عرض مشاركة مفردة
ميس الريم ميس الريم غير متصل    
كاتب فعال  
المشاركات: 1,650
#14  
الجزء الثاني

رسالة غير مكتملة – هذا ما أخبرني به الدكتور- ساذجة وبسيطة، موجهة إلى صديق اسمه ( نوشاد)، حاول الدكتور جاهدا ً استخلاص معاني الرسالة ومراميها، وكانت الحروف التي نجت من هندية الرجل وإنجليزية الدكتور قليلة جدا ً، وها هي عربيتي تحاول تشكيلها، تحاول رسم ذكريات غائمة عن حقل بعيد في قرية هندية غارقة في اللا مكان، حيث كان نوشاد وهذا الذي لا يحمل اسما ً طفلين... وحلمين، أقدامهما العارية تعرف رائحة الحقول وتحملها، وتتجنب مراقد الأفاعي التي تشاطرهم الحقل وتحميه من هجمة الجرذان.

أترك لخيالي العنان، ليبحر عائدا ً في الزمان وقافزا ً على المكان، لينقل لي تفاصيل تلك القرية الغاصة بالأنفاس، رائحة الحقول والناس والأطعمة، هدير النهر القريب الذي يمنح هذه القرية الحياة.

حملت لي كلمات الدكتور بساطة الرجل وروحه التي كنت أظن أنها مدفونة تحت درج مهجور، باهتة وراء عينان لا تحملان بريق الأجوبة.

* * *

غادرت مكتب الدكتور وبين يدي بقايا ذلك الذي بلا اسم، أشيائه البسيطة التي تركوها ورائهم عندما لفوا جثمانه وأودعوه تابوتا ً طار أو أبحر إلى تلكم القرية التي بلا اسم، ليدفن هناك بين الأهل والأجداد.

من الغد... أزهق اسمه أنفاسي، كنت جالسا ً على المكتب والنافذة تحمل لي رائحة الشتاء، وبين يدي ورقة بيضاء امتلأت بخطوط لا معنى لها، دوائر، رؤوس بلا ملامح، أياد ٍ مبسوطة بلا عُقل ولا براجم، أنوف مفردة تعتليها نظارات مشروخة، ورأس الطفلة التي تبكي الذي لا أكف عن رسمه منذ تعلمت قبض القلم، وفي رأسي تتوالى أسماء مركبة لكل الهنود الذين عرفتهم.

محمد سراج، حبيب الرحمن، أسد الله، محمد غوث، راجا، سيف الدين، أيها يناسبك؟ أي اسم كنت تحمل؟

وماذا لو عرفت؟ نسمة شتائية سحبت ورقة من الأوراق إلى طرف المكتب، تابعتها عيناي وهي تلاعب الورقة وتداعبها بيديها الخفيتين، ثم عدت للسؤال... وماذا لو عرفت؟ ماذا لو علمت أن اسمه كان أسد الله أو حبيب الرحمن... ماذا لو؟

هل هي محاولة ماكرة من عقلي الباطن للفرار من ألمه؟ من أن هناك رجل عاش وقضى وما بيني وبينه إلا رمية حجر، لم أعرف اسمه، لا... ولا وقفت يوما ً لأخفف من وحدته، بخلت عليه بفضول كلام هو بحاجته، ليشعر يوما ً بأنه موجود.

انتهى الدوام... وجلست في سيارتي أتأمل رتل السيارات المغادرة، ما أسرع فرارهم، دقائق وصارت المواقف خلوا ً من الأنفاس، حركت سيارتي ببطء وبدلا ً من أن أقصد المخرج وليت وجهي إلى طريق جانبي قصير، مطموس بالرمال والأتربة، تجاوزت مجموعة من الأبنية وحاذيت الطريق الذي التف الآن ليصير ورائها، لحقت بسيارتي مجموعة من الكلاب النابحة المطلقة السراح في تلك الأرض الفضاء الضخمة.

وصلت الآن إلى مجموعة من الأبنية الصغيرة، والتي تمثل مجتمعا ً صغيرا ً من أجناس شتى يضم عمال الدائرة، كانت الأبنية قديمة ربما بنيت قبل المبنى الرئيسي حيث أعمل، الغبار يغطي كل شيء، والأبواب كالحة، طاردة للهواجس والأفكار.

ترجلت من سيارتي، فأقعى الكلب - الوحيد الذي لم يسأم من لعبة مطاردتي - غير بعيد، طرقت الباب حتى أقطع كل تردد بشأن هذه الفكرة الحمقاء التي تراودني منذ الصباح بالسؤال عنه.

فتح الباب وبرز لي أولا ً كرش كبير ملفوف نصفه بإزار بألوان شجرة جوز الهند، ورائه رجل عريض الكتفين، بشرته بلون القهوة المحروقة، يرتدي بالإضافة إلى الإزار فانلة بيضاء بلا أكمام، تبرز كتفيه الصلبتين وشعر صدره الغزير.

نظر لي باستغراب، قلت وأنا أحاول جمع بلاغتي الهندية المنثورة:

- كيا بل تيق هي؟

لم يرد، يبدو أنه لا يحبذ الزيارات التي تأتي ظهرا ً، قلت وأنا أشير بيدي إشارة بلا معنى:

- معلوم هذا صديق، في موت ( كم تبدو هذه العبارة غير لائقة الآن، وخصوصا ً بعد نظرة الرعب التي بدت في عينيه).
- موت؟
- هذا صديق هنا معلوم.

نظر لي بلا معنى ولم تحمل عيناه إجابة قلت يائسا ً:

- هذا صديق في موت قبل أسبوع، معلوم؟ ايش اسم؟
- اسم؟

زفرت في ضيق، ولوحت بيدي وأنا أعود إلى سيارتي، بما كنت أفكر؟

* * *

بقيت روحه تطوف بي من الغد، ظننت أن محاولتي الخرقاء بالأمس قد خففت عني ولكني كنت واهما ً.

بادرتني صورته عندما رأيت الغبار يغطي مكتبي وأعلى جهازي، تذكرت خرقته الحمراء، أينها الآن لتعيد لهذا المكتب بهائه؟

أذن الظهر فنفضت يدي من الأشغال وقصدت المصلى الصغير في الدور الأرضي، عادت صورته من جديد تشغلني، انتبهت على صوت المراسل العجوز وهو يقيم الصلاة، ثم يده وهي تدفعني إلى موضع الإمام، تقدمت وكبرت، همست لنفسي متعوذا ً من الشيطان مستجلبا ً الخشوع.

رفرف الأنس علي وبدأت صورته تنحل وترحل عن روحي وعندما سلمت من الصلاة نهضت وأنا أقول بصوت جهوري " صلاة الغائب على أخيكم... آ... آ..."، تجاهلت عيونهم المستغربة وحرفت وجهي إلى القبلة وكبرت.

* * * * * * * * *


أنا راحل




ميس الريم

ميس الريم غير متصل قديم 06-03-2006 , 03:17 PM    الرد مع إقتباس