المربي
04-03-2002, 04:16 PM
معالم في المنهج التربوي النبوي
1 - الصبر وطول النفس:
يسهل على الإنسان أن يتعامل مع الآلة الصماء، ويستطيع الباحث أن يصبر ويكافح في دراسة هذه الظاهرة المادية أو تلك ، لكن التعامل مع الإنسان له شأن آخر وبعد آخر ، ذلك أن الناس بشر لا يحكم تصرفاتهم ومواقفهم قانون مطرد، فتراه تارة هنا وتارة هناك، تارة يرضى وتارة يسخط .
ولهذا أجمع المختصون بأن الظاهرة الإنسانية ظاهرة معقدة، وأن البحث فيها تكتنفه صعوبات عدة فكيف بالتعامل المباشر مع الإنسان والسعي لتقويمه وتوجيه سلوكه .
ومن يتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يرى كيف صبر وعانى حتى ربى هذا الجيل المبارك، كم فترة من الزمن قضاها صلى الله عليه وسلم ؟ وكم هي المواقف التي واجهها صلى الله عليه وسلم ومع ذلك صبر واحتسب وكان طويل النفس بعيد النظر.
إن البشر مهما علا شأنهم فلن يصلوا إلى درجة العصمة، وهل أعلى شأناً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فهاهم يتنزل فيهم في بدر: { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } وفي أحد { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } وفي حنين { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين } .
وحين قسم صلى الله عليه وسلم غنائم حنين وجد بعض أصحابه في نفوسهم ماوجدوا.
وكان صلى الله عليه وسلم يخطب فجاءت عير فتبعها الناس فنزل فيهم قرآن يتلى.
ومع ذلك يبقى هذا الجيل وهذا المجتمع هوالقمة، وهو المثل لأعلى للناس في هذه الدنيا .
فكيف بمن دونهم بل لا يسوغ أن يقارن بهم، إن ذلك يفرض على المربي أن يكون طويل النفس صابراً عالي الهمة متفاءلاً .
2 - الخطاب الخاص:
وكما كان صلى الله عليه وسلم يوجه الخطاب لعامة أصحابه، فقد كان يعتني بالخطاب الخاص لفئات خاصة من أصحابه.
فقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم حين يصلي العيد أن يتجه إلى النساء ويخطب فيهن، كما روى ذلك ابن عباس -رضي الله عنهما- قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبل ولا بعد، ثم مال على النساء ومعه بلال فوعظهن وأمرهن أن يتصدقن، فجعلت المرأة تلقي القلب والخرص [رواه البخاري (1431) ومسلم (884) ].
بل تجاوز الأمر مجرد استثمار اللقاءات العابرة. فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه- أن النساء قلن لرسول الله صلى الله عليه وسلم :غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فواعدهن يوماً فلقيهن فيه فوعظهن وأمرهن، فكان مما قال:"مامنكن من امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار". فقالت امرأة: واثنين فقال:"واثنين" [رواه البخاري ( 101 ) ومسلم ( 2633 )] .
وقد يكون الخصوص لقوم أو فئة دون غيرهم، كما فعل في غزوة حنين حين دعا الأنصار وأكد ألا يأتي غيرهم.
وكما بايع بعض أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً.
3 - المشاركة العملية:
اعتاد بعض المربين أن يكون دورهم قاصراً على إعطاء الأوامر ومراقبة التنفيذ، وهو مسلك مخالف لمنهج المربي الأول صلى الله عليه وسلم ، الذي كان يعيش مع أصحابه ويشاركهم أعمالهم وهمومهم.
فشاركهم في بناء المسجد :- عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أربع عشرة ليلة... وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وهو يقول اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة" [رواه البخاري (428) ومسلم (524)]
وشاركهم في حفر الخندق :- فعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهو يحفر ونحن ننقل التراب ويمر بنا فقال:"اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة" [رواه البخاري (6414) ومسلم (1804)]
وكان يشاركهم في الفزع للصوت :- فعن أنس -رضي الله عنه- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول:"لم تراعوا لم تراعوا" ثم قال:"وجدناه بحراً أو قال إنه لبحر" [رواه البخاري (2908) ومسلم (2307)]
وأما مشاركته لهم في الجهاد :- فقد خرج صلى الله عليه وسلم في (19) غزوة [رواه البخاري (3949) ومسلم (1254) ]، بل قال عن نفسه:"ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية" [رواه البخاري (36) ومسلم (1876) ].
وهي مشاركة لاتلغي دورهم وتحولهم إلى مجرد آلات صماء، بل هي تدفع للتوازن بين هذا وبين تعويدهم على العمل والمشاركة.
إن مجرد إصدار الأوامر والتوجيه أمر يجيده الجميع، لكن الدخول مع الناس في الميدان ومشاركتهم يرفع قيمة المربي لديهم ويعلي شأنه ويشعرون أنه واحد منهم، وذلك أيضاً يدفعهم لمزيد من البذل والهمة والحماس عكس أولئك الذين يدعون للعمل ويربيهم بعيد عنهم، وقد عبر عن هذا المعنى ذاك الحداء الذي كان يردده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم :
لئن قعدنا والنبي يعمل *** لذاك منا العمل المضلل
ثم إنه يشيع روح الود والإخاء، ويسهم في بناء علاقة إنسانية وطيدة بين المربي ومن يربيهم .
4 - التربية بالأحداث:
من السهل أن نحدث الناس كثيراً عن معاني عدة، وأن ننظر لجوانب متعددة، لكن ذلك وإن أثرَّ يبقى أثره باهتاً محدوداً .
أما النبي صلى الله عليه وسلم فمع توجيهه لأصحابه في كل موطن، إلا أن تربيته كانت تتم من خلال الأحداث، فكان يضع الناس في الموقع والميدان ويأتي التوجيه حينها .
يشكوا إليه الحال أبو بكر رضي الله عنه وهما في الغار، فيقول صلى الله عليه وسلم : ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) .
ويسأله رجل في الميدان والمعركة: أرأيت إن قتلت؟ فيجيبه إجابة تصل إلى شغاف قلبه فيتقدم حتى يستشهد، عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال:"في الجنة" فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل [رواه البخاري (4046)].
ويوصي علياً رضي الله عنه بالدعوة ويذكره بفضلها متى؟ حين بعثه.
عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر:" لأعطين الراية غدا رجلا يفتح على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" فبات الناس ليلتهم أيهم يعطى فغدوا كلهم يرجوه فقال:" أين علي؟" فقيل: يشتكي عينيه، فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه فقال أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال:"انفذ على رسلك حتى تنـزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من أن يكون لك حمر النعم" [رواه البخاري (3009) ومسلم (]
أترى أن تلك التوجيهات لو تلقاها أصحابها وهم جالسون قاعدون في بيوتهم ستترك أثرها؟ إن مثل هذه التربية هي التي خرجت الجيل الجاد العملي، لم يكن ذلك الجيل يتربى على مجرد التوجيه الجاف البارد، إنما كان يعيش العلم والعمل معاً .
5 - الاختيار والاصطفاء:
إن التربية كما أنها موجهة لكل أفراد الأمة أجمع مهما كان شأنهم، والدين خطاب للجميع صغاراً وكباراً، رجالاً و نساءً .
إلا أن الدعوة تحتاج لمن يحملها ولمن يقوم بأعبائها، إنها تحتاج لفئة خاصة تختار بعناية وتربي بعناية .
لذا كان هذا الأمر بارزاً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته لأصحابه فثمة مواقف عدة في السيرة يتكرر فيها ذكر كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم أبو بكر وعمر مما يوحي أن هؤلاء كانوا يتلقون إعداداً وتربية أخص من غيرهم .
عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: إني لواقف في قوم فدعوا الله لعمر بن الخطاب وقد وضع على سريره إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: رحمك الله إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كثيرا ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كنت وأبو بكر وعمر وفعلت وأبو بكر وعمر وانطلقت وأبو بكر وعمر" فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب. [رواه البخاري (3677) ومسلم (2389) ].
ومنها قصة أبي هريرة حين كان بواب النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن أبو بكر فقال "ائذن له وبشره بالجنة"، ثم استأذن عمر، ثم عثمان... [رواه البخاري (3674) ومسلم (2403) ] .
وما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال:" اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" [رواه البخاري (3675) ].
ومثله ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" [رواه مسلم (2417) ].
ويحكي لنا أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن توجيه خاص بهم، حين بايعهم على أمر لم يعتد أن يبايع عليه سائر الناس .
عن عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله عنه- قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال:"ألا تبايعون رسول الله؟" وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال:" ألا تبايعون رسول الله؟" فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال:" ألا تبايعون رسول الله؟" قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك؟ قال:"على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا، -وأسر كلمة خفية- ولا تسألوا الناس شيئاً" فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه [رواه مسلم (1403) ].
وهذا الأمر لم يكن عاماً لأصحابه رضوان الله عليهم، بل خاصاً بهؤلاء، فقد كان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه ويعطيهم ولم يكن يمنعهم أو ينهاهم عن السؤال.
ومن ذلك أنه كان لايؤذن بالسؤال لخاصة أصحابه كما يؤذن لغيرهم، كما روى نواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، قال فسألته عن البر والإثم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس". [رواه مسلم (2553) ].
1 - الصبر وطول النفس:
يسهل على الإنسان أن يتعامل مع الآلة الصماء، ويستطيع الباحث أن يصبر ويكافح في دراسة هذه الظاهرة المادية أو تلك ، لكن التعامل مع الإنسان له شأن آخر وبعد آخر ، ذلك أن الناس بشر لا يحكم تصرفاتهم ومواقفهم قانون مطرد، فتراه تارة هنا وتارة هناك، تارة يرضى وتارة يسخط .
ولهذا أجمع المختصون بأن الظاهرة الإنسانية ظاهرة معقدة، وأن البحث فيها تكتنفه صعوبات عدة فكيف بالتعامل المباشر مع الإنسان والسعي لتقويمه وتوجيه سلوكه .
ومن يتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يرى كيف صبر وعانى حتى ربى هذا الجيل المبارك، كم فترة من الزمن قضاها صلى الله عليه وسلم ؟ وكم هي المواقف التي واجهها صلى الله عليه وسلم ومع ذلك صبر واحتسب وكان طويل النفس بعيد النظر.
إن البشر مهما علا شأنهم فلن يصلوا إلى درجة العصمة، وهل أعلى شأناً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فهاهم يتنزل فيهم في بدر: { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } وفي أحد { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } وفي حنين { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين } .
وحين قسم صلى الله عليه وسلم غنائم حنين وجد بعض أصحابه في نفوسهم ماوجدوا.
وكان صلى الله عليه وسلم يخطب فجاءت عير فتبعها الناس فنزل فيهم قرآن يتلى.
ومع ذلك يبقى هذا الجيل وهذا المجتمع هوالقمة، وهو المثل لأعلى للناس في هذه الدنيا .
فكيف بمن دونهم بل لا يسوغ أن يقارن بهم، إن ذلك يفرض على المربي أن يكون طويل النفس صابراً عالي الهمة متفاءلاً .
2 - الخطاب الخاص:
وكما كان صلى الله عليه وسلم يوجه الخطاب لعامة أصحابه، فقد كان يعتني بالخطاب الخاص لفئات خاصة من أصحابه.
فقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم حين يصلي العيد أن يتجه إلى النساء ويخطب فيهن، كما روى ذلك ابن عباس -رضي الله عنهما- قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبل ولا بعد، ثم مال على النساء ومعه بلال فوعظهن وأمرهن أن يتصدقن، فجعلت المرأة تلقي القلب والخرص [رواه البخاري (1431) ومسلم (884) ].
بل تجاوز الأمر مجرد استثمار اللقاءات العابرة. فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه- أن النساء قلن لرسول الله صلى الله عليه وسلم :غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فواعدهن يوماً فلقيهن فيه فوعظهن وأمرهن، فكان مما قال:"مامنكن من امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار". فقالت امرأة: واثنين فقال:"واثنين" [رواه البخاري ( 101 ) ومسلم ( 2633 )] .
وقد يكون الخصوص لقوم أو فئة دون غيرهم، كما فعل في غزوة حنين حين دعا الأنصار وأكد ألا يأتي غيرهم.
وكما بايع بعض أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً.
3 - المشاركة العملية:
اعتاد بعض المربين أن يكون دورهم قاصراً على إعطاء الأوامر ومراقبة التنفيذ، وهو مسلك مخالف لمنهج المربي الأول صلى الله عليه وسلم ، الذي كان يعيش مع أصحابه ويشاركهم أعمالهم وهمومهم.
فشاركهم في بناء المسجد :- عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أربع عشرة ليلة... وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وهو يقول اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة" [رواه البخاري (428) ومسلم (524)]
وشاركهم في حفر الخندق :- فعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهو يحفر ونحن ننقل التراب ويمر بنا فقال:"اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة" [رواه البخاري (6414) ومسلم (1804)]
وكان يشاركهم في الفزع للصوت :- فعن أنس -رضي الله عنه- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول:"لم تراعوا لم تراعوا" ثم قال:"وجدناه بحراً أو قال إنه لبحر" [رواه البخاري (2908) ومسلم (2307)]
وأما مشاركته لهم في الجهاد :- فقد خرج صلى الله عليه وسلم في (19) غزوة [رواه البخاري (3949) ومسلم (1254) ]، بل قال عن نفسه:"ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية" [رواه البخاري (36) ومسلم (1876) ].
وهي مشاركة لاتلغي دورهم وتحولهم إلى مجرد آلات صماء، بل هي تدفع للتوازن بين هذا وبين تعويدهم على العمل والمشاركة.
إن مجرد إصدار الأوامر والتوجيه أمر يجيده الجميع، لكن الدخول مع الناس في الميدان ومشاركتهم يرفع قيمة المربي لديهم ويعلي شأنه ويشعرون أنه واحد منهم، وذلك أيضاً يدفعهم لمزيد من البذل والهمة والحماس عكس أولئك الذين يدعون للعمل ويربيهم بعيد عنهم، وقد عبر عن هذا المعنى ذاك الحداء الذي كان يردده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم :
لئن قعدنا والنبي يعمل *** لذاك منا العمل المضلل
ثم إنه يشيع روح الود والإخاء، ويسهم في بناء علاقة إنسانية وطيدة بين المربي ومن يربيهم .
4 - التربية بالأحداث:
من السهل أن نحدث الناس كثيراً عن معاني عدة، وأن ننظر لجوانب متعددة، لكن ذلك وإن أثرَّ يبقى أثره باهتاً محدوداً .
أما النبي صلى الله عليه وسلم فمع توجيهه لأصحابه في كل موطن، إلا أن تربيته كانت تتم من خلال الأحداث، فكان يضع الناس في الموقع والميدان ويأتي التوجيه حينها .
يشكوا إليه الحال أبو بكر رضي الله عنه وهما في الغار، فيقول صلى الله عليه وسلم : ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) .
ويسأله رجل في الميدان والمعركة: أرأيت إن قتلت؟ فيجيبه إجابة تصل إلى شغاف قلبه فيتقدم حتى يستشهد، عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال:"في الجنة" فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل [رواه البخاري (4046)].
ويوصي علياً رضي الله عنه بالدعوة ويذكره بفضلها متى؟ حين بعثه.
عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر:" لأعطين الراية غدا رجلا يفتح على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" فبات الناس ليلتهم أيهم يعطى فغدوا كلهم يرجوه فقال:" أين علي؟" فقيل: يشتكي عينيه، فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه فقال أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال:"انفذ على رسلك حتى تنـزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من أن يكون لك حمر النعم" [رواه البخاري (3009) ومسلم (]
أترى أن تلك التوجيهات لو تلقاها أصحابها وهم جالسون قاعدون في بيوتهم ستترك أثرها؟ إن مثل هذه التربية هي التي خرجت الجيل الجاد العملي، لم يكن ذلك الجيل يتربى على مجرد التوجيه الجاف البارد، إنما كان يعيش العلم والعمل معاً .
5 - الاختيار والاصطفاء:
إن التربية كما أنها موجهة لكل أفراد الأمة أجمع مهما كان شأنهم، والدين خطاب للجميع صغاراً وكباراً، رجالاً و نساءً .
إلا أن الدعوة تحتاج لمن يحملها ولمن يقوم بأعبائها، إنها تحتاج لفئة خاصة تختار بعناية وتربي بعناية .
لذا كان هذا الأمر بارزاً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته لأصحابه فثمة مواقف عدة في السيرة يتكرر فيها ذكر كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم أبو بكر وعمر مما يوحي أن هؤلاء كانوا يتلقون إعداداً وتربية أخص من غيرهم .
عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: إني لواقف في قوم فدعوا الله لعمر بن الخطاب وقد وضع على سريره إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: رحمك الله إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كثيرا ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كنت وأبو بكر وعمر وفعلت وأبو بكر وعمر وانطلقت وأبو بكر وعمر" فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب. [رواه البخاري (3677) ومسلم (2389) ].
ومنها قصة أبي هريرة حين كان بواب النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن أبو بكر فقال "ائذن له وبشره بالجنة"، ثم استأذن عمر، ثم عثمان... [رواه البخاري (3674) ومسلم (2403) ] .
وما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال:" اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" [رواه البخاري (3675) ].
ومثله ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" [رواه مسلم (2417) ].
ويحكي لنا أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن توجيه خاص بهم، حين بايعهم على أمر لم يعتد أن يبايع عليه سائر الناس .
عن عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله عنه- قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال:"ألا تبايعون رسول الله؟" وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال:" ألا تبايعون رسول الله؟" فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال:" ألا تبايعون رسول الله؟" قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك؟ قال:"على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا، -وأسر كلمة خفية- ولا تسألوا الناس شيئاً" فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه [رواه مسلم (1403) ].
وهذا الأمر لم يكن عاماً لأصحابه رضوان الله عليهم، بل خاصاً بهؤلاء، فقد كان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه ويعطيهم ولم يكن يمنعهم أو ينهاهم عن السؤال.
ومن ذلك أنه كان لايؤذن بالسؤال لخاصة أصحابه كما يؤذن لغيرهم، كما روى نواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، قال فسألته عن البر والإثم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس". [رواه مسلم (2553) ].