العودة سوالف للجميع > سوالف شخصيه وثقافيه ادبيه > سوالف الأدب والثقافة > قسم الكـــــــــــتـــــاب > رواية ربيع جابر "تقرير ميليس"
المشاركة في الموضوع
أبو يحى أبو يحى غير متصل    
عضو نشيط جداً  
المشاركات: 361
#1  
رواية ربيع جابر "تقرير ميليس"
تخرج من رواية ربيع جابر "تقرير ميليس" الصادرة عن "المركز الثقافي العربي" و"دار الآداب"، وانت متنازَع بين مبايعة وتحفّظ. فبعد ان تأسرك الرواية، او تكاد، على طول مئتي صفحة، تأتي الصفحات الاربع الاخيرة كما لو لتسحب البساط فجأة من تحت قدميك. لكن اذا وضعنا هذه "المسألة" جانباً، على ان نعود اليها في نهاية المقال، ينجح ربيع جابر، ببساطة ذكية، في تقديم رواية عن الوهن والقنوط والانتظار. عن الزمن العبثي المعلّق والتعب المستشري في اوصال مدينة بناسها وايامها. تعب يطلّ من ابدان الشخصيات (هي في الواقع واحدة رئيسية) في مدينة تفور وتهدأ، تغضب وتشتعل، ثم تعود لتستكين في مزاجية مرهقة. بطله سمعان يارد ينتظر تقرير ميليس ليتابع حياته، متجاهلاً حتى عوارض قلبه، ومستمراً في تأجيل الفحص السنوي. كأنه وجد في التقرير المنتظر نقطة ارتكاز ما، يعلّق عليها ايامه الفارغة، وذريعة تبرر العجز الذي يعانيه وتسمح له بجرجرة حياته حتى ذلك التاريخ: 20 تشرين الاول 2005.

لكن قبل ذلك الموعد، يمسك الكاتب يد سمعان ويرسله في شوارع بيروت. وكمن تنبّه فجأة للمدينة من حوله، يروح هذا الاربعيني الذي امضى حياته في هذه المدينة المتحولة ابداً وامتلأ بقصص جدته عنها في مراحل تكوّنها الاولى، يسجلها بعينيه واذنيه وحواسه كلها. يتذكر معالمها المندثرة ويراقب فورانها بكل مخزون ذاكرته التسجيلية والعاطفية. يستعيدها، او بالاحرى يحاول انقاذها خوفاً من فقدانها. لكن للمرة الاولى، لا يشوب الذكريات، الا في لحظات عابرة، مشاعر الحسرة او النفور، وهي مشاعر استمرت تحكم علاقة جيل عرف بيروت قبل الحرب، بمدينة في غليان. الخوف من فقدانها يصير ذريعة لحب متجدد بلا شروط. لكنه حب يأخذ اشكالاً تعبيرية متناقضة ويجعل الشخصيات (سمعان او "صاحبته" سيسليا) تتأرجح في حالاتها النفسية من النقيض الى النقيض. تذهب، هي المصابة بانشطار داخلي، من ابعد حدود الخوف والهلع الى قمة السعادة الساذجة والطفلية، آخذةً شكل نوبات عارمة من الضحك، متبوعة بحالات وجوم مفاجئة. في لحظة ينظر سمعان الى "الغيوم تفور" ويمتلئ "حباً لهذه المدينة، مدينتي"، بكل ما تحمله ياء المتكلم من حب تملّكي طفلي فيه الكثير من البراءة، ثم لا تلبث "مدينتي" ان تتحول "الى مدينة "متشنجة"، "مريضة ومثل مريضة لا تدري انها مريضة". ليهدأ بعد حين و"يمكث جامداً كأنه يتأمل التلفزيون المطفأ".

ففي هذه المدينة التي تنزلق أكثر، وكل يوم، من بين اصابع ناسها، تصير الاجساد والحالات النفسية اشبه بمؤشر الى حال المدينة في الخارج، تلتقط الذبذبات المتوترة وتعيد انتاجها على شكل ردود فعل غير مبررة. ويبدو انفتاح الداخل على الخارج هذا، سمة مشتركة بين اكثر من رواية في المدة الاخيرة. واذا كان سامر ابو هواش في "عيد العشاق" قد سجل لحظة الالتفات الاولى، فإن ربيع جابر في "تقرير ميليس" يسجل حال الاندماج والانصهار التامين، لتصير المدينة هي الداخل والخارج على السواء. لكن بطله في حركته صوب الخارج الاشبه بصدى فردي لحركة جماهيرية شهدتها المدينة في وقت معيّن، يبدو كمن علق في فضاء الخارج ليراوح مكانه في حال من التوتر والترقب والانتظار.

لكن سمعان يارد يبقى قبل كل شيء رجلاً يعاني فقدان الثقة بالمكان الذي تتبدل ملامحه في سرعة ترهقه، فيستعيض عن معالمه الاصلية بما يحمله هذا المكان من مرتكزات عاطفية تصير هي نقاط الاستدلال الحقيقية: "تغيّرت الطريق كثيراً في هذه السنوات وانا تغيرت كثيراً. لكنها ما زالت الطريق الى بيتنا"، يقول سمعان، حتى لو كان "بيتنا" منزلاً كبيراً فارغاً هجره اهله، ومسكوناً بالذكريات واشباح الماضي. لكن معضلة سمعان الرئيسية والتي يصيبه العجز التام حيالها، هي وجوده عند النقطة التي تشهد تقاطع المكان المندثر بالزمان المتأرجح، الامر الذي تصفه شقيقته جوزفين، من عالمها المتفلت من كل زمان، بهذه الكلمات: "المدينة تحيا وقتاً ثم تتساقط. البيت يحيا عقوداً ثم يقع. المدينة تقع كذلك. مشكلتك انك مولود في لحظة سيقع فيها البيت". وعلى هذه "اللحظة" التي سيقع فيها "البيت - المدينة" يبني جابر روايته، المتشعبة رغم بساطتها الظاهرة والموغلة في العمق رغم كل مظاهر السرد الافقي. لكن هذا السرد التسجيلي الوصفي الذي ينمو من دون عقدة رئيسية تفرض ايقاعاً تصاعدياً ما في البنية الروائية، يبقى رغم رتابته مشدوداً، كثيفاً، مستنفراً، يتأرجح بخفة شديدة بين لامبالاة اسلوبية وعصب متوتر، محافظاً على توازن داخلي مقبول. لا ترتفع وتيرته الا في لحظات معدودة في انذارات كاذبة هي وليدة خيال شخصيات على شفير الانهيار العصبي والجسدي والعاطفي.

يقابل جابر كذلك بين عالمين موازيين قد يتلامسان برهة لكنهما لا يتداخلان: عالم الاحياء او في شكل اكثر تحديداً "عالم" بيروت قبل تقرير ميليس، وعالم الاموات حيث الزمن متوقف تماماً. حيث الثياب لا تبلى والناس لا يتقدمون في السن، حيث لديك الوقت كله لتقرأ "الياذة" هوميروس بقدر ما تشاء... وحيث جرذ في حجم جبل، جرذ آكل الارواح، يوقظه من نومه دوي انفجارات بيروت. عالم اشبه بمكتبة كبيرة لانهائية، يمضي فيها الناس وقتهم في القراءة، على نهم لا يعرف شبعاً. يكتبون ايضاً، لكنهم بعد وقت يكفّون عن ذلك لأنهم يكتشفون ان القراءة اهم من الكتابة، ومن يحب القراءة حقاً لا يضيّع وقته في الكتابة. هنا المشاعر والاحاسيس ذكرى مشاعر واحاسيس، ومن يموت قبل اوانه تؤرقه الحياة الباقية في جسده ويعذبه الحنين الى عالم الاحياء، وخلاصه الوحيد الجرذ آكل الارواح. الشخصية الرئيسية في هذا العالم هي جوزفين يارد، شقيقة سمعان، التي خطفت في اوائل الثمانينات على معبر المتحف، والتي يؤرقها الحنين الى الحياة وتحاول، في ما يوحي بتنبيه او انذار، الاتصال بشقيقها ولا تنجح. تجول في انحاء العالم المكتبة وتسجل مشاهداتها متوقفةً عند هؤلاء الذين صاروا اخيراً شهداء حرية غير مؤكدة... هذا كله يقدمه الكاتب في غرائبية ذكية ومحبوكة جيداً، تبدو احياناً اكثر واقعية من حياة بيروت نفسها، لكن تبقى هِنتها الاساسية في هشاشة المنطق الذي يبررها وفي صِلاتها غير المؤكدة مع العالم الموازي والتي تضعف النسيج الروائي في شكل لا مفر من الشعور به. كأن الكاتب بإدخاله هذا العالم، كمكوّن اساسي في روايته، اراد الايحاء أن بيروت، بحروبها المتكررة والموت المتنقل فيها، باتت هي ايضاً مشطورة نصفين: قسم في عالم الاموات وقسم في عالم الاحياء... ينتظر.

في العودة الى "مسألة" الفصل الاخير من الرواية، فقد كان يمكن ايراده تحت عنوانه الصريح، اي "تحية" الى رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، فلا يبدو دخيلاً على السياق الروائي العام ومفتقداً اي مبرر سردي لوجوده.

أبو يحى غير متصل قديم 22-02-2006 , 06:17 PM    الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


[عرض نسخة للطّباعة عرض نسخة للطّباعة | ارسل هذه الصفحة لصديق ارسل هذه الصفحة لصديق]

الانتقال السريع
   قوانين المشاركة :
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة لا بإمكانك إضافة مرفقات لا بإمكانك تعديل مشاركاتك
كود في بي vB متاح الإبتسامات متاح كود [IMG] متاح كود HTML غير متاح



لمراسلتنا - شبكة سوالف - الأرشيف

Powered by: vBulletin
Copyright © Jelsoft Enterprises Limited 2000.