العودة سوالف للجميع > سوالف شخصيه وثقافيه ادبيه > سوالف الأدب والثقافة > قسم الكـــــــــــتـــــاب > «ملحمة جلجامش»
المشاركة في الموضوع
أبو يحى أبو يحى غير متصل    
عضو نشيط جداً  
المشاركات: 361
#1  
«ملحمة جلجامش»


في مقدمته للطبعة الرابعة لملحة «جلجامش»، أكد الباحث الأثري العراقي الراحل طه باقر، أن هذه الملحمة هي أقدم نوع من أدب الملاحم البطولية في جميع الحضارات، وأنهشا أطول وأكمل ملحمة عرفتها حضارات العالم القديم، وليس هنالك ما يقرن بها أو ما يضاهيها من آداب الحضارات القديمة قبل الإلياذة والأوديسة في الأدب اليوناني، وقد ظهرت هاتان الملحمتان بعدها بثمانية قرون. وأبعد من ذلك ذهب إلى أنه لو لم يأتنا من حضارة وادي الرافدين، من منجزاتها وعلومها وفنونها، شيء سوى هذه الملحمة، لكانت جديرة بأن تتبوأ تلك الحضارة مكانة سامية بين الحضارات العالمية القديمة.
هذه الملحمة التي دونت قبل أكثر من أربعة آلاف سنة ما زالت مثار اهتمام واسع على صعيد عالمي. ولدى زيارته جناح الآثار العراقية في متحف اللوفر بباريس، ومشاهدته تمثالا لجلجامش وهو يحمل أسدا وأفعى يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، تبلورت في ذهن الدبلوماسي المغربي عبد القادر الجموسي فكرة استيحاء الملحمة عبر عمل لا يكون ترجمة لما جاء في الألواح السومرية الأحد عشر، بل باعتماد صياغة أدبية حديثة لحكاية الملك جلجامش، صياغة تحتفظ للنص الأصلي بعناصره الأساسية ومخزونه الثقافي الحضاري. كما تغامر في اتخاذ خيارات سردية وجمالية تمنحه حيوية راهنة ونكهة ذاتية تخاطب القارئ المعاصر وتستجيب لأفق انتظاره الفني; وتتعمد أحياناً إرباكه بشحنة خيالية مغايرة للمألوف تزج به في فضاءات متخيل قديم متواصل ومتجدد.
وإذ يؤكد أن ملحمة «جلجامش» هي وثيقة إنسانية كونية بامتياز، فهو يرى أن نص الملحمة المتعارف عليه Standard Version، وهي الأطول والأكمل من نوعها حتى الآن، قد صيغ بطريقة بديعة حملت لنا عبر العصور والأزمنة المتعاقبة علامات بارزة عن القدرة الابتكارية في التوليف والسرد والبناء الدرامي والإيحاء الرمزي التي كان يتمتع بها الكاتب/الناسخ العراقي القديم; كما عكست لنا بأسلوب فني شيق، وببراعة مدهشة، شواغله الوجودية ورؤيته للحياة والموت والجمال والخير والعدل.
لقد عمد الجيوسي في تدوين حكايته الملحمية إلى بث نفحات ذاتية تأملية من ذائقته الفنية وتجربته الشعورية الخاصة التي تتماشى مع روح الملحمة منطلِقاً من صميم علاقته الخاصة مع الكلمة والفكر والحياة. وهو يقول انه تجرأ «على ملء فضاءات ما تزال مهمشة أو ناقصة ـ حسب رأي أهل الاختصاص في الحفريات ـ لكنها مع ذلك تسبغ جسد الملحمة بمسحة من الغموض والإبهام الجليل الملهم والمستفز للخيال والإبداع. وكأن الملحمة تريد من خلال هذا البياض المؤجل والسكوت المحرض أن تستفيد من لعبة الغياب والمنسوخ لتعيد كتابة نفسها بشكل إبداعي متجدد يجعلها على اتصال وتفاعل حواري حيوي مع حساسيات الأجيال المتعاقبة إلى يومنا الراهن».
لقد حاول المؤلف أن يتخلص من قيود الترجمة التي قد تفرض ثقلها على نص شعري قديم، واستعان بأهم محاورها لتدعم النص الذي كتبه. وبالعودة إلى ترجمة طه باقر نجد أنه عنون الفصل الأول منها بـ«جلجامش وأنكيدو»، واستهله بالمقطع التالي: هو الذي رأى كل شيء فغنّي بذكره يا بلادي/ وهو الذي رأى جميع الأشياء وأفاد من عبرها/ وهو الحكيم العارف بكل شيء:/ لقد أبصر الأسرار وكشف عن الخفايا المكتومة/ وجاء بأنباء ما قبل الطوفان/ لقد سلك طرقاً بعيدة متقلباً ما بين التعب والراحة/ فنقش في نصب من الحجر كل ما عاناه وخبره.
إلا أن الكاتب وخارج تصرفه الشكلي بالنصوص الشعرية، دوّن الجانب السردي بتصرف أوسع، وكتبه بلغة اليوم، وكأنه شاهد بنفسه أحداث الملحمة تجري الآن وكتب عنها، مع التمسك بالمضامين والسياقات العامة لها. وبالإضافة إلى فصل الاستهلال، واصل سرد حكايته الملحمية عبر أربعة فصول أخرى، وقد حمل الفصل الثاني عنوان «جلجامش وأنكيدو: الميثاق المقدس»، وتضمن ثلاثة أجزاء هي: جلجامش ملك أوروك ـ مجيء أنكيدو ـ مصرع همبابا الرهيب. وجاء الفصل الثالث تحت عنوان «لعنة عشتار»، وتألف من جزأين هما: عشتار والثور السماوي ـ موت أنكيدو. وأطل علينا الفصل الرابع «تغريبة جلجامش: رحلة البحث عن الخلود»، متضمنا الأجزاء الثلاثة التالية: البشر.. العقارب/ سيدوري صاحبة الحانة/ أورشنابي عابر بحر الموت. أما الفصل الخامس والأخير «أوتنابشتم يحكي قصة الطوفان»، فقد تألف من ثلاثة أجزاء كالتالي: لقاء جلجامش وأوتنابشتم ـ قصة الاختبار والعودة.
في الفصل الأخير يلخص الجموسي محنة جلجامش وخيبة مسعاه وعدم يأسه في آن. لقد حصل على نبتة الخلود من أوتنابشتم الذي اختبره بأن ينام ستة أيام كاملة من دون أن يحرك ساكناً، وذلك بعد مخاضات ومغامرات عسيرة ومميتة شهدتها رحلته الجريئة، فقد خلالها صديقه أنكيدو. وقد طلب أوتنابشتم إلى أورشنابي أن يقود سفينة تحمل جلجامش إلى أرضه الأولى. وكان جلجامش، وهو يحمل معه نبتة الخلود، يقول لرفيق عودته وهو ممتلئ بالغبطة والزهو: «إن هذه النبتة تطيل عمر الإنسان وتعيد إليه عنفوان الشباب.. سأحملها يا أورشنابي مفاخراً بها أبناء شعبي فأجدد لهم نضارة أيامهم وأعيد إليهم نكهة الحياة.. وحين أشيخ بدوري سأتناول منها لأستعيد شبابي ومجدي».
جلجامش الكاتب: عبد القادر الجموسي

خالد الحلي - الشرق الاوسط 3 / 3 / 2005 م

أبو يحى غير متصل قديم 03-03-2005 , 07:52 PM    الرد مع إقتباس
أبو يحى أبو يحى غير متصل    
عضو نشيط جداً  
المشاركات: 361
#2  

المسكوت عنه في ملحمة جلجامش

ناجح المعموري

" المجهول باهر وساطع"

الشاعر لوران غاسبار
إن العلاقة بين جلجامش وعشتار، واحدة من أهم البنى الفكرية في الملحمة. وموقف الملك العائد من غابة الأرز منتصراً ومزدهياً، متباهياً بانتصاره الفريد، واستقبال الآلهة انانا/عشتار له وطلبها الزواج منه، ورفضه لذلك وإهانته لها، يمثل موقفاً مثيراً للسؤال والحماس في محاولة لتلمس الأسباب، واكتشاف قراءة، ربما ستساهم في إضاءة جانب ولو بسيط من مساحة العلاقة بين الاثنين، اعتماداً على نص الملحمة الأسطورة انانا وشجرة الخالوب.

معروف بأن انانا/عشتار كانت وظلت رمزاً دينياً وفكرياً حيوياً في الفكر العراقي القديم. وخضع هذا الرمز للتطورات المهمة، مضافاً له صفات جديدة، حصلت، كانعكاس للضرورات في المراحل الاجتماعية والسياسية والدينية في العراق القديم. وهذا أمر معروف، ولا نجد ضرورة للدخول في تفاصيل ذلك. لكنها وبشكل عام كانت ألهة مسؤولة عن مظاهر الحب وممارسة الرغبات الإنسانية. ولها دور خاص، معبر عن عناصر العلاقة الثنائية بين الرجل والمرأة. وبالرغم من تعدد صفات انانا/عشتار، فإنها ظلت آلهة للحب والملذات (وأهم ما ينبغي الإشارة إليه بهذا الخصوص أن العراقيين القدماء جسدوا في الآلهة انانا/عشتار جميع خصال المرأة: أنوثتها، وطباعها وعاداتها، ولذلك فلا غرابة إذا ما تعددت وتنوعت صورها في التآليف المسمارية، فيجدها الباحث مرة وهي امرأة مستضعفة تقع فريسة سهلة للرجل. وتشخص في مناسبة ثانية بدور فتاة حيرى بين حبيبين يتنافسان على حبها وفي قصة ثالثة بدور فتاة أحبت من تفانى في حبها ولكنها تتنكر له في آخر لحظة، فتكون سبباً في مأساته(1). ويؤكد د.نائل حنون صفات الآلهة انانا/ عشتار المتغيرة، وهي تجمع كل جوانب شخصية المرأة بإيجابياتها وسلبياتها. والمرأة كما رآها سكان العراق القدماء أكثر حدية وتطرفاً من الرجل في كل من الجانبين الإيجابي والسلبي، الرقيق والمهتاج. فالمرأة تنساق لعواطفها أكثر من الرجل. وهي أقل قدرة منه في السيطرة على انفعالاتها وهذا ما ارتبط في أذهانهم وبشكل مضخم بالآلهة انانا. فجعلوا منها تجسيداً لكل الحالات العقلية والغريزية التي تمر فيها المرأة)(2). بعد هذا التوصيف الموجز لشخصية ومكانة انانا/عشتار في الفكر العراقي القديم، سنحاول فحص العلاقة الثنائية بين جلجامش وعشتار من خلال ما توافر لنا من نصوص قليلة، لتسليط ضوء بسيط والإشارة إلى المسكوت عنه في نص الملحمة.

أسطورة انانا وشجرة الخالوب
تقدم لنا هذه الأسطورة عناصر أولية ومهمة في تفحص العلاقة الثنائية بين الاثنين، وملخص هذه الأسطورة: أن الآلهة رأت ذات يوم أن ريحاً عاتية كانت تعصف بشجرة تنبت على ضفة نهر الفرات، فأشفقت عليها ولذلك نقلتها إلى الوركاء حيث زرعتها مجدداً في بستانها المقدس على أمل أن تصنع من خشبها عرشاً وسريراً. ولم تستطع الآلهة انانا قطعها بعدما كبرت، لأنها وجدت الحية قد اتخذت من أسفلها مخبأً وأن الطائر (امدكود) قد بنى له عشاً وأن العفريتة (ليليث) اسقرت في وسط جذعها. ولما سمع (أوتو) آله الشمس بكاء أخته، طلب الملك جلجامش لنجدتها وهرع متسلحاً بدرعه السميك وفأسه الثقيلة، ونجح في قتل الحية وفر الطائر إلى الجبل وهربت العفريتة ليليث إلى الخرائب. وأخيراً قطع جلجامش الشجرة وجاء بها هدية إلى الآلهة انانا/ عشتار لتصنع منها عرشاً وسريراً.

وذكرت الترجمة الروسية بأن الوحش (الأسد والصقر وليليث سكنوها حيث تمكن جلجامش من طرد الوحش وصنع لانانا عرشاً وسريراً)(3). ولهذا فإنه استلم الأدوات السحرية تلك التي سقطت فيما بعد في مسكن النجار في العالم السفلي(4). توضح لنا تفاصيل هذه الأسطورة، استجابة جلجامش لطلب الاله أوتو، إله الشمس في نجدتها والتهوين عليها لأن الاله أتو أدرك بشكل جيد القدرات البطولية الخارقة للملك جلجامش، وامكاناته في الانتصار على القوى الشريرة التي استوطنت شجرة الخالوب (الصفصاف) وبالرغم من قناعة جلجامش بإمكاناته القوية نجده أكثر حيطة، لذا تدرع وأخذ فأسه معه (والتي رافقته أيضاً في رحلته إلى غابة الأرز) وشاء العراقي القديم، من خلال الفأس، تمجيداً للعمل الإنساني.. والعمل الإنساني هو ليس فقط الجوهر الفعلي للإنسان، وإنما هو كذلك سبب وجوده)(5). وفعلاً تحقق للاله أوتو ما أراده لأخته انانا/عشتار وكفكف دموعها. ويبدو لي بأن فعلة جلجامش تلك هي التي أوجدت بنية العداوة بين الحية والإنسان. حيث لاحقته، ممثلاً بجلجامش، في سفرته للبحث عن الخلود. وتقدم لنا هذه الأسطورة صورة دقيقة للمكانة الدينية الكبيرة التي يتمتع بها الاله أوتو وكذلك انانا/ عشتار، من خلال استجابة جلجامش السريعة، والنجاح في تحقيق ما هو مطلوب منه، وذلك قبل أن يتعمق الصراع بين الديانة الرسمية والشعبية، وكذلك السلطة السياسية. وقد شعرت الآلهة انانا/عشتار بالفرح الغامر، وهو ينقذها من الحية والأرواح الشريرة.

وتقديم الهدية الالهية إلى الملك جلجامش، تعني حب واحترام عشتار له وإعجابها به وبقدراته الجسدية والبطولية، مثلما جسدت معرفة الآلهة الدقيقة بالملك، الممثل للسلطة السياسية، والحاصل على اللاهوت أيضاً، وبنسبة معروفة لنا من خلال نص الملحمة. وتؤسس هذه الأسطورة بداية للعلاقة الواضحة والصريحة بين جلجامش وعشتار. ومن المحتمل أن يكون الفعل الذي أنجزه، تعبيراً عن رغبة جلجامش بالاتصال مع عشتار من خلال التقرب إليها، والذي كشفته أسطورة شجرة الخالوب. لقد شعر أما أوتو بالامتثال التام والواضح جداً، ولهذا أسبابه، منها رضوخه للسلطة الالهية واستجابته لطلب الاله، ورغبة منه بالتقرب إليها والاتصال بها، لاسيما وأنه حريص على أداء شعائره الدينية ويندفع لممارسة طقوس الشعائر الخاصة بالزواج المقدس، لأنه كان يتصل بعشتار من خلال الكاهنات في الاحتفالات التي عرفها العراق القديم.

فرِح الأبطال وهللوا قائلين:

لقد ظهر بطل ند وكفؤ للبطل الجميل.. أجل ظهر جلجامش، الشبيه بالاله، نظيره ومثيله. ولما هيء الفراش لـ(اشخارا) واقترب جلجامش ليتصل بالآلهة مساء)(6). إن رغبة جلجامش وسعيه للاتصال بالآلهة مساءً هو تأكيد على العناصر المخصبة في الفكر العراقي القديم وترسيخها للطقوس الدينية المؤسسة والتي التزم بها ونفذها. لكن نص الملحمة لم يشر منذ دخول أنكيدو لمدينة أوروك على وجود اتصالات ثنائية بين جلجامش وأية امرأة أخرى(7). ولم تقم عشتار بواجبها المرسوم لها في الفكر القديم، والمسؤولة هي عنه. ويبدو لي بأن دخول أنكيدو إلى أوروك قد أوجد شرخاً كبيراً في تنفيذ هذه الشعيرة الدينية المقدسة، فيما إذا عرفنا بأن انانا/عشتار في سلالة أور الأولى بالذات في فترة حم جلجامش أكثر نضجاً وإدراكاً في التنفيذ والمحافظة على طقوس الاتصال الثنائي مما كانت عليه أثناء علاقتها بالاله دموزي(8) ومثلت الملحمة تطوراً كاشفاً عن نشوء مرحلة اجتماعية وسياسية ودينية جديدة. وكانت فيها انانا/ عشتار آلهة ناضجة وذات وعي متقدم في اختيارها للرجولة، من أجل تحقيق الاتصال معها، تنفيذاً للطقس الديني الذي كان سائداً آنذاك. وكان جلجامش محققاً لطموحها في الزواج الذي تريد وتحلم به فهو ملك قوي جداً، وجميل، منظره مثير للنسوة في أوروك وللنساء اللاتي كن في المعبد. وكان متميزاً بفحولته الخارقة وذكورة طولها تسعة أشبار. وقد حقق انتصاراً فريداً من نوعه في القتال مع خمبابا والانتصار عليه، وعودته مزهواً إلى أوروك متفاخراً بقدراته الملكية.

سار راكباً في دروب السوق في أوروك فاجتمع أهل أوروك ليشاهدوه، وصار جلجامش يخاطب مغنيات أوروك ويردد: من الأزهى بين الأبطال ومن الأمجد بين الرجال؟(9). فيجبنه: جلجامش الأزهى بين الأبطال، الأزهى بين الرجال.. وواضح أن جلجامش مولع بالثناء عليه خصوصاً من قبل النسوة والفتيات.. وإلا لم اختار الكاهن/ الشاعر الذي صاغ القصائد أن تكون الحوارية بين جلجامش والفتيات. وإضافة إلى الصورة الأولى التي كانت مرتسمة في ذاكرتها، عن الملك جلجامش، كانت صورته الجديدة مثيرة ومجيدة في آن واحد. لذا استقبلته عشتار استقبالاً يكمن وراءه رغبتها وحلمها الذي تريد." غسل جلجامش شعره الطويل وصقل سلاحه./ وأرسل جدائل شعره على كتفيه،/ وخلع لباسه الوسخ واكتسى حللاً نظيفة/ ارتدى حلة مزركشة وربطها بزنار"(10).. يرسم لنا هذا المقطع طقساً شائعاً في العراق القديم، وأعتقد بأنه جزء من طقوس دينية. فالملحمة أشارت، وفي أكثر من مكان إلى الاغتسال بالماء والتنظف، كشكل من التطهر، واعتبر الفكر العراقي الاغتسال شرطاً ضرورياً للإنسان عند القيام بأية مهمة وخاصة المهام الصعبة، كالقتال أو السفر البعيد.." ولما أن لبس جلجامش تاجه/ رفعت عشتار الجليلة عينيها/ ورمقت جمال جلجامش فنادته:/ تعال يا جلجامش وكن حبيبي الذي اخترت/ امنحني ثمرتك(بذرتك) أتمتع بها/ستكون أنت زوجي وأكون زوجك/سأعد لك مركبة من حجر الازورد والذهب/عجلاتها من الذهب وقرونها من البرونز/وستربط لجرها شياطين الصاعقة/ بدلاً من البغال الضخمة"(11).

لكن جلجامش كان حاداً وقاسياً، ومارس (تحقيره أو إهانة آلهة الأنوثة العظيمة لفترة عهد الأمومة)(12) وكلام جلجامش لا يمكن أن يصدر عن ملك أخضع نفسه لفترة طويلة لتقديم طقوس الولاء وممارسة شعائر الزواج المقدس كحق ملكي. وبتحقيره لها، خسر إلى الأبد خضوع الملوك والحكام والأمراء، وبفعلته تلك خسر أيضاً الأتاوات الزراعية والمنتجة فوق الجبال والسهول وسيواجه قحطاً.

قال لها جلجامش:" أي خير سأناله لو أخذتك زوجة؟/ أنتِ!.. ما أنت إلا الموقد الذي تخمد ناره في البرد/ أنت كالباب الخلفي لا يصد ريحاً ولا عاصفة/أنتِ قصر تحطم في داخله الأبطال/أنت فيل يمزق رحله/أنت قير يلوث من يحمله/ أنت قربة تبلل حاملها/أنت حجر مرمر ينهار جداره/ أنت حجر (يشب) يستقدم العدو ويغريه/وأنت نفل يقرص قدم منتعله/ أي من عشاقك من أحببتهِ على الدوام؟/ وأي من رعاتك من أرضاك دائماً؟/.. تعالي أقص عليك مآسي عشاقك."(13).

إنها صراحة متناهية، وتحقير مشحون بالحقد والغضب والكراهية. لقد زاد جلجامش من غضبها بالإهانة المباشرة والمكشوفة أمام سكان أوروك، بعد أن قتل خمبابا، ولم يحترم سلطة الآلهة الكبار، لقد تجاوز في فعلته كثيراً، واتسعت مساحة غطرسته كثيراً. وصعود عشتار إلى آنو في مجلس الآلهة للحصول على الثور السماوي السحري كان لغرض تحقيق: أولاً: صيانة سلطة الآلهة، ممثلة بمجلسها والذي أهانه جلجامش وحقره، وتجاوز على خمبابا مخلوق الآلهة. ثانياً: سعيها لممارسة فعل الضغط الديني على السلطة السياسية ـ جلجامش ـ من خلال تدمير السكان وقتلهم. الناس الذين كانوا حلم جلجامش، ومستقبل حياته. كي يظل متباهياً عليهم وفخوراً لأنهم شعب طوباوي، قانع بالذي هو فيه. ثالثاً: كان إنزالها للثور السماوي السحري محاولة لكبح جماح الملك الذي اشتاقت إليه وهو عائد بعد انتصاره، في محاولة لجس نبض القائد المنتصر والذي هرع إليها من قبل وأنقذ شجرة الخالوب. وجاء انتصارهما؛ جلجامش/ أنكيدو، في قتل الثور السماوي ليؤكد على اتساع مساحة السلطة السياسية في أوروك وتكامل عناصرها العسكرية والاجتماعية والجماهيرية دينياً. لم تستطع عشتار كبح شبقها وتصاعد رغبتها، وهي تراه مزدهياً بعلامات الانتصار. وواضح بأن انانا/عشتار لم تجد لها غير جلجامش لأنها لا يمكن أن تقيم علاقة مع أنكيدو(خادم جلجامش في بعض النصوص) فإقامة علاقة الاتصال مع إنسان عادي، يترتب عليها العديد من المحاذير. ولأن (شوكليتودو) ملاحق من قبلها بعدما مارس معها فعل الاتصال أثناء نومها (ولم يكن التخوف من اتصال الإنسان بالآلهة مقتصراً على أساطير سومر)(14). وكان مقتل الثور السماوي إشارة لفقدان هيبة الآلهة في بعض جوانبها، وتجسد هذا أيضاً بتجاوزات أنكيدو على عشتار. أما عشتار فإنها اعتلت فوق أسوار أوروك المحصنة، قفزت فوق الشرفات وقذفت بلعنتها صارخة:" لو أمسكت بك لفعلت بك مثل ما فعلت به ولربطت أحشاءه بجنبيك". ومحاولتها لفحص شخصية أنكيدو وعلاقته مع عشتار، وخزها وإهانتها تقدم لنا تأويلاً له صلة باغتراب أنكيدو في أوروك. لأنه يرى مأساة النفي التي عاشها بعد الجذب من البراري، متجسدة بعشتار لأن البغي التي مارست معه فعل الإغواء، واحدة من نساء معبدها في المدينة ولأنها آلهة الحب والرغبات ومسؤولة عن علاقة الاتصال، فهي التي تتحمل نتائج دخوله إلى أوروك، وإحساسه بالغربة وهيمنة ثقل المنفى عليه.. لم تقدم لنا الأساطير والقصائد والمرتلات موقفاً كالذي قام به جلجامش مع عشتار، حيث لا يمكن لأحد أن يتصرف معها بمثل الذي حصل، وكلنا نتذكر ونعرف جيداً تفاصيل أسطورة نزول انانا إلى العالم السفلي وخروجها منه، وملاحقتها للبديل/ دموزي الذي لم يستطع، وهو الملك/ الاله أن يتصرف مثلما فعل جلجامش معها. بل كان ضعيفاً متوسلاً بها.. فمن أين جاءت لجلجامش هذه الغطرسة وأهان عشتار ذات المكانة الدينية المعروفة والتي خسرت فرصتها في إشباع رغبتها الجنسية. وكشف لنا نص الملحمة زيارتها لمعبدها في أوروك، وتجمع النساء والبغايا وإطلاق مشاعر البكاء والنواح بسبب الإذلال والإهانة، ولخسارتهن فرص إشباع الرغبات بعد توقف ذلك بالنسبة للالهة عشتار الجائعة لإشباع شبقها، فإن النساء لا يختلفن عنها (وجسد موقفه ذاك نموذجاً لثورة الإنسان ضد الآلهة بسبب ارتكاب هذه الأخيرة للظلم)، واعتبر دياناكوف الملحمة عاكسة لصراع الأفكار السائدة في المجتمع آنذاك. ويرى د. فاضل عبدالواحد سبباً آخر لموقف جلجامش، حيث أشار إلى أن "اسم عشتار يرتبط أصلاً بطقوس الخصب التي تؤكد على أهمية الجنس لاستمرار الحياة، فيكون من المعقول أن يتساءل المرء عما إذا كان استهجان كلكامش يعكس بالضرورة رد فعل اجتماعي على الأقل من وجهة نظره لبعض القضايا الطقسية التي كانت تجري باسم هذه الالهة في معبدها". ويبدو لي بأن هذه القراءة ضعيفة في إقناعها وارتكازها على فعل اجتماعي، لأننا ومن خلال نصوص (الملحمة + جلجامس واجا +جلجامش وأرض الحياة + مغامرات جلجامش وأنكيدو + موت جلجامش) لم نجد ما يشير لفعل الاتصال الثنائي مع المرأة بعد دخول أنكيدو إلى مدينة أوروك ولم يمارس حتى أنكيدو ذلك. ويثير هذا تهمة لم تدرس حول العلاقة بين الاثنين، وبالإمكان تلمس هذه منعكسة على علاقتهما مع عشتار، وخصوصاً بعد عودتهما من غابة الأرز. وتعيننا هذه الإشارة على تفصيل أكثر، حيث نعرف بأن جلجامش معروف بعلاقاته مع الفتيات والعذارى، وبشكل ملفت للانتباه، حتى تحول إلى مستبداً بسبب ذلك. واستوجب من الآلهة مناصرة لسكان أوروك وذلك في خلق أنكيدو، وهذا الرجل البري خارق القوة، وأسطوري الطاقة حيث كان يرفه عن لبه بالعلاقة مع الحيوانات، وقضى مع (شمخت) ستة أيام وسبع ليال. وترسم لنا هذه الفترة قوة أنكيدو بشكل واضح. فهل بالإمكان لهما أو لواحد منهما الانقطاع تماماً عن الاتصال الثنائي مع المرأة.. أية امرأة؟ ومنذ أن دخلها أنكيدو، كما بإمكاننا أن نتصور الحاجة الإنسانية لكليهما في الاتصال مع القطب الأنثوي في الحياة وبعد العودة من غابة الأرز.. ونعرف بأن المنتصر يكون أكثر هدوءً واستعداداً للتمتع بتفاصيل الحياة، وخصوصاً، إذا عرفنا بأنهما قد قطعا في الذهاب والإياب حوالي ثلاثة ألف كم وهي مسافة طويلة واستغرقت وقتاً، لم يشعرا بالحاجة إلى للاتصال بالمرأة، بل اندفعا معاً لإهانة عشتار وتقريعها أمام سكان أوروك؟. ربما توفرت لهما وسيلة لإشباع حاجتهما، ولم تكشف عنها الملحمة بما توفر منها في الوقت الحاضر. حيث تنامي الإدراك السياسي لطبيعة المرحلة والنظام الاجتماعي السائد آنذاك في سلالة أور الأولى وتصاعد سلطة الملك بشكل جسد خروجاً أو خرقاً للسلطة الدينية الرسمية، المتمثل بمجلس الآلهة المعروف في العراق القديم. وكان لدخول أنكيدو إلى أوروك أثره الواضح في خلخلة الطقوس الدينية (الزواج المقدس) والمستلم بالتواتر والمرتبط بالآلهة، وبالذات مع عشتار باعتبارها آلهة الجنس والرغبات. وربما أدرك جلجامش بأن القوة الوافدة هي قوة فاعلة في حياة المدينة والدولة، لذا التزم باحترام تقاليده البرية التي جرت معه إلى أوروك.. ربما توصل جلجامش إلى قناعة أكثر بأهمية الالتزام وتنظيم علاقة حسنة مع زوجته والاكتفاء بممارسة الاتصال معها، وربما أيضاً قد توفرت له فرص ومجالات أخرى لإشباع رغبته ـ ولم تكشف عنها الملحمة ـ. لقد عبر موقف جلجامش مع عشتار عن تحول فكري مهم وخطير في مرتسمات وثوابت الفكر العراقي القديم. وعكست الملحمة توصيفاً دقيقاً وذكياً لمراحل إنتاج هذا الفكر، ولا يمكن التعامل مع الملحمة كنص شعري فقط، وإنما هي مرآة عاكسة، وكاشفة للتطورات الفكرية الحاصلة في البنية المادية لمجتمع أوروك أو المجتمع البابلي الذي صاغها، وحافظ على ملامح المراحل السابقة.

-----------------------------------------------
هــوامــش:

(1)ـ د. فاضل عبدالواحد/ عشتار ومأساة تموز/ الشؤون الثقافية ص83.
(2)ـ د. نائل حنون/ شخصية الآلهة الأم ودور انانا/عشتار في النصوص السومرية والأكدية/ مجلة سومر/العدد33 سنة1978.
(3)ـ د. فاضل عبدالواحد/سبق ذكره،ص66.
(4)ـ للتفصيل يراجع كتاب جماليات ملحمة جلجامش/دياناكوف/ترجمة:عزيز حداد،ص74.
(5)ـ د. عبدالرضا الطعان/الفكر السياسي في العراق القديم،ص614.
(6)ـ طه باقر/ملحمة جلجامش/ط4،ص94.
(7)ـ القسم الثاني من هذه الدراسة تناول غياب الاتصال الثنائي لدى أنكيدو بعد دخوله مدينة أوروك.
(8)ـ د. نائل حنون/سبق ذكره.
(9)ـ طه باقر/ ملحمة جلجامش،ص116.
(10)+(11)ـ المصدر نفسه،ص108.
(12)ـ دياناكوف/جماليات ملحمة جلجامش،ص71.
(13)ـ طه باقر/ ملحمة جلجامش،ص110.
(14)ـ د.فاضل عبدالواحد/سبق ذكره،ص85.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناجح المعموري: كاتب من العراق.

أبو يحى غير متصل قديم 03-03-2005 , 08:08 PM    الرد مع إقتباس
أبو يحى أبو يحى غير متصل    
عضو نشيط جداً  
المشاركات: 361
#3  

رحلة جلجامش إلى دلمون
. . أرض الأحياء
بقلم : عبد الجبار محمود السامرائي




في حدود عام 2650 قبل الميلاد, كان الملك السومري (جلجامش) يحكم سلالة الوركاء الأولى . وكان ملكاً عظيماً, وبطلاً شجاعاً, وصاحب خصال ومنجزات فذة, مما حمل الشعراء القدامى على تخليد ذكراه في ملحمة فريدة عرفت باسمه : (ملحمة جلجامش) .

تتألف هذه الملحمة من اثني عشر لوحاً, مدونة باللغة البابلية؛ عثر على معظمها في مكتبة (آشور بانيبال) (669 – 626 ق.م) في (نينوى) عاصمة الإمبراطورية الأشورية, ويعود زمن استنساخ هذه الألواح الطينية الأشورية إلى القرن السابع قبل الميلاد (668 – 626 ق.م) كما عثر في مدن أخرى على ألواح تحمل أجزاء من الملحمة, أغلبها يعود إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد (العصر البابلي القديم) (2004 – 1594 ق.م) .

فحسب ؛ بل في أجزاء واسعة من الشرق القديم ؛ إذ عثر على أجزاء منها في آسيا الصغرى وفلسطين, كما ترجمت إلى لغات قديمة أخرى, كالحثية, والخورية(1) .

إن ملحمة جلجامش التي تستمد أصولها من الفكر السومري, تتناول موضوعاً إنسانياً محضاً, وتتعامل مع أشياء في عالمنا الدنيوي مثل: الإنسان, الطبيعة, الحب, المغامرة, الألفة, الصداقة, والصراع, لتكون منها جميعاً فصولاً لموضوع الملحمة الرئيسي, ألا وهو حقيقة الموت ؛ ذلك لأن الملحمة تقدم البديل(2) الخلود .

فالخلود – إذاً – مسعى وهدف, كان جلجامش يبحث عنه(3), حيث لم يعد جلجامش يتحمل موت خادمه (أنكيدو)؛ لذلك, يذهب ساعياً عن علاج ناجع شامل, ينقذ به الناس جميعاً- لا فرداً واحداً – من وطأة الكابوس الأعظم (الموت ) وإلى الأبد, فيحصل بعد عناء كبير على نبات الحياة إلا أن الحية, رمز الشر, تلعب دورها, فتسرق النبات, بذرة الحياة(4)

لقد كان هم جلجامش – إذاً – ليس التخلص من الموت فحسب, وإنما في عدم ملاقاة الموت, وفي ألا يكون موت من بعده, بل حياة خالدة, ولذلك قام برحلته إلى (أرض الأحياء), ليجد فيها مطمحه, وهو الحصول على الحياة الأبدية, أي (الخلود) . أما هذه الأرض فهي "دلمون" .



المنزلة الروحية لدلمون عند السومريين


برز اسم دلمون في النصوص السومرية على أنها أرض طاهرة, وأرض مقدسة, أشبه ما تكون بالفردوس, المذكورة في الكتب المقدسة . وتعد جنة عدن التي ذكرت في سفر التكوين من العهد القديم, أقرب شبه إليها, فهذه الفردوس تحوي أشجاراً باسقة, وأعناباً تشبه في وصفها جنة الخلد التي يذهب إليها الصالحون بعد مماتهم(5) .

وكانت "دلمون" جزيرة تتمتع بقدسية خاصة, وفيها آلهة عبدها أهل العراق القدمـــاء، وقد وصفت بكونهـــا (أرض الخلود التي لا يوجد فيها مرض أو موت أو حزن . . .), كما جاء في النص الذي نشر لأول مرة في عام 1915م, وترجمه فيما بعد عالم السومريات "كريمر" Kramer والمؤلف من 278 سطراً, والمنسق على هيئة ستة أعمدة, ويحمل عنوان (إنكي)(6) و (ننخر ساك) . يقول النص :

مقدسة هي المدينة التي منحت لكم, ومقدس بلد دلمون,

مقدس سومر, . . . ومقدس بلد دلمون,

بلد دلمون مقدس, بلد دلمون نقي,

بلد دلمون مغمور بالنور, متميز بالإشعاع,

يوم أقيم الأول في دلمون, حيث استقر إنكي مع زوجته,

أصبح المكان هذا نقياً ومشعاً بالنور .

الغراب لا يصيح في دلمون, والحجل لاتوصوص,

الأسود لا تقتل أحداً,

والذئب لا يلتهم الحمل الوديع, لم يكن الكلب يتقن إخضاع الغزلان,

ولم يكن الخنزير البري يأكل الحبوب,

لم تكن طيور السماء تأتي لتنقر شعير الأرملة وهو يجف على السطح,

ولم تكن الحمامة تحني رأسها,

ولم يكن أي مريض العينين يشكو من مرض عينيه,

ولا مريض الرأس كان يشكو من مرض رأسه,

لم تكن أي امرأة عجوز تقول : "إنني عجوز",

ولا الرجل العجوز يقول : "إنني عجوز"(7)

كما يتخلل النص كيفية تعيين الإله إنكي ابنته ؛ لتكون الإلهة الحامية لدلمون، حيث جاء في النص :

( ويجيب الأب إنكي ابنته نين – سيكيلا :

ليقم أوتو(8) (إله الشمس) المستقر في السماء,

بإحضار المياه الحلوة من الأرض,

من مصادر المياه من الأرض, دعيه يجعل دلمون تشرب من المياه بوفرة,

فلتنتج أطيانك وحقولك قمحها, لتتحول مدينتك إلى مرفأ الأرض .)

كما يذكر النص بأن " ننخر ساك"(9) قد نجحت في إنبات ثماني نبتات في أرض دلمون, وبعد أن أكل الإله "إنكي" تلك النباتات وقع مريضاً ؛ فغضبت ننخرساك وانسحبت من صحبة الآلهة, وهددت بعدم العودة حتى يموت الإله إنكي ؛ إلا أن الثعلب المكار, نجح في إقناع ننخرساك بالعودة, فوافقت على علاج الإله إنكي, وفعلت ذلك عبر إنجاب ثماني معبودات وإله ؛ قمن بعلاج أمراض الإله إنكي .

إن دراسة النص آنف الذكر ؛ تعطي مدلولات مقدسة, تؤكد أن دلمون هي الفردوس المنشود بالنسبة للسومريين ؛ فقد كان كل فرد سومري يسعى للوصول إلى أرض دلمون ؛ كي يجد ضالته المنشودة فيها(10) .



هل وصل جلجامش إلى دلمون ؟


استناداً إلى ماتم العثور عليه من آثار وشواهد مادية, مثلتها رسوم السفن الشراعية(11) على الأختام والفخار, فإن هذه السفن لابد أنها كانت مصنوعة لخوض رحلات بحرية, وليس لرحلات نهرية فقط ؛ لكون الأنهار التي تمتاز بالصغر والهدوء كانت لا تحتاج لسفن ذات أشرعة, بل إلى أبلام(12) ومشاحيف(13) تعتمد على "مردى"(14) واحد, أو عدة "مرادي", على وفق الحاجة ؛ فبإمكاننا ملاحظة أمثالها وهي تخوض مياه أنهار العراق بكل هدوء وانسيابية(15) .

لذا ؛ ليس بمستبعد قيام جلجامش برحلة من ذلك النوع إلى دلمون, ما دام هناك فعلاً, رحلات شقت طريقها عبر مياه الخليج الضحلة والعميقة, حتى بلغت مدناً وأقاليم بعيدة, امتازت بعلاقاتها التجارية والحضارية الوطيدة مع أقاليم العراق القديم . لكن, من المؤكد أن تلك الرحلات, لم تكن منتظمة, بل كان يغلب عليها طابع المغامرة والفردية, معتمدة طريقاً ساحلياً قريباً من اليابسة, ثم أخذت تنتظم بالتدريج ختى غدت حملات دائمة منتظمة, في فجر الحضارة السومرية, (حدود أوائل الألف الثالث قبل الميلاد) . ولدينا دليل على أن الملك (ميس كيا كاشر)(16) قد ارتاد البحر, واستمكن مواضعه . ولعله أفاد جلجلمش(17) مثلما أفاد غيره ؛ لأن المعلومات التي حققها ذلك الملك ؛ اعتمدها جلجامش في رحلته إلى دلمون . كما اعتمد جلجامش معلومات بعض التجار المعاصرين, لكن رحلته لم تكن تجارية, كما توحي لنا الملحمة ؛ بل كانت لأغراض معرفية بالدرجة الأولى . لكنها حققت, بالطبع, فوائد تجارية ومعلوماتية ؛ بفضل المعلومات التي وفرتها الرحلة, مثل أية رحلة أخرى . ومن الطبيعي أن المعلومات المستمدة من تلك الرحلات, كانت ثمينة ؛ لكون الرحلات التجارية كانت آنذاك سرية ومحدودة ؛ بسبب الأخطار التي تعترضها في البحار . لذا, لا غرابة في أن نجد قليلاً من الناس يقومون برحلة برغم ما تقدمه من فوائد وأرباح مادية مغرية, أما سبب غموض تلك الرحلات وخشية الناس منها فنابع من محاولة التجار تغليف تلك الرحلات بهالة من التهويل والمبالغة لغرض صرف الناس عنها ؛ فصاحبة الحانة التي تمثل أنموذجاً لطبقة التجار حاولت تضليل جلجامش وصرفه عن فكرة الرحلة رغم كلمات جلجامش المؤثرة التي حاول فيها إقناع صاحبة الحانة بغرضه المعرفي الصرف قائلاً لها :

آه لقد غدا صاحبي الذي أحببت تراباً

وأنا سأضطجع مثله فلا أقوم أبد الآبدين

فيا صاحبة الحانة وأنا أنظر لوجهك

يكون بوسعي أن لا أرى الموت

الذي أخشاه وأرهب(18)

أما رد صاحبة الحانة فقد جاء بليغاً ودبلوماسياً ؛ إذ قدمت له وللبشرية من بعده نصيحة رددتها الألسن والعقول قائلة :

إلى أين تسعى يا جلجامش ؟

إن الحياة التي تبغي لن تجد . .

فليكن كرشك مليئاً دائماً

وكن فرحا مبتهجاً نهار مساء

وأقم الأفراح وارقص والعب

واجعل ثيابك نظيفة زاهية

واغسل رأسك واستحم بالماء

دلل صغيرك وأفرح زوجتك

فهذا هو نصيب البشرية(19) .

لكن جلجامش الذي أرهبه موت خادمه (أنكيدو) تجاهل تلك النصيحة رغم ما بها من حكمة, وعقد العزم على المضي قدماً في رحلته المحفوفة بالمخاطر . لذلك كان رده على تلك النصيحة أنه طلب من صاحبة الحانة أن تدله على الطريق المؤدي إلى مكان وجود أوتو – نبشتم ومؤكداً أنه لن يتوانى عن عبور البحار من أجل تحقيق ذلك . أما إذا تعذر عليه الوصول, فإن مأساته ستكون كبيرة, ولن يجد فيما قالته صاحبة الحانة أي عزاء له, بل سيفضل السكن في الصحاري على تلك الحياة الرتيبة غير المجدية(20) .

بعد ذلك تغيرت نبرة صاحبة الحانة من النصح إلى التهويل والتخويف, ولعلها أدركت أن جلجامش, كونه ملك, يتمتع بحياة مستقرة مختلفة عن حياة الناس العاديين, سوف يعيد النظر في عزمه بعد أن يسمع منها تلك التحذيرات :

يا جلجامش لم يعبر البحر من قبلك أحد

إجل ! أن شمش القدير يعبره حقاً

ولكن, من غير شمش يستطيع عبوره ؟

إن عبوره شاق وعسير

وما عساك ستصنع حين تبلغ مياه الموت العميقة ؟(21)

هنا نجد أن صاحبة الحانة قد بالغت كثيراً في وصف المخاطر التي تنتظر جلجامش, وهذا الأمر نعزوه إلى طريقة التجار في صرف نظر الآخرين عن رحلاتهم لكن قد لا يكون هذا هو السبب الوحيد, قد يكون الراوي هو الذي وضع هذه السطور وأضفى عليها هذا التهويل . ومن الغريب أن صاحبة الحانة قد قدمت هذا الوصف لجلجامش الملك المطلع بالطبع على أسرار هذه الرحلات, بحكم عمله كراعٍ للشعب, وهذا يدعونا إلى التفكير في أمر آخر هو : أن جلجامش كان راغباً في خوض مياه البحر العميقة في وسط البحر وهو طريق لم يسلكه أحد من قبل . لذلك وجهت له صاحبة الحانة تلك التحذيرات الصريحة التي ذكر فيها خطر مياه الموت العميقة ؛ كناية عن المخاطر التي تكتنفها الأعماق .

لكن, ما الذي دفع جلجامش إلى سلوك هذا الطريق غير المسلوك قبلاً ؟ هل هي محاولة لاكتشاف طريق آخر أقصر من الطريق المعتاد ؟ أم أن جلجامش كان يبغي المغامرة ؟ إن لدينا دليلاً على أن جلجامش دُفع إلى سلوك هذا الطريق غير المأمون, لأنه هو الطريق المعتاد لملاح أوتو – نبشتم, لذلك لم يجد بداً من سلوكه .

وأمام إصرار جلجامش واندفاعه, لم تجد صاحبة الحانة بداً من إخباره بالسبيل الذي سيوصله إلى أوتو – نبشتم, ناصحة إياه بمصاحبة "أور شنابي" ملاح أوتو – نبشتم وإلا فعليه أن يعود إلى وطنه . هنا اتجه جلجامش إلى الغابة حيث يوجد أور - شنابي, ربما لأجل التأثير فيه أو مساومته . لذا, لم يجد صعوبة في إقناع أور – شنابي بمرافقته إلى مسكن أوتو – نبشتم, بعد أن قام بإعادة بناء مركبه(22) .

إن وجود أور – شنابي المتكرر في أرض سومر, يدل على وجود اتصالات تجارية مستمرة بين بلاد سومر وذلك المركز التجاري الذي يعيش فيه أوتو – نبشتم . كذلك لابد أن يكون لأوتو – نبشتم وأتباعه دور في هذه التجارة, وإلا كيف كانوا يحصلون على حاجاتهم من البضائع والمواد الغذائية ؟

لكن, أين يقع هذا المكان الذي قصده جلجامش في رحلته ؟ هل كان في حدود أرض العراق الحالية, في منطقة شط العرب مثلاً ؟ أو في إحدى الجزر القريبة من شاطئ العراق في الخليج العربي, أو أنه يقع في مكان بعيد نسبياً في وسط الخليج العربي, كالبحرين مثلاً ؟

واستناداً إلى بعض المعطيات يمكن معرفة المكان الذي قصده جلجامش في رحلته إلى دلمون وهذه المعطيات هي :

1 – عبادة الإله أيــا : تؤكد بعض الدراسات أن هذا الإله كان معبوداً في دلمون تحت اسم (إنكي) الذي ربما انتقل إلى العراق بفضل الجالية الدلمونية, فأصبح رديفاً لإسم "أيــا" حيث تؤكد الدلائل الأثرية المكتشفة في البحرين, وجود معبدين لهذا الإله في موقعين, أحدهما يسمى (دراز), والآخر يسمى (سار), عثر فيهما على كميات من الأصداف وعظام السمك التي تمثل أهم نذور هذا الإله(23) .

وربما وصل هذا الإله إلى البحرين بفعل رحلة أوتو – نبشتم السالفة الذكر خصوصاً إذا علمنا أنه هو نفسه الإله الذي أعلم أوتو – نبشتم بخبر الطوفان, وعلمه كيفية الخلاص منه . لذا, فقد نقله أوتو – نبشتم إلى البحرين عرفاناً بفضله عليه . كذلك يمكننا تصور أن الإله "أيــا" موجود أصلاً في البحرين, وأن أوتو - نبشتم قد ساعد في نشر عبادته, بعد مساعدته القيمة له . أو أنه وصل إلى الجزيرة فوجد أنه يُعبَد من بعض سكانها فشاركهم في عبادته(24) .

2 – الاتصالات القديمة بين دلمون والعراق :

تؤكد بعض الآراء على أن السومريين استوطنوا في وقت ما أرض دلمون قبل انتقالهم إلى جنوب العراق . وتوضح لنا السطور الآتية أقدم وصف مدون لرحلة بحرية عرفها التاريخ :

ركب جلجامش وأور – شنابي في السفينة

أنزلا السفينة في الأمواج وهما على ظهرها .

وفي اليوم الثالث قطعا في سفرهما ما يعادل شهراً ونصف من السفر العادي .

وبلغ أور – شنابي مياه الموت العميقة .

ونادى جلجامش قائلاً :

هيا يا جلجامش أسرع وخذ مردياً وادفع به

وحذار أن تمس يدك مياه الموت .

أسرع وخذ مردياً ثانياً وثالثاً ورابعاً . .

وبمائة وعشرين دفعة استعمل جلجامش كل المرادي

ثم نزع ثيابه ونشرها كأنها شراع(25) .

تؤكد لنا هذه السطور أن المسافة المقطوعة في الرحلة كبيرة, حتى بالنسبة للقدرات المستنفرة, ثلاثة أيام, والتي تعادل (خمسة وأربعين) يوماً من السفر العادي, لو علمنا أن طول الخليج العربي من ساحل البصرة إلى مضيق هرمز هو (ألف) كيلومتر(26) وأن هذه المسافة يمكن قطعها فيما بين أربعة أيام إلى أسبوع فإن ثلاثة أيام تعني أن المسافة المقطوعة لابد أن تكون ما بين نصف إلى ثلاثة أرباع المسافة الكلية, أي أن الرحلة قد قطعت في سفرها ما يقارب (خمسمائة) كيلومتر طولاً, آخذين بنظر الاعتبار امتداد الخليج العربي إلى منطقة أهوار جنوب العراق . وهذه هي المسافة نفسها التي تفصل جنوب العراق عن جزيرة البحرين .

أما القسم المتعلق بخوضهما مياه الموت, فقد وصفت لنا الملحمة طريقة تلافي مخاطر هذه المياه من خلال التعليمات التي وجهها أور شنابي إلى جلجامش ونفذها الأخير بكل دقة, (وهي التعليمات التي أخذت حيزاً من النصف الثاني المذكور قبل قليل), وهو ما يجعلنا نضع تساؤلاً حول ماهية هذه المياه . هل هي إضافة من الراوي غرضها التهويل ؟ أم أنها كناية عن المياه العميقة في وسط البحر حيث تمثل هذه المياه مصدر خطر على البحارة ؟

إن تحديد المسافة التي قطعتها السفينة أثناء عبورها مياه الموت يعد أمراً في غاية الصعوبة, ولكن, من الناحية الوصفية المسلم بها, يمكن أن نعد زمن ساعتين كتقدير معقول لقطع هذه المياه برمتها, استناداً إلى تقدير يؤكد أن كل مردي يستغرق دقيقة حتى يكتمل الدفع به .

أما عند نزول جلجامش إلى بر الجزيرة "دلمون", فقد وجده مضيفه الذي لمحه من بعيد ناقماً على ملاحه الذي لم يحسن التصرف بمرافقة هذا الغريب وإيصاله إلى مقرهما السري, لكونه يعلم مقدار الصعوبات التي واجهها الغريب قبل وصوله إليه, وما سوف يحصل عليه مقابل ذلك . لكن, هل يصل الأمر إلى حد طرد ملاحه بسبب ذلك ؟ إن هناك أكثر من سبب خفي يدعوه إلى فعل ذلك, لعل منها خشيته من أن يسبب مجيء جلجامش إلى الجزيرة خطراً على مركزه وتجارته, والتحليل الأخير ينطبق على حالة أي مستفيد يخشى من مداهمة الآخرين له وتقويض استفادته .


إحدى اللوحات الإثنتي عشرة التي اكتشفت في نينوى والمكتوب عليها بالخط المسماري

بالغة الأشورية أسطورة جلجامش



لقد وجد جلجامش والحيرة تملأ وجهه أن الرجل الذي جاء لأجله لا يكاد يختلف عنه بالمرة, بعد أن تصوره قوياً متيناً كحال من يملك الخلود الجسدي, فإذا هو عكس ذلك, رجلاً ضعيفاً مضطجعاً على ظهره, مبيناً دهشته تلك لأوتو - نبشتم الذي أسرع لإيضاح الأمر كله, من خلال سرد قصة الطوفان التي مكنته من امتلاك هذا الأمر الخطير, دون أن يخل ذلك بنظام الوجود, إذ أن الجسد لا يمكن أن يكون خالداً بذاته طالما أن الضرورة لا تتيح له ذلك . وبما أن جلجامش كان مقتنعاً بإمكانية امتلاك الجسد لميزة خاصة تجعله خالداً بذاته في وسط الفناء, فإنه بعد أن رأى أوتو نبشتم وتبصر في حاله, أدرك خطأ رأيه في الحال . وهذا دليل على عمق فكر بلاد الرافدين في تلك الأزمنة . ولما عاد جلجامش من رحلته مسلماً باستحالة الخلود الجسدي, مقتنعاً بنوع آخر من الخلود, يوفره له الخلود المعنوي, حصل على حكمة ثمينة كانت هي خاتمة رحلته الشهيرة, حيث نطق بهذه الحكمة مضيفه أوتو – نبشتم قائلاً :

إن الموت قاس لا يرحم

هل بنينا بيتاً يدوم إلى الأبد ؟

هل ختمنا عقداً إلى الأبد ؟

وهل يقتسم الأخوة ميراثهم ليبقى آخر الدهر ؟

الفراشة لا تكاد تخرج من شرنقتها فتبصر وجه الشمس

حتى يحين أجلها

ولم يكن دوام وخلود أبداً

ما أعظم الشبه بين النائم والميت

ألا تبدو عليهما الهيئة ذاتها ؟

بعد هذه الكلمات عاد جلجامش إلى وطنه مشبعاً بالمعرفة, مقتنعاً بمصيره المحتوم .

ولذا, لم يصبه الاضطراب أو تداهمه الوساوس, حتى بعد أن فقد عشبة تجديد الحياة التي غدت من نصيب الأفعى(27) .

3 - الغوص :

إن حصول جلجامش على عشبة تجديد الحياة, جرى وفق الطريقة التقليدية المتبعة في الغوص, حيث استنشق كمية كبيرة من الهواء, وغاص بواسطة ثقل وضع في قدميه, سحبه إلى الأسفل في الحال . وعندما استقر في القاع, فك الثقل وأخذ يبحث عن العشبة, وبعد أن وجدها عاد سابحاً إلى الأعلى . وهذه بالضبط الطريقة التي يتبعها صائدو اللؤلؤ والمحار في الخليج العربي وقد تعلمها جلجامش من أوتو – نبشتم الذي يبدو أنه كان مطلعاً على أسرار هذه المهنة وربما مشتركاً فيها من خلال أتباعه في الجزيرة, وهو ما يعطينا دليلاً مهماً على قدم مهنة الغوص وأهميتها بالنسبة لسكان المنطقة في تلك الآونة, حيث يمثل الغوص من أجل البحث عن اللؤلؤ والمحار أحد أهم ركائز اقتصادهم, فضلاً عن التجارة . ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا أن هؤلاء الناس كانوا آنذاك يعيشون في مجتمع متمدن له أعرافه وقوانينه الخاصة التي تماثل قوانين المقرات التجارية من حيث تمتعها بقدر واسع من الحرية والاستقرار, مبني بدرجة كبيرة على التعاون والمصلحة المشتركة جازمين بوجود نوع من سلطة امرأة تتمتع بقدرة على فرض سيادة النظام والقانون من خلال هيئة يشترك فيها كبار التجار في الجزيرة(28) .

إذاً, فرحلة جلجامش إلى دلمون كانت تمثل جزءاً مهماً من الملحمة الشهيرة باسم(ملحمة جلجامش)(29), ولاشك في أن تلك الرحلة كانت حقيقية ؛ لأن دلمون كانت مصدر جذب, ولذلك سميت "أرض الأحياء" .



دلمون . . أرض الأحياء


تعتبر "دلمون"؛ موطن الآلهة كما يتضح ذلك من أسطورة سومرية أخرى, هي الأصل السومري لأسطورة الطوفان البابلية على الأرجح, والتي يلعب فيها دور أوتو – نبشتم(30) شخص يسمى " زيوسودار", ( وهو الناجي الوحيد من الطوفان), وكان ملكاً ورعاً مطيعاً للآلهة, وكان حاكماً على بلاد سومر من عاصمته "شروباك", وهو الذي نفذ أوامر الآلهة في بناء الفُلْك, وإنقاذ نفسه ومن معه من الطوفان, وقد منح جراء عمله هذا, "حياة مثل الآلهة" – أي الخلود – وتنفساً أبدياً, ثم (نقل إلى دلمون ؛ المكان الذي تشرق فيه الشمس) . وهكذا تعين الأسطورة فردوس السومريين بأرض دلمون(31) .

ففي أسطورة (جلجامش وأرض الأحياء) السومرية, نعرف أن جلجامش بعد أن عرف مصيره ؛ الموت عاجلاً أو آجلاً ؛ قرر السفر إلى (أرض الأحياء) . ويرى بعض الباحثين أن, وجهة جلجامش كانت نحو بلاد دلمون ؛ لأنها أرض الحياة الأبدية وموطن الآلهة, والمكان الذي سيجد فيه صديقه "أوتو - نابشتم", صانع الفلك(32) .

إن (جلجامش وأرض الأحياء) نص تم تدوينه في عصر (سلالة أور الثالثة) (2111-2003ق.م), ويعد هذا النص من روائع الأدب السومري القديم, سواء بأفكاره, أو بأسلوبه, وبنائه الفني, وإيقاعه الذي يعتمد التكرار المؤثر . ويدور الموضوع هنا, حول انشغال جلجامش بفكرة الموت التي تلاحقه, وهو يرى المنية تختطف الناس من حوله, وبحثه عن طريقة يخلد فيها اسمه بعد مماته . فإذا كان لابد من الموت, فلا أمل من فعل جليل ؛ يترك لصاحبه ذكراً باقياً على مر الأزمان . ولذلك, يزمع جلجامش القيام بحملة على غابـــة الأرز البعيدة التي يسكنها ويحميها كائن وحشي مخيف اسمه (حواوا) :

إلى أرض الأحياء تاق السيد إلى السفر,

إلى أرض الأحياء تاق جلجامش إلى السفر,

فقال لخادمه إنكيدو :

"أي إنكيدو, إن الختم(33) والأجر لم يأتيا بالمصير المحتوم بعد .

ولسوف أدخل أرض الأحياء وأخلد لنفسي هناك ذكراً .

في الأماكن التي رفعت فيها الأسماء سأرفع اسمي,

وفي الأماكن التي لم ترفع فيها الأسماء سأرفع اسم الآلهة" .

فأجابه إنكيدو :

"أخبر أوتو, البطل أوتو,

فتلك الأرض في رعاية أوتو, بلِّغ أوتو ."

فرفع جلجامش بيديه جِدْياً تام البياض,

وضغط إلى صدره جِدْياً أسمر, قرباناً,

وأمسك بيده صولجان سيادته الفضي,

وتوجه بالقول إلى أوتو السماوي :

"أي أوتو, إني لداخل أرض الأحياء فكن نصيري .

إني لداخل أرض الأرز الجبلي فكن معيني" .

فأجابه أوتو :

"إنك لمقاتل نبيل حقاً . لكن ماهي بغيتك من تلك الأرض ؟" .

"أي أوتو, سأتوجه إليك بكلمة علك تصغي إلي,

وكلام أسمعك إياه علَّك تنصت إليّ :

في مدينتي يموت الرجل كسير القلب,

يقضي الرجل حزين الفؤاد .

أنظر من فوق السور

فأرى الأجداث الميتة طافية في النهر,

وأرى أني سأغدو مثلها حقاً .

فالإنسان مهما علا, لن يبلغ السماء طولاً

ومهما اتسع لن يغطي الأرض عرضاً .

ومادام الختم والآجر لم يأتيا بالمصير المحتوم بعد,

سأدخل أرض الأحياء وأخلد لنفسي هناك ذكراً .

في الأماكن التي رفعت فيها الأسماء سأرفع اسمي

وفي الأماكن التي لم ترفع فيها الأسماء سأرفع اسم الآلهة" .

تقبل أوتو دموعه قرباناً

وكرجل رحيم أظهر له من رحمته

(ثم أسلمه) سبعة جبابرة, وأخوة من أم واحدة .

الأول (.. .. ..)

الثاني, الأفعى السامة التي (.. .. ..)

الثالث, التنين الذي (.. .. ..)

الرابع, النار الحارقة التي (.. .. ..)

الخامس, الحية الهائلة التي تخلع الأفئدة (.. .. ..)

السادس, الطوفان المدمر الذي يطغى (.. .. ..)

السابع, البرق الوامض لا يصده شيء .

يلي ذلك تسعة وعشرون سطراً كثيرة التشوه, لكننا نفهم منها أن جلجامش قد جمع بعد ذلك خمسين متطوعاً يذهبون إليه, واشترط على مرافقيه أن يكونوا بدون بيوت يملكونها, أو زوجات وأولاد, ثم أعطى تعليماته إلى الحدادين ليصنعوا له ولمرافقيه أجود أنواع الأسلحة . وعندما أكمل استعداداته, شرع جلجامش في حملته ؛ فقطع بجماعته ستة جبال هائلة . وعند عبور الجبل السابع, توقف الركب للراحة, وهناك وقع جلجامش في سبات عميق وطويل, وحاول خادمه "إنكيدو" إيقاظه ولكن عبثاً :

هزه فلم يتحرك

كلمه فلم يلقَ جواباً :

" أيها المضطجع, أيها المضطجع,

أي سيدي جلجامش , إلى متى ترقد ؟

أظلمت الأرض, وانتشر الليل في كل مكان,

وهاهو الشعاع الأخير عند الغسق,

وأوتو قد مال رافع الرأس إلى حضن أمه نيجال(34)

فإلى متى ترقد يا سيدي جلجامش ؟

هل تترك من رافقك من أبناء مدينتك

يقفون بانتظارك عند سفح الجبل ؟

هل تترك أمك تجرجر أذيال الخيبة في ساحة المدينة ؟

وهنا, انتبه من غفوته .

نهض وقد جلَّلته الهيبة كرداء

ضم إلى صدره عباءته التي تزن ثلاثين شاقلاً(35)

وانتصب على الأرض كثور عتي,

ثم انحنى حتى لامس فمه الأرض وبرزت أسنانه :

"أقسم بحياة أمي ننسون, وبأبي لوجال بندا

أني سأجابه ذلك الكائن, رجلاً كان أم إلهاً .

ستتوجه خطواتي قدماً نحو الأمام,

لا خلفاً نحو المدينة" .

وهنا ناشده خادمه المخلص "إنكيدو" قائلاً :

"إي سيدي, إنك لم تر ذلك الكائن,

ولم تعرف منه الخوف,

أما أنا, فقد رأيته ونال مني الهلع الشديد,

لذلك الجبار أسنان كأسنان التنين,

ووجه يشبه وجه الأسد .

انقضاضه أشبه بسيل عرم,

ومن جهته التي تلتهم القصب والشجر لا ينجو أحد .

فيا سيدي تابع رحلتك نحو تلك الأرض,

فإني عائد إلى المدينة .

سأخبر أمك بأمجادك فتهلل,

ثم أخبرها بموتك المرتقب فتذرف الدمع الغزير".





من كلام " أوتو-نبشتم " لجلجامش يخبره فيه أن كل ما يعمله الإنسان زائل لا يدوم



غير أن جلجامش, يأخذ بتشجيع إنكيدو, الذي انتابته نوبة هلع ؛ بعد أن أيقن أنهما لاحقان بـ (حواوا), مقتربان من مقره, حتى تعود الطمأنينة إلى نفسه . ويتابع الركب مسيرته إلى أطراف غابة الأرز, وهناك يشرع الرجال بقطع الأشجار حول عرين الوحش, فيخرج حواوا للانقضاض على الدخلاء, ولكن البطلين يتصديان له ويدخلان معه في معركة مميتة تنتهي بوقوعه بين أيديهما, فيأخذ في الاستعطاف من أجل الإبقاء على حياته, متوجهاً بالكلام أولاً إلى الإله أوتو, ثم إلى جلجامش بعد ذلك :

"أي أوتو, لم أعرف لي أماً ولدتني ولا أباً رباني

أنت من أوجدني في هذه الأرض ورعاني"

ثم التفت إلى جلجامش واستحلفه بالسماء والأرض والعالم الأسفل(36)

أخذه من يده وشده إليه .

فأخذت جلجامش به الشفقة,

وقال لخادمه إنكيدو :

"أي إنكيدو, لندع الطائر الحبيس يرجع إلى بيته

لندع الرجل الأسير يعود إلى حضن أمه" .

فقال إنكيدو لجلجامش :

"إن من لا حصافة عنده

سرعان ما يلتهمه نمتار (شيطان الموت) الذي لا تمييز عنده .

إذا عاد الطائر الحبيس إلى حضن أمه

فإنك لن ترى ثانية مدينة أمك التي ولدتك" .

وهنا قال حواوا لإنكيدو :

"ولقد أوغرت صدره ضدي يا إنكيدو,

أيها الأجير, لقد أوغرت صدره ضدي" .

وعندما نطق بهذا القول,

قطعا منه العنق,

وقدماه قرباناً لإنليل(37) وننليل(38) .

لقد دخل العديد من أفكار وعناصر هذا النص السومري في نسج الملحمة البابلية من خلال النص الأكادي, رغم الاختلاف الواسع بين النصين . فلدينا أولاً الدافع الذي قاد جلجامش إلى التفكير في مغامرته الجريئة هذه, وهو متشابه هنا وهناك, ويتلخص في الإحساس بالموت والرغبة في قهره عن طريق خلود الاسم والذكر .

النص السومري

"فالإنسان مهما علا لن يبلغ السماء طولاً,

ومهما اتسع لن يغطي الأرض عرضاً,

"أنظر من فوق السور

فأرى الأجداث الميتة طافية في النهر

وأرى أني سأغدو مثلها حقاً .

"ومادام الختم والآجر لم يأتيا بالمصير المحتوم بعد .

سأدخل أرض الأحياء وأخلد لنفسي هناك ذكراً .

في الأماكن التي رفعت فيها الأسماء سأرفع اسمي

وفي الأماكن التي لم ترفع فيها الأسماء سأرفع اسم الآلهة .

النص الأكادي

"من ترى يا صديقي يرقى إلى السماء ؟

"الآلهة هم الخالدون في مرتع شمش أما البشر فأيامهم
معدودات وقبض الريح كل ما يفعلون .

" في الغابة هناك يعيش حواوا الرهيب هيا أنا وأنت نقتله .

"سأمضي أمامك ولينادي صوتك . تقدم . فإذا سقطت أصنع لنفسي شهرة .

"سأمد يدي وأقطع أشجار الأرز فأحفر لنفسي اسماً خالداً .

أما إنكيدو في كلا النصين فيعارض مشروع جلجامش, ويظهر مخاوفه من نتائجه, بينما يعمل جلجامش على تشجيعه وتحسين الأمر في عينيه .

النص السومري

"أي سيدي , إنك لم تر ذلك الكائن ولم تعرف منه الخوف .

أما أنا فقد رأيته ونالني منه الهلع الشديد

لذلك الجبار أسنان كأسنان التنين,

ووجهه يشبه وجه الأسد .

انقضاضه كسيل عرم,

ومن جهته التي تلتهم القصب والشجر لا ينجو أحد .

النص الأكادي

"لقد عرفت يا صديقي,

عندما كنت أطوف البراري مع القطعان,

أن غابة حواوا تمتد عشرة آلاف ساعة مضاعفة .

فمن يستطيع المضي في أعماقها وحواوا يزأر فيها كعاصفة الطوفان ؟

في فمه نار وفي أنفاسه العطب .

ولدينا في كلا النصين صورة من نوم جلجــامش في الطرق قبل الوصول إلى مقر خمبابا(39)/ حواوا . والنصان مختلفان في التفاصيل وفي طريقة التوظيف .

النص السومري

"هزه فلم يتحرك,

تحدث إليه فلم يلق جواباً :

أيها المضطجع، أيها المضطجع .

أي سيدي جلجامش إلى متى ترقد ؟

وهنا انتبه من غفوته,

نهض وقد جللته الهيبة كرداء" .

النص الأكادي

أسند جلجامش ذقنه إلى ركبته وهبط عليه النوم ؛ راحة البشر .

وعند منتصف الليل انتبه .

رفع رأسه وقال لصديقه :

هل ناديتني أيها الصديق ؟

لماذا أفقت ؟

هل لمستني ؟

لماذا أنا خائف ؟"

وبعد أن يقع حمبايا "حواوا" بين يدي البطلين, ويدرك قرب نهايته, يأخذ بالتضرع إلى جلجامش الذي تأخذه الشفقة به, ويفكر بإطلاقه, لولا تحذير إنكيدو .

النص السومري

"التفت إلى جلجامش واستحلفه بالسماء والأرض

والعالم الأسفل,

أخذه من يده وشده إليه،

فأخذت جلجامش به الشفقة, فقال إنكيدو لجلجامش :

"إن من لا حصافة عنده,

سرعان ما يلتهمه شيطان الموت الذي لا تمييز عنده .

إذا عاد الطائر الحبيس إلى بيته فلن ترى ثانية مدينة أمك التي ولدتك ."

النص الأكادي – الترجمة الحثِّية

وهكذا أعلن حواوا الاستسلام وقال لجلجامش :

"أطلقني يا جلجامش تكن لي سيداً,

وأكون لك خادماً .

والأشجار التي رعيتها سأقطعها وأصنع لك بيوتاً .

ولكن إنكيدو سارع جلجامش بالقول :

لا تعر سمعاً لقول حواوا,

فحواوا لن يبقى على قيد الحياة .



من كلام " أوتو-نبشتم " لجلجامش



ومن ناحية أخرى فإن النص السومري يختلف عن النص الأكادي بعنصرين أساسيين, أولهما, صلة جلجامش بإنكيدو التي تبدو في النص السومري على أنها صلة السيد بتابعه, بينما يغدو إنكيدو في النص الأكادي صديقاً ونداً لجلجامش . وهذه الصداقة ذات بوادر واضحة في النص السومري, لأن إنكيدو كان تابعاً من نوع خاص ومميز, والصلة بينه وبين سيده ترقى إلى مستوى الصداقة .

وفي نصوص سومرية أخرى نرى جلجامش يخاطب تابعه مستخدماً صيغة أيها الصديق . أما عنصر الاختلاف الثاني الرئيسي فهو اصطحاب جلجامش لخمسين متطوعاً من رجال أوروك في حملته على غابة الأرز, بينما نجد البطلين في الملحمة البابلية يشرعان وحدهما في تلك المغامرة(40) .



الخلاصة
نستخلص من هذه الدراسة جملة من الحقائق :

1 – منذ اكتشاف النصوص الخاصة بأرض دلمون, وحتى اليوم, وعلماء المسماريات والآثار منكبين على تحديد موقعها الجغرافي, وتبين لهم أنها تقع ما بين بلاد سومر وإقليمي "ماكان" و "ملوخا" . كما أنها كانت مركزاً لتكديس الكثير من البضائع التي كانت تصدر منها إلى بلاد وادي الرافدين أو تستورد من هذه البلاد .

لذا ؛ فإن دلمون, لابد أن تكون إبان العصر السومري القديم (2900 – 2350 ق.م) والعصر السومري الحديث (2150 – 1900 ق.م) هي جزر البحرين على الأرجح .

2 – ظهر اسم "دلمون" لأول مرة في إحدى حوليات الملك السومري "أورنانشة" عام 2250 ق.م ملك لكش في العراق القديم, وقد أشارت إحدى كتاباتها الملكية بأنه جلب الخشب من إقليم دلمون .

3 – يرجح أن رحلة البطل السومري جلجامش, سادس ملوك سلالة أوروك الأولى, في العراق القديم وهي ثاني سلالة حكمت العراق القديم بعد الطوفان, كانت إلى دلمون, التي وصفت بأنها (أرض الأحياء), سعياً إلى الخلود, لأن جميع أوصاف هذه الأرض الطيبة, تطابق الجنان التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة .

4 – ذهب بعض الباحثين إلى أن جزر البحرين (دلمون) كانت مقابر للسومريين, باعتبارها تربة مقدسة عندهم, مما يدل على الاتصال الثقافي المتين بين دلمون والعراق القديم .

5 – أثبتت التنقيبات والدراسات الحديثة التي أجريت في جزر البحرين, عمق الاتصال الروحي والحضاري ما بين بلاد سومر ودلمون, بدليل أن معظم اللقى الأثرية التي كشف عنها في جزر البحرين, لها ما يماثلها في بلاد سومر .

6 – أن الكثير من أسماء الآلهة التي جاء ذكرها في النصوص التي عثر عليها في جزر البحرين هي في الواقع آلهة, عبدت في أرض دلمون وسومر, من قبل جاليات دلمونية, كانت تسكن بلاد سومر, وهذا دليل أكيد على مكانة دلمون الروحية لدى السومريين, ولا عجب إذا ما اعتبروها (الفردوس) أو جنة عدن, التي قام جلجامش بالسفر إليها بحثاً عن الخلود .

عبد الجبار محمود السامرائي
اتحاد المؤرخين العرب

بغداد







(الهوامش)



1 – د. عبد الإله فاضل : (أهم الشخصيات ودورها في تاريخ العراق القديـــم) ؛ ضمن كتاب : (تاريخ العراق, قديمه وحديثه), شركة الوفاق للطباعة الفنية المحدودة, بغداد, 1998, ص106 .

2 – د. جعفر عباس شويلية, والدكتور حسين أحمد ســلمان : (أهم المظاهر الحضارية), ضمن المرجع الذي سبق ذكره أعلاه, ص96 .

3 – طه باقر : (ملحمة جلجامش) ط4, بغداد, 1980, ص76 .

4 – المرجع نفسه, ص135 .

5 – د. أحمد سوسة (مفصل العرب واليهود في التاريخ), ط5, بغداد, وزارة الثقافة والإعلام, 1981, ص428 .

6 – إنكي ENKI : إله الأرض, وإله المياه الجوفية, وتأتي مرتبته بعد مرتبة الإله (إنليل) ENLIL . وللإله إنكي تسمية أخرى في اللغة الأكادية هي : (إيــا) EA, وقد عدته النصوص المسمارية إله الحكمة ؛ الذي بحوزته النواميس الإلهية . ولذلك كانت الآلهة تستشيره في المواقف الصعبة, وتطلب إليه المساعدة . وبموجب قصة الطوفـــان فإن البشرية مدينة إلى الإله (إنكي)؛ لأنه رفع عنها الوباء والقحط اللذين أنزلهما (إنليل) لعقــــاب الناس, وهو الذي كشف عن قرار الآلهة بإحداث الطوفان العظيم إلى (أوتوا - نابشتم), وأمره أن يصنع السفينة .

وفي أساطير سومرية وبابلية أخرى, يشـــيد الإلـه إنكي بدور الإله الخالق للإنسان, كما جاء في قصة الخليقة البابلية, إذ تعالت أصوات الآلهة ؛ مطالبة بخلق بديــل يحمل عنها مشقة العمل من أجل إعمار الأرض, وأن الآلهة لاذوا بإله الحكمة الذي خلق الإنسان من الطين الممزوج بدم أحد الآلهة .

ينظر بحث الدكتور محمد عباس شويلية والدكتور حسين أحمد سليمان, الموسوم (أهم المظاهر الحضارية), ضمن كتاب (تاريخ العراق, قديمه وحديثه), بغداد, الطبعــة الأولى, شركة الوفاق للطبعة الفنية المحدودة, ص89 .

7 – المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في البحرين : حضارة البحرين من دلمون إلى تايلوس), مجلة (البحرين الثقافية), المنامة, العدد التاسع, ربيع الأول – ربيع الثاني 1413هـ / أيلول (سبتمبر) 1992م, ص91 .

8 – أوتو UTU : ويسمى (شمش) . هو إله الشمس في السومرية, وشمش في البابليــة, على الرغم من أنه في جملة الآلهة الرئيسية ؛ إلا أنه يأتي في المرتبة التي تلي مرتبة إله القمر, وهو ابن إله القمر (سين) . ويظهر الإله أوتو في الصباح من الجبال الشرقيـة, ويرتفع في السماء, ثم يغرب في الجبال الغربية . ويستطيع الإله شمش أن يكشـف بضيائـــه الظلمات, وهو قـادر على رؤية كل شيء . لذلك, عُدَّ إله العدل والحق, وقالـوا عنه أنه الإله الذي لا يخفى عنه سر .

وحسب المعتقدات السومرية ؛ فإن الإله الشمس ؛ يغور ليلاً في البحر, ويظهر في الصباح من بين الجبال . أما مشهد ظهور الإله أوتو, فمصور على الأختام الأســطوانية بهيئة رجل, تخرج من ظهره أحزمة الأشعة الشمسية, وقد صور على مسلة حمـورابي وهو جالس على العرش, ويمسك بيده الصولجان والحلقة, وقد لبس تاجاً له أربعة أزواج من القرون ولحية, وتنبعث الأشعة من كتفيه .

والإله أوتو (شمش), لا يختلف عن الإله (إنكي) من حيث نياته الحسنة نحو الآلهة والبشر . ففي ملحمة جلجامش, يساعد جلجامش وخادمه (أنكيدو) في قتـل حارس غابة الأرز (خمبابا), ويجد بديلاً عن الإلهة (أنانا) (عشتار) إلى العالم السفلي .

ينظر البحث المتقدم ذكره : (أهم المظاهر الحضارية), ص90 .

9 – ننخرساك : هو الإله (أنشاغ) ؛ إله دلمون الذي عثر على اسمه منقوشاً على الحجر في البحرين .

10 – د. منير يوسف طه : (جذوة الحضارة : دلمون), مجلة (آفاق عربية), بغـــداد, العدد التاسع, أيلول (سبتمبر), 1992, ص191 .

11 – السفن الشراعية : هي إحدى الاختراعات المهمة لعصر العبيد (4100 – 3300 ق.م) .

12 – الأبلام, جمع بلم : هو القارب الصغير, قيل أنها هندية الأصـل, وهي شائعة في العراق, وقيل بربرية, من لهجات البربر في المغرب العربي . وينسب إلى الفينيقيين اختراعهم ضــرباً من السفن يكثر فيه عدد المجدفين ويقال له (بيـبيــرام) ؛ أي مزدوج التجديف . أما ابن خلدون, فذكر (البلَّمند) بتضخيم اللام, منقولاً من لغة الإفرنجة . . تنظــر (مقدمة ابن خلدون), طبعة المكتبة التجارية, ص252 .

13 – المشحوف : جمعه مشاحيف, نوع من القوارب يستعمل في جنوبي العـــراق حتى اليوم . شكله يشبه الهلال .

14 – المردي, ضرب من الرماح طويل غليظ . وعادة ما كان أهل السفن يدفعونهـــا بواسطة المردي إذا كانت تجري عكس اتجاه الريح, ولا يخلو اســتخدام المردي لدفع السفينة من عناء, لأن الملاح يضطر إلى أن يمس قاع النهر بواسطته كأنه يركزه فيها, كيما تتحرك السفينة .

15 – باسم محمد حبيب : (هل وصل جلجامش إلى دلمون ؟), مجلة (آفاق عربية), بغداد, العدد المزدوج 9 – 10, أيلول – تشرين الأول (سبتمبر – أكتوبر) 2001, ص67 .

16 – الملك ميس كيا كاشر : أول ملوك ســـلالة أوروك بحسب إثبات ملوك السومريين . حكم 222 سنة, وهو رقم مبالغ فيه . جاء في ثبت الملوك أنه (وطــد جميع البلدان ونزل البحر), وأن هذا الملك سبق جلجامش .

17 – جلجامش : هو سادس ملوك سلالة أوروك الأولى, ثاني سلالة حكمت العراق القديم بعد الطوفان, بحسبإثبات الملوك السومريين . ورد أنه حكم 125 سنة, في حدود 2650 ق.م . ينسب إليه بناء سور الوركاء الذي تم العثور على بقاياه, وهو يعود لعصر فجر السلالات (3000 – 2350 ق.م .

18 – طه باقر : (ملحمة جلجامش), بغداد, الطبعة الخامسة, وزارة الإعلام, 1986, ص135 .

19 – المرجع نفسه, ص135 .

20 – طه باقر : مرجع سبق ذكره, ص138 .

21 – المرجع نفسه, ص138 .

22 – المرجع نفسه, ص139 .

23 – د. منير يوسف طه : (جذور الحضارة : حضارات الجزيرة العربيــة وعلاقاتها بالدول المجاورة) مجلة (آفاق عربية), بغداد, العدد الثالث, 1992, ص39 .

24 – طه باقر, مرجع سبق ذكره, ص143 .

25 - المرجع نفسه .

26 – تقدر مساحة الخليج العربي بـ 226 ألف كيلومتر مربع, وطوله زهاء 1000 كيلومتر, وعرضه زهاء 340 كيلومتراً في منطقة الوسط, و60 كيلومتراً في مضيق هرمز .

ينظر بحث الدكتور حسين حميد كريم : (مراجعة لتكوينية الخليج العربي), مجلة (الخليج العربي), جامعة البصرة, مركز دراسات الخليج العربي, العدد المزدوج 3 – 4 / 1986 .

27 – طه باقر : مرجع سبق ذكره, ص144-165.

28 – باسم محمد حبيب : مرجع سبق ذكره, ص70 .

29 – ملحمة جلجامش : تعد من أشهر وأقدم الملاحم الشعرية في تاريخ آداب الشعوب القديمة المدونة باللغة البابلية .

30 – أوتو – نبشتم : هو بطل الطوفان في المأثورات البابلية . ذكر أيضاً بهيئة (زيو-سيدار), في المأثورات السومرية .

31 – Pritchard, J : Ancient Near Eastern Texts (ANET) Princeton, 1969, p. 34 .

32 – د. رضا جواد الهاشمي : (المدخل لآثار الخليج العربي), منشورات مركز دراسات الخليج العربي بجامعة البصرة, 1980, ص25 .

33 – لا تتضح هنا علاقة الختم والآجر بالمصير المحتوم لكل إنسان وهو الموت . فالختم يطبع على طين طري ويترك ليجف أو يشوى في الفرن متحولاً إلى فخار عليه صورة الختم . وربما كان المقصود أن لكل إنسان ساعة موت معلومة مطبوعة في لوح القدر . فنحن نعرف من نصوص سومرية وبابلية أخرى عن وجود ألواح تدعى بألواح الأقدار ؛ يحتفظ بها عادة كبير الآلهة .

34 – نيجال : هي آلهة سومرية تمثل الأرض – الأم . والمعنى هنا أن الشمس قد آوت إلى حضن الأرض عند الغروب .

35 – الشيقل Gin : وحدة للوزن استخدمت في العهد السومري – الأكدي, تقابلها لفظة (شيقل) Siqlu باللغة الأكدية . وهي تعادل في أوزانها الحالية 8.4 جرام تقريباً, أو ما يعادل 60 شيقلاً صغيراً gin-tur أو 180 حبة Se من أوزان ذلك الزمن وتعادل الحبة نحو 46.75 ملليجرام من أوزاننا الحالية .

ينظر : حسن النجفي : (معجم المصطلحات والأعلام في العراق القديم), بغداد, دار واسط, 1982, ص84 .

36 – العالم الأسفل : هو عالم اللاعودة لدى سكان وادي الرافدين, حيث لم تتكون عندهم فكرة واضحة معينة عن الحياة بعد الموت (الحياة الأخرى), ولم يتصوروا عالماً آخر سوى العالم السفلي .

وتعد أسطورة نزول (إنانا) (عشتار) إلى العالم الأسفل من أهم الوثائق المسمارية عن معتقدات سكان بلاد وادي الرافدين الدينية, بخصوص عالم الأموات .

إن الموت في عقيدة العراقيين القدماء, لم يكن مطلقاً, وإنما كان مجرد انفصال الروح عن الجسد, حيث اعتقدوا بأنه ما إن يستقر الجسد في القبــر ؛ حتى تنزل الروح إلى عالم سفلي هو عالم الأموات, حيث تبقى إلى أبد الدهر . وبتعبير آخر : أن سكان وادي الرافدين لم يعتقدوا بوجود قيامة أو رجعة, كما كان يعتقد سكان وادي النيل القدماء, كما أنهم – أي العراقيين القدماء - أكدوا بقاء الصلة الوثيقة بين روح الميت في العالم السفلي وجسده في القبر .

كما أكد العراقيون القدماء ضرورة الاعتناء بدفن جثة الميت, وضرورة تقديــم القــــرابين, وإقامة الشعائر على روحه, وبعكسه, فإن الروح سوف لن تشعر بالراحة واعتقــدوا أن روح الميت تبقى على صلة بعالم الأحياء, فتسمع ما يجري فيه لسبعـة أيـــام بعد الموت, وأكدوا أن مكانة الروح في العالم السفلي, تحددها المكانة التي يحتلها الإنسان وهو حي .

ينظر للتوسع بحث الدكتــور جعفر عباس شويليــة والدكتور حسين أحمد سلمان : مرجع سبق ذكره, ص98 وما بعدها .

37 – إنليل Enlil : من أبرز الآلهة في بلاد وادي الرافدين, يتكون اسمه من مقطعين EN بمعنى (السيد) و lil بمعنى (الهواء) ؛ فيكون معنى اسمه (سيد الفضــــاء) أو (سيد الهواء) . يأتي هذا الإله بعد مرتبة الإله (آنــو) ؛ إله السماء ؛ لأنه أحد أبنائـــه . تذكر الملاحم الخاصة بخلق الكون, أن الإله (إنليل) هو الذي قــام بفصل السماء عن الأرض, وهو الذي خلق الفأس؛ أداة للعمل, والمحراث لتعليم الإنسان فنون الزراعــة . وكان مركز عبادته مدينة (نفَّر), (قرب مدينة عفك في محافظة القادسية بالعراق حالياً .

أما زوجة الإله (إنليل) فهي (ننليل) وله ابن هو إله القمر (سين) . أمــا تلقيب الإله إنليل بالجبل العظيم, فربما يرجع إلى قدرة الهواء على جلب العواصــــف الترابية الكبيرة أو الغيــوم الكثيفة التي تشبه الجبال العالية . وللإله إنليـــل مواقف سلبية تجاه البشــر والآلهة, فهو الذي قرر الطوفان العظيم الذي أباد كل البشر, باستثناء من أنقذهم (أوتو – نبشتم) في سفينته .

38 – S.N. Kramer, Sumarian Myths and Epic Tales (in : James Pritchard. Edit. Ancient Near Eastern Texts, Princeton, New York 1969 .

39 – خمبابا Humbaba : هو الإله الذي يحرس غابة أشجار الأرز . وقد استطاع جلجامش في ملحمته أن يقتل هذا الإله ويحصل بذلك على أخشــاب الأرز . وذكر (خمبابا) أو (همبابا) باسم (خواوا) أو (حواوا) أيضاً .

ينظر حسن النجفي : مرجع سبق ذكره, ص95 .

40 – فراس السواح : جلجامش, ملحمة الرافدين الخالدة), منشورات دار علاء الدين, الطبعة الأولى, دمشق, 1996, ص41-50 .

أبو يحى غير متصل قديم 03-03-2005 , 08:29 PM    الرد مع إقتباس
أبو يحى أبو يحى غير متصل    
عضو نشيط جداً  
المشاركات: 361
#4  

انكيدو حول لعناته للنساء إلى تبريكات أما موقف بطل الملحمة من عشتار فيمهد لكافة التهم التاريخية الجاهزة ضد المرأة

موت شخص واحد قلب حياة جلجامش رأسا على عقب، وقبله حدث الأمر ذاته مع أمير آخر من اسطورة هندية، فما بال الموت الفردي والجماعي لا يحرك الناس كثيرا هذه الايام، هل تبلدت الاحاسيس ام استسلم الناس الى عدمية تشبه ما وجده جلجامش عند "سيدوري" فتاة الحانة التي قابلها قبل ان يبحر باتجاه دلمون.

ان اسطورة جلجامش في سياقها التاريخي أول نص تمجيدي لثقافة الذكورة وبداية ملحوظة لردم التراث الطوطمي الامومي الذي تحكم بالسياق الحضاري قبلها، فهناك دفن حقيقي لانكيدو ودفن رمزي لتراث سيطرة المرأة على مقدرات المجتمع والحضارة، وبذا تأتي هذه الملحمة على الحافة بين زمنين متضادين.
ولانها تقع على مفترق الطرق وفي مفصل تاريخي حاسم نرى كاتبها يحتار في اتخاذ موقف من النساء، فجلجامش نفسه ومع تمجيده المتوقع لامه "ننسون" نراه يذم عشتار ويسخر منها ويتهمها بكل التهم التاريخية اللاحقة التي سيستخدمها الذكور في النيل من الاناث، فهن غادرات ماكرات لا يخلصن لأحد ويلوثن من يتصل بهن لذا يرفض جلجامش الاقتران بعشتار ويذمها مع بنات جنسها في نص طويل من سوء حظ النساء انه اقل ألواح الاسطورة تخرما وتفتتا:

ما هو نصيبي منك لو تزوجتك

ما انت الا موقد تخمده ناره في البرد

باب خلفي لا يحمي من ريح او عاصفة

قصر يسحق الابطال من حماته

حفرة يخفي غطاؤها كل غدر

قار يلوث حامله

قربة ماء تبلل حاملها

حجر كلسي هش في سور صخري

حجر كريم.. في بلاد الاعداء

صندل يزل به منتعله

اي حبيب اخلصت له ابدا

وأي راع افلح يرضيك دوما

تعالي افضح لك حكايا عشاقك

ويمضي جلجامش بعدها في سرد حكايات عشاق عشتار التي تمتعت بهم ورمتهم ومنهم تموز وطائر الشقراق الذي كسرت جناحيه والحصان الذي سلطت عليه السوط والمهماز والبستاني "ايشولانو" الذي مسخته الى خلد يقيم في الحفائر.

وتأتي اللعنات للنساء ايضا عن طريق انكيدو وهو على فراش الاحتضار:

تعالي ايتها المرأة ارسم لك قدرك

قدرا راسخا أبد الآبدين

سألعنك لعنة جللا

لتكن الطرقات سكنا لك

وظلال الجدران لك مستراحا

وشوك الارض في قدميك جلدا

وليلطم خدك الصاحون والسكارى

ولا يتوقف انكيدو عن لعن النساء الا بعد ان يذكره "شمش" اله الشمس الشرقي بان المرأة هي التي اصطفته من قطيع الوحوش وعلمته اكل الخبز وشرب النبيذ وكسته الثياب الفاخرة وادخلته في مسلك الحضارة بعد ان كان تائها مع الوحوش في البراري.

ويعتقد فراس السواح الذي اعتمدنا ترجمته لهذه النصوص من ملحمة جلجامش ان انكيدو اقتنع بهذا المنطق الحقيقي والصارم وحول لعناته الى بركات للنساء، لكن هذا التحول لا نراه عند جلجامش مع انه اوشك ان يعود خائبا من دلمون لولا تدخل زوجة حكيمها "اوتنابشتيم" التي طلبت منه ان يمنحه شيئا والا يتركه يعود خالي الوفاض، فأعطاه نبتة الخلود التي سرقتها الافعى في طريق العودة، ولذا لم يتمكن ملك "أور" من اعادة كهول مملكته الى شباب ليبدأ بهم اسطورة "رجوع الشيخ الى صباه" قبل اختراع "الفياجرا".

* حق الليلة الاولى

* ويبدو جلجامش منذ بداية الاسطورة صاحب موقف تعسفي من النساء، فقد كان قبل ان ينشغل بالصراع مع انكيدو ثم صداقته يغتصب النساء والعذراوات خصوصا، ويعتقد السواح ان "اور" ربما تكون قد عرفت كبعض حضارات شرق المتوسط ما يعرف بـ "حق الليلة الاولى"، حيث كان يحق لكل حاكم ان يختلي بالعذراء قبل ان تدخل على عريسها، ولا نعرف ماذا ستكون عليه حالة الحاكم الشرقي لو تزوجت خمسين عذراء في ليلة واحدة؟

قطعا ستكون تلك الليلة من الليالي القليلة التي يتنازل فيها الحكام طواعية عن بعض حقوقهم، اما جلجامش فلم تشذبه الكثرة والملل، لكن شذبته الصداقة والتفكير بجلائل الاعمال.

ويحاول بعض المفسرين ان يجعلوا علاقة جلجامش بانكيدو علاقة جنسية لمجرد ورود شطر في حلمين رآهما جلجامش واستخدم فيهما في حديثه تعبير "ملت عليه كما أميل على امرأة" وهذا النوع من التفسيرات القسرية يرافق في الغرب محاولات تحويل كل ابطال الاساطير والتاريخ والادب الى مثليين جنسيين.

وبعيدا عن موقف جلجامش وانكيدو المتقلب من النساء ترى اصرارا خفيا من صائغ النص الاصلي للاسطورة على الايحاء بالتأثير السلبي للمرأة على الرجل، فبدلا من شكرها لانها رقته وحضرته وهذا ما لا يحدث لاحقا الا بتدخلات الآلهة نرى في بداية لقاء انكيدو بالمرأة رغبة في وضع القوة الجسدية مقابل القوة العقلية لنعرف ماذا ربح الوحش وماذا خسر الانسان، وموقف صائغ الاسطورة واضح فالخسارة في عدة ابيات والربح في شطر واحد:

علمت الرجل الوحش وظيفة المرأة

وها هو واقع في حبها

ستة ايام وسبع ليال قضاها انكيدو مع فتاة البهجة

وبعد ان روى نفسه من مفاتنها

يمم شطر رفاقه الحيوان

فولت لرؤيته الغزلان هاربة

حيوان الفلاة فرت امامه

تمهل خلفها ثقيلا كان جسمه

خائرة كانت ركبتاه، ورفاقه ولوا بعيدا

تعثر انكيدو في جريه، صار غير الذي كان

لكنه غدا عارفا واسع الفهم

قفل راجعا الى المرأة جلس عند قدميها

والمفترض ان انكيدو حصل على اكثر مما فقده، فأن تخور ركبتاه وان يعجز عن الجري ويصير جسمه ثقيلا ظواهر تدل على انه امضى وقته في الممارسة، فمن اين صار عارفا واسع الفهم..؟ وهل كان عنده مع المفاجأة التي كانت تنتظره عند الغدير اي وقت ليسمع ويفهم.

تفسير ذلك عند شعراء كثر منهم "بليك" يعتقدون ان الصلة الجنسية، ترتقي بالروح البشرية، وبالتالي تظل المرأة ضرورة حضارية حتى وان لم تنطق وتعلم وقبل ان تكون مصب غرائز هي في نظرهم بوصلة روحية قبل ان تكون حاجة جسدية ولأمر لا يصعب اثباته تظل المرأة اقرب الى روح العقل والمنطق من الرجل، وهذه قناعات استغرقت البشرية قرونا لتصل اليها. اما عند القدماء، فظلت رمزا للغواية وظل الجنس طريقا للخسران والفقدان والنبذ والطرد من الجنان بمساعدة الافعى التي تتوحد مع المرأة في مواقف كثيرة.

ويوجد في المتحف البريطاني في لندن ختم سومري يمثل رجلا وامرأة وبينهما الشجرة المحرمة والافعى خلف المرأة توحي لها ان تغوي الرجل بثمارها، ويعود تاريخ هذا الختم الى منتصف الألف الثالث قبل الميلاد وهي ذات الفترة التي اثبتت فيها الالواح وجود شخصية حقيقية لملك اسمه جلجامش حكم بحدود 2700 قبل الميلاد. اما الاسطورة التي سجلت على مراحل وتم آخر تنقيح لها بعد رحيل صاحبها بألف عام، فقد استفادت من التطور العقلي الذي حصل خلال عشرة قرون، ولم تحمل الجنس والافعى والمرأة كما فعل الختم السومري كل الشرور، بل حاول صاغتها ان يوازنوا الموقف من المرأة، وربما الى ذلك العهد يعود الاعتراف التاريخي الاخير بفضلها على الحضارة اي في الوقت الذي كانت فيه الحقب الطوطمية تحتضر مفسحة المجال لثقافة القوة الذكورية لاننا بعد ذلك الوقت وحين تسلم الاغريق ثم الرومان زمام التطور الحضاري في العالم شهدنا تراجعا ملحوظا لدور النساء وقلت المدائح التي تقال في حكمتهن وخصبهن مع انهن لم يتوقفن عن ممارسة الحكمة ولا عن الانجاب وتلبية غرائز الرجال.

وجاءت الثقافة اللاهوتية الانتقائية فأوشكت ان تخفي ايجابيات النساء تماما وهذا ما لم يجرؤ عليه المؤسطر البابلي الذي حرص على علاقة شبه متوازنة الى حد ما في العرض تعطي للذكور ثلاثة ارباع الانجازات دون ان تخفي تماما دور النساء الذي ومض كالبرق حاملا بعض اشارات الزمن الطوطمي السعيد.

لقد كان بامكان جلجامش ان يوفر على نفسه الكثير من المشقات لو استمع الى نصيحة فتاة الحانة "سيدوري" التي لم تأت بجديد لا يعرفه، لكنها صاغت الموقف بطريقة تعجز عنها عنجهية الذكر الذي يعرف الحدود المتاحة للكائن الانساني، لكنه يرفض كما في حالة جلجامش الاعتراف بها تحت حجة مقارعة المستحيل.

* الحرب وحفائر الروح

* تقول سيدوري المستقرة في حانتها على الشاطئ في مواجهة أرض الخلود:

الى اين تمضي يا جلجامش

الحياة التي تبحث عنها لن تجدها

فالآلهة عندما خلقت البشر

جعلت الموت لهم نصيبا

وحبست في ايديها الحياة

اما انت فاملأ بطنك

وافرح ليلك ونهارك

اجعل من كل يوم عيدا

وارقص لاهيا في الليل والنهار

اخطر بثياب نظيفة زاهية

واغسل رأسك وتحمم بالمياه

دلل صغيرك الذي يمسك بيدك

واسعد زوجك بين احضانك

هذا نصيب البشر في هذه الحياة

ولم يصل جلجامش الى الخلود، لكنه جعل حياة الخالدين مملة وحكم عليهم بالوحدة الابدية، فقد اخذ في طريق عودته من دلمون البحار "اورشنابي" الذي كان صلتهم الوحيدة بأرض البشر غير الخالدين، وبدل ان يحتطب ويحمل المؤن للحكيم الخالد وزوجته تحولت مهمته الحضارية، فقد اعطاه جلجامش مهمة اعلاء اسوار اور. فالدرس الحقيقي الذي حاول ذكور قرون ما قبل التاريخ تلقينه لمن جاء بعدهم هو ان البناء والعمران طريق الخلود وهي حكمة استفاد منها حكام قلائل وبشر اقل لأن ممثلي الثقافة الذكورية التي قامت على العنف والاغتصاب لم يستطيعوا ان يتخلوا عن لعبة الحرب والسيطرة، وهكذا لم تفدهم حكمة جلجامش الا في فترات قصيرة ظهر فيها حكام معماريون يحبون البناء والتشييد، اما ما تبقى من حقب فكان صوت معاول الهدم فيها هو الاقوى من ادوات البناء.

ترى هل كان عصر جلجامش يشبه عصرنا بصورة معكوسة..؟ اي انه كان عصر انتقال السلطة من الانثى الى الذكر ومن الطوطمية الى الابوية في حين ان هذا العصر الذي نعيشه يشهد بوادر عودة الى القبول بحكمة المرأة وسلطتها الاقل تخريبا للكون من سلطة الرجل.

ما نشهده حولنا لا يثبت ذلك لكن هذا لا يمنع ان يكون هذا القرن منذورا للتحولات الكبرى، فزمن اسطورة جلجامش كان الحد الفاصل بين الطوطمية والابوية وبين من يأكلون الخبز، ومن يلتهمون حشائش الارض، وتلك نقلة بالمقياس الحضاري ليست اقل من النقلة المعاصرة من الثورة الصناعية للتكنولوجيا الدقيقة، ومع كل تحول اساسي تتبدل اساليب المجتمعات ومنطلقاتها واساسيات تفكيرها وتدبيرها ويقوى جنس على حساب آخر او تتوازن العلاقة المختلة بين الجنسين.

وبقيت ملاحظة على الزمن الطوطمي لها علاقة بالجغرافيا قبل التاريخ فالملاحظ ان ارض الخلود دلمون في جنوب الخليج العربي، ويليها شمالا المملكة التي سبقت "اور" وهي "اريدو" ثم "لجش" و"آشور" وصولا الى "نينوى" في اقصى الشمال فهل نستطيع الافتراض ان العصر الذهبي للزمن الطوطمي بدأ في جنوب الخليج العربي، ثم صارت المرأة تفقد سلطتها وصلاحياتها كلما اتجهت الحضارة شمالا في وادي الرافدين الى ان خسرتها تماما عند شعوب آسيا الوسطى وقبائلها..؟

اذا صحت هذه الفرضية، فإن المفارقة التاريخية المضحكة ـ المبكية ان ذات البلاد التي شهدت العصر الذهبي السعيد للطوطمية ما تزال المرأة فيها الاقل تمتعا بالحقوق والحريات.

ان ملحمة جلجامش مثل حفائر الحضارات القديمة مكونة من عدة طبقات ومستويات، ورموزها ما تزال مفتوحة للعديد من التفسيرات الاجتماعية والسياسية والفكرية، وتلك طبيعة كل نص عظيم تجد فيه جديدا كلما عدت اليه بحثا عما في حفائر الروح من الغاز واسرار نائمة بانتظار من يكتشفها، فذهب الحضارات وتماثيلها مدفونة في باطن الارض، والحكمة الروحية للانسان مغروسة في حقول الاساطير على الحجر والفخار بين ثلوم الرموز والاشارات وعلى ضفاف الاختام والسطور.



محيي الدين اللاذقاني

أبو يحى غير متصل قديم 03-03-2005 , 08:33 PM    الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


[عرض نسخة للطّباعة عرض نسخة للطّباعة | ارسل هذه الصفحة لصديق ارسل هذه الصفحة لصديق]

الانتقال السريع
   قوانين المشاركة :
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة لا بإمكانك إضافة مرفقات لا بإمكانك تعديل مشاركاتك
كود في بي vB متاح الإبتسامات متاح كود [IMG] متاح كود HTML غير متاح



لمراسلتنا - شبكة سوالف - الأرشيف

Powered by: vBulletin
Copyright © Jelsoft Enterprises Limited 2000.