الكاتب الموضوع:   الديمقراطية / 2- فسادها وكذبها
محي الدين   كتب الموضوع   26-06-1999 04:27 AM   الملف الخاص للعضو  محي الدين     
لقد بينا في الجزء الأول من الموضوع موجز عن الديمقراطية وواقعها وحقيقتها ، أما في هذا الجزء سنبين فساد النظام الديمقراطي من فساد الديمقراطية وكذبها وعدم انطباقها على الواقع واستحالة تطبيقها كما هي دون تأويل أو تبديل .
فالديمقراطية بمعناها الحقيقي (حكم الشعب للشعب بتشريع الشعب) هي فكرة خيالية غير قابلة للتطبيق ، فلم توجد أبداً ، ولن توجد ، فإن اجتماع الشعب كله في مكان واحد وعلى الدوام ، للنظر في الشؤون العامة مستحيل ، وأن يتولى الشعب كله الحكم والإدارة مستحيل أيضاً . لذلك احتالوا على الديمقراطية وأوَّلوها ، وأوجدوا لها ما يُسمى برئيس الدولة ، وبالحكومة ، وبالمجلس النيابي .
ومع ذلك فإن معناها بعد هذا التأويل لا ينطبق على الواقع ، ولم يوجد في الواقع . فكون رئيس الدولة والحكومة وأعضاء البرلمان ينتخبون بأكثرية أصوات الشعب ، وأن مجلس النواب هو التجسيد السياسي للإرادة العامة لجماهير الشعب ، وأنه يمثل أكثرية الشعب هو أبعد ما يكون عن الحقيقة والواقع ، إذ أن أعضاء البرلمان إنما انتُخِبُوا نواباً مِن أقلية الشعب ، وليس من أكثريته ، إذ أن مركز العضو الواحد في البرلمان يترشح له عدة أشخاص ، وليس شخصاً واحداً ، وبذلك تتوزع أصوات المقترعين في الدائرة على المرشحين ، ومن ينال أكثر أصوات المقترعين في الدائرة لا يكون حائزاً على أكثرية أصوات مَنْ لهم حق الانتخاب في الدائرة ، وبالتالي يكون الناجحون من النواب قد حصلوا على أصوات أقلية الشعب ، وليس على أصوات أكثريته . ولتقريب الصورة ، لو فرضنا أن عدد الشعب في بلد أو دائرة ما هو مليون نسمة ، وعدد المرشحين خمسة هم أ ، ب ، ج ، د ، هـ ، وحصل المرشح (أ) على 300 ألف ، والمرشح (ب) على 200 ألف ، والمرشح (ج) على 180 ألف ، والمرشح (د) على 170 ألف ، والمرشح (هـ) على 150 ألف ، وعلى هذا يكون المرشح (أ) هو الأول بأقلية الشعب حيث أن من يريده من الشعب هم 300 ألف من المليون نسمة . وبذلك يكون الناجحون من النواب مفوضين من هذه الأقلية وممثلين لها ، وليسوا مفوضين من الأكثرية الشعبية ولا ممثلين لها .
وكذلك الأمر بالنسبة لرئيس الدولة ، سواء أكان انتخابه من الشعب مباشرة ، أم بواسطة أعضاء البرلمان ، فإنه لا ينتخب بأكثرية أصوات الشعب ، بل بأقلية الأصوات ، كما هو حاصل مع أعضاء البرلمانات .
هذا فضلاً عن أن رؤساء الدول وأعضاء البرلمانات في أعرق البلاد الديمقراطية كأمريكا وبريطانيا يمثلون إرادة الرأسماليين ، من رجال الأعمال وكبار الملاك ، ولا يمثلون إرادة الشعب ، ولا إرادة أكثريته ، فإن كبار الرأسماليين هم الذين يوصلون إلى سدة الحكم ، وإلى المجالس النيابية مَنْ يحقق لهم مصالحهم ، فهم الذين يدفعون نفقات الانتخابات لرئاسة الدولة ، ولعضوية البرلمانات ، وبذلك تكون لهم السيطرة على رؤساء الدول ، وعلى أعضاء البرلمانات . وهذا واقع معروف في أمريكا .
وفي بريطانيا فإن المحافظين هم الحكام ، وحزب المحافظين يمثل كبار الرأسماليين من رجال الأعمال والملاك ، وطبقة اللوردات الأرستقراطية ، ولا يأتي حزب العمال إلى الحكم إلا عند حصول حالة سياسية ، تقتضي ابتعاد المحافظين عن الحكم . ولذلك فالحكام وأعضاء البرلمانات في أمريكا وبريطانيا إنما يمثلون الرأسمالية ، ولا يمثلون إرادة الشعب ، ولا إرادة أكثريته .
ولهذا فإن القول إن البرلمانات في البلاد الديمقراطية تمثل رأي الأكثرية هو كذب وتضليل ، وإن القول إن الحكام يُختارون مِن أكثرية الشعب ، وإنهم يستمدون سلطتهم من الشعب هو كذب وتضليل كذلك .
والتشريعات التي تُسنُّ في تلك البرلمانات ، والقرارات التي تصدرها تلك الدول تكون آخذة بعين الاعتبار مصالح هؤلاء الرأسماليين أكثر من أخذها مصالح الشعب ، أو أكثريته بالاعتبار .
ثم إن القول بأن الحاكم مسؤول أمام البرلمان الذي يجسد الإرادة العامة للشعب ، وانه لا يتخذ القرارات الكبيرة إلا بعد موافقة أكثرية أعضاء البرلمان هو قول لا ينطبق على الحقيقة والواقع . فإيدن أعلن حرب السويس على مصر دون أن يعلم البرلمان ، ودون أن يعلم الوزراء شركاءه في الحكم غير وزيرين أو ثلاثة ، وداليس أيام حرب السويس طلب منه الكونغرس ملف السد العالي ، والأسباب التي أدت إلى سحب عرض تمويله فرفض رفضاً باتاً أن يسلم الملف إلى الكونغرس ، وديغول كان يتخذ القرارات دون أن يدري بها وزراءه .
لذلك فإن القول إن البرلمانات في البلاد الديمقراطية تمثل رأي الأكثرية ، وإن الحكام منتخبون برأي الأكثرية ، وأنهم يحكمون بما تُشرِّعه الأكثرية وتريده هو قول يخالف الحقيقة والواقع ، وهو كذب وتضليل .
هذا في البلاد الديمقراطية العريقة . أما البرلمانات في العالم الإسلامي فهي أقلُّ شأناً ، وهي اسم على غير مسمى ، إذ لا يجرؤ أي برلمان في العالم الإسلامي أن يتعرض لشخص الحاكم ، أو أن يتحداه ، أو أن يتحدى نظام حكمه . فالبرلمان الأردني على سبيل المثال - وقد انتخب باسم إعادة الديمقراطية وتوفير الحريات - لم يجرؤ أن يتعرض لمحاسبة الملك حسين ، أو لفساد حكمه مع علم جميع أعضاء البرلمان أن الفساد والانهيار الاقتصادي إنما هو من فساد حكم العائلة المالكة ، ومن سرقتها للأموال . ومع ذلك لم يتعرض أي عضو من أعضاء البرلمان لذلك ، وإنما تعرضوا لزيد الرفاعي ولبعض الوزراء مع أنهم يعرفون أن زيد الرفاعي والوزراء ما هم إلا موظفون صغار ، لا يجرؤون على أن يتصرفوا أي تصرف دون أن يكون بإذن الملك وعلمه .
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن القوانين في الغالب إنما تَسنُّها الحكومة كمشاريع قوانين ، ثم ترسلها إلى البرلمان فتدرسها اللجان المختصة وتعطي رأيها فيها ثم يصادق عليها أعضاء البرلمان ، وكثير منهم لا يعرفون من واقع هذه القوانين شيئاً ، لأنها ليست من اختصاصهم .
لذلك فإن القول إن التشريعات التي تصدرها البرلمانات في البلاد الديمقراطية هي التي تُعبِّر عن الإرادة العامة للشعب ، وأنها تمثل سيادة الشعب هو قول يخالف الحقيقة والواقع .
ومن المساوئ البارزة في النظام الديمقراطي فيما يتعلق بالحكم والحكومات أنه إذا لم يكن في البلد الديمقراطي أحزاب كبيرة يمكنها أن تحصل على الأغلبية المطلقة في البرلمان ، وبالتالي يمكنها أن تُشكل الحكومة وحدها ، فإن الحكم في مثل هذا البلد يبقى غير مستقر ، وتبقى الحكومات فيه واقعة تحت وطأة أزمات سياسية متلاحقة بشكل مستمر ، لأنه من الصعوبة على الحكومة فيه أن تحصل على ثقة الأغلبية البرلمانية ، مما يضطرها إلى الاستقالة ، وقد تمر شهور دون أن يتمكن رئيس الدولة من تشكيل حكومة جديدة ، مما سيبقي الحكم في البلد مشلولاً وشبه مُعطَّل ، وقد يضطر رئيس الدولة لحل البرلمان ، وإجراء انتخابات جديدة ، بغية تغيير الموازين ، حتى يتمكن من تشكيل حكومة جديدة . وهكذا دواليك يبقى الحكم في البلد غير مستقر ، وتبقى سياسته مهتزة وشبه معطلة . وذلك كإيطاليا واليونان وأمثالهما من البلدان الديمقراطية التي فيها أحزاب كثيرة ، ولا يوجد فيها حزب كبير يستطيع أن يحصل على الأغلبية المطلقة ، لذلك تبقى المساومة بين الأحزاب قائمة ، وقد تتحكم الأحزاب الصغيرة في الأحزاب الأخرى التي تعرض عليها أن تشاركها في تشكيل الحكومة ، فتفرض شروطاً صعبة لتحقيق مصالحها الخاصة ، وبذلك تتحكم الأحزاب الصغيرة التي لا تمثل إلا القلة بالأحزاب الأخرى ، كما تتحكم في سياسات البلد ، وقرارات الحكومة فيه .
هذه بعض المساوئ التي أصابت الدول التي طبقت النظام الديمقراطي ، مما ثبت لنا أن فكرة الديمقراطية فكرة كاذبة فاسدة ، أضف إلى ذلك أعظم مساوئها ألا وهي الحريات العامة ، التي ستكون بإذن الله موضوع الجزء القادم ، ولنا في الحديث بقية إن كان لنا في الحياة بقية .

الموضوع الـتــالـي | الموضوع الســـابق

أدوات المراقبين : غلق الموضوع | أرشيف أو نقل | إلغاء الموضوع

للمراسلة | سوالف للجميع | شبكة سوالف