|
عضو فعال
|
جدة
|
المشاركات: 2,093
|
#1
|
وَقَــتـَـلـــتُ أُمِّــــي !!
( 1 )
جلس رجل الأعمال المشهور ... في شُرفةٍ في فندق "الأوراس" المطل على البحر المتوسط ... بمدينة الجزائر العاصمة ... وأخذ يرقبُ في عمقٍ شديدٍ ... حركة السحب التي أمامه ... كان هذا المشهد السحابي من وجهة نظره مأساوياً ... فهو يكره الغيوم والسحب التي تحجب الشمس ... وعندما لا تسطع الشمس تغيب الحقيقة ... وإذا غابت الحقيقة عشنا في زيفٍ ... والحياة في الزيف كارثةٌ محققةٌ ... وأخذ الرجل يفكر في نفسه ... ويتأمل في حاله ... إنه مثل هذه السحب !! ... لم يتوقف أبداً عن الركض والسعي وراء المال والجاه والشهرة ... لقد وضع لنفسه طريقاً طويلاً بلا استراحات !!... وسار فيه باندفاعٍ بحثاً عن المال والشهرة والصفقات في كل أنحاء العالم!!... حتى أصبحَ مليونيراً ورجلَ أعمالٍ شهيرٍ ... وهو يتذكر جيداً أن الليالي التي قضاها من عمره في فنادق العالم ... أضعاف الليالي آلتي قضاها في بيته مع زوجته وأولاده !!...
( 2 )
وقف هذا الرجل أمام المرآة يتأمل نفسه !! ... ودُهِشَ من صورته حين رآها في المرآة ... وكأنه يراها لأول مرةٍ في حياته ... وأخذ يتساءل مع نفسه : ما هذا الشيب الأبيض الذي غطى رأسي ؟!! ... مَن جاء به ؟!!... ومتى جاء ؟!!... وما هذه التجاعيد التي امتلأت بها صفحة وجهي ؟!!... أين ذاك الوجه الطري الناعم الذي كنتُ أعرفهُ ؟!! ... مَنْ سرق منى الشباب والحماسة والنشاط ؟!! ... إنه العمر يمرُّ وينقضي ... والأيام تتابع وتتلاحق ... ووقف مع نفسه وقفة محاسبةٍ: لقد أخذت الأيام مني جسمي وصحتي ونشاطي وشبابي !!... فما الذي أنجزتهُ فيها؟! وما الذي نلتُهُ منها ؟!!... لقد حمعتُ ثروة طائلةً !!... لقد أصبحتُ رجلَ أعمالٍ مشهورٍ ... لقد كونتُ لي أُسرة سعيدةً تضم زوجةً جميلةً ... وابناً شاباً يافعاً ... سيحمل الرايةَ مِن بعدي... لكن آه !!... كم كنتُ أتمنى أن أكون الآنَ يجوار زوجتي وولدي ...آه !! آه !! ... لقد قصَّرتُ معهم كثيراً ... لم أكن أجلس معهم إلا نادراً ... بسبب ظروف العمل ... وطبيعة العمل التجاري ... حين أعودُ إليهم سأعوضهم عن كل حرمانٍ شعروا به !!... سأعوضهم عن كل لحظةٍ تـمنَّوا وجودي فيها بجوارهم ... فلم يجدوني فيها ... ثم تذكَّر ولده !!... آه !!... في أيِّ سنةٍ دراسيةٍ أنتَ الآن ؟!! ... هو غير متأكدٍ :هل هو في نهائي الهندسة؟!!... أم في السنة الثالثة منها ؟!!... ولكنَّ المهم أنَّ ابنه يدرس في كلية الهندسة !! ... وتمتم الرجل مع نفسه قائلاً : كل هذا غير مهم !!... لقد انتهى زمن الغربة والترحال ... وجاء الآن وقت الإقامة والاستقرار !!... وبعد ساعاتٍ من الآن سوف تقلع الطائرة التي ستنقلهُ إلى بلده... وهناك سيلتقي بزوجته الحنونة ... وابنه الحبيب ويعرف منه كل شيءٍ عن دراسته !! ... ويعرض عليه أن يتسلم منه إدارة شركاته وأعماله كلها !!... وأخذ صاحبنا رجل الأعمال ... يسبح في بحرٍ من الأحلام الوردية !!... كان يتخيل كيف سيكون لقاؤه بزوجته وولده !!... بعد طول غيبةٍ وشدة اشتياقٍ ... آه ... كم يتمنى أن يضمَّ ابنه الحبيب بين ذراعيه ...ثم يُمطره بوابلٍ من القبلات الأبوية الحانية التي حُرمَ منها طوال عمره !! ... آه ... كأنه يرى ولده الحبيب وزوجته الغالية وهما يرتميان في أحضانه ... وتختلط دموع الفرح بدموع الحزن على أيام الحرمان السالفة !!...
( 3 )
وأثناء تلك الأحلام الجميلة ... دقَّ جرس الهاتف في غرفته ... وكانت المكالمة من القاهرة !!... وكان المتحدث هو شقيقهُ الأكبر !! ...فسمعهُ وهو يقول له: احضر فوراً !!... زوجتكَ تُحتضَر!!... عجِّل ولا تتأخر فلعلك لا تُدركها !!... لقد أصيبت بحادث سيارةٍ ... وهى الآن في حالةٍ خطيرةٍ !!... فقال رجل الأعمال في انفعالٍ بالغٍ : انقلوها فوراً بالطائرة إلى أرقى المستشفيات في أوروبا على حسابي الخاص !!... المهم أن تعيش !!... فأجابه أخوه قائلاً : الأطباء هنا كأطباء أوروبا ... المهم ألا تتأخر في الحضور ... انتهت المكالمة ... ووضع الرجل السماعة ... وبكى رجل الأعمال والمليونير الشهير بلوعةٍ وحرقةٍ ... ولأول مرةٍ في عمره تسقط الدموع من عينيه!!... إنه يشعر أن آمالهُ تتحطم !!... وأحلامهُ تتبخر !!... ولكن لماذا هذا التشاؤم ؟!!... ولماذا هذه النظرة السوداوية القاتمة ؟!!... إنَّ زوجته ستعيش بإذن الله تعالى ... إنه مستعدٌ أن يدفع كل ثروته في مقابل أن تعيش زوجته الحبيبة !!... وسافرَ صاحبنا على أقرب طائرةٍ إلى القاهرة ... وهناك في مطار القاهرة ... وجدَ شقيقه الأكبر في انتظاره ... لم يكن قد رآه منذ سنواتٍ !!... إنه لم يتمكن من زيارة شقيقه الأكبر طوال هذه السنوات الطويلة !!... بسبب ارتباطات العمل وكثرة الصفقات والسفرات!!... وهناك في المطار ... كان اللقاء المؤثر بين الأخوين الشقيقين ... وتعانقا لأول مرةٍ منذ سنواتٍ !!...وبادرَ رجل الأعمال يسأل أخاه الأكبر قائلاً : كيف حال زوجتي الآن ؟!!... فقال شقيقه بصوت حزينٍ ... يعتصره الألم : تماسك!!... لقد ماتت زوجتك متأثرةً بجراحها منذ فترةٍ وجيزةٍ !!... إنا لله وإنا إليه راجعون ... فانهار رجل الأعمال الثري ... وأخذ يبكي ويبكي بحسرةٍ ولوعةٍ !!... فاحتضنهُ شقيقه ... وجعل يُخفف عنه ويُصبِّره ... وهنا أحس رجل الأعمال بعاطفة الأخوة الصادقة !!... آهٍ ... لقد حُرمَ من هذا الصدر الحنون ... صدر أخيه الأكبر لسنواتٍ طويلةٍ... لقد أشغلتهُ تجاراته وأعماله وصفقاته عن أخيه !!... ليت الزمان يعود إلى الوراء !!... ليتهُ يعود طفلاً صغيراً ... ليرتمي في أحضان أخيه الأكبر!!... ويسندَ رأسهُ إلى صدره ويبكي بلا انقطاعٍ ... وبعد فترةٍ ... عاد رجل الأعمال الثري إلى وعيه تدريجياً ... وبدأ يفيق من هول المفاجأة وضخامة الصدمة... وقال لأخيه الأكبر متسائلاً : وأين زوجتي الآن ؟!!... فأحابه أخوه بصوتٍ متهدجٍ : إنها الآن في المشرحة !!... لأجل تشريح الجثة !!... وقد كان من الممكن دفن الجثة اليوم ... ولكنني قمتُ بتأجيل الدفن ريثما تحضرُ أنتَ !!... حتى تُلقيَ عليها نظرة الوداع الأخيرة !!... فقال رجل الأعمال والأسى يعتصر قلبه : وأين ابني؟!!... إني لا أراه معك ؟!!... فقال الأخ: إنه لم يتمكن من الحضور معي !!... فقال رجل الأعمال :أكيد أنه حزين عليها !!... أعانكَ اللّه يا ولدي على هذه المصيبة العظيمة والنكبة الكبيرة!!...
( 4 )
وانطلق رجلُ الأعمال مع شقيقه ... في السيارة متجهين إلى المنزل ... وفي السيارة ساد صمتٌ رهيبٌ ... فرجل الأعمال شاردُ الذهن ... مشتت البال ... وأخذ شريط حياته ... مع زوجته الحبيبة يدور أمام عينيه !!... لقد كانت في العشرين من عمرها ... حين تزوجها منذ خمسةٍ وعشرين عاماً...وكان هو آنذاكَ يقترب من الأربعين ... وكان حينها في بداية انطلاقته في دنيا المال والأعمال!!...لقد كانت صابرةً طوال هذه المدة على سفراته المتكررة !!... وغيابه الكثير عن البيت !!...إنها لم تسأله يوماً من الأيام : لماذا تأخرتَ عن البيت ؟!!... وهو لم يشعر يوماً ما بأن لها حقوقاً عليه ... آهٍ !!...ليتهُ يخسر كل ثروته وماله في مقابل أن تعود زوجته !!...ولكن هيهاتَ هيهاتَ !!... وعلى الجانب الآخر من السيارة ... كان شقيق رجل الأعمال يفكر في طريقةٍ مناسبةٍ يستطيع بواسطتها إيصال الحقيقة المرّة ... والكارثة المروعة ...إلى أخيه ... ووصلت السيارة إلى مفترق طرق ... فاتجه شقيقه الأكبر بالسيارة نحو بيته !!... بدلاً من بيت أخيه رجل الأعمال!!... فسأله رجل الأعمال : ما بك ؟!! ... طريق بيتي في اتجاهٍ آخر ... فقال شقيقه له : سنذهب أولاً إلى بيتي ... ثم سأوصلك إلى بيتك ... كان شقيق رجل الأعمال ... يعمل مدرساً بسيطاً بإحدى المدارس ... ويعيش على راتبه البسيط...ولكنَّ الشيء الملفت للنظر ... أنَّ شقيقه رجل الأعمال ... لم يفكر يوماً من الأيام أن يُقدِّم له أية مساعدة مالية ... تُعينهُ على نوائب الدهر ومتطلبات الحياة القاسية!!... ربما خشيَ ألا يقبل منه شقيقه تلك المساعدة !!... أو ربما لأنَّ المساعدة المالية تعتبر "رأس مال" قابل للاستثمار التجاري ... وبدلاً من آن يُجمَّدَ رأس المال عند شخص معين ... فالأفضل استثماره ليأتيَ بأضعاف قيمته بعد فترةٍ !!... هكذا يفكر أرباب التجارات ... وأصحاب الأموال والأعمال !!...لقد داس الكثير منهم ـ وبكل أسفٍ ـ على القيم والمبادئ والأخلاق الفاضلة وأواصر القرابة والجوار ... لأجل المال!! ... فبئست الصفقة تلك !! ... ودخل رجل الأعمال بيت أخيه ... لأول مرةٍ منذ سنينَ طويلةٍ ... وكان موقفاً محرجاً بالنسبة له !!... لقد كان بيت أخيه بسيطاً متواضعاً ... تبدو عليه معالم الفقر والحاجة ... وحينها تساءل رجل الأعمال مع نفسه : لماذا لم يُفكر في مساعدة أخيه بالمال طوال السنين الماضية ؟!!... لقد كان أخوهُ يتقلب في الفقر والحاجة ... وكان هو يتقلب في الصفقات والجنيهات !!... ودخل الشقيقان إلى إحدى غرف البيت ... وأغلقا عليهما الباب ... وأحسَّ رجل الأعمال بأن هناك مأساةً ... أعظم من مصيبة فقده لزوجته الحبيبة!!...فبادرَ أخاهُ الأكبرَ قائلاً له :أخي ... أنني أحسُّ أن هناك أمراً أعظم من موت زوجتي !!... أرجوك أخبرني بكل شيءٍ ... ولا تُخفِ عني شيئاً !! ... وبدأ الشقيق في الكلام قائلاً بصوتٍ تكسوه نبرة الحزن والأسى : نحن الآن في موقفٍ لا نُحسد عليه !!... والأمر يحتاج منا إلى رباطة جأشٍ ... ويتطلب منا حسن تصرفٍ وأعصاباً قويةً !! ... سكتَ الشقيق قليلاً ليأخذ نفسه ... ثم واصل حديثه قائلاً : المأساة قاسيةٌ جداً ... والكارثة فظيعةٌ مروعةٌ ... لا يمكن تصديقها !! ... لقد اتصلَ بي ضابط الشرطة ... وطلب منى الحضور إليهم على جناح السرعة!! ... حاولتُ أن أعرف منه السبب فرفض!! ...وبالفعل ذهبتُ إلى قسم الشرطة على الفور ... وهناكَ رأيتُ وليتني لم أرَ !! ... وسمعتُ وليتني لم أسمع !! ... لقد وجدتُ ابنك الوحيد المدلل ... ممزق الثياب !!... وملابسه عليها بقعٌ من الدماء!!... وهو في حالة ذهولٍ تامٍ !!... جالساً على الأرض في غرفة "ضابط التحقيق" !! ... فكاد قلبي أن يتوقف!! ... وسألتُ الضابط : ماذا جرى ؟!!... ما الذي حصل ؟!! ... فلم يُجبني الضابط !! ... ونظرتُ إلى ابنك وهو على حاله المزرية تلك !! ... فقامَ وارتمى على صدري !! ... وظل يبكي وينشج !! ... فتركته يبكي ويبكي !! ... وأنا في حالة ذهولٍ ... ثمَّ سألتهُ: ماذا فعلتَ يا ولدي؟!!... ما الذي حصل ؟!! ... فبكى ثم بكى ولم يُجبني !! ... سألتهُ ثانيةً وثالثةً ورابعةً !!... ولكنه ظل يبكى بحرقةٍ ... والضابط صامتٌ لا يتكلم !! ... فكررتُ السؤال على الضابط ... فأجابني إجابةً سقطتُ بعدها فاقد الوعي ... لا أدري عما حولي !!... قال الضابط : البيه المدمن !!... قتلَ أمه !! ... وهنا صرخ رجل الأعمال من أعماق قلبه قائلاً والدموع تنحدر من عينيه : آهٍ !! ... آهٍ !!... لقد انتهت حياتي!! . أفاق رجل الأعمال من هول الصدمة مترنحاً !!... أهـذا معقول ؟!! ... ابني يقتل أمه الرحيمة الحنونة الرقيقة ؟!!... وأخذ شقيقه يتابع سرد فصول وأحداث المأساة المريرة الدامية قائلاً : إن ابنكَ الوحيد ... قد طعن أمه بسكين المطبخ!!... عدة طعناتٍ متتابعةٍ ... حتى ماتت !!... ثم ذهب إلى قسم الشرطة ... وقال جملتين فقط : أنا فلان بن فلان ... قتلتُ أمي بالسكين !!... ورفض الجواب على أيِّ سؤالٍ وجهه له "ضابط التحقيق"... وفتشوه فوجدوا معه كميةً ضئيلةً من "الهيروين المخدِّر"!! ...فأمرت النيابة العامة بتشريح الجثة !!.... ثم صدرت الموافقة على دفنها بعد استكمال التحقيقات !!... وهنا صرخ الأب قائلاً : ولماذا قتَلَها ؟!!... إنها رقيقةٌ حنونةٌ وتحبه جداً !!... قال شقيقه : هذا هو السر الكبير ... الذي لا يعرفه أحدٌ إلى الآن !!... ولعلك أن تكتشفه بنفسك عندما تقابل ولدك وجهاً لوجه !! ...
( 5 )
دُفِنتْ الجنازة ... وودع الرجل زوجته إلى قبرها ... وخلال تلك الفترة ... فشلت الشرطة والنيابة العامة والصحافة ... في معرفة الدوافع الكامنة وراء هذه الجريمة البشعة ... آلتي هزت المجتمع بأكمله ... إحدى الصحف اقتربت من الدوافع الحقيقية للجريمة ... حيث نقلت عن أحد الدكاترة المختصين في علاج "مدمني المخدرات" قولهُ : إن "الهيروين" من المخدرات التي تسبب الإدمان بسرعةٍ ... إذ يؤدي تعاطيه بانتظام ... ولمدة أسبوعٍ واحدٍ فقط ... إلى الإدمان الكلي عليه !!... ومن مضاعفات ونتائج هذا الإدمان : فقدان الشهية ... والضعف الجنسي ... واضطراب الدورة الشهرية عند النساء ...والإصابة بالأمراض المعدية ... والانتحار ...وحوادث الطرق والسير ... وارتكاب جرائم السرقة للحصول على المال اللازم لشراء المخدر ...وامتهان الدعارة بين الفتيات ... وتدهور المستوى الدراسي للطلبة المدمنين والكسل والإهمال في الواجبات المدرسية...والرغبة في الانطواء والعزلة عن الآخرين ... والحرص على الاختلاط بأقرانه المدمنين فقط !!... وبعد أن سردت الجريدة كلام الدكتور المتقدم ... أخذت تحلل في دوافع تلك الجريمة البشعة قائلةً : إن تناول "الهيروين" يدفع إلى ارتكاب الجرائم ... لأن "الهيروين" يُفقد الإنسان كل مبدأ سامٍ وفضيلةٍ ... وهذا الشاب المجرم بلا شك هو "مدمن هيروين" !!... حيث عُثرَ معه على كميةٍ ضئيلةٍ منه ...وكان بالتأكيد في حاجةٍ ماسةٍ إلى المال ... لشراء المزيد من هذا السم القاتل !!... فطلب المال من والدته الثرية ... زوجة المليونير !!... فرفضتْ إعطاءه أيَّ نقودٍ ...فأسرعَ وجاء بسكينٍ من المطبخ ...ثم هددها ـ تحت تأثير الحاجة إلى المخدر ـ بالقتل إنْ لم تعطه ما يريد من المال !!...ولم تتصور قط أن ابنها سيرفع عليها السكين يوماً ما ... وسيغرزها في جسدها ... فأصرت على الرفض والامتناع ... ولكنَّ الشاب المجرم ... كان قد فقد وعيه وشعوره بتأثير المخدر ... فنفَّذ تهديده ... ورفع السكين على أمه ... وطعنها بها عدة طعناتٍ متتابعةٍ ... فانفجرت الدماء من جسدها ... وحينها أفاق ذاك المجرم من غيبوبته ... فأسرعَ يُسلِّم نفسه للشرطة ... وشعر بالندم ولكن بعد فوات الأوان !! ... ثم تابعت الجريدة قائلةً : هذا تصورنا للحادث الذي هزَّ المجتمع بأسره!!... على ضوء امتناع هذا الشاب القاتل ـ والذي فُصلَ من كلية"الهندسة"قبل عامٍ بسبب إدمانه ـ عن الإدلاء بآية تفاصيل أو معلومات تكشف غموض دوافع الجريمة !!... قرأ رجل الأعمال هذه المقالة ... في صباح اليوم الذي عزم فيه على لقاء ابنه لأول مرةٍ بعد الجريمة !!... وأخذ يُخاطب نفسه ساخراً منها قائلاً: أين كنتَ يا رجل الأعمال والإنجازات ؟!!...ابنكَ كان مفصولاً من الكلية وأنتَ لا تدري !!... ابنك أدمن الهيروين وأنت لا تدري !!... هل هذه الأموال آلتي جمعتها تستحق ما أنت فيه الآن من العذاب والشقاء ؟!!... ليتها تضيع كلُّها وتعود لي أُسرتي الحبيبة وحياتي الهادئة المتواضعة !! ... وتزاحمت في ذهنه أسئلةٌ كثيرةٌ ... ولكنه كان موقناً بحقيقةٍ واحدةٍ ... لا شكّ عنده فيها ... ألا وهي أنه هو المسئول الأول عن الجريمة التي خسر بسببها زوجته وولده... لقد كان يكفيه القليل من المال ... مع اهتمامٍ أكثر بأُسرته وتربية أولاده !! ... لكن ... آه !! ... لقد أسكرهُ نجاحُ الصفقات ... وربحُ المناقصات ... وكثرةُ الجنيهات ... فأدمنَ حبَّ المال ... وعبادة الدنيا ... وأدمنَ ولدهُ الوحيد "الهيروين" ... وضاعت الأم المسكينة ... بين هذين المدمنين ... فكانت النهاية المريرة: جاء المال ... وضاعت الأسرة ... وقُتلَت الأم ... وسُجنَ الابن ... وتحطَّم الأب ... فما أبشعها من نهايةٍ مأساويةٍ داميةٍ !! ...
( 6 )
ودخلَ الوالد على ولده في الزنزانة ... وكان لقاءاً مؤثراً مؤلمـاً ... بعد أن أغلقَ الحارس الباب عليهما ... سادَ صمتٌ مطبقٌ بين الأب وابنه !!.... كلٌ منهما لا يعرف من أين يبدأ؟!!... ولا ماذا يقول ؟!! ... واستجمع الابن شجاعتهُ وقال لأبيه الذي لم يرهُ منذ فترةٍ طويلةٍ : متى وصلتَ من الخارج ؟!!... قال الأب بصوتٍ حزينٍ منكسرٍ : قبل يومين !! ... قال الابن : ومتى سترحل ؟!! ... قال الأب : ربما بعد هذا اللقاء مباشرةً !! ... قال الابن والعَبرة تخنقهُ : إلى أين سترحلُ ؟!! ... قال الأب ... والدموع تتحدر من عينيه : إلى أمك الحبيبة الغالية !!... وانفجر الاثنان في بكاءٍ ونشيجٍ مريرٍ !!...ولكنَّ الشاب القاتل لم يُطِقِ الاحتمال ... فارتمى في أحضان أبيه ... وتعلَّق برقبته ... وضمّه ليه بقوةٍ وعنفٍ ... وانخرط في نشيجٍ مريرٍ مؤثرٍ... وهو يقول : أبي ... أبي ... أرجوك ضمَّني إلى صدرك !!... بشدةٍ أكثر!!... إنني محتاجٌ إلى صدرك الحاني لأستندَ إليه ... لقد حُرِمتُ منكَ ومن عطفكَ وأبوتكَ سنين طويلة !! أبي العزيز : لقد كنتُ أتمنى دائماً أن أجدك بجواري ... لأرتميَ على صدرك الحنون ... وأتعلَّق بقلبك الرحيم ... وأشكو لك همومي وأحزاني ... وأبثَّكَ آلامي وأشجاني !!... ولكنني كنتُ كلما بحثتُ عنك ... وجدتكُ مسافراً ... تطارد وراء الصفقات... وتلهث وراء الجنيهات ... فتلقفني رفقاء السوء ... وقرناء الفساد ... وفتحوا لي صدورهم وبيوتهم ... فانحرفتُ معهم وضعتُ وتحطم مستقبلي ... سكت الشاب قليلاً يمسح دموعه المتساقطة ... ثم واصل حديثه قائلاً : آهٍ !!...أنا آسفٌ !!... لم أكن في وعيي حين قتلتُ أمي!!... لقد عاد لي الوعي بعد أن انتهى كل شيءٍ !!... عندما خرجت نافورة الدم الأولى من جسد أمي ...أصابني الخوف والرعب والفزع!!... ووحدتُ نفسي وبلا شعورٍ مني ...أغرزُ فيها السكين أكئر من مرةٍ !!... لم تكن تستحق هذا أبداً !!... لم تكن تستحق هذا !!... أبي :دعني أبكي على صدرك الذي حُرمتُ منه سنين طويلة!!... أبي : لا تتخلَّ عني... لا تتركني بعد اليوم وحدي!!... أبي : لو كنتَ بجانبي دائماً ما وقعت هذه المأساة المريرة!!... وظلَّ الشاب دقائقَ طويلة ... ورأسه على صدر أبيه ... وهو ينشجُ نشيجاً متواصلاً وكأنه يريد أن يعوض حرمان السنين الماضية ... ورجل الأعمال لا يدرى ماذا يقول ؟ ولا كيف يتصرف؟!! ... هل يتعاطف مع ابنه الذي قتل زوجته الحبيبة وشريكة حياته ... والتي هي كذلك أمه التي ولدته وأرضعتهُ وربّتهُ ؟!!...
( 7 )
أخذ هذا الشاب يروي لوالده تفاصيل المأساة الدامية ... فقال : لقد عرفت الهيروين منذ عامين للتسلية ... والشعور بالسعادة الزائفة ... ونسيان الهموم والمشاكل ...وتقوية الجنس !!... ولكنني بعد إدماني له لم يعد يُسليني ... بل أصبح يصيبني بالاكتئاب!!... ولم تعد لديَّ أي قدرة على ممارسة الجنس !!... كنتُ أنا ومجموعة من رفاقي ... ندمن على تعاطيه!!... فمنهم مَن ترك وظيفته ، ومنهم مَن ترك جامعته ... وعشنا للمخدرات والهيروين !!... وقتلت المخدرات فينا كل شيء :الطموح ... والخلق الفاضل ...والعفة والحياء ... قتلت فينا الأمل !!... ودفعتنا إلى السرقة وارتكاب الجرائم لتحصيل المال لشرائها!!... آهٍ . . . كم سرقتُ من أمي ؟!!... وكم اتهمتُ الشغَّالة البريئة بذلك ؟!!... وكم دفعتني الحاجة إلى المخدرات إلى اختراع الأكاذيب وتلفيق القصص المزيفة أمام أمي ... لأحصلَ منها على مالٍ يكفي لشراء ما نحتاجه من مخدرات وهيروين !!... ثم اكتشفتْ أمي أنني أتعاطى الهيروين ... وهددتني بأني إذا لم أتوقف عن تعاطيه فسوف تبلغك بالأمر ... فتظاهرتُ أمامها بالتوقف عنه !!... ولكنني في الحقيقة لم أتوقف عن تعاطيه ... وعرفتْ أمي ذلك ... فقد كشفتني تصرفاتي وأفعالي ... وأصرّت أمي على أن أدخل إحدى المستشفيات ...للعلاج من الإدمان ... ولكنني رفضتُ ذلك بشدةٍ ...ولم تستطع هي إجباري على ذلك ... فهي على كل اعتبارٍ امرأةٌ ضعيفةُ الجانب ... مكسورة الجناح ... ومع مرور الأيام ... ازداد إدماني ... وازدادت حاجتي للمال لشراء المخدِّر... وازدادت أمي معي قسوةً ومنعاً للمال !!... وسكتَ الشاب عن الحديث قليلاً ... ثم واصل حديثه بأسىً وحزنٍ ظاهرٍ : في يوم الجريمة ... كنتُ في حاجةٍ ماسةٍ إلى مالٍ لأشتري به هيروين لي ولأصدقائي... وطلبتُ منها ألف جنيهٍ!!... وأخبرتها أنني صدمتُ سيارةً بسيارتي... ولكنها عرفت أنني كاذبٌ في دعواي تلك ... فرفضت إعطائي أيَّ مبلغٍ ... وإذ بالحاجة إلى الهيروين ... تدفع إلى رأسي بفكرةٍ مجنونةٍ!!... هددتها بأنها إذا لم تدفع لي الألف جنيه ... فسأخبرك بأنها على علاقة عشقٍ وغرامٍ وفجورٍ ... مع شخصٍ آخرٍ غيرك !!... فصفعتني أمي على وجهي بشدةٍ ... لما سمعتْ ذلك مني ... وبصقتْ في وجهي... وإذ بهذه الفكرة الجنونية الكاذبة ... تتحول ـ وبتأثير إدمان المخدرات ـ إلى شبه واقعٍ أمامي ... وإذ بي أتصور حقيقةً أن أمي على علاقةٍ برجلٍ آخر غيركَ ... هكذا صور لي الهيروين الوهم حقيقةً ... والزيف واقعاً حياً... وتضخمت الأمور أمامي ...وتصورتُ ما يحدث بين العشيق وعشيقته ... وكأنه يحدث الآن بين أمي وعشيقها !!... ومرَّ أمام عينيَّ شريطٌ من الوهم والزيف ... وكأنه الواقع!!... واتخذتُ حينها أخطر قرارٍ في حياتي !!... إنَّ هذه المرأة الخائنةَ الغادرةَ ... التي هي أمي ... يجب أن تموت !!... جزاءً لغدرها وخيانتها لعرضها وشرفها وزوجها !!... وأسرعتُ إلى المطبخ ... وجئتُ بالسكين!!... وطلبتُ الألف جنيه من هذه الخائنة!!... ولكنها رفضتْ ... فرفعتُ السكين عليها وأنا في غير وعيي ... وغرزتها في جسدها الطاهر عدة مرات ... وهي تصرخ وتبكي وتستغيث !!... ولكن بدون جدوى !!... وتمت الجريمة البشعة!!... وماتت أمي الشريفة العفيفة!!...
( 8 )
وما أن انتهى الشاب من سرد تفاصيل المأساة الدامية لوالده ... حتى بادرَ الأب بالخروج من الزنزانة ... والدموع تنهمر من عينيه بغزارةٍ ... دون أن يُودع ولده القاتل...ويُغلق الحارس الباب على الشاب المتهم بقتل أمه... ووجد الابن نفسه مرةً أخرى وحيداً ... فأخذ ينادي على والده !!... فلم يردَّ عليه !!... ثم نادى ... ثم نادى ... ثم نادى ... ثم صاح بأعلى صوته قائلاً : أنت السبب يا أبي ... أنت السبب يا أبي !!... وظل هذا الشاب المدمن ... يقول للمحققين ولكل من يزوره ... أن والده هو السبب في هذه المأساة البشعة... وهو الذي دفعه إلى كل هذه الجرائم ... لعدم رعايته له وقيامه على تربيته ... ولم يتم تقديم الابن القاتل إلى المحاكمة ... لأنه كان قد فقدَ البقية الباقية من عقله!!... وأصبح مجنوناً ... يهذي ويهلوس !!... فتم إيداعه في مستشفى الأمراض العقلية!!... وكان كلما زارهُ أحدٌ في المستشفى ... يقول له : أبي هو السبب!!... وأمي هي أشرف امرأةٍ في الدنيا ...أمي أشرف امرأةٍ فى الدنيا...
( 9 )
في حي الدقي بالقاهرة ... يوجد مسجدٌ في ميدانه... فإذا دخلتهُ أيها القارئ الكريم لتأدية الصلاة فيه ... فستجد رجلاً يرتدى جلباباً أبيضاً ... ويضع أمامه كتاب اللّه تعالى ... يقرأ فيه ويبكي ... وعندما ينتهي من التلاوة يرفع يديه إلى السماء ويقول : اللهم اغفر لي وسامحني ... اللهم اغفر ما جنيتُهُ على زوجتي وولدي !!... هذا الرجل هو نفسه صاحب هذه القصة ... رجل الأعمال المليونير الشهير!!... لقد تبرع بأمواله الطائلة ... لإدارة مكافحة المخدرات ... ولازمَ بيت اللّه تعالى... مواظباً على الصلاة والتلاوة والدعاء والاستغفار ... لعل الله أن يغفر له ما اقترفهُ في حق زوجته وولده ونفسه !!... وعندما تؤدي الصلاة يحواره في المسجد ... سيصافحك بكل حرارةٍ ... ويطلب منك بلطفٍ وأدبٍ أن تعطيه من وقتك القليل... وسوف يروى لك المأساة البشعة التي قرأتَها عبر السطور السابقة بكل تفاصيلها ... وسيحكي لك عن تفاصيل زيارته لولده المجنون في مستشفى الأمراض العقلية !!... وسيبكي كثيراً وهو يسرد لك قصته...ثم سيطرح عليك سؤالاً محيراً : مَن هو المسئول عما حدث ؟!! ... هل هو الأب ... لانشغاله عن تربية أولاده بمطاردة الصفقات والجنيهات ؟!! ... أم أنَّ المسئول هو الابن الذي أدمن المخدرات والهيروين ؟!! ...التي أدّت به إلى قتل أمه وتضييع دراسته وتحطيم مستقبله وتدمير أسرته ؟!!... أم أنَّ المسئول هو تلك الزوجة الطيبة الصابرة ...التي لم تُطالب زوجها يوماً بحقوقها الزوجية التي لها عليه ... ولم تعاتبه يوماً لكثرة سفراته وتغيبه عن البيت ... والتي رأت أن علاج ابنها ... هو في قطع المال عنه ... فقطعت عنه المال فقطعَ روحها وقتلها بأبشع صورةٍ ؟!!... أم أنَّ المسئول هم رفاق السوء الذين قادوا الابن المسكين للهاوية والسقوط ؟!!... أم أنَّ المسئول هو الحكومة المصرية التي لا تحكم بالإعدام على مروجي تلك السموم والمخدرات ؟!!... أم من هو المسئول ؟!!... فماذا سيكون جوابكَ يا تُرى ؟!!( ) .
.... نقلاً من كتاب {قصص من الواقع لمؤلفه / أبي القعقاع محمد بن صالح ال عبد الله}.
|
|
27-08-2000 , 10:17 AM
|
الرد مع إقتباس
|