|
عضو فائق النشاط
|
|
المشاركات: 587
|
#28
|
عاشراً:
وقد احتجَّ بعض أسراء التقليد [ومن لم يخرج عن أهله وإن كان عند نفسه قد خرج منه] بالإجماع [ولد دبي: !] على جوازه.
الجواب:
وهذه دعوى لا تصدر من ذي قدم راسخة في علم الشريعة،
بل لا تصدر من عارف بأقوال أهل العلم،
بل لا تصدر من عارف بأقوال أئمة أهل المذاهب الأربعة؛ فإنه قد صحَّ عنهم المنعُ من التقليد.
بيان أقوال أهل العلم في إبطال التقليد وبراءة خير القرون منه:
قال ابن عبد البر رحمه الله أنه لا خلاف بين أئمة أهل الأعصار في فساد التقليد، وأورد فصلاً طويلاً في مُحاججه من قال بالتقليد وإلزامه بطلان ما يزعمه من جوازه،
فقال: "يُقال لمن قال بالتقليد: لِمَ قلت به وخالفت السلف في ذلك به [فإنهم لم يقلدوا]؟
فإن قلت: "قلدتُ لأن كتاب الله تعالى لا عِلمَ لي بتأويله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحصها، والذي قد قلدته قد عَلِمَ ذلك فقلدتُ من هو أعلم مني"، قيل له: "أما العلماء، إذا أجمعوا على شيء من تأويل كتاب الله أو حكاية لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحقُّ لا شك فيه. ولكن قد اختلفوا [فيما قلـَّدتَ فيه بعضهم دون بعض]، فما حُجَّتـُكَ في تقليد بعضٍ دون بعض [وكلهم عالم، ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه]؟"،
فإن قال: "قلدته لأني علمتُ أنه صواب"، قلت له: "علمت ذلك بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع؟"،
فإن قال: "نعم"، فقد أبطل التقليد وطـُولِبَ بما ادعاهُ من الدليل، وإن قال: "قلدته لأنه أعلم مني"، قيل له: "فقـَلـِّد كل من هو أعلم منك، فإنك تجد من ذلك خلقاً كثيراً، ولا تخص من قلدته إذ علمك فيه أنه أعلم منك"،
فإن قال: "قلدته لأنه أعلم الناس"، قيل له: "فهو إذاً أعلم من الصحابة؟"، وكفى بقوله مثل هذا قبحاً" اهـ ما أردتُ نقله من كلامه [وهو طويل].
وقد حكى في أدلة الإجماع على فساد التقليد، فدخلَ فيه الأئمة الأربعة دخولاً أوليّاً. [ولد دبي: وذلك إجماعٌ يحكيه ابن عبد البر، فمن تظن يدخل فيه إن لم يدخل فيه الأئمة الأربعة؟!]
وحكى ابن القيم عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحم الله الجميع أنهما قالا: "لا يَحِلُّ لأحدٍ أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه"،
وهذا هو تصريحٌ بمنع التقليد؛ لأن من علم بالدليل فهو مجتهد [مطالب بالحجة] لا مقلد؛ فإنه [ولد دبي: أي: المقلد] الذي يقبل القول ولا يُطالب بحجة.
وحكى ابن عبد البر أيضاً عن معن بن عيسى [بإسنادٍ متصل به] قال: "سَمِعتُ مالكاً يقول: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكلُّ ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكلُّ ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه""،
ولا يخفى عليك أن هذا تصريح منه بالمنع من تقليده؛ لأن العمل بما وافق الكتاب والسنة من كلامه هو عمل بالكتاب والسنة وليس بمنسوبٍ إليه، وقد أمر أتباعه بترك ما كان من رأيه غير موافق للكتاب والسنة.
وقال سند بن عنان المالكي في شرحه على مدونة سحنون [المعروفة بـ"الأم"] ما لفظه: "أما مُجرَّد الاقتصار على محضِ التقليد فلا يرضى به رجلٌ رشيد"،
وقال أيضاً: "نفس المُقلـِّد ليس على بصيرة ولا يتصف من العلم بحقيقة، إذ ليس التقليد بطريق إلى العلم بوفاق أهل الرِّفاق؛ وإن توزعنا في ذلك [ولد دبي: أي شرحنا ذلك] أبدينا برهانه، فنقول: قال الله تعالى: (فاحكم بين الناس بالحق)، وقال: (بما أتاك الله)، وقال: (ولا تقفُ ما ليس لك به علم)، وقال: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)، ومعلومٌ أن العلم هو معرفة المعلوم على ما هو به، فنقول للمقلد: إذا اختلفتِ الأقوال وتشعَّبَت، من أين تعلم صحة قول من قلدته دون غيره أو صحة قربة على قربة أخرى؟ ولا يُبدِرُ كلاماً في ذلك إلا انعكس عليه في نقيضه [سيما إذا عَرَضَ له ذلك في مزيةٍ لإمامِ مذهبه الذي قلده أو قربة يخالفها لبعض أئمة الصحابة]، .."
إلى أن قال: "أما التقليد فهو قبولُ قولِ الغير من غير حجة، فمن أين يحصل به عِلمٌ وليس له مُستندٌ إلى قطع؟ وهو أيضاً في نفسه بدعة مُحدثة، لأنـَّا نعلمُ بالقطعِ أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن في زمانهم وعصرهم مذهبٌ لرجلٍ مُعيَّن يُدرَكُ ويُقلـَّد، وإنما كانوا يرجعون في النوازل إلى الكتاب والسنة أو إلى ما يتمحض بينهم من النظر عند فقد الدليل، وكذلك تابعوهم أيضاً، يرجعون إلى الكتاب والسنة، فإن لم يجدوا نظروا إلى ما أجمعَ عليه الصحابة، فإن لم يجدوا اجتهدوا، واختار بعضهم قول صحابيٍّ فرآه الأقوى في دين الله تعالى، ثم كان القرنُ الثالث، وفيه كان أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل [فإن مالكاً توفي سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة، وفي هذه السنة وُلِدَ الإمام الشافعي، وولد ابن حنبل سنة أربع وستين ومائة]، وكانوا على منهاج من مضى لم يكن في عصرهم مَذهَبُ رجلٍ مُعيَّن يتدارسونه، وعلى قريب منهم كان ابتداعهم، فكم من قولةٍ لمالك ونظرائِهِ خالفه فيها أصحابه، ولو نقلنا ذلك لخرجنا عن مقصود ذلك الكتاب، ما ذاكَ إلا لجمعهم آلات الاجتهاد وقدرتهم على ضروب الاستنباطات، ولقد صدق الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، ذكر بعد قرنِهِ قرنين والحديث في صحيح البخاري [ولد دبي: اللفظ هذا ضعيف، والذي فيه: "خير الناس .." الحديث]، فالعجب من أهل التقليد! كيف يقولون: "هذا هو الأمرُ القديم، وعليه أدركنا الشيوخ"، وهو إنما حدث بعد مائتي سنة من الهجرة، وبعد فناء القرون الذين أثنى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم!" اهـ كلام سند بن عنان المالكي.
وقد عرفت بهذا:
أن التقليد لم يحدث إلا بعد انقراض خير القرون ثم الذين يلونهم،
وأن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة إنما كان بعد انقراض الأئمة الأربعة،
وأنهم كانوا على نمطِ من تقدمهم من السلف [في هجر التقليد وعدم الاعتداد به]،
وأن هذه المذاهب إنما أحدثها عوامُّ المُقلدة لأنفسهم [من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين].
وقد تواترت الرواية عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال له الرشيدُ أنه يريد أن يَحمِلَ الناس على مذهبه، فنهاهُ عن ذلك، وهذا موجودٌ في كلِّ كتاب فيه ترجمة الإمام مالك [ولا يخلو من ذلك إلا النادر].
|
|
31-01-2002 , 04:02 AM
|
|