كتب الموضوع 02-09-1999 05:52 PM
السلام عليكم ورحمة الله
عجيب أنت يا عمر!أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلمة بن قيس الأشجع على رأس جيش متوجه إلى الأهواز وأمره بأن يدعوهم للإسلام فإن أسلموا ولم يشاركوا في الحرب فليس عليهم إلاّ الزكاة وليس لهم من الفيء نصيب. وإن أبوا الإسلام فأدعوهم إلى إعطاء الجزية ودعوهم وشأنهم واحموهم من عدوهم ولا تكلفوهم فوق ما يطيقون. فإن أبوا فقاتلوهم إن الله ناصركم عليكم.
دارت المعارك الضارية والتحم الفريقان لامتناع أهل الأهواز عن قبول أول الشرطين. وانجلت المعارك عن انتصار المجاهدين المؤمنين وهزم المشركون.
ولما وضعت الحرب أوزارها بادر سلمة بن قيس إلى قسمة الغنائم بين جنوده .فوجد فيها حلية نفيسة فأحب أن يتحف بها أمير المؤمنين. فأستأذن جنوده ليبعث بها إلى عمر رضي الله عنه فأذنوا له.
فأرسل رسولا من قومه أشجعياً وغلامه وقال له بشر أمير المؤمنين وأطرفه بهذه الحلية.
ولنقف مع حكاية الأشجعي:
مضيت أنا وغلامي إلى البصرة فاشترينا راحلتين مما أعطانا سلمة بن قيس وأوقرناهما زاداً. ثم يممنا وجهينا شطر المدينة فلما بلغناها ، نشدت أمير المؤمنين فوجدته واقفاً يغدِّي المسلمين وهو متكئٌ على عصاه كما يصنع الرّاعي. وكان يدور على القصاع وهو يقول لغلامه يرفأ:
يا يرفأ زِد هؤلاء لحماً…
يا يرفأ زِد هؤلاء خبزاً…
يا يرفأ زِد هؤلاء مرَقَاً…
فلما أقبلت عليه ، قال: اجلس فجلست في أدنى الناس وقدّم لي الطعام فأكلت.
فلما فرغ الناس من طعامهم قال: "يا يرفأ" إرفع قصاعك ثم مضى فتبعته.
فلما دخل داره استأذنت عليه فأذن لي فإذا هو جالس على رقعة من شعرٍ ، متكئٌ على وسادتين من جلد محشوّتين ليفاً ، فطرح لي أحداهما فجلست عليها.
وإذا خلفه ستر فالتَفَتَ نحو السّتر وقال: يا أمّ كلثوم غداءنا..
فقلت في نفسي: ماذا عسى أن يكون طعام أمير المؤمنين الذي خصّ به نفسه؟
فناوَلَتْهُ خبزةً بزيت عليها ملح لم يدقّ…
فالتفت إليّ وقال: كُلْ فامتثلتُ وأكلتُ قليلاً.
وأكل هو ، فما رأيت أحداً أحسن منه أكلاً.
ثم قال: اسقونا فجاءوه بقدح فيه شراب من سويق ، نقيع، الشعير فقال:
أعطوا الرجل أولاً فأعطوني.
فأخذت القدح فشربت منه قليلاً ، إذ كان سويقي أطيب منه وأجود.
ثم أخذه فشرب منه حتى روي ثم قال:
الحمدلله الذي أطعمنا فأشبعنا وسقانا فأروانا.
عند ذلك التفتُّ إليه وقلتُ: جئتك برسالةٍ يا أمير المؤمنين.
فقال: من أين؟
فقلت: من عند سلمة بن قيسٍ.
فقال: مرحباً بسلمة بن قيس ، ومرحباً برسوله…
حدِّثني عن جيش المسلمين…
فقلت: كما تحب يا أمير المؤمنين…السّلامة والظّفر على عدوهم وعدو الله.
وبشَرتُه بالنصر وأخبرته خبر الجيش جملة وتفصيلاً.
فقال: الحمدلله .. أعطى فتفضّل وأنعم فأجزل.
ثم قال: هل مررت بالبصرة؟
فقلت: نعم يا أمير المؤمنين.
فقال: كيف المسلمون؟
فقلت: بخير من الله.
فقال: كيف الأسعار؟
فقلت: أسعارهم أرخص أسعار.
فقال: وكيف اللحم؟ فإن اللحم شجرة العرب ، ولا تصح العرب إلا بشجرتها.
فقلت: اللحم كثير وفيرٌ.
فالتفت إلى السّفطِ الذي معي وقال: ما هذا الذي بيدك؟
فقلت: لما نصرنا اللهُ على عدوِّنا جمعنا الغنائم فرأى سلمة فيها حلية ، فقال للجند: إنّ هذه لو قسمت عليكم لما بلغت منكم شيئاً … فهل تطيب نفوسكم إذا بعثت بها لأمير المؤمنين؟
فقالوا: نعم.
ثم دفعت إليه بالسّفط.
فلما فتحه ونظر إلى الفصوص التي فيه من بين أحمر وأصفر وأخضر ، وثب من مجلسه وجعل يده في خاصرته وألقى بالسّفط على الأرض فانتثر ما فيه ذات اليمين وذات الشمال.
فظنّ النساء أني أريد اغتياله ، فأقبلن نحو الستر … ثم التفت إليّ وقال: اجمعه…
وقال لغلامه يرفأ: اضربه وأوجعه…
فجعلت أجمع ما انتثر من السّفط ، ويرفأ يضربني.
ثم قال: قم غير محمود لا أنت ولا صاحبك.
فقلت: إئذن لي بمركب يحملني أنا وغلامي إلى الأهواز ، فقد أخذ غلامك راحلتي.
فقال يا يرفأ: أعطه راحلتين من إبل الصدقة.
ثم قال: إذا قضيت حاجتك منهما ووجدت من هو أحوج لهما منك فادفعهما إليه.
قلت: أفعل يا أمير المؤمنين… نعم أفعل إن شاء الله.
ثم التفت إليّ وقال:
أما والله لئن تفرّق الجند قبل أن يُقسَمَ فيهم هذا الحُليّ لأفعلنّ بك وبصاحبك الفاقرة ، الداهية الشديدة كأنها تكسر فاقر الظهر.
فمضيت من توّي حتّى أتيت سلمة وقلت:
ما بارك الله لي فيما اختصصتني به…
اقسم هذا الحليّ في الجند قبل أن تَحِل بي وبك داهية.
وأخبرته الخبر …
فما غادر مجلسه إلاّ بعد أن قسمه فيهم. اهـ
لله درّك يا عمر. حقاً إنها لقصص وعبر. يختار خيرة قومه ليوليهم عليهم. يحاسبهم إن أخطئوا أو تجاوزوا. لا يغفل أبداً لسانه يلهث بذكر أحوال رعيته. لا يأكل حتى يأكل قومه. يأكل خبزاً وشعيرا وزيتاً ويطعم قومه لحماً ومرقاً وخبزاً. يقدم خادم خادمه عليه في أكله ومشربه. يجلس على الشعر والصوف الخشن وجنده تستولي على المجوهرات وأفخر الحلي والغنائم ويوزعها على من يستحقها من أهل الثغور والمسلمين.
حقاً أتعبت الخلفاء بعدك. لا أعجب من مقولة مرسول الروم حين رآك نائماً تحت شجرة متكئاً عصاك ، فقال أهذا هو أميركم قالوا نعم. فقال مقولته العصماء في الفاروق:
"حكمت ، فعدلت ، فأمنت ، فنمت"