أنا أكتب للشعب
برغم كونه لا يستطيع بأعينه الهلكى
أن يقرأ أشعاري
ولكن ستأتي اللحظة التي يبلغ
فيها أسماعه
سطر هو الريح التي تزلزل حياتي
وعندئذ، سيرفع الفلاح الطيب
عينيه
وسيبسم العامل وهو يحطم
الأحجار
وسيغسل حامل المجرفة جبينه
وسيتملى الصياد ألقاً نابضاً من
السمكة التي ستحرق يديه
والميكانيكي المستحم بعطر الصابون
سيرنو إلى قصائدي،
وربما قالوا جميعاً:
لقد كان رفيقاً لنا
هذا يكفيني
إنه التاج الذي أشتهي
أريد أن يتحد شعري بالأرض
وأن ينصهر بالهواء، بانتصار
الإنسان المهان".
بهذا جعل نيرودا الشعر فعلاً، جماعياً، يتخذ مكانه في النضال، وفي تبديل العالم. وإذا كان قد توغل في كثير من قصائده، ومقاطعه، في عالم الفن المتصل بالسوريالية، فإنه إلى هذا، أخذ بمبدأ التبسيط الذي يضارع النثر حيناً. وذلك بمثابة استراحة يفزع إليها كلما أنس في قارئيه تعباً، أوشك أن يقتعد بهم مقعد العزوف عن الصعوبة المتصدية لفهمهم البسيط.
ومن هذا الواقع الذي حمل الشاعر على الاقتناع بأن الشعر جزء من الواقع وجزء من المصير، راح نيرودا ينشر كنوزه، منتقلاً من منفى إلى منفى، ومن بلد إلى آخر، حتى عرفته عواصم الدنيا: باريس، ولندن، وموسكو، وبيكين، وبراغ، وبرلين وسواهما. وقد أقام الشاعر معها جميعاً جسراً من الصداقة وهو يقول ممعناً في السفر والتجوال:
"لنستمر في رحلتنا لأن الحياة
مستمرة
وعندئذ
عبر البارحة واليوم وغداً
سيحضر النبيذ والزعفران المأدبة
فتلتمع الأسماك في جهاز عرسها
وفي الجو الأفريقي ترقص الأغطية".
لقد أكدت مادة العالم، فوق ذلك، حضور الشاعر العاطفي في دور الحياة والموت، وكان الحب ديدنه في صبوته وفي نشدانه اللحظة الماتعة على أنها لبانة العمر:
"المسام، والعروق، وأطواق
الحنان
الأثقال، والحرارة الصموت والسهام اللصيقة بروحك الساقطة كائنات هاجعة في فمك الغليظ غبار
شحمة ناعمة محترقة
رماد مليء بنفوس منطفئة.
تعالي إلي، إلى حلمي اللامحدود
وانزلي في غرفتي حيث يهبط
الليل
ويهبط دونما هوادة مثل مياه
محطمة
وشديني بحياتك، وبموتك
وبموادك اللينة
بحماماتك الميتة والمحايدة
ولنصبح ناراً، وصمتاً، وضجيجاً
ولنحترق، ولنصمت، مع
الأجراس"
اكتشف نيرودا الملح الذي بدونه لم يكن ثمة خبز شعري يؤكل في هذا الزمان. ومع ذلك لم ينته عنده أي شيء. فهو يردد:
"لا وقت لدي فيما يتعلق
بآلامي الخاصة"
وهو يضيف:
"الحقيقة أعلى من القمر".
ويصور أيضاً:
"العالم بلون التفاحة"
وينشد قائلاً:
"إني أحب نشيد الناس الأعمى
وضجة الملح التي تصدم
جدران الفجر المحتضر".
ويبوح بسره هامساً:
"إني أسمع، وأرى
نصف روحي على البحر
والنصف الآخر على الأرض
والنصفان ينظران إلى العالم".
ولكي نعيش في أجواء الشاعر الكبير، ونلمس شغفه بالحياة الذي يضارع العبادة، فلنقرأ له هذه الباقة المعطار من قصائده:
1ـ إني أطلب الصمت
أما الآن فدعوني وشأني
وافعلوا ما شئتم في غيابي
أود أن أغمض عيني.
لا أبغي سوى أشياء خمسة
خمسة جذور أثيرة
أولها، حب بلا نهاية.
ثانيها رؤية الخريف.
لا أستطيع أن أعيش دون أن أرى
الأوراق تدور وتتساقط على الأرض.
ثالثها، رؤية الشتاء الباهظ
المطر الذي أحببت
ومداعبة النار في برد الغابة
رابعها، رؤية الصيف
مستديراً كما رأس البطيخ
خامساً رؤية عينيك
ماتيلد، حبيبتي
لا أريد النوم بدون عينيك
لا أود أن أكون بدون نظرتك
لأكيفنَّ الربيع
كيما تقتفي أثري بنظراتك.
أيها الأصدقاء، هذا كل ما أبتغي
يكاد يكون لا شيء
ويكاد يكون كل شيء
أما الآن، تفضلوا ودعوني لوحدي.
لقد بلغت من العمر بحيث ينبغي
أن تنسوني ذات يوم
أن تمحوا اسمي عن اللوح:
كان قلبي بلا حدود
ولكنني إذا ما طلبت الصمت
فلا يخامرنكم ظن أنني سأموت
العكس تماماً هو ما يحصل لي
يتفق أنني سأعيش.
ويتفق أنني موجود ومستمر الوجود.
ألا تبصرون فيَّ، ومني
تنمو الغلال
الحبوب في بادئ الأمر
تفتق الأرض لتبصر النور
لكنها مظلمة هذه الأرض الأم:
ومظلمة هي أحشاؤها:
إني أشبه ببئر
تقطف نجوم الليل
التي وحدها عبر الحقول
تتابع طريقها
وبقدر ما عشت أريد أن أعيش
هذه بغيتي.
لم أشعر بعمق رنيني شعوري اليوم
ولم أشعر في كوني مغموراً بهذا القدر
من القبل.
الوقت ما زال مبكراً.
شأنه في ذلك دائماً
الضوء يطير مع نحلاته.
دعوني وحيداً مع النهار
أرجوكم دعوني أولد.
...
2ـ أمام رجل الطفل
رجل الطفل لا تعلم بعد أنها رجل
تريد أن تكون فراشة،
فراشة أو تفاحة.
ولكن منذ ما تبدأ في الخطو
تعلم الشوارع والأدراج
الزجاج والحجر
الأزقة الصلفة
تعلم الرجل أنها عاجزة عن أن تطير
إنها لا تقدر أن تتدور ثمرة في الغصن
وعندئذ انهزمت رجل الطفل
سقطت في المعركة
أضحت أسيرة
مقضياً عليها أن تعيش طريدة.
ورويداً رويدا
بدون ضوء
عرفت العالم على طريقها
جاهلة الرجل الأخرى، المغلقة
المكتشفة العمياء للحياة.
تلك الأظافر الطرية
عناقيد الصوان
تدركها القساوة
تصبح مادة كثيفة، صلبة،
زاوية حادة
وتويجات الطفل الصغيرة
المسحوقة، المختلَّة
تتخذ شكل أفاع بلا عيون
وديدان برؤوس مثلثة الزوايا.
ثم تتصلب من جديد.
وترتدي
براكين موت دقيقة
وخشونة مفرطة
لكن أعمانا هذا مشى
دونما هوادة، ودونما كلل
ساعة عقب ساعة
مشت هذه الرجل وتلك
تارة رجل رجل
تارة رجل امرأة
مشت من فوق ومن تحت
خلال حقول ومناجم
ومتاجر ووزارات
مشت إلى الوراء
وفي الخارج
وفي الداخل
وإلى الأمام
دائماً منتعلة
عملت هذه الرجل
وكادت أن لا تكون
في وقت ما عارية
في الحب أو في الحلم
لقد مشت وحدها
ومشت جميعاً
إلى أن توقف الإنسان كتلة واحدة.
وعندئذ نزلت
إلى الأرض ولم تعلم شيئاً
ذلك لأن كل شيء كان مظلماً
ولم تعلم أنها كفت عن أن تكون
رجلاً.
لا تطير إذا دفنت
ولا تستطيع أن تصبح تفاحة.
3ـ الفارس وحيداً
الشبان والفتيات العاشقات
والأرامل اللواتي وقعن فريسة الأرق
الهاذي
والسيدات الشابات الحوامل منذ
ثلاثين ساعة خلت
والقطط المبحوحة التي تعبر بستاني
المظلم
صنو عقد انتظمته أصداف،
جميعها تدور حول مسكني المستوحد
مثل أعداء تحصنوا حول نفسي
وكمثل متآمرين بلباس الليل
يتبادلون القبل الطويلة العميقة على
إنها شارة المرور.
...
الصيف المتألق يقود العشاق
المرتدين أزياء جيوش حزينة
مكونة من أزواج هزيلة وسمينة
فرحة، وحزينة
تحت أشجار جوز الهند الأنيقة
قرب الأوقيانوس والقمر