كتب الموضوع 13-08-1999 07:01 PM
لشهادة التوحيد (لا إله إلا الله) ركنان أصليان لا يغني أحدهما عن الآخر .
بل لا بد لقبول هذه الشهادة وصحتها الإتيان بهما جميعاً هما: النفي (لا إله) والإثبات (إلا الله) أو كما بيّن ذلك الله تعالى ( الكفر بالطاغوت) و(الإيمان بالله) {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} فمن لم يجمع بين هذين الركنين فإنه لم يستمسك بالعروة الوثقى، ومن لم يستمسك بالعروة الوثقى فهو هالك مع الهالكين، لأنه ليس من جملة الموحدين بل هو في عداد المشركين أو الكافرين فإيمانهم بالله دون كفر بالطاغوت هو مثل إيمان قريش بالله دون أن يكفروا بطواغيتهم.
ومعلوم أن هذا الإيمان لم ينفع قريشاً ولا عصم دماءهم أو أموالهم حتى ضمّوا إليه البراءة والكفر بطواغيتهم قال تعالى {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} .
فهم ما حققوا ركن التوحيد الأول المهم (الكفر بالطاغوت)
وبالنسبة للتكفيرفالاستهزاء بدين الله يقتضي ذلك
قال الله تبارك وتعالى {قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} .
وهذه الآيات نزلت في أناس كانوا مسلمين يصلون ويصومون ويزكون وخرجوا في غزوة من أعظم غزوات المسلمين ومع هذا كفّرهم الله عز وجل لما صدرت منهم كلمات استهزؤوا فيها بحفظة كتاب الله، فكيف بأراذل الخلق الذين لا يرجون لدين الله وقاراً وقد جعلوه ألعوبة وهزءاً لكل ساقط وساقطة واتخذوه وراءهم ظِهرياً .
وتولي الكافرين ومظاهرة الموحدين يقتضي التكفير
وقد قال الله تعالى {ومن يتولّهم منكم فإنه منهم} .
ولأجل ذلك قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نواقض الإسلام "الناقض الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على الموحدين كفر" .
وذكر حفيده الشيخ سليمان بن عبد الله في رسالته حكم موالاة أهل الإشراك عند قوله تعالى { ألم تر إلى الذي نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لإن أُخرجتم لنَخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لَننصرنّكم والله يشهد إنهم لكاذبون} ، إن هذه الآيات نزلت في أناس كانوا يُظهرون الإسلام ويقبل منهم ذلك في الدنيا فيعامَلون معاملة المسلمين لأن المسلمين مأمورون بالأخذ بالظاهر، لكنهم لمّا عقدوا مع اليهود اتفاقية نصرة ضد الموحدين والله يعلم إنهم باتفاقيتهم هذه كاذبون، ومع ذلك فقد عقد بينهم وبين أهل الكتاب عقد الأخوة، ووصفهم بأنهم إخوانهم وهذا تكفير لهم
وابتغاءالديمقراطيةوالعلمانية ديناً عوضاً عن دين الله يقتضي التكفير
فقد قال تعالى { إنّ الدينَ عند اللهِ الإسلام} والإسلام دين الله الحق الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم ، وأما الديمقراطية فهي دين اخترعه اليونان .
وهي دون شك ليست من دين الله فهي قطعاً ليس من الحق {وماذا بعد الحق إلا الضلال} والديمقراطية مع الإسلام لا يجتمعان إذ لا يقبل الله إلا الإسلام الخالص
والإسلام الذي هو دين الله الخالص جعل التشريع والحكم لله وحده أما الديمقراطية فهي دين شركي كفري جعلت الحكم والتشريع للشعب لا لله، والله جلّ ذكره لا يقبل ولا يرضى أن يجمع المرء بين الكفر وبين الإسلام أو بين الشرك والتوحيد.
بل لا يُقبل الإسلام والتوحيد ولا يصح إلا إذا كفر المرء وتبرأ من كل دين غير دين الله الخالص .
قال تعالى عن يوسف { إني تركت ملّة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون * واتّبعت ملّة ءاباءي إبراهيم وإسحق ويعقوب ما كان لنا أن نُشرك بالله من شيء} .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه مسلم "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله" .
وليست الأديان فقط هي النصرانية واليهودية بل وأيضاً الشيوعية والديمقراطية ونحوها من الملل والمذاهب فلا بد من البراءة من جميع الملل والنِّحل والمذاهب الباطلة ليقبل الله دين الإسلام .
فكما أنه لا يجوز في دين الله أن يكون الإنسان مسلماً نصرانياً أو مسلماً يهودياً، فكذلك لا يرضى الله أن يكون المرء مسلماً ديمقراطياً، فالإسلام دين الله والديمقراطية دين كفري .
{ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخـرة من الخاسرين} .
هذا إذا جمعوا بين الإسلام والديمقراطية، فكيف إذا تركوا الإسلام وأعرضوا عن تشريعه وأحكامه وحدوده ، واختاروا الديمقراطية وحكمها وتشريعها
وبالنسبة لتكفير من قال لا إله إلا الله فقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُسامة حكمه بالكفر على الرجـل الذي تلفّـظ بـ لا إله إلا الله ومن ثَم قتله، وقال له: "كيف قتلـته بعـد أن قال لا إلـه إلا الله؟" .
والله جل ذكره يقول {يا أيها الذين ءامنوا إذا ضربتـم في سبيـل الله فتبيّنـوا ولا تقـولوا لمن ألقـى إليكم السلام لست مؤمـناً تبتغـون عـرض الحيـاة الدنيا فعنـد الله مغانم كثيرة كذلك كنتـم من قبـل فمَنَّ الله عليـكم فتبيّنـوا إنّ الله كان بما تعملون خبيـراً} .
وكذلك حديـث "من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة" .
وحديث "البطاقة" الذي فيه أنّ رجلاً يأتي يوم القيامة بتسع وتسعين سجلاّ من الذنوب حتى يظن أنه هالك توزن هذه السجلات ببطاقة عليها لا إله إلا الله فترجح البطاقة .
وكذلك الحديث المروي عن حذيفة مرفوعاً قال: "يُسرى على كتاب الله في ليلة فلا تبقى في الأرض منه آية وتبقى لئام من الناس ما يدرون ما صلاة وما صدقة وما نُسُك يقولون هذه الكلمة (لا إله إلا الله) أدركنا آباءنا عليها فنحن نقـولها" قال صِـلَة*: "فما تنفعـهم لا إلـه إلا الله وهم لا يدرون ما صـلاة وما صدقة وما نُسُك؟" قال حذيفة: "تنجيـهم من النـار".
ونحو ذلك من الأحاديث.
لكن:..
أولاً : قد قال تعالى في كتابه {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات مُحكمات هنّ أُمّ الكتاب وأُخر مُتشابهات فأماّ الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون ءامنّا به كل من عند ربِّنا وما يذّكر إلا أولوا الألباب} .
فبيّن الله عزّ وجلّ بأنه ابتلى عباده بأن جعل في الشريعة التي أنزلها إليهم آيات محكمات وقواعد راسيات وأوامر واضحات بيِّنات عليها مدار الشريعة وإليها يُردّ الأمر عند النزاع والخلاف وهناك أُخر متشابهات أو ظنِّية الدلال تحتمل أكثر من معنى وبيّن أنّ أهل الزّيغ والضلال هم الذين يتّبعون المتشابه ويذرون المحكم ابتغاء تأويله عن مراد الله الذي أنزله عليه للتلبيس وابتغاء الفتنة بين عباد الله . أما طريقة طلاّب الحق وأهل العلم الراسخين فيه أن يردّوا المتشابه الذي يشكل عليهم إلى المحكم الذي هو أصل الكتاب وأمّه الذي عليه مدار التأويل وإليه يُردّ الخلاف .
وقد بيّن الشاطبي في الإعتصام أن هذه القاعدة ليس في الكتاب الكريم وحده بل وفي السنّة النبـوية والسـيرة المحمدية .
حيث أنّ هنــاك أحـاديث وحـوادث أعيان قيلت أو حصلت في مـناسـبات معيـنة إذا أُخذت وحدها دون مبيِّناتها كان ذلك من قبيل اتِّباع المتشابه وترك المحكم .
وكذلك أخذ العام دون مخصّصه أو المطلق دون مقيّده، أو التشبُّث بنص من طائفة من النصوص جميعها يتناول قضية واحدة وإهمال غيره مما هو مرتبط به، ذلك كله من اتباع المتشابه وترك المحكم وهو من التقوّل على الله بغير علم وتقيل الشرع ما لم يقل به.
إذ لا بد من الإيمان بكلام الله ورسوله جميعاً وأخذه كله والدخول في السلم كافة .
أما تتبّع ما يوافق الهوى فهي طريقة أهل الزيغ والضلال وهو سبب ضلال أكثر أهل الضلالة .
فالخوارج ضلّوا لما أهملوا نصوص الوعد وركّزوا على نصوص الوعيد فأخذوا قوله تعالى {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} ، وهو نص عامّ يكون من المتشابه إن لم يُردّ إلى مقيّده ومبيّنه الذي أهملوه وهو قوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} .
وكذلك المرجئة ، تمسّكوا ببعض النصوص المتقدِّمة التي تبشِّر من قال لا إله إلا الله بالجنة ، فأرجأوا الأعمال وأهملوها واكتفوا في الحكم بالإسلام ودخول الجنة بالكلمة وحدها دون علم معناها أو تحقيق مقتضياتها.
مع أن العلماء قد بيّنوا كما روى البخاري في صحيحه عن وهب بن منبّه أن "لا إله إلا الله مفتاح الجنة ، لكن لكل مفتاح أسنان فمن جاء بمفتاح له أسنان فتح ومن جاء بمفتاح ليس له أسنان لم يفتح" ، وأسنانها هي تحقيق شروطها واجتناب نواقضها .
إذ لا يشك عاقل عارف بحقيقة دين الإسلام أن المراد من لا إله إلا الله هو معناها التي تتضمّنه من نفي وإثبات، أما أن يتلفّظ بها دون معرفة معناها أو دون تحقيق مقتضاها واجتناب نواقضها، فهذا ليس هو مطلوب الله عزّ وجلّ .
ولذلك قال سبحانه {فاعلم أنه لا إله إلا الله} ، وقال سبحانه {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} .
والحديث المذكور "من مات وهو يعلم أنّه لا إله إلا الله دخل الجنة" ، دليل أيضاً على أنّ معرفة معنى هذه الكلمة شرط لتحقيقها ولنيل موعود الله عليها .
وقد بوّب له النووي في صحيح مسلم (باب من مات على التوحيد دخل الجنّة) .
فالمطلوب هو تحقيق التوحيد الذي تحويه هذه الكلمة وليس فقط التلفّظ بها.
كما في حديث معاذ المروي في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاه وعلّمه أسلوب الدعوة لمّا بعثه إلى اليمن فقال: "فليكن أوّل ما تدعوهم إليه لا إله إلا الله" وفي رواية إلى أن يوحِّدوا الله" ، فدلّ ذلك على أنّ المراد حقيقة الكلمة، ما تنفيه وما تثبته، وليس فقط اللّفظ المجرّد من ذلك .
وأتْباع مُسيلَمة الكذّاب كانوا يقولون لا إله إلا الله ويصلّون ويصومون ويشهدون أنّ محمداً رسول الله لكن أشركوا معه رجلاً بالرسالة ، فكفروا وحلّت دماءهم وأموالهم ولم تنفعهم لا إله إلا الله بمجرد أن أشركوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجلاً من عشيرتهم في النبوة والرسالة.ومنهم من منع الزكاة رغم أنه يشهد أن لا إله إلا الله ويقيم الصلاة ويصوم ركضان ويحج البيت ومع ذلك فقد حاربهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه لردنهم
وشروط (لا إله إلا الله)
1ـ العلم بمقتضاها نفيـاً وإثبـاتاً.
2ـ الإنقيــاد لحقـوقها.
وذكـروا أيضاً:
3ـ الصدق المنـافي للكذب.
4ـ الإخلاص المنافي للكذب.
5ـ اليقين المنافي للشـك.
6ـ المحبة لهذه الكلمة لما دّلت عليه.
7ـ القبول المنافي لردّ أي شيء من لوازمها.
وحديث "من مات وهو يعلم أنّه لا إله إلا الله دخل الجنّة" لا بدّ أن يفسَّر ويُربط بقوله تعالى {ومن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} ، ولا بدّ أن يردّ إلى قوله تعالى { إنّ الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفـر ما دون ذلك لمن يشاء} .
فلو أنّ مشركاً قال "لا إله إلا الله" ألف مرّة، وكان يعلم معناها لكنّه لم يترك شركه ولا تبرّأ من طاغوته فلن يغفر الله له، ولم يستمسك بالعروة الوثقى، ولن يدخل الجنة { إنّه من يشرك بالله فقد حرّم اللهُ عليه الجنّة}.
وهكذا يجب أن يُضاف إلى ذلك كل حديث يتكلم في الموضوع نفسه ليحيط بالموضوع من كل جوانبه ولا نكون ممّن يتّبعون ما تشابه من النصوص، فيُضم إليه حديث الصحيحين: " أشهد أن لا إله إلا الله وأنّني رسول الله لا يلقى اللهَ بهما عبدٌ غير شاكّ بهما دخل الجنة" .
ومثله حديث: "ما من أحد شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرّم الله عليه النّار" .
ونحو ذلك من الأحاديث وبمثل هذه الطريقة يُفهم الدين ويُنال العلم ويُعرف مراد الله كما يحب ويرضى .
ومثل ذلك يقال في حديث "البطاقة" ، فالمراد ببطاقة (لا إله إلا الله) كما عرفت، هو تحقيق التوحيد من الإيمان بالله والكفر بالطواغيت وعدم الإتيان بشيء من نواقضها .
وبِردّ هذا الحديث وفهمه على ضوء النصوص المحكمة كقوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشـاء} .
تعـرف أنّ السجلاّت التسعة والتسعون هي ذنوب مكفِّرة دون شكّ، أو ذنوب دون الشـرك، لأن الشـرك الذي يناقض هذه البطاقة لا يغفره الله أبداً كما في الآية، وصاحبه لا يدخل الجنة إن مات عليه، ولو أنّ في هذه السجلات ناقض من النواقض لما طاشت به البطاقة، لأنها ساعتئذٍ لا تكون بطاقة التوحيد، بل بطاقة كلمة تقال باللسان دون معرفة معناها أو تحقيق لوازمها .
فلو أنّ في هذه السجلات عبادة غير الله أو التشريع مع الله أو نُصرة المشرِّعين وتولِّيهم أو سبّ الدين أو حرب أوليائه لَمَا رجحت أو نفعت أو دخل صاحبها الجنّة لكن السجلات ذنوب دون الشرك .
وفي الحديث كلمة التوحيد وبيان أنّ من حقّقها فأتى بها كما يحبّ ربُّنا ويرضى، فإن التوحيد بعظمته يغمر التي هي دون الشرك ويدمغها
وكذلك حديث حذيفة المذكور "يُسرى على كتاب الله في ليلة فلا تبقى فيه في الأرض آية " فهو إن صحّ يُحمل على أنّ هؤلاء الناس الذين لا يعرفون من الشرائع إلا هذه الكلمة محققين لمعناها غير مشركين بالله ، لأنّ الله لا يغفر أن يشرَك به.
أمّا تركهم الصلاة والصدقة والنُّسك، فإن كانوا موحِّدين فإنهم يعذرون بذلك لأنّ هذه الشرائع لا تُعرف إلا بالحجة الرسالية .
وقد ذكر الحديث أن كتاب الله يُرفع في زمنهم فلا تبقى منه في الأرض آية .
وكتاب الله هو الحجّة التي علّق الله النّذارة بها، فقال {وأوحي إليّ هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ} فمن بلغه القـرآن فقد قامت عليه الحجّة ومن لم يبلغه فإنه يُعذر بفـروع الشريعة، لكنه لا يُعـذر بتـرك التوحيد واتِّباع الشرك والتنديد .
لأن هذا أمر قد أقام الله عليه حجته البالغة من أبواب شتى كما سيأتي بعد.
وحال هؤلاء إن صحّ الحديث كحال زيد بن عمرو بن نفيل الذي كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلّم حنيفاً مسلماً من غير أن يأتيه نبي، فإنه حقّق التوحيد وكان على ملة إبراهيم كما في صحيح البخاري، وكان يقول: "يا رب لو أعلم طريقة أعبدك بها لعبدتك" .
فمثل هذا يعذر بتفاصيل الشرائع التي لا تُعرف عن طريق الرسل، فهو لا يدري كيف الصلاة أو الزكاة ولذلك يُعذر فيهما.
أمّا التوحيد فلا ينجو إلا بتحقيقه لأنه حق الله على العبيد الذي بعث من أجله كافة رسله ،وأقام عليه الحجج المتنوعة .
وهذا كله يُصار إليه إذا كانت لفظة "تنجيهم من النار" مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم. لكنّ الصواب أنّها موقوفة مدرجة من قول حذيفة كما قرّره أهل العلم في الحديث .
بل الصواب أن الحديث برمّته لا يصحّ إذ هو حديث ضعيف فيه "أبو معاوية خازم الضرير" مدلِّس وفي مروياته عن غير الأعمش ضعف، وقد رواه هنا من غير طريق الأعمش، وهو فوق ذلك رأس من رؤوس الإرجاء كما ذكر الحافظ بن حجر وغيره، وهذا الحديث من بضاعة المرجئة .
وقد حذّر السلف من قبول مرويات أهل البدع إن كانت مما ينصر بدعتهم، وهذا الحديث مما ينصر قول المرجئة ، فكيف إذا انضاف إلى ذلك الضعف والتدليس؟.
أما حديث أُسامة: فإنه في الكافر الذي يُسْلم لتّو ولا يُظهر ناقض من نواقض الإسلام، فمثل هذا لا يحل قتله لأنه دخل إلى العصمة، فوجب الكف عنه حتى يأتي بناقض .
ولذلك بوّب له النووي في صحيح مسلم (باب تحريم قتل الكفر بعد قوله لا إله إلا الله) ولكن يجب أن يُعلم أنّ هناك فرق كبير بين (ابتداء العصمة واستمرارها) فالعصمة تبدأ للكافر بمجرد تلفّظه بكلمة التوحيد ولكن استمرار تلك العصمة لا يكون إلا بالتزام حقوق هذه الكلمة، وخلع واجتناب نواقضها .
فالكافر عندما يهمّ بالدخول للإسلام يتلفّظ بكلمة التوحيد ومجرّد تلفّظه يعني استعداده لقبول شرائع الإسلام واستسلامه لحقوقها وبراءته من نواقضها، فإن لم يفعل ذلك لم تستمر العصمة التي دخل إليها بالكلمة بل انقطعت .
فالحديث إذاً لرجل أسلم للتّو ولم يُظهر شيئاً من نواقض الإسلام .
وليس هو فيمن يزعم الإسلام منذ دهر. وإذا نظرت في حاله وجدته حرباً على الإسلام وأهله، سِلماً للطاغوت وأوليائه وقوانينه وباطله، فهذا لو قالها مئات بل آلاف المرات لم تكن لتنفعه حتى ينخلع عن الكفر لأنّ هذا هو أهم معاني هذه الكلمة التي لم يحققها دهره كله.
ومثل ذلك قوله تعالى {لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً} .
فإنها نزلت كما في الحديث الذي يبيّن سبب نزولها في مجموعة من الصحابة مرّوا برجل معه غنيّمة فسلم عليهم وأظهر الإسلام ولم يُظهر شيئاً من نواقضه، ومع هذا فعلوا معه كما فعل أسامة فقتلوه بحجة أنّه قالها خوفاً منهم وأخذوا غنمه .
فأنكر الله تعالى عليهم ذلك في القرآن، إذِ الواجب فيمن أظهر لنا الإسلام أن نعامله بظاهره مالم يُظهر لنا خلاف ذلك .
فإن تبيّن لنا بعد ذلك أنه يُظهر الإسلام ودين آخـر كفـري ولم يبـرأ منه ـ كالديمقـراطية ـ مثلاً ـ أو موالاة القوانين الوضعية ـ لم نقبل منه حتى يبرأ من ذلك كله ويُخلص دينه لله رب العالمين .
ولذك قال سبحانه قبل ذلك وبعده {فتبيّنوا}.
وأما من يصلّي ويصوم ويحج، ويحتج بحديث مسلم الذي فيه ذكر بعض أمراءالجور فقال الصحابة: أفلا نقاتلهلهم يا رسول الله؟ قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة" .
ومثل ذلك حديث ذي الخويصرة الذي تكلّم في قسمة النبي صلى الله عليه وسلم فقال خالد بن الوليد: ألا أقتله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس يصلّي؟ أما إني لم أؤمر بقتل المصلين" وفي رواية "يتحدث الناس محمد يقتل أصحابه " .
فلقد علمنا أنّ دين الله الذي بعث الله به كافّة رسله هو التوحيد.
ولا بد أن نعلم أنّ هذا التوحيد هو شرط رئيسي من شروط قبول العمل والعبادة.
فالعمل لا يكون خالصاً متقبلاً إلا بتحقيق هذا الشرط مع الشرط الآخر الذي هو المتابعة، ( أن يكون العمل موافقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم) .
والشرط هو ما يلزم من عدمه عدم العبادة وبطلانها .
ولذلك فقد ذكر الله عزّ وجلّ أعمالاً كثيرة للكفار والمشركين لكنه بيّن سبحانه أنّه لا يتقبّلها بل يجعلها هباءً منثوراً لأنّها فقدت شرط الإخلاص والتوحيد.
قال تعالى {والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد اللهَ عنده فوفّاه حسابه} .
وفي الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك به معي غيري تركته وشركه" وهذا يستدلّ به العلماء على الشرك الأصغر فيدخل فيه الأكبر من باب أولى.
فالشاهد من هذا كله أن التوحيد شرط في صحة الصلاة وفي قبولها .
والدخول للإسلام إنما يكون من باب التوحيد (لا إله إلا الله) وليس من باب الصلاة أو غيرها من العبادات .
ومن جاء بصلاة وصيام أو زكاة من غير أن يحقق التوحيد بركنيه (الإيمان بالله) و(الكفر بالطاغوت) فإن أعماله جميعها باطلة، وليس صلاته فقط.
ومن أوضح الأدلّة على ذلك قوله تعالى {ليحبطنّ عملك ولتكوننّ من الخاسرين} ، وكذلك قوله تعالى {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} 188 الأنعام.
اجتناب الشرك بالله تعالى بترك عبادة الطواغيت أو متابعتهم على تشريعاتهم أعظم شروط قبول العمل، وهو أول فرض افترضه الله تعالى على عباده وأمرهم به، وبدونه تحبط الأعمال.
ولذلك لا تقبل صلاة ولا صيام أو غيره من الأعمال ما داموا لم يحققوا شرط قبولها.
فكما أن الصلاة بغير وضوء باطلة لأنه شرط في صحتها، فكيـف بترك التوحيـد والكفر بالطواغيت ، الذي أعظم شروط قبول الأعمال؟.
ولذك فهو الشرط والأمر الذي أوجب الله على ابن آدم تعلمه والعمل به قبل تعلم الصلاة وشروطها والطهارة وشروطها ونواقضها.
ولذلك فإن الصحابة ما عُذِّبوا في مكّة ولا ابتُلوا وهاجروا وأوذوا إلا من أجله ، فلم يعذبهم قومهم ولا آذوهم لأجل الصلاة أو الزكاة أو غيرها من الطاعات والشرائع ، وإنما طولبوا أول ما طولبوا بتحقيق ذلك الأمر العظيم لأن تلك العبادات لا تقبل بدونه، ولذلك لم يكن من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من طريقة دعوته هو وأصحابه أن يبدأوا في دعوة الناس بالصلاة أو بالزكاة أو نحوها من الشرائع قبل دعوتهم لتحقيق التوحيد والبراءة من الطواغيت ، لا والله ما كانت هذه دعوتهم أبداً.
وحديث معاذ بن جبل في الصحيحين حين بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وعلّمه أسلوب الدعوة وطريقتها قال: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" .
وفي رواية "إلى أن يوحدوا الله" "فإن هم أطاعوك لذلك فأعْلِمهم أنّ الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أنّ الله قد أوجب عليهم في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ إلى فقرائهم. . . الحديث" .
فالحكم على الإنسان بالإسلام ابتداءً لا يكون من الصلاة بل من التوحيد.
ثم يؤمر إن حقق التوحيد بالصلاة والزكاة وسائر الأركان .
فمن حقّق التوحيد واعتصم بالعروة الوثقى نجى وقُبلت منه الصلاة وسائر الأركان، ومن تمسّك بشرائع وأركان الإسلام دون أن يتمسّك بالعروة الوثقى فهو من جملة الهالكين .
لأن الله لم يضمن لشيء من عرى الإسلام الإيمان أن لا تنفصم إلا إذا انضمّت إليها وارتبطت بها هذه العروة الوثقى التي ضمن سبحانه أن لا تنفصم ، قال تعالى {لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}256 البقرة.
لذك فإنّ كثيراً ممن نصبوا بالعبادة في الدنيا تردّ عبادتهم على وجوههم يوم القيامة ويكون مصيرهم النار، قال تعالى {وجوه يومئذٍ خاشعة عاملة ناصبة} أي في العبادة، ثم مصيرها: {تصْلى ناراً حامية} لأن عبادتها وصلاتها وتعبها ونصبها هباءً منثوراً لأنه بغير توحيد وإخلاص
فإذا فهمت هذا وعلمت أنه قاعدة من قواعد دين المسلمين وأصل محكم من أصولهم يُردّ إليه كل ما تشابه من النصوص، فافْهَم على ضوئه بعد ذلك كل حديث يشكل عليك في هذه الأبواب.
وعلى مثل هذا مضى علماء المسلمين ولذك جعلوا في كتب الفقه باباً يسمى (باب حكم المرتدّ) وعرّفوه بأنه المسلم الذي يرتدّ بقول أو عمل أو اعتقاد بعد إسلامه، وربما يكون مصلياً.
ولذلك أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بكفر عبيد الياسق وهو دستور أو قانون التتار في زمنه كما أفتى بكفر أنصارهم وعساكرهم مع أنه كان فيهم من يصلّي، وراجع المجلد 28 من فتاويه .
ومثل ذلك كله يقال في حديث ذي الخويصرة فقوله "أليس يصلي؟" أو "لعله أن يكون يصلي" .
فيه قاعدة الأخذ بالظاهر والعلانية وترك السريرة إلى الله، وأنّ ذلك الرجل كان يُظهر التوحيد، لأن القاعدة التي عرفتها فيما تقدم تقرِّر أنّه لا قبول للصلاة وحدها دون التوحيد .
وأما قول من كفّر مسلماً فقد كفر لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد قال: "من كفّر مسلماً فقد كفر"
فليس التكفير على إطلاقه أمر خطير ومذموم .
ولكن تكفير المسلم بمجرّد الهوى وبمحض العصبية دون دليل شرعي هو المذموم والخطير .
وليس كل الكفر مذموم كما أن ليس كل الإيمان ممدوح .
فمن الإيمان ما هو واجب كالإيمان بالله ومنه ما هو محرّم وشرك كالإيمان بالطاغوت .
وكذلك الكفر منه ما هو واجب وممدوح كالكفر بالطاغوت ومنه ما هو مذموم كالكفر بالله وآياته ودينه .
وأيضاً كما تكفير المسلم دون دليل شرعي أمر خطير فكذلك الحكم على المشرك أو الكافر بالإسلام وعصمة الدم وإدخاله بالتالي في الأخوة الإسلامية والموالاة الإيمانية أمر خطير وفساد كبير .
قال تعالى {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}.
أمّا الحديث المذكور فلم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلّم بهذا اللفظ أبداً، فليس كل من كفّر مسلماً يكفر، خصوصاً إذا كان ذلك المسلم قد أتى "بما سمّاه الله ورسوله كفراً" .
ومفهوم هذا اللفظ أن المسلم لا يكفر أبداً وهذا منقوض بقوله تعالى عن أُناس كانوا يُظهرون الإسلام {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} ، وقوله سبحانه { إنّ الذين ارتدُّوا على أدبارهم من بعد ما تبيّن لهم الشيطان سوّل لهم وأملى لهم} ، وقوله عزّ وجلّ { يا أيها الذين ءامنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي اللهُ . . . الاية} ، ونحوها من الآيات .
وإذا كان المسلم لا يكفر أو يرتدّ أبداً فما فائدة أحكام المرتدّ التي دُوِّنت في كتب الفقه الإسلامي. ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلّم "من بدّل دينه فاقتلوه" .
وإنّما لفظ الحديث في صحيح مسلم "من قال لأخيه المسلم يا كافر فإن كان كذلك، وإلا حار عليه" .
وقوله "فإن كان كذلك" دالٌّ على جواز التكفير للمسلم الذي يظهر فيه كفر وتنتفي في حقه موانع التكفير، أي إنْ كان كذلك فلا حرج.
"وإلا حار عليه" أي: إن لم يكن قد كفر .
ولذلك من كفّر مسلماً ظهر منه شيء من الكفر، فإنه لا يكفر حتى وإن كان حكمه لم يوافق الصواب لقيام مانع من موانع التكفير لم يطّلع عليه، بل إذا كان تكفيره له غضباً لدين الله وحميّة له، فإنه مأجور على ذلك كما حصل مع الفاروق رضي الله عنه، عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلّم "دعني أضرب عنق هذا المنافق" يعني بذلك (حاطِب) .
فمع أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم بيّن أنّ حاطب لم يكفر إلا أنّه لم يقل لعمر ـ لقد حار عليك الكفر لأنّك كفّرت مسلماً ومن كفّر مسلماً فقد كفـر، كما يزعم بعضهم.
وقد أشار ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في زاد المعاد إلى هذا المعنى عند ذكره الفوائد المستفادة من قصة حاطب بن أبي بلتعة .
فعُلِم أنّ الذي يُذمّ، وهو على أمر خطير، إنما هو من كفّر مسلماً لمحض الهوى والعصبية والحزبية
ويجب أن يعرف الموحِّد لمزيد من الفائدة أنّ هذا الحديث مُؤوّل عند العلماء على وجوه عدّة أحدها: أنّه من وصف دين المسلمين والتوحيد بأنه كفر فقد كفر.
ووجه آخر: حملوه على من استهان واستهتر بتكفير المسلمين فإنّذلك قد يؤدِّي به إلى الكفر، وغير ذلك من التّأويلات.
وقد ذكر النووي منها في شرح صحيح مسلم خمسة أوجه.
وإنّما اضطروا إلى تأويله لأن ظاهره معارض لأصل من أصول الدين المحكمة عند أهل السنّة والجماعة في أبواب الكفر والإيمان وهو قوله تعالى { إنّ الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} .
ولا شك أنّ رمي المسلم بالكفر غضباً دنيوياً أو للهوى هو دون الشرك .
ولذلك اضطرّ من اضطرّ إلى تأويله .
ولو قلنا أنّ من كفّرنا أو كفّر غيرنا من الموحدين المسلمين بغضاً له ولتوحيده وبراءته من الطواغيت، وسمّى دينه دين الخوارج نصرة لأعداء التوحيد من الطواغيت، ومظاهرة لقوانينهم بأنّه هو الكافر استدلالاً بهذا الحديث لكان ذلك حقّاً لا مرية فيه، ولما احتيج إلى تأويله، لأنّ ذلك كفر دون شكّ.
ويكفي لإظهار الحق ما تقدّم من كلام الله تعالى وكلام رسوله وكلام العلماء في باب أحكام المرتد فإنّ فيه شفاء لمن في ناظريه عمىً.
والله نعبد وهوالمستعان