العودة سوالف للجميع > سـوالـف الجمـيــــــــع > سـوالــف إســلامــيـة > أصحاب الأخدود
المشاركة في الموضوع
USAMA LADEN USAMA LADEN غير متصل    
منع من الكتابة  
المشاركات: 995
#1  
أصحاب الأخدود
أصحاب الأخدود


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،،،

فهذه القصة حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي فَقَالَ إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّي قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي قَالَ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ فَجِيءَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ فَقَالَ إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ] رواه مسلم.

[كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ] وهذه هي بداية القصة، دون ذكر للزمان والمكان ليمكن اعتناقها والاستفادة بها بغير الارتباط، أو التعلق بظروفها وملابساتها.

وفي قوله: [فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ] يريد فيما مضى، فيربط هذا الماضي بحاضر الدعوة في عهده فيقول: [قَبْلَكُمْ] حيث أن هذا الواقع القائم الآن هو الامتداد الصحيح لواقع الدعوة منذ بدايتها مع بداية الزمان. وهذا هو المعنى الأول المأخوذ من تلك البداية.

والمعنى الثاني: هو أن هذه البداية: [كَانَ مَلِكٌ] أبرزت ضرورة المواجهة بين الدعوة إلى الحق والحكم الباطل بصورة واضحة. وبذلك نفهم أن العداء بين الدعاة إلى الحق وبين حكام الباطل أمر بدهي مفروض من البداية وبمجرد التفكير في غاية الدعوة والنظر إلى واقع الناس.

وعلى هذا فإن أي دعوة إلى الحق تظهر في الواقع الباطل توجيهاً نظرياً، أو فكرياً مجرداً لا يتضمن تقدير مواجهة هذا الباطل في قوته وسلطانه؛ ستكون قتيلة بسنن الوجود، وتُلفظ من واقع الناس؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً في بداية الدعوة على إعلانها على الملأ والجهر بأنها دعوة إلى جميع الناس فكان يبعث إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وهو لا يزال في مرحلـة الاستضعاف تأكيداً لأبعاد الدعوة من البداية، ودون اعتبار للإمكانيات، أو مراعاة لميزان القوة بينه وبين هؤلاء الملوك.

ولقد كانت قريش من الذين لم يفهموا قصد الرسول صلى الله عليه وسلم فظنت أنه لايريد إلا الحكم- فعرض عليه سادتها أن يكون سيداً عليهم، فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم تلك السيادة.

فالحكم ضرورة في تصور الدعوة، ولكنه لن يأتي منحة من المغتصبين له، ولن يتحقق بالمساومات الرخيصة، بل يجب أن يسترد بالجهاد والعمل؛ ليكون ولاية شرعية حقيقية.

ويجب ألا يمنع الاستضعاف ضرورة المواجهة بين الدعوة والحكم الظالم، وليس في تلك المواجهة -دون اعتبار للإمكانيات المادية- أي تهور، ولهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن سيد الشهداء من يقوم إلى حاكم ظالم يأمره وينهاه، وهو يعلم أنه سيقتله، فقال: [سَيِّد الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ ظَالِمٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ] رواه الحاكم في المستدرك والطبراني في الأوسط . لأنه أكد مايؤكده الشهداء بقتالهم الكافرين أصحاب القوة والسلطان، ويزيد عليهم أن الشهداء كانوا يقاتلون باحتمال النصر أو الشهادة، وهو يواجه باحتمال واحد وهو الشهادة.





[وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ] تفيد أن الساحر للملك والسحر للحكم، وعندما يحكم السحر نفهم طبيعة الواقع الخاضع، فلابد أنه واقع فاسد، قائم بالظلم، ومحكوم بالهوى. ولابد أن المنهج وهم، وأن القيادة قهر، وأن الفكر خرافة، والواقع ضياع، وعندئذ يكون الإنسان إما متكبراً لا يعجبه إلا نفسه، أو مقهوراً لا يشعر بنفسه.

وهذه ضرورة الحكم الظالم؛ لأن الحكم الجاهلي يقوم على تفتيت كيان الفرد، وتشتيت كيان المجتمع؛ لأن الحكم الجاهلي لايريد إلا السيطرة دائماً، ولو إلى الدمار، وفي هذه الحالة يكون من مصلحة الحاكم أن يكون الإنسان الذي يواليه غبياً جاهلاً ضعيفاً.

وأي منهج ليس من عند الله يخضع لـه الناس يحقق نتائج السحر، وليس هناك فارق بينهما إلا في الشكل والاسم، وأي منهج يتخيل الإنسان أنه سليم بتأثير الإرهاب الذي يُفرض به المنهج من خلال الجهل والضعف؛ يحقق نتائج السحر.

[فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ] ومن هذا القول نجد نموذجاً لبطانة السوء التى يهمها أن تبقى الأوضاع التي يستفيدون منها، وينعمون فيها، ومثلهم الواضح سحرة فرعون الذين جاءوا إلى المدائن لمواجهة موسى، فكان أول ما قالوا:{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ[113]قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ[114]}[سورة الأعراف]. فلم يسألوا عمن سيواجهون، وما هي قضيته.. فهذا لا يهم ولكن الذي يهم هو الأجر .

[فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا] وقد جاء طلب الساحر - في رواية الترمذي – بعبارة: [انْظُرُوا لِي غُلَامًا فَهِمًا أَوْ قَالَ فَطِنًا لَقِنًا فَأُعَلِّمَهُ عِلْمِي] وهذا يكشف بُعداً خطيراً للخطة الجاهلية الرامية إلى إفساد الفطرة، وهي التركيز على النابهين المتفوقين أصحاب المواهب والقدرات الخاصة لضمان السيطرة الجاهلية على الواقع البشري.

[فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ]وتلمح من النص أن الغلام كان على إصرار في القعود إلى الراهب؛ لأنه كان يقعد إليه كلما أتى الساحر، رغم أن الساحر كان يضربه كلما تأخر عنه. وهذا الضرب يمثل بالنسبة للغلام بلاءاً وامتحاناً -إذا راعينا أنه غلام صغير- . ولكن الله يريد أن يتربى هذا الغلام - من البداية - تربية حقيقية كاملة، ويريد أن يكون ارتباطه بالدعوة متفقاً مع طبيعتها؛ لأن هذا الغلام سيكون منطلقاً أساسياً لتلك الدعوة، وسيكون دليل الناس إليها.

لذا كان لابد من أن يكون شخصية متكاملة بمعنى التكامل الشخصي للدعاة، والذي لا يتحقق ولا يتم إلا بالاستعداد للبلاء والصبر عليه عندما يقع.

فطبيعة التلقي لهذا الدين هي التي تحدد طبيعة اعتناقه والالتزام به والدعوة إليه، والذين يتلقون هذا الدين على أنه بلاء، هم الذين يبقون إلى النهاية، وأخذ هذا الدين بقوة هو ضمان الاستمرار عليه.

وبذلك أراد الله أن يتفق تكوين هذا الغلام مع طبيعة الدعوة، وأن لا تشذ شخصيته عن تكاليفها، فابتلاه الله في لحظات التكوين، ووقت النمو، وفترة التربية؛ فصدق وصبر.

ودائماً..مع شدة البلاء والأذى تظهر الآيات التى تعين على الصبر وتطمئن النفوس: [فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ].

وهنا نكتشف أن الغلام كان قلقاً لتلقيه من الراهب والساحر في وقت واحد، ولقد كان من الممكن أن يستمر الغلام دون قلق إذا كان يسمع للراهب والساحر بدون شعور أو تفكير؛ لأن السماع حينئذ سيكون مجرداً من التأثر، وسيصبح الدين والسحر عند الغلام مجرد فكر وكلام ولكن القلق نشأ بسبب تأثره العميق بكلام الراهب، وإدراكه السليم لمعنى الدين.

ومن هنا ندرك الصعوبة الكبيرة التي يعانيها المسلم الأصيل في مواجهة الواقع الفاسد وندرك أن الأصالة الإسلامية لابد أن تحرك المسلم لتحديد موقفه كما فعل الغلام.

ويدل طلب الغلام لليقين -من خلال الواقع - بفضل الراهب على الاتجاه الذي يريد الغلام أن يأخذه بدينه؛ لأنه كان يريد أن يتحرك به في حياة الناس، وسيواجههم بما يؤمن به مواجهة واقعية عملية، فلابد أن تبدأ هذه المواجهة بيقين من خلال هذا الواقع، فليست الدعوة في نظر الغلام مجرد فكرة واقتناع شخصي بها، ولكنها فوق ذلك واقع يتحقق بالقَدَر الذي يسير به الوجود.

[فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ] ولم يكن الموقف الذي وقفه الراهب موقفاً عادياً عندما قال للغلام ذلك، ولكنه موقف فاصل في حياة كل داعية، فقد تخفي الدعوة في الإنسان الذي يمارسها حباً خفياً للتميز باعتبار أن هذه الممارسة صورة من صور تميزه على الناس.

ولكن هذه العورة النفسية القبيحة تنكشف حتماً إذا واجه الإنسان موقفاً يشعر فيه أن هناك من هو أفضل منه في فهم الدعوة، وأقدر على تحقيق مصلحتها. ولكن الراهب لم يكن من هذا النوع بل كان تقياً نقياً: [ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي] كلمات كلها إخلاص وتجرد. فهذا الراهب المعلم كان أصيلاً إذ أخبر الغلام أنه قد أصبح أفضل منه بلا حرج، ومن أين سيأتيه الحرج وقد خلصت نفسه لله تبارك وتعالى؟ فهو لم يكن يعلم ليقال عنه عالم، ولم يكن يدعو ليكون على رأس أتباع؛ ولهذا يفتح الطريق لمن يظن أنه يملك خدمة الدعوة أكثر منه؛ فيجعل من نفسه نقطة على محيط دائرة النمو العقيدي والحركي للغلام، فيقول له: [أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي] .

وإذا تذكرنا أن الغلام كان صغيراً سناً، وأنه ما التقى بالراهب إلا منذ وقت قريب فإننا ندرك مدى الفهم الصحيح عند الراهب للدعوة؛ فالدعوة ليست بالعمر الذي يعيشه الإنسان، ولكن بالإيمان والكفاءة، والأثر. وبذلك يمثل الراهب في واقع الدعوة ضرورة القيادة الزاهدة، ويمثل الغلام ضرورة الاستجابة الفطرية.

فالقائد لايريد حظاً من الدنيا، والمستجيب كان غلاماً حديث عهد بالدنيا. فالقيادة الزاهدة والاستجابة الفطرية هي الارتباط الصحيح الذي يبارك الله فيه ليكون بداية البناء وأساسه، وهي المقياس الذي يقبل به أي ارتباط، أو يرفض منذ البداية حتى يتم البناء.

وبعد أن رأينا التجرد نرى التربية الصحيحة، إذ أن الراهب لما ذكر للغلام ميزته أتبعها بالمسئولية التى تقع عليه باعتبار تلك الميزة، وهذا في الواقع حماية للإنسان من الغرور؛ لأن الإحساس بتكاليفها يجعل الإنسان يعيش في شعور دائم بميزاته، فينحرف به ذلك الشعور إلى الغرور، ولهذا لما قال الراهب للغلام: [أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي] قال لـه: [وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى].

[وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ]وهكذا حدد الغلام قضية دعوته وربط تلك القضية بواقع الناس وألف قلوبهم عليها. فأصبح للدعوة تياراً قوياً امتد إلى كل مجالات المجتمع.

وحتى هذه اللحظة لم يكن الملك قد علم بخبر الغلام، ولكن الله قدر أن لا يعلم الملك بخبر الغلام إلا من خلال هذا الجليس وبعد أن أصبح للدعوة تيار قوي. وهذه كانت مرحلة البداية.

[فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي] ويرد الغلام على الجليس مبيناً لـه أنه ليس هو الذي يشفي، ولكنه الله سبحانه، فيقول: [ إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ] ويتجاهل الغلام الفكرة التي عرضها الجليس- فكرة الهدايا- والتي لم تنل من إحساسه شيئاً، ويقول لـه: [فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ] وهنا ترتفع قيمة الأمر بالإيمان في تصور الجليس؛ لأن شفاؤه سيكون بهذا الإيمان، ولأن الأمر بالإيمان كان بديلاً للهدايا والمادة التي تنال من نفوس الناس تقديراً واعتباراً، فانعكس هذا التقدير والاعتبار على الأمر الذي طلبه الغلام [فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ].

وعندما قال الغلام: [ إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ]إنما أكد بذلك عقيدته من خلال المنفعة التي قدمها للجليس.

[فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ].

وهكذا في بساطة، وهذا يؤكد لنا أن أساس الدعوة ليس بالكلام الذي تعرض به القضية فقط بل بصحة الأسلوب العملي الذي ينجح في كشف حقيقة الإيمان الكامنة في كيان الإنسان. حتى دون الطلب الصريح أو الدعوة المباشرة ولو بكلمة واحدة .

USAMA LADEN غير متصل قديم 08-01-2004 , 10:07 PM    الرد مع إقتباس
USAMA LADEN USAMA LADEN غير متصل    
منع من الكتابة  
المشاركات: 995
#2  

ولذلك نلاحظ أن الغلام لم ينطق في تبليغه لقضية الدعوة إلا بثلاث عبارات في القصة كلها:

قوله: [ إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ] رداً على الجليس عندما طلب الشفاء، ورداً على الملك عندما ادعى أن مايفعله الغلام إنما هو سحر.

وقوله: [كَفَانِيهِمُ اللَّهُ] رداً على الملك بعد نجاته من الموت فوق الجبل، وفي السفينة.

وقوله: [ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ] عندما دل الملك على الكيفية التي يستطيع أن يقتله بها.

ولكن هذه العبارات الثلاث تمثل في الحقيقة ثلاث نقاط في خط الإثبات العقيدي لقضايا الدعوة من خلال الواقع: فالله الشافي.. والله الكافي.. والله المحيي المميت.. حقائق لم يرددها الغلام كقضايا جدلية وكلامية.

ولكنه ذكرها كحقائق نهائية ثابتة في واقع قائم بحيث لا يمكن ردها أو حتى مناقشتها، والحقيقة أن البداية لهذا الخط -كما جاء في القصة -ترجع إلى إيمان الغلام نفسه.. وذلك عندما طلب الغلام اليقين من خلال الواقع، فدعا الله أن يقتل هذه الدابة إذا كان أمر الراهب أحب إليه سبحانه من أمر الساحر، وهذا يعني أن طبيعة التلقي لحقائق هذا الدين واليقين به هي التي تحدد طبيعة الدعوة إليه في خط واحد.

نعود إلى القصة، فنجد الجليس قد أتى إلى الملك فجلس إليه كما كان يجلس من قبل فقال لـه الملك: [مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّي قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي قَالَ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ]. وفظيع جداً أن يدعى الإنسان الربوبية لنفسه، ولكن كيف يكون هذا الإدعاء؟ فمن خلال دراسة هذه الظاهرة البشعة نجد أن القرآن سجلها على فرعون، وعلى الملك النمرود الذي حاجّ إبراهيم في ربه، وهذان يتفقان مع هذا الملك في أمرين هما: الكفر بالله، والملك على الناس.

فبدأ الأمر بكفر الإنسان بالله، ومنه الكفر بقضائه وقدره، ومنه ظن الكافر أنه هو الذي يصنع حياته ويصرفها برغبته، وإن كان متسلطاً على الخلق ظن أنه يؤثر بذاته في معيشتهم، ويصنع حياتهم فهو يأمر فيطاع، ويحكم فيستبد، ويتصرف بالهوى دون معارضة أو مراقبة، وهو الذي يتصرف في مقدرات الناس دون منازع، وهو الذي يعلو في الأرض ويستكبر على الأتباع كما قال فرعون:{ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ[51]}[سورة الزخرف]. وقال:{...مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ[29]}[سورة غافر]. ثم قال:{ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي...[38]}[سورة القصص].

ولكن المؤمن لايبالي بمثل هؤلاء الناس فيواجههم بقوة وصراحة كما فعل الجليس مع الملك، فقال له: [ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ] ولم يكن الجليس ليستطيع هذه المواجهة إلا إذا خالط قلبه بشاشة الإيمان؛ لأنه حينما يكون ذلك، تكون الثقة والطلاقة والقوة، وهؤلاء هم سحرة فرعون يسجدون لله بعد أن علموا أن موسى رسول الله، وليس ساحراً، فيهددهم فرعون قائلاً:{ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى[71]}[سورة طه]. فيردون عليه قائلين: { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[72]} [سورة طه]..

وهكذا أيضاً تعامل الملك مع الجليس: [فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ] لم يقتله فوراً حتى يكشف بقية الجماعة.

[فَجِيءَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ] الملك الطاغوت يقول: [أَيْ بُنَيَّ] كلمة كلها مكر وخبث، وضغط على نفس الغلام، وإغراء لـه بالقرب منه بما يتضمن هذا القرب من مستقبل زاهر، وحياة مترفة.

ويقول الملك: [قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ] وقد حاول الملك بهذه العبارة أن يسرق ما كسبه الغلام من تقدير في نفوس الناس بأن يعود بتفسير أعمال الغلام إلى السحر الذي تعلمه من ساحر الملك الذي أتى الملك إليه بالغلام.

وهذا ما يصنعه الذين لايريدون الاعتراف بالحق فيفسرونه بأي شيء غير الحق:

وهذا ما فعله فرعون لما هزمه موسى فقال:{...إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ...[71]}[سورة طه]. ولما ناقشه موسى في قضاياه ومسلمات حياته بجرأة وحزم: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ[27]}[سورة الشعراء].

وهذا مافعله أيضاً المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما رأوه ينفي الألوهية عن أصنامهم بجرأة وقوة قالوا:{...مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ[14]}[سورة الدخان].

ولما رأوه يواجههم بالبلاغة القرآنية قالوا:{...شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ[30]}[سورة الطور].

ولما رأوا الصحابة واثقين في دعوتهم قالوا:{...غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ...[49]}[سورة الأنفال] والملاحظة الدقيقة في تفسير أصحاب الباطل للحق بغير الحق هي شرط أن يكون هذا التفسير مقبولاً عند الناس.

ومن هنا كان تفسير المعجزة بالسحر والجرأة بالجنون والبلاغة بالشعر والثقة بالغرور ولذلك عقدت قريش مؤتمراً نراها فيه تحاول محاولة دقيقة للاتفاق على الوصف الذي سيصفون به الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن بحيث تراعي فيه هذه الشروط.

قالوا: نقول : كاهن؟ قال: لا والله، ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: نقول مجنون.قال ما هو مجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر، قال: ماهو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولاعقدهم. قالوا: ما نقول ياأبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن قرعه لجناه، ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا وعرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك.

ويفشل الملك في إغراء الغلام: [فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ]. ليست خيانة ولا عمالة ولكنها الطاقة البشرية المحدودة. هذه حقيقة يجب الاعتراف بها، وأي إنسان يقف موقف الغلام عندما دل على الراهب يتألم ألماً أكبر من ألم التعذيب، ثم يتضائل أمام نفسه.. ينطوي عليها.. يحتقرها.. يكرهها، ثم يظل يرقب من بعيد نظرة فيها الرحمة، وطلاقة وجه فيها الإعذار، ويد فيها العون، ويكون هذا واجب الجماعة في ذلك الموقف.

ولكن حدوث هذه النتيجة التي انتهى إليها الغلام لا يكون إلا بعد بلوغ حد الاستطاعة في الصبر والتحمل والثبات وهذا هو الحد الفاصل بين أن يكون المتكلم في محنة التعذيب معذوراً أو مقصراً.

وبلوغ حد الاستطاعة في الصبر والتحمل والثبت لايكون إلا بمعرفة إمكانية المواجهة الصحيحة لمحنة التعذيب.

وأهم عناصر هذه الإمكانية هي دخول المحنة بالعزم المسبق على مقاومة الانهيار، حيث إن دخول مرحلة التعذيب تجعل الفرد في حالة شبه لا إرادية والعزم المسبق هو الذي يحقق المقاومة.

وكذلك الأمر في التعذيب حيث ينشىء العزم المسبق نوعاً من الإرادة ومقاومة الانهيار.

والمقاومة الدائمة هي أكبر إمكانيات المواجهة.

وأهم العوامل المساعدة على المقاومة هي المتابعة الذهنية عند الفرد لمراحل التعذيب والغرض المحدد لكل مرحلة؛ فمثلاً مرحلة أن يبدأ تعذيب الفرد برؤيته لتعذيب الآخرين - كما فعل الملك مع الغلام- يكون الغرض منها تحطيم العزم المسبق بعدم الكلام.. وجعل الفرد يدخل محنة التعذيب بلا عزم على الصبر والتحمل والثبات، وذلك من خلال استغلال الخوف الذي يسبق الدخول في التعذيب وهذا الخوف أشد من آثار التعذيب ذاته.

وإدراك مثل هذه الأغراض هو الذي يمكن الفرد من تفادي الأثر المطلوب منها. كما أن وصول الفرد الممتحن إلى مرحلة الانهيار لايعنى هدم كل خطوط الدفاع النفسية. حيث إن هناك خطاً قوياً يجب الانتباه إليه، وهو خط العلاقة النفسية بين الفرد الواقع تحت التعذيب والأفراد الذين سينالهم الأذى بانهياره، فكلما كان الحب قوياً وشديداً كانت إرادة الصبر والتحمل قوية وشديدة أيضاً.

وأساليب التعذيب لا تتجاوز في مجموعها غرض سلب الإرادة ولعل أخطر هذه الأساليب المحققة لهذا الغرض هو الإهانة النفسية.. لإفقاد الفرد كرامته لأن العلاقة بين الكرامة والإرادة علاقة مطردة، فإذا قويت كرامة الفرد وعزيمته قويت إرادته.

ومن هنا: فإن الشعور بالاستعلاء والعزة من أهم موانع فقد الإرادة والانهيار، فلا يؤثر السب والبصق والركل بالقدم على الاستعلاء والعزة، بل واليقين بأنك تمتلىء عزة واستعلاء بالقدر الذي يمتلىء فيه من يعذبك حقارة ومهانة.

والفزع والترويع هما أخطر آثار التعذيب، ولا يبطل هذا الخطر إلا الطمأنينة والسكينة، ولا يحقق الطمأنينة والسكينة إلا الذكر {...أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[28]}[سورة الرعد] وعلى أن يكون الذكر هو الواجب الأول والدائم على من يقع في محنة التعذيب، كما أن الصيغ المتعددة للذكر تعالج بصورة مباشرة الآثار المتعددة التعذيب.

فدعاء الدخول على ذوى السلطان الظالمين يكون عند لحظة المواجهة الأولى، والاستغفار يرفع الذنوب التي قد تكون سبباً في وقوع المحنة، وعندما ترفع الذنوب تذهب أسباب المحنة، وتتحقق العافية، ومع الاستغفار يكون دعاء تفريج الكرب. وكذلك التكبير الذي يحقق الشعور بإكبار الله فيهون التعذيب والقائمين عليه.. وكذلك يهون التعذيب والقائمين عليه برضى الله سبحانه. وهذا المعنى مأخوذ من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الطائف. وفي نهايته: [...إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَليَّ فَلَا أُبَالِي وَلَكِنَّ عَافِيَتك أَوْسَع لِي] قال الهيثمي في مجمع الزوائد [35/6]:'رواه الطبراني وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة'.

ولعل من صيغ الأذكار المناسبة لمحنة التعذيب هي الاستعاذة الواردة في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: [...أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ]رواه الترمذي وأحمد.

لأن الانهيار هو الذي يجر السوء على النفس وعلى المسلمين. وفي النهاية فإن ما يذهب بمحنة التعذيب، وكأنها لا تكون هو تذكر عذاب الله، وعدم المقارنة بين فتنة الناس وعذاب الله كما في قوله سبحانه:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ...[10]}[سورة العنكبوت]. حيث لا وجه للمقارنة.

فعذاب الله يلازمه سخط الله والمهانة الحقيقية كما أنه يتضاعف ولاينفع معه الصبر وليس لـه نهاية وليست منه نجاة، وفتنة الناس والإيذاء في الله يحقق رضى الله والعزة لمن يؤذى في سبيل الله . كما أن فتنة الناس تَضْعُف وينفع معها الصبر ولها نهاية ومنها النجاة بإذن الله.

وبعد معالجة مشكلة التعذيب يتقرر حقيقة هامة وهي أن التوكل على الله هو الشعور الذي يدخل به المسلم تلك المحنة، وأن التسليم بقدر الله هو الشعور الذي يتقبل به المسلم نتيجة تلك المحنة حيث إن محنة التعذيب مع ما ذكر من عناصر لمعالجتها هي في النهاية بيد الله وحده.

ولعلنا نفهم من هذا الموقف أن ما بين التوكل الذي ندخل به المحنة والرضى بالقدر الذي نخرج به منها تكون ضرورة التفكير العملي للمحافظة على واقع الدعوة، وعدم الارتكاز في ذلك بصفة كلية على إيمان الأتباع. فقد كان من الممكن أن يغير الراهب مكانه حتى إذا ضعف الغلام، وأراد أن يدل عليه لا يجده، ولكن قدر الله وما شاء فعل.

[فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ] وهذا الذي حدث من الملك مع الراهب والجليس هو الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عندما شكوا إليه الاستضعاف: عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا فَقَالَ: [قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ]رواه البخاري. وهكذا يتعامل الظلمة مع دعاة الحق فلا فرصة للمناقشة، ولا سبيل إلى الإقناع، ولئن كان الملك ظالماً وسبيل بقائه في الحكم هو السحر؛ إذن فلا قضية عنده ولا مبدأ، ولهذا لم يجد وسيلة في مواجهة الموقف إلا التعذيب والتقتيل.

ونلاحظ أن الملك كان حريصاً على أن يرتد الراهب والجليس قبل أن يقتلهما؛ لأن ارتدادهما قتل للدعوة، وقتلهما حياة لها؛ ولهذا لم يقتلهما إلا بعد أن عرض عليهما الدعوة، ويئس من الاستجابة.

[ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا] وأما هنا فنلحظ حرص الملك الشديد على ارتداد الغلام حتى لا يسبب قتله حرجاً للملك، وبلبلة في عقول الناس؛ لأن الغلام كان معروفاً لهؤلاء الناس بأعماله الطيبة وبحبه للخير..هذا من ناحية..

ومن ناحية أخرى: فإن الملك أراد أن تخسر الدعوة هذا الداعية، ويتحدث الناس أن الغلام لم يكن على شيء؛ لأنه ارتد عن دعوته.

ومن ناحية ثالثة: فإن الملك كان طامعاً في أن يستفيد من هذا الغلام في تثبيت موقفه بجعله ساحراً له، وداعياً إلى ملكه طالما أن عنده هذه القدرة العجيبة على أن يشفي الناس من أدوائهم، والذي يؤكد لنا حرص الملك على ارتداد الغلام هو الأسلوب الذي تعامل به معه:

فقد أخره عن الراهب والجليس حتى يشهد مصرعهما، فيتأثر ويضعف،

وكذلك فإن الملك اختار وسيلة غير الوسيلة التي قتل بها الراهب والجليس، وسيلة فيها فرصة للتردد والتفكير أثناء المسافة بين القصر والجبل، ثم صعود الجبل،

والذي يؤكد لنا أن الملك كان يفعل ذلك بقصد ردة الغلام هو أنه طلب من أصحابه أن يعرضوا عليه الارتداد في ذروة الجبل وقبل أن يقذفوه.

وابتداءاً من تعذيب الجليس، ثم تعذيب الغلام، ثم قتل الراهب والجليس قبل الغلام: ثم قول الملك للغلام: [أَيْ بُنَيَّ] ثم تحديد كيفية معينة لقتل الغلام.. تجدها كلها تصرفات محسوبة ومدروسة..

USAMA LADEN غير متصل قديم 08-01-2004 , 10:10 PM    الرد مع إقتباس
USAMA LADEN USAMA LADEN غير متصل    
منع من الكتابة  
المشاركات: 995
#3  

متى يكون التعذيب؟ ومتى يكون اللين؟ ثم متى يكون القتل؟ وكيف؟ ولهذه التصرفات دائماً هدف واحد محدد هو التخلص من الدعوة: إما بارتداد الدعاة، أو قتلهم.

غير أن أهم ملاحظة في تجربة القتل والتعذيب واللين هي التعبير عن طلب الرجوع عن الدين، أو المساومة فيه بصيغة المبنى للمجهول: [ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ] ذلك للراهب والجليس والغلام.

وأما القتل فعلاً فجاء بصيغة الفعل المبني للمعلوم وهو الملك: [ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ] والسبب في ذلك: هو أن المساومة مع أصحاب الدعوة لايتناسب مع الإرادة السياسية العليا، ولكن الجاهلية عندما ترغب في المساومة فإنها توكل بها مجهول يساوم خفية لكي لا يؤثر على مهابة الدولة، أما القتل والتعذيب فهو الأمر الذي يتفق مع تلك المهابة بل يزيدها.

ولكن الغلام يدعو الله فوق الجبل: [اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ] بأي كيفية يرضاها الله سبحانه، وبأي سبب يختاره عز وجل، فليس التوكل على الله عند المؤمن محدوداً بخبرة الواقع، ودراسة الظروف؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما استطاع الغلام أن يدعو بهذا الدعاء؛ لأن الواقع لم يكن يحتمل أي تفكير، ولكنه التوكل بكامل حقيقته، وجوهر معناه، انطلاقاً إيمانياً لا يتقيد بضيق الواقع، وارتفاعاًَ وجدانياً لا يهبط بشدة الظروف.

وعندما يتحقق التوكل... تتحقق الاستجابة بإذن الله..[ فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ] وسبب عودته إلى الملك هو سبب طلبه للنجاة من أصحاب الملك فوق الجبل وهو أن الدعوة لم تتم، وليست الحياة هدفاً يحرص عليه الدعاة إلا من خلال كونها ضرورة من ضرورات الدعوة سواء أكان تحقيق هذه الضرورة يتطلب الحرص على الحياة، أو الحرص على الموت.

والذين يفسرون مصلحة الدعوة بالحرص على حياة الدعاة فحسب هم أصحاب التصور الناقص الذي لايعدو أن يكون فلسفة للجبن، أو للارتداد عن سبيل الله.

فالجبن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلاضرورة أومنفعة، والشجاعة هي التضحية الضرورية النافعة، وعلى هذا لم يكن طلب الغلام للنجاة جبناً، ولم تكن عودته إلى الملك تهوراً بل كان في كلا الموقفين شجاعاً حكيماً.

[وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ]لم تؤثر محنته على منهجه..لم يحدث التصرف الذي غالباً مايتصرفه بعض الدعاة بعد أن يعيشوا مرحلة من مراحل الخطر.. يخرجون من هذا الخطر وقد قرروا تفاديه في كل مواقفهم.. ويصبح هذا القرار أساساً في تحديد تصور جديد، ومنهج جديد.

لم يفعل الغلام ذلك بل عاد متمسكاً بمنهجه بصورة كاملة ودقيقة..عاد إلى نفس النقطة التي كان عليها..نفس الموقف الذي كان فيه..موقف المواجهة مع الملك.. فقد تحقق للغلام إمكانية تلك المواجهة فلا يجوز التراجع، ولا حتى التأجيل.

ولما ذهب إلى الملك سأله: [مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ] لا يريد أن ينسب الأصحاب إليه؛ لأنهم منهزمون أمام الغلام، حتى لا يكون لهزيمته بأصحابه أمام الغلام حساسية تؤثر على ادعاء الربوبية لنفسه، ولم يقل ماذا فعل أصحابي رغم أنهم أصحابه كما قال النص: [فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ].

قال الغلام: [كَفَانِيهِمُ اللَّهُ] ولعلنا نلاحظ أن قول الغلام هذا للملك بعد النجاة كان مثل قوله قبل النجاة : [اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ] نفس الكلمة التي قالها عند الضر فوق الجبل، قالها بعد كشف الضر واهتزاز الجبل بلا زيادة ولاتغيير، فقد ينطلق لسان الإنسان عند الضر بكلمات اللجوء إلى الله والاستغاثة به فإذا ما انكشف الضر تتغير الكلمات والألفاظ، ويدخل فيها إحساس الإنسان بنفسه وعمله، ويفسر الكشف الإلهي لضره بمجهود بذله، أو تصرف تصرفه.

ويحاول الملك قتله مرة ثانية..[فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ] إن اختيار الملك لأسلوب القذف بالغلام في وسط البحر بعد محاولة القذف به من فوق الجبل يعتبر نموذجاً لطبيعة تطور المواجهة الجاهلية المادية البحتة في مواجهة دعوة قائمة بقدر الله وحده. تلك المادية التى أعمت أصحابها عن قدر الله السافر فوق ذروة الجبل حيث اهتز الجبل، فسقطوا هم، وعاد هو سالماً.

أحداث ناشئة عن إرادة إلهية غالبة بتمام الدعوة، أدرك الغلام هذه الحقيقة، فجاء يمشي إلى الملك.

ويقين الغلام بعجز الملك عن قتله- وإن كان موقفاً خاصاً إلا أنه- تضمن حقيقة اعتقادية مطلقة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس في حديثه: [...وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ]رواه الترمذي وأحمد. ولن تكون الحركة صحيحة إلا إذا تحقق في ضمير كل داعية هذا الاطمئنان الذي كان عند الغلام.

فقال للملك: [إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ] ونرى في كلمات الغلام شيئين:

إثبات عجز الملك.. والأمر الذي سيأمر الملك به.. ولعل هذا أول أمر يتلقاه الملك في حياته، ويجد نفسه مضطراً إلى تنفيذه. وبذلك ينهي الغلام ادعاء الربوبية الذي يدعيه الملك بإثبات عجزه واضطراره إلى تنفيذ الأمر الذي يصدر إليه. ولقد حرص الغلام على إنهاء هذا الإدعاء في ذلك الموقف؛ لأنه الموقف الأخير الذي يجب أن ينتهي معه هذا الإدعاء الفظيع.

ويكون الأمر هو: [تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ] حتى يشهدوا الأحداث، ويفهموا معناها، ولقد بدأ الغلام أوامره بهذا الأمر؛ لأنه يعلم أن مثل هؤلاء الحكام يخفون الحقائق التي تفيد الناس، وتساعدهم على الإيمان، ومعرفة الحق. وهذا هو ماقصده موسى عندما طلب من فرعون أن يكون موعد المواجهة بينه وبين السحرة: يوم اجتماع الناس:{...يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى[59]}[سورة طه].

ويستمر الغلام في إصدار الأوامر إلى الملك العاجز: [وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ] حتى يكتمل ضعف الغلام في إحساس الناس، فيكون غلاماً صغيراً مصلوباً في جذع شجرة،حتى يسهل على الناس الانطلاق بإحساسهم نحو الإيمان بالقوة التي قهرت الملك، والتي تقف مع ذلك الغلام الصغير المصلوب.. قوة الله رب الغلام.

[ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي]واشتراط أن يكون السهم من كنانته هو؛ فيكون سبب القتل من عنده، وتتأكد رغبته في القتل. [ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ] والطبيعي أن يوضع السهم في كبد القوس، ولكن الغلام جعل التصرف الطبيعي تنفيذاً لأمر منه حتى لايتحرك الملك أي حركة من تلقاء نفسه؛ ليكون خضوعه كاملاً ونهائياً لأوامر الغلام التي جعلها الله صياغة لإرادته هو سبحانه.

[ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ] وبهذا يكون الغلام قد أعطى للناس تفسيراً للموقف، فيكون قتله رغبة منه وسبباً من عنده..يتحقق بقدر الله بعد أن عجز الملك.

ويستجيب الملك لأوامر الغلام استجابة الضعيف المضطر، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: [بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ].

استجاب الملك لأوامر الغلام لأنه وجد نفسه أمام ثلاثة أمور:

إما: أن يترك الغلام يدعو بدعوته كيفما شاء.. وكان هذا الحال سينتهي بإيمان الناس.

وإما: أن يستمر في تأكيد عجزه عن ذلك، وتتأكد للناس قوة الله الذي يحمي الغلام، وكان هذا الحال أيضاً سينتهي بإيمان الناس.

والأمر الثالث: وهو ما اختاره الملك، والذي انتهى بقتل الغلام، وأيضاً آمن الناس، فقد أراد الله أن يؤمن الناس، وأن تعلو كلمته، وقضى بذلك سبحانه وحكم، ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. وعلى أساس هذا الموقف نفهم قول الله الذي جاء في سورة البروج:{وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ[20]}[سورة البروج].

[ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ]وقد كانت هذه الحقيقة القدرية الأخيرة التي تتحدد بها العلاقة السبب والنتيجة. سبقها عدة حقائق، ففي القصة:

النتيجة التي تتحقق بعكس مقصود البشر من السبب: فنفس الغلام الذي أراد البشر أن يكون داعية للضلال.. يريد الله أن يكون داعية للحق، وفي نفس طريق الغلام إلى الساحر يلتقي بالراهب، ويجلس إليه، ويسمع منه، ويعجبه كلامه.

وفي القصة النتيجة الهائلة بالسبب البسيط.. مثلما قتل الغلام الدابة التي كانت تسد على الناس الطريق بحجر صغير. وهو المعنى المتحقق كذلك بهزيمة الملك ووقوع ما كان يحذره بسبب هذا الغلام الصغير.

وفي القصة النتيجة المختلفة بالسبب الواحد.. وذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك فوق الجبل، فرجف بهم الجبل، وجاء إلى الملك، وكذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك في السفينة، فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك. ومن مجموع هذه الحقائق نفهم من سورة البروج قول الله سبحانه:{ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ[16]}[سورة البروج]. لأن هذه الآية هي حقيقة كل الحقائق.

ولقد كان آخر ما قاله الغلام هو أمره للملك بأن يقول: [بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ] وبهذه الكلمة فتح الغلام للناس باب الإيمان، فقد كانوا يعرفونه محباً لهم، وساعياً لمنفعتهم، ومداوياً لأدوائهم، وما بقي إلا أن يعرف الناس أن للغلام رباً هداه إلى محبتهم، وأذن له بشفائهم.

باسمه تحقق عجز الملك، وباسمه سيموت الغلام راغباً من أجل إيمانهم، وهنا نشعر بمدى القهر الذي انتهى إليه الملك، فبعد أن كان يدعي الربوبية، ويعذب، ويقتل من لا يدَّعيها له، يقول في النهاية بنفسه.. [بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ].

ولذلك لم يكن الغلام خائفاً من أن تنعكس رؤية الناس له وهو يموت خوفاً من الملك بعد قهره بهذا الموقف. كما أن الغلام لم يكن خائفاً لأنه استطاع أن ينشئ تعاطفاً كاملاً لـه في نفوس هؤلاء الناس بسلوكه معهم قبل ذلك، وبموقف الموت ذاته حيث تحدد الفارق بينه كغلام صغير مصلوب على جذع شجرة، وبين الملك الظالم.

وعندما انتهى الخوف من الملك المقهور، وبدأ التعاطف مع الغلام الداعية؛ بدأ الناس في الإحساس الصحيح بالموقف.. غلام صغير يحب الناس، ويقدم بهم المنافع والخير.. يموت برغبته من أجلهم.. بعد أن أثبت عجز الملك وضعفه من أجل أن يؤمنوا بالله رب الغلام.

واستجاب الناس.. فاندفعوا من كل مكان بلا خوف يرددون نداءات الإيمان [آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ].. ففي لحظة الانطلاق من قيود الوهم والجهل.. وفي لحظة العزة بعد القهر والذل..وفي لحظة القوة بعد الوهن والضعف.. يؤمن الناس.

[فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ] وتغيرت ملامح المجتمع، وأنهت الجماهير ادعاء الحاكم الكاذب، فجاء إلى الملك من يقسم له بالله على هزيمته وعجزه ويقول له: [قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ].

[فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ] ورغم هذا لم يتوقف اندفاع الناس من كل طريق، وفي كل السكك، وواصلوا الاندفاع حتى أخاديد النيران.

وواصل الملك مواجهة الجماهير المندفعة فقال: [مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ فَفَعَلُوا] ليقاوم كل إنسان بنفسه حب البقاء في نفسه، فيكون أقل مقدار للضعف كافياً وسبباً للارتداد، وقد كانت هذه الفكرة آخر ما أفرزته رأس هذا الملك المهزوم من سموم المكر. ولكن الإيمان أبطل أثرها، وعالجت قوة الاندفاع الأصيل إلى الموت أثر أي ضعف كان كامناً في النفوس.

ويلتقط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً لمعالجة الإيمان لإحساس التعلق بالحياة فيه [حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ].

جاءت الأم بولدها متمسكة به إلى النهاية لم تفصلها أهوال الأحداث عنه حتى جاءت إلى حافة الأخدود، واشتعلت مشاعر الأمومة، وكراهية الموت فيها، فترددت أن تقع بابنها، ولكن الطفل يطفئ في إحساس أمه لهيب النار ذات الوقود لتلقي بنفسها وتنجو من الضعف والتقاعس، وكان حديث هذا الصبي هو آخر كلمات القصة عند حافة الأخدود.. قصة الانتصار للحق.

وتبقى مشاهد العذاب، وأخاديد النيران بشررها المتطاير ولهيبها ترتفع ألسنته بأجساد المؤمنين الطاهرة.. ويبقى أثر تلك النار في قلب كل مؤمن استضعافاً في الأرض، وجاهلية في الحياة ترتفع ألسنتها كلما استشهد شهيد في سبيل تلك الدعوة من أجل التمكين لها في الأرض وهذه الحياة.

وفي ذلك جاء قول الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ[1]وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ[2]وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ[3]قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ[4]النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ[5]إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ[6]وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ[7]وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ[8]}[سورة البروج].


من كتاب:'أصحاب الأخدود' للأستاذ/ رفاعي سرور

USAMA LADEN غير متصل قديم 08-01-2004 , 10:12 PM    الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


[عرض نسخة للطّباعة عرض نسخة للطّباعة | ارسل هذه الصفحة لصديق ارسل هذه الصفحة لصديق]

الانتقال السريع
   قوانين المشاركة :
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة لا بإمكانك إضافة مرفقات لا بإمكانك تعديل مشاركاتك
كود في بي vB متاح الإبتسامات متاح كود [IMG] متاح كود HTML متاح



لمراسلتنا - شبكة سوالف - الأرشيف

Powered by: vBulletin
Copyright © Jelsoft Enterprises Limited 2000.