوروبا غارقة في ظلمات القرون الوسطى قبل أن تظهر فيها حركات التحرر أو حركات العتق التي يسمونها "الليبرالية".
هنالك كان القانون والشرع والنظام يضعه المالك الذي يملك الإقطاعية. والإقطاعية قد تكون قرى عدة ، وقد تكون ما يعادل في هذا الزمن إقليما أو إمارة أو محافظة أو مقاطعة كلها يملكها رجل واحد هو الرجل الإقطاعي. وهذا الرجل هو الذي يشرع كما يشاء ويفعل ما يشاء بكل مَن داخل الإقطاعية ، فالكل يحرثون ويحصدون ويجمعون ، والسيد يتحكم في ذلك؛ لأنه يملك الأرض ويملك من عليها ويتحكم في الثروة فيجمعها ويحوزها كلها إليه ويتحكم في نسائهم وفي أموالهم وفي دمائهم ويحكم فيما بينهم فله التصرف المطلق في كل شيء.
ولما عانت أوروبا من هذا النظام بأشد المرارة والألم عممته ، وهذا أحد الأخطاء التي يرتكبها المؤرخون دائما في تاريخ التشريع أو التقنين أو تاريخ التطور الاجتماعي أو تاريخ علم الاجتماع أو الحضارة ..إلخ ؛ فيظنون أن هذا النظام قد عم العالم كله بهذا الشكل ، ثم ينظرون إلى العالم الإسلامي اليوم ويقولون: إنه ما يزال أيضا يعيش في عصر الإقطاع ويتهمونه بأنه دول إقطاعية.
ولا شك أن الإقطاع وجد بشكل من أشكاله في أيام الدولة العثمانية ، لكنه لم يوجد بالشكل الكامل كما في أوروبا وهو ليس من الإسلام أصلا ثم إنه غير موجود الآن. وكما هو معلوم أن أول ثورة قامت في أوروبا كانت الثورة الفرنسية فهي الثورة الحقيقية التي قامت لإنكار الظلم على الأقل في الظاهر وإن كانت الثورة الإنجليزية من قبلها لكنها كانت مداهنة وملاينة للإقطاعيين وللسلطة الملكية التي كانت قائمة حينئذ ثم تبعتها الثورات ، وآخر ثورة عندهم هي الثورة الروسية التي قامت عام 1917 م ، ثم عن طريق الماركسيين الرعب والقوميين العرب يُمدون التاريخ إلى الدول العربية فيقولون: وظل الإقطاع أيضا في العالم العربي حتى قامت الثورة المصرية عام 1953 م مثلا وثورة تموز وثورة الفاتح من سبتمبر ، وثورة كذا، كل ما تأتي ثورة اشتراكية - بزعمهم - يزعمون أنها هي التي قضت على الإقطاع ، مع أنه لم يكن يوجد الإقطاع بهذا الشكل الموجود في أوروبا.
الشاهد أن النظام الإقطاعي شهد أسوأ وأشد أنواع التسلط والظلم ؛ حيث إن التشريع كان يستمد من المالك الإقطاعي الذي يملك الأرض ومن عليها، وهو الذي يشرع لهم كل شيء، وهذا من أفحش وأشد أنواع الظلم ، حتى إنه كان لا يحق لأي رجل في الإقطاعية أن يتزوج أو أن يدخل بزوجته إلا بعد أن يراها السيد المالك الإقطاعي فإن أعجبته فإنه يدخل بها قبل زوجها ويفعل بها الفاحشة ، وإن لم تعجبه تركها، أي إنهم وصلوا إلى حالات من الظلم قد لا يكون لها نظير.
ومن المؤلم والمؤسف أن نذكر أن نظام الإقطاع سخر كثيرا من المسلمين وجعلهم عبيدا في الأراضي ، كانت أدنى من درجة المزارعين والفلاحين ، وهؤلاء العبيد هم من الأندلس الذين هجروا وطردوا ، وهم من المسلمين الذين أسروا في الحروب الصليبية وغيرها فأرغموا على أن يتركوا دينهم وأرغموا على أن يعيشوا عبيدا للأرض يخدمون المزارعين الذين هم ملك للسيد أو للمالك الإقطاعي.
وكقاعدة عامة نقول: إن معاملة كل من لا يعرف الله عز وجل ولا يوحد الله ولا يخاف الله سبحانه وتعالى فإن هذا هو حاله ، مقترن به الظلم والجهل والجبروت والتسلط ، وخاصة من اليهود والنصارى وأمثالهم على المسلمين.
وهذه - في جانب من جوانبها - هي عقوبة من الله سبحانه وتعالى على ما فعلوا وما ارتكبوا وما فرطوا في دينهم.
ثم يظل النظام العشائري أو النظام القبلي سائدا حتى في العالم الإسلامي؛ فما يزال هذا النظام في بلاد الشام إلى اليوم وفي الأردن وسوريا وغيرها يوجد نظام العشيرة وشيخ العشيرة وحاكم العشيرة وأعراف العشيرة تتحكم وتسيطر على الناس ويتحاكمون إليها، والحكومات في بعض الدول تقر أحكام العشيرة لأنها تخلصها من جانب من مشاكل الناس من جهة ، ولأن الناس أصلا لا يقبلون إلا حكم العشيرة فمهما حاولت الدولة أن ترغمهم على أحكامها أو قوانينها فإنهم لا يقبلون ذلك.
أما في إفريقية وغيرها من المناطق فمعروف أن الطابع القبلي ما يزال سائدا، وهو أيضا سائد في المناطق الداخلية من آسيا ؛ في شمال باكستان وفي أفغانستان.
وعندنا هنا أيضا في الجزيرة العربية نفس الشيء في القبائل التي ما تزال تتحاكم إلى أحكام العشيرة وإلى سلوم القبائل وإلى عادات القبائل ، وهذا أمر كبير وإن كان والحمد لله في هذه الأيام وفي هذا الزمان أخف منه بكثير في الأزمان الماضية.
ولكن أحب أن أذكر في هذا المقام ما جاء في وثيقة قديمة، هي إحدى الوثائق في منطقة غامد وزهران؛ حتى نعلم ما كان يتحاكم إليه ، وربما يوجد في مناطق أخرى ما هو أشد منها ، لكن هذا نموذج إذ إنها تعتبر من الوثائق الخطية، أي إنها لم تكن مجرد قانون عرفي وإنما قانون مكتوب ، وكبار السن في القبيلة هناك يعرفون كل الكلام الذي فيها، أما نحن وأمثالنا فقد لا نستطيع أن نفهم البعض منها. وهذه القبيلة كتبت الوثيقة عام 1260.وهي تعطينا فكرة عن أشياء كثيرة نعرضها الآن.
أول شيء في ظل فقدان الحكم إذا لم توجد حكومة مركزية فالناس يجدون أنفسهم مضطرين إلى أن يصنعوا أشياء يتآلفون ويتعارفون عليها ، من هنا يأتي شيخ القبيلة ودوره في عقد اتفاق مع قبيلة أخرى ، فقد كان هناك قتل ونهب وأسواق يتاجرون فيها وحدود بين القبائل ولا بد أن يوضع لها شيء يضبطها. هذه الوثيقة التي يسمونها "الشدة" - الشدة بمعنى العقد أو المعاهدة - تعطي نموذجا لفكر يعتبر راقيا؛ وفيها شيء من الأحكام الشرعية، وفيها نوع من حفظ الحقوق، وفيها مخالفات واضحة كما لا يخفى.
أول هذه الوثيقة يقول: (الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين . لقد تحاضر جماعة من المسلمين ممن يأتي أسماؤهم) وذكروا أسماء لا داعي لذكرها. قالوا: (وإنه عهد موروث حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين . مادام الله يعبد ، والماء يورد ، والغراب أسود ، والناس تصلي على محمد) وهذا من قوة التأكيد في العهد بين القبيلتين ؛ قبيلة الرهوة وغامد؛ لأنه لم يكن عندهم من يحفظ لهم الأمن أو يضبطه لهم.
إلى أن ذكرت بعض الأحكام وأول شيء فيها: (يُعامل المثل بالمثل في كل شيء) وهذه قاعدة صحيحة ما لم تخالف نصا شرعيا ، أي بالنسبة للأسواق والمعاملات التجارية يعامل المثل بالمثل.
تقول: ( والسوق من المتكفلات ، يكفل الجار جاره ، والسبيل والمتبع والضيف ، يكفل كل من يهبط فيه) كان النظام عندهم أن السوق يكفل كل من يهبط فيه ، فإذا كان عندنا مثلا قرية من القرى سوقها يوم السبت وقرية أخرى سوقها يوم الأحد فالقرية التي سوقها يوم الأحد في حدود السوق وما حوله يكون كل ما يراق من دماء أو يقع من مشاكل أو سرقة أو أي مشكلة في ضمان وكفالة القبيلة التي السوق فيها ، أي عليها أن تحمي الجار والضعيف وتأخذ الحق للمظلوم حتى تخرجه عن حدود القبيلة إلى القبيلة الأخرى فينتهي أمره إذا هبط إلى سوق آخر - هبط بمعنى تسوق - أو راح إلى سوق آخر.
فعلى أهل السوق أن يضعوا أمورا أو أحكاما أو عقودا يتعاهدون عليها لأنه ليس هناك أمن مركزي عام يحفظ الأمور كما ذكرنا.
الشاهد قولهم: (والمقروعات والمشتبهات فيها قول عارفة) فكانوا يتحاكمون إذا اشتبهت الأمور إلى قول عارفة . و(قول عارفة )يعني: رجل صاحب خبرة. فإذا اشتبهوا في مكيال ، في ميزان ، أو في أمر من الأمور يأتي العارفة هذا وهو إنسان صاحب خبرة في الموضوع فيقول: لا كذا ولا كذا ، فيحكم بين الطرفين فيكون صلح يلزم الناس به ويمضون عليه. وطبعا تكون الثارات والقتل لكن من حيث النظام الأصل أنها فيها قول عارفة أي رجل صاحب خبرة.
وبعد ذلك قال: (كل شيء بمثله..) إلى أن يقول في هجرة الجار: (ذنبه على جنبه) ، كان عندهم نظام الجوار ، والإنسان إذا قتل أو ارتكب أي مصيبة في بلده يجاور عند قبيلة تحميه، فينزل في هذه القبيلة ويعيش حتى يصبح أحيانا من أهلها وينسى أصله القديم. فإذا فعل شيئا فهو ذنبه على جنبه ، لا قبيلة تدافع عنه ، ولا أحد يحاسب عنه ، لكن لو اعتدي عليه فإن القبيلة تكفله كما لو كان من أحد أبنائها.
هذا كمثال فقط . ونجد أنها تشمل - بالعرف القانوني الحديث - أحكاما دولية؛ إذا اعتبرنا أن القبيلة في العرف هي الدولة. فهي تشمل أحكاما دولية؛ أي تتعلق بالقبيلة مع القبيلة ، وتشمل أحكاما جنائية كما في كلامهم في القتل وفي الديات وتشمل أحكام معاملات، وتشمل أحكاما تجارية كما في كلامهم عن السوق، وتشمل أحكاما عمالية كما يسمونها أحكام المستأجر والأجير إذا قتل ، أي إن أحكام تلك المجتمعات وتقاليدها وقوانينها وقواعدها - بحسب عصرها - عبارة عن قوانين كاملة أو مسوّدات وقوانين جاهزة.
هذه الوثيقة نموذج من الأحكام التي كانوا يتحاكمون إليها، وربما يكون عند بعض القبائل ما هو أسوأ وما هو أشد من ذلك.
ومما قرأناه أيضا وعرفناه من كبارهم أنهم كانوا يحكمون في السارق أحيانا بأن يؤخذ ربع ماله أو يرهن رهينة معينة. والزنا إذا وقع من إنسان وثبت عليه فإنه أيضا يفتدي بمال من المجني عليهم وهكذا حتى في الحدود كانت لديهم أحكام وقوانين يرجعون لها.
هذه الأحكام وهذه القوانين التي فيما بينهم - كما يذكر الشيخ - من جنس الحكم بغير ما أنزل الله المخرج من الملة؛ لأنه التزام وتحاكم إلى شرع غير شرع الله . فالمسألة ليست أنهم يريدون شرع الله فيخطئون لكن لأنهم تعاقدوا وتعاهدوا وتعاونوا على أن يقيموا عقوبات رادعة لمن يخالف شرعا ودينا ومنهجا غير شرع الله سبحانه وتعالى ، فهذا النوع يدخل في النوع المكفر بغض النظر عن الحكم على الأشخاص فنحن لا نتكلم عن الناس وإنما نتكلم عن الحكم في ذاته.
فالحكم بغير ما أنزل الله بهذه الصورة وإن لم يكن في شكل المحاكم التي ذكرها الشيخ في النوع الخامس أو في شكل المفضِّل والجاحد والمستحل كما في الأنواع الأخرى ، ولكن كانت في شكل عرف تعارفوا عليه والتزموا به وتعاقدوا عليه وأصبحوا يحكمونه فيما بينهم إعراضا منهم كما ذكر عن حكم الله ورسوله فهذا من النوع المكفر.
يقول رحمه الله: (وعاداتهم التي يسمُّونها "سلومهم"، يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به ويحُضُّون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاءاً على أحكام الجاهلية، وإعراضًا ورغبةً عن حُكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله)
فهؤلاء أناس عندهم حكم الله وفي إمكانهم أن يتحاكموا إليه ولكنهم يعرضون عنه ويتحاكمون إلى أحكام الطاغوت . فمثلا من حكمة الله سبحانه وتعالى أن أحكام الميراث ضمن الأحكام التفصيلية المفصلة التي جعلها الله سبحانه وتعالى في كتابه وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم وحكم فيها ولم يجعلها إلى اجتهاد الناس ، أي إن هذه الأحكام في كل العصور الماضية كانت تطبق ، فإذا أرادوا أن يتحاكموا إلى الشرع في أحكام الميراث فعندهم القضاة يحكمون في التركات بأحكام موافقة لعلم الفرائض المعروف عندنا لكنهم لا يلتزمون ذلك في الدماء؛ لأن المسألة مسألة حروب جاهلية ومطاحنات وقبليات وثارات ..إلخ فهم لو أرادوا حكم الشرع لعمموه ولكنهم لم يلتزموه.
ولا شك أن الدولة العثمانية أو دولة الأشراف في ذلك الزمن لم تكن تقيم حكم الله عز وجل فيما بينهم ، ولم تضبط الأمن ، ثم هم أيضا يتحاكمون إليها رغبة عن حكم الله ، وإلا فقد كان في إمكانهم أن يصطلحوا - على الأقل - على ما يستطيعون أن يتحاكموا إليه من شرع الله ثم الباقي يكون ضرورات معينة ، لكن المشكلة أن الإهمال حصل من الدول ، والتواطؤ حصل من الأفراد ، فلا يحتكمون إلى الشرع إلا في أمور الميراث أو في الطلاق والزواج وما إلى ذلك ، مع ما يدخل ذلك من بدع كثيرة ، لكن في الأساس الحكم فيها للشرع فهم إذا تحاكموا لهذه القوانين والأهواء والأعراف وأعرضوا عن حكم الله ورسوله مع إمكانية التحاكم إلى الله ورسوله ولو لم يكن عن طريق المحاكم الرسمية؛ لمن يحكم بينهم بحكم الله من أهل العلم والفقه ممن يعرف حكم الله في هذه المسائل ، أو يصطلحون فيما يجوز فيه الصلح ويكون هذا الصلح فيه ما يوافق الشرع ويعفيهم ويريحهم من مشاكل التعقيد التي يشكون منها في الذهاب إلى المحاكم.
نقول: إذا أعرضوا عن حكم الله ورسوله وتعمدوا الإبقاء على هذه الأحكام الجاهلية مع إمكانية الاستغناء عنها فإنهم بذلك يقعون في هذا النوع الخطير الغليظ وهو كما ذكر الشيخ نوع يخرج من الملة نسأل الله العفو والعافية.
وبذلك نعرف أن التحاكم إلى غير الكتاب والسنة خطر عظيم سواء على الدول أو على القبائل أو على الأفراد ، فالكل يجب أن يعبد الله وحده وأن يتحاكم إلى حكم الله وحده ، ولا يجوز لأحد أن يتحاكم إلى شرع غير شرع الله كما لا يجوز أن يعبد أحدا غير الله أو يدعوا أحدا غير الله . هذه هي القاعدة العامة.
فالشاهد أن كلام الشيخ هنا ينطبق ويتفق مع الحالات الخمسة الأولى من حيث إن النوع المخرج من الملة هو في جملته وحقيقته تحاكم إلى شرع غير شرع الله يؤمن به ويعتقده ويستمد منه ويتبعه. أما النوع الآخر الذي لا يخرج من الملة فهو - كما سيأتي تفصيله إن شاء الله - أن ملتزما بحكم الله ومتحاكم إلى شرع الله ولا قانون عنده ولا نظام إلا ما شرعه الله ولكنه يعدل عنه ويخالفه لغرض وهوى وقرابة ورشوة بأي سبب من الأسباب أو شكل من الأشكال لكن دينه الذي يدين به هو شرع الله ، وشرعه وقانونه ونظامه هو ما أنزله الله. هذا هو الفرق الأساسي فلذلك أدخلت أحكام القبائل ضمن النوع المكفر أو المخرج من الملة.
ولاشك أن هذا مما يستوجب من الإخوة الكرام الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وتحذير القبائل الموجودة والمنتشرة في الجزيرة وغيرها التي تخالف حكم الله وتخالف ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تحكم بالعرف.
يقول الشيخ : (وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله 00 ).
( أما ) هنا معطوفة على (أما) السابقة وهي التي في قوله : ( أما الأول : و هو كفر الاعتقاد فهو أنواع 00 ) ثم ذكر الستة أنواع المخرجة من الملة.
يقول : ( و أما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله ، وهو الذي لا
يخرج من الملة فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز و جل: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قد شمل ذلك القسم وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية : " كفر دون كفر" ، وقوله أيضا : "ليس بالكفر الذي تذهبون إليه" اهـ )
هو يشير إلى ما تقدم ، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر ، و من الممتنع و من المحال أن يسمي الله تبارك وتعالى ذنبا ما كفرا و لا يكون صاحبه كافرا، لكن عند التفصيل ننظر : أهذا الكفر كفر أكبر ينقل من الملة أو هو كفر أصغر لا ينقل عن الملة؟
الأول: هو كفر الاعتقاد، والآخر هو كفر العمل.فعلى هذا هو يقول ما قال ابن عباس رضي الله عنه وطاوس وغيرهم من السلف على ما سنفصل إن شاء الله عندما نستعرض الآيات ،وهو أن الآية تشمل ــ أيضاــ الكفر الأصغر، وإن كانت في الأصل قد نزلت في الكفر الأكبر.
قال رحمه الله: (وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله،مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق،واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى).
الإنسان القاضي سواء أكان قاضيا في محكمة أو مجرد قاض يقضي ــ فكل من قضى في مسألة فهو قاضٍ ــ إما أن يكون شرعه ودينه ونظامه وقانونه الذي يحكم به هو ما أنزل الله كما سيأتي في الآثار والنقاش الذي دار بين الخوارج وبين ابن عباس رضي الله عنه، وإما أن يكون شرعه وقانونه ودينه شيئا آخر كالشرائع المنسوخة مثل التوراة أو الإنجيل، أو كالقوانين الوضعية مثل شرائع التتار أو شريعة نابليون أو أي قانون من القوانين الوضعية. فهذان قسمان لا صلة بينهما؛ فهذا متبع وملتزم ومنقاد ومستسلم لأوامر الله ودين الله وشرعه، وهذا يتحاكم ويحكم ويتبع وينقاد ويستسلم لدين غير دين الله وشرع غير شرع الله، فهو شريعته ونظامه ودينه، فشرع كل إنسان ونظامه هو دينه، كما قال الله تبارك وتعالى: "ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك" فقوله: "في دين الملك" أي في حكمه وفي شرعه0
فأما القسم الأول؛ وهم المنقادون لحكم الله و المؤمنون به و الملتزمون به و المستسلمون له ، فهؤلاء - في الواقع - قد يقع منهم المخالفة أوالمعصية أو الجهل والخطأ والتأويل في تطبيق حكم من أحكام الله، كما هو الحال في سائر شُعب الإيمان، فليس كل من التزم الإيمان و الإسلام مقيماً له كاملا ، بل يقع من أهل الإيمان مخالفة لما علموا به، فقد يقع الزنا ممن يؤمن بأن الله قد حرم الزنا ويكره الزنا ولا يريده. ويوجد فيمن يعتقد تحريم السرقة أو الرشوة أو الربا من يسرق أو يرشي أو يرابي ..إلخ.
فهذه معاصي تقع من المؤمنين ولا شك،ولكن من المؤمنين من يلتزم أمر الله كاملاً ويطبقه ويقيمه ، فهنا نقول:هذا هو الفرق بين هؤلاء وبين أولئك. فالقاضي في محكمة شرعية والملتزم بما أنزل الله و الذي دينه و منهجه و نظامه الذي يحكم به و يتحاكم إليه و لا يقر بغيره و لا يعتقد حكما آخر غيره و هو حكم الله و شرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم و ما تفرع عنهما من أنواع الاجتهاد وأقوال الفقهاء من الصحابة ومن بعدهم - كما هو معلوم - نقول: هذا القاضي إذا جاءه رجل من قرابته ، أو من له عليه دالة ، أو من أصحاب السلطان ، أو من أصحاب الشهوات ، أو مما تقع عادة النفوس الضعيفة أو ذات الإيمان الضعيف فيه ، فحكم في القضية بما تحمله شهوته وهواه ، كأن يأتيه من يستحق أن يحكم عليه بحد رجم أو جلد أو قطع ، لكن لما جاءه قريبه أو صهره أو ذو الجاه حكم في قضية هذا الرجل بغير ما أنزل الله ، فبعد أن ثبتت لديه القضية خرجها بمخارج وحملها على محامل وفتح لها أبوابا معينة وقال مثلا: يكتفى بالتعزير أو اكتفينا بالتوبيخ أو ثبتت لدينا براءته ..إلخ ، فحكم بغير ما أنزل الله وهو معتقد في نفسه أن الحكم هو ما أنزل الله وأن الشرع هو ما شرعه الله وأن هذا هو دين الله سبحانه وتعالى وأنه مخالف له ، لكن هذا ما حملته عليه الشهوة والهوى وطاعة الشيطان والمعصية. فهذه هي الحالة لا يكون خارجا من الملة.
أما لو أنه التزم شرعا غير شرع الله - حتى ولو كان في محكمة شرعية - فالتزم بأن يحكم على كل من أتاه في حد زنى بما تحكم به شريعة نابليون للمرأة ، هل هي دون الثامنة عشرة أو فوقها ، وهل هي مغصوبة أو غير مغصوبة ، وهل هي متزوجة أو غير متزوجة ، فإن كانت متزوجة فالأمر يرجع للزوج إن شاء عفا عنه وإلا يغرّم أو يسجن إن كان هذا شرعه ودينه فهو غير ملتزم أصلا بما أنزل الله ولا يدين به ولا يعتقده فهذا داخل في القسم الأول المخرج من الملة.
بخلاف القسم الذي نتكلم فيه الآن حيث يحكم القاضي بما أنزل الله لكنه خالف حكم الله عز وجل عن عمد وهوى في بعض ما يعرض له ، وقد يخالفه جهلا عن حكم الله سبحانه وتعالى ، فليس كل من ولي القضاء وقضى بين الناس يكون عالما بجميع ما أنزل الله وعارفا بالأحكام ، وإن كان الواجب ألا يعين إلا من كان يستطيع أن يجتهد ، أو يستطيع أن يحكم فيما يعرض له بما أنزل الله ، لكن قد يولى من كان غير ذلك في الواقع ؛ فلا يحكم في بعض المسائل بما أنزل الله خطأ منه أو تأولا.
والتأويل له أبواب ؛ منها مثلا أن يتأول بعض القضاة الآية على غير وجهها أو الحديث على غير وجهه أو يخالف حكم الله تعالى فيه فيقول مثلا: نحن لا نعتبر هذا الحديث دالا على ذلك لأنه خالف ظاهر القرآن ومخالفة الحديث ظاهر القرآن نسخ. أو قد يرد حكم الله الذي يدين به أهل الحق أو أهل السنة أو من عرف الدليل واتبعه لأنه يخالف أصلا من الأصول الفقهية التي عند أئمة المذاهب الأربعة وغيرها ظنا منه أنها حق وهي غير ذلك. فهذا متأول له اجتهاد وإن كان غير سائغ وغير مقبول فهذا شيء آخر.
المهم أنه تقع المخالفة لحكم الله إما خطأ وإما اجتهادا وتأولا وقد تقع هوى وشهوة ، ويكون هذا المخالف اتباعا للهوى واتباعا للشهوة في بلد يحكم بما أنزل الله وفي محكمة تحكم بما أنزل الله وهو منقاد مستسلم لحكم الله معتقد أن من حكّم شرعا غير شرع الله أو أحل القوانين الوضعية محل شرع الله فقد كفر. كل هذا موجود لديه لكنه عدل عن حكم الله في هذه القضية أو في هذه المسألة لأي داع لمعصية الله التي تعرض للإنسان في كل الأحكام كما تعرض له في الزنا وشرب الخمر وغير ذلك من المعاصي.
قال رحمه الله: (وهذا وإنْ لم يُخرِجْه كُفْرُه عن الملّة فإنه معصية عُظمى أكبرُ من أكبر الكبائر، كالزنا وشُرب الخمر، والسّرِقة واليمين الغموس، وغيرها.. فإنّ معصية ً سمّاها اللهُ في كتابه: كفرًا، أعظمُ من معصية لم يُسمِّها كُفرًا)
يقول: هذا الحكم الذي حكم به في هذه المسألة أكبر من بقية الكبائر؛ لأن المعصية التي سميت كفرا أعظم من المعصية التي لم تسم في لسان الشرع وفي عرف الشرع كفرا.
وقد تقدم شرح ذلك في الكلام عن النصوص التي وردت في أنواع الكفر.
قال: (نسأل الله أنْ يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه انقيادا ورضاءً. إنّه وليُّ ذلك والقادر عليه)
وبذلك انتهت فتوى الشيخ رحمه الله .
هذا وقد صدرت مجلدات في مجموع فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز حفظه الله ، وكان في المجلد الرابع ص416 سؤال يقول: هل يعتبر الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله كفارا ، وإذا قلنا إنهم مسلمون فماذا نقول عن قوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ؟ هذا نشر في مجلة الدعوة العدد 963 في 5 /2/ 1405 .
وأجاب حفظه الله على السؤال قائلا: الحكام بغير ما أنزل الله أقسام ، تختلف أحكامهم بحسب اعتقادهم وأعمالهم .
فمن حكم بغير ما أنزل الله يرى أن ذلك أحسن من شرع الله فهو كافر عند جميع المسلمين.وهكذا من ييحكم القوانين الوضعية بدلا من شرع الله ويرى أن ذلك جائز ، حتى لو قال: إن تحكيم الشريعة أفضل فهو كافر لكونه استحل ما حرم الله.
أما من حكم بغير ما أنزل الله اتباعا للهوى أو للرشوة أو لعداوة بينه وبين المحكوم عليه أو لأسباب أخرى وهو يعلم أن عاص لله بذلك وأن الواجب عليه تحكيم شرع الله فهذا يعتبر من أهل المعاصي والكبائر ويعتبر قد أتى كفرا أصغر وظلما أصغر وفسقا أصغر كما جاء هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن طاوس وجماعة من السلف الصالح وهو المعروف عن أهل العلم والله ولي التوفيق اهـ .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ابن غالب
11-06-2004, 02:40 PM
سئل شيخ الإسلام ابن باز– رحمه الله - : هناك فتوى للشيخ محمد ابن إبراهيم آل الشيخ – رحمه الله –

يستدل بها أصحاب التكفير هؤلاء على أن الشيخ لا يفرق بين من حكم بغير شرع الله عز وجل

مستحلاً ومن ليس كذلك ، كما هو التفريق المعروف عند العلماء؟


الشيخ ابن باز : هذا الأمر مستقراً عند العلماء كما قدمت أن من استحل ذلك فقد كفر ، أما من لم

يستحل ذلك كأن يحكم بالرشوة ونحوها ؛ فهذا كفر دون كفر ، أما إذا قامت دولة إسلامية لديها

القدرة فعليها أن تجاهد من لا يحكم بما أنزل الله حتى تلزمه بذلك .

ثم سئل: وهم يستدلون بفتوى الشيخ إبراهيم؟

الشيخ ابن باز : محمد ابن إبراهيم ليس بمعصوم فهو عالم من العلماء ، يخطئ ويصيب وليس

بنبي ولا رسول ، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير ، وغيرهم من العلماء

كلهم يخطئ ويصيب ، ويؤخذ من قولهم ما وافق الحق ، وما خالف الحق يرد على فاعله .

مجلة الفرقان العدد 82

قلت :

والحق أن للشيخ محمد بن إبراهيم كلاماً آخر يذهب فيه إلى التفصيل ، وذلك في فتاواه (1/ 80)

إذ يقول : في كلام واضح من أن يوضح ؛ مؤرخ في 9/1/1385هـ ، أي بعد طباعة رسالة

تحكيم القوانين بخمس سنين :


( وكذلك تحقيق معنى محمد رسول الله : من تحكيم شريعته ، والتقيد بها ، ونبذ ما خالفها من

القوانين والأوضاع وسائر الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان ، والتي من حكم بها أو حاكم

إليها معتقداً صحة ذلك وجوازه فهو كافر الكفر الناقل عن الملة ، وإن فعل ذلك بدون اعتقاد ذلك

وجوازه فهو كافر الكفر العلمي الذي ينقل عن الملة ) .

والحمد لله ...

ابن غالب
11-06-2004, 02:45 PM
شيخ الإسلام ابن باز ..

وتحكيم القوانين الوضعيّة


http://www.alshahd.net/vb/showthread.php?s=&threadid=12685

ابن غالب
11-06-2004, 02:47 PM
شيخ الإسلام الألباني ..

وتحكيم القوانين الوضعية

تأصيل سلفي في مسائل التكفير التي خاض فيها الجهال ..

http://www.sahab.org/books/book.php?id=87&query=فتنه%20التكفير

ابن غالب
11-06-2004, 02:49 PM
أقوال الأئمة المعتبرين في تحكيم القوانين

( هام جدا )

http://www33.brinkster.com/almadni/qwaneen.htm

ابن غالب
11-06-2004, 02:52 PM
أقوال العلماء السلفيين القائلين بالتفصيل في

حكم من حكَّم القوانين


http://www.sahab.org/books/book.php?id=574&query=بالتفصيل

yazeed6
11-06-2004, 03:35 PM
من نعمة الباري جل في علاه انه جعل الدليل الشرعي هو الحكم وهو الفيصل .. اذ اننا هنا لسنا كالرافضة الذين يألهون قول أأمتهم المعصومين زعموا .. ولسنا كالهندوس التي تقدس روث ابقارهم .. فلله الحمد والمنة ...

وكما ترون يا اخوة ... عرضت لكم قول الشيخ بن ابراهيم رحمه الله وشرح الشيخ الحوالي سدده الله ..
وايضا قام الاخ غالب .. وفقه الله .. بنقل اقوال من نحسب انهم من كبار علماء اهل السنة والجماعة ...

وبعد هذ كله .. فللباحث ان يرجع لأحد الرأين ثم يختار ما رجح عنده واطمأن اليه قلبه وارتاحت اليه نفسه ..
والله نسأل ان يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه وان يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه .

دحمي_10
06-07-2004, 07:55 AM
بسم الله الرحمن
السلام عليكم يا اخ يزي
اشكرك على اهتماماتك الجميله
وارجو لك التوفيق والنجاح