عرض مشاركة مفردة
بو عبدالرحمن بو عبدالرحمن غير متصل    
مبدع متميز  
المشاركات: 5,287
#1  
( إنـا للهِ وإنا إليه راجعون .... رحمتكَ يا رب نرجو )
تلقيتُ البارحةَ مكالمةً تحملُ إليَ نبأ وفاةِ والدي الكريم _ رحمه الله _ بعد اشهرٍ طويلة من المرضِ العضال ..
لا يسعنا إلا أن نقولَ :
إنا للهِ وإنا إليه راجعون .. اللهم أجرنا في مصيبتنا ، وابدلنا خيراً منها ..


لقد كان رحمه اللهُ _ فيما أحسبه _ من الذاكرينَ اللهَ كثيراً ،
فكان لسانه لا يكاد يفتر عن ذكر الله ..
تسبيحا وتهليلا واستغفارا وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
ودعاء وثناء على الله ، ونصح وتوجيه وإرشاد ...

وكان صاحب ليل ، ممن يتخذون هذا الليل جملاً ..
فكان يقوم في آخر ساعةٍ من الليل ،
يحرص على أن يكون من المستغفرين الله في الأسحار ..
ولا أذكر أني قمت قبيل الفجرِ إلا ووجدته بين ركوعٍ وسجود ودعاء وذكر ..


وكان دأبه أن يحبسَ نفسه في المسجد بعد صلاة الفجرِ إلى الشروق ..
لا يحولُ بينه وبين ذلك إلا مانعٌ من عملٍ أو مرض أو نحوه ..

كذا كانَ دأبه أن يحبسَ نفسهُ في المسجد ، بين صلاة المغرب وصلاة العشاء ،
حتى حين أنتقل رحمه الله إلى منطقة جديدة ، كان يبقى هذا الوقت في المسجد وحيداً منفرداً ،
لا يكون معه من الناس أحد ألبته ، لكنه كان يأنس في خلوته تلك مع الله سبحانه ..
ثم يكون آخر من يغادر المسجد بعد صلاة العشاء ..فيكون هو الذي يغلق باب المسجد ..


وكان رغم طبيعةِ عمله الشاقة المتعبة ، كان أحرصَ ما يكون على :
المحافظة على صلاة الجماعة ، إما في المسجد ، وإما حيث هو في عمله ...

ولا زلت أذكرُ تلك الفترة التي كانت تعم المنطقةَ ظلام شديد إذا حل المساء ،
فكان يأبى إلا أن يصلي الفجر في المسجد ،
رغم بُعد المسافة ( ثلث ساعة مشيا على الأقدام )
فكان يخوض بحر الظلام ، الذي لا يقطع سكونه إلا نباح الكلاب التي تتوزع على طول الطريق ،
وهو يمشي الهوينا يتلمس طريقه ، ولسانه يلهج بذكر الله ، فيصل قبل أن يؤذن المؤذن لصلاة الفجر ..

هذه المسافة نفسها كان يقطعها في برد الشتاء وشدة حرارة الصيف ،
يصر على أن لا تفوته تكبيرة الإحرام ..
رغم أنه كان يشكو مرضا في ساقيه يعانيه منذ سنين طويلة ..


هذا المرض في ساقيه كان يشكو منه منذ أربعين سنة أو يزيد ،
ومع هذا كان كثير الحمد والشكر والثناء على الله ،
لم نره يوما يتأفف أو يتضجر ،
بل كان يتبسم رحمه الله ويذكّر من حوله بنعم الله سبحانه الكثيرة ..
وببلاء الأنبياء عليهم السلام ، وبلاء الصالحين ، ونحو هذه المعاني الراقية ..

اشتكى من عينه يوماً ، فقرر الأطباء إجراء عملية ،
وبعد إتمامها بنجاح ، اشترطوا عليه أن لا يسجد إذا صلى ،
فأبى إلا أن يسجد في صلاته ، فإذا قيل له في ذلك ، قال :
لتذهب عيني ، ولكني لن أدع السجود لله ، فإنها روح الصلاة ..
وحفظ الله له عينيه حتى مات ، وقد تجاوزَ الثمانين ..


وكان رحمه الله رغم قلة ذات اليد _ مع أنه يعيل أسرة كبيرة _
كريماً مضيافاً ، وكان أجود ما يكون في رمضان ،
أحسبه كان يتشبه برسول الله ، حيث روي أنه صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان ..

وكان رغم قلة ذات يده ، يكفل يتمتين من أهله ، رباهما طفلتين ،
يعاملهما كابنائه تماما ، ولم نعرف إلا أنهما أختان لنا ، حتى زوّج كلاً منهما ،
وواصل رعايته لهما والسؤال عنهما ومواصلتهما ، وقد أصبحت كل منهما أما لعدد من الأبناء ..

وكان رغم قلة ذات يده ، لا يرد محتاجاً ولا مقترضاً ،
وقد يؤدي به ذلك أحياناً إلى أن يقترض ليعطي من جاءه يسأل ..
ثم هو لا يكلم من اقترض منه في ما أخذ ، ولا يذكره إن نسي ،
بل يقول : إن كان نسي فإن الله لا ينسى ..رضينا بالله ربا ..
ثم يضيف : وما يدرينا بظرف هذا الإنسان ..


أذكر أني قرأت عليه ذات يوم من كتاب رقائق ومواعظ ،
فما راعني إلا أن رايته يجهش بالبكاء ! ..
وكانت تلك أول مرة أراه يبكي على هذا النحو ..
ثم رأيته بعد ذلك يبكي ، كما بكى يوم مرضت والدتي _ رحمها الله _ مرضها الأخير .. ثم قال لي :
لا أبكي على أنها ستموت ، فذلك مصير كل حي ،
ولكن لأنها ستخرج من الدنيا ، ولم نوفِ لها ما تستحق ،
على ما بذلته خلال هذه السنين الطويلة _ رحمهما الله _ ...


كان إذا اتضح له الحق وتجلى ، لا يتردد أن يدع ما كان عليه من قناعة ،
وإن كان ذلك الأمر الذي سيتركه ، مما نشأ عليه واعتاده منذ سنوات طوال بعيدة
، لكنه يدعه لله ومن أجل الله حين تتضح له الرؤية بالدليل الشرعي ..

وكان كثير الدعاء للإسلام والمسلمين ، حتى أنه كان يقول :
أمر الإسلام والمسلمين قبل أمر نفسي وأهلي وخاصتي ..!

كان يصغي ملياً إذا حدثه أحد عن الله سبحانه ، أو عن الرسول صلى الله عليه وسلم
أو عن اليوم الآخر أو عن الإسلام بشكل عام وأحوال المسلمين ،
وترى التأثر بادياً على وجهه ، وكان يأمر الحاضرين بالإصغاء إلى ما يقال ...


هذه بعض الومضات من سيرته رحمه الله وتغمد روحه بواسع رحمته ، ورفع منزلته في الجنة ..

اللهم اشمله برحمتك ، التي وسعت كل شيء ، وتغمده بمغفرتك ،
وتب عليه وتجاوز عنه ، وجازه بالإحسان إحسانا ، وضاعف له الحسنات ،
ورضه وارضَ عنه ، وأفض عليه من شآبيب رحماتك ،
وتقبله في عبادك الصالحين مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا ..
اللهم أوسع له في قبره ، واجعله له روح وريحان وروضة من رياض الجنان ،
وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله ، يا أرحم الراحمين ..

اللهم إنه أقبل عليك بشيخوخته ، ومرضه ، وضعفه ، وفقره ، وحاجته ، وأنت أكرم الأكرمين ..وأنت خير المنزلين ..
هو أحوج ما يكون لرحمتك ، وأنت الغني عن عذابه ..
فارحمه يا أرحم الراحمين ، ولا ترده خائبا ، وقد أتاك كسيرا ..
اللهم آمين .. اللهم آمين ... وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله ..
نعم الحمد لله على ما أعطى ... والحمد لله على ما أخذ ..
والحمد لله على ما قضاء وقدر .. هو أرحم بنا من أنفسنا ,.,.

سلوا له الرحمة ، يرحمكم الله ..

بو عبدالرحمن غير متصل قديم 08-03-2005 , 07:39 AM    الرد مع إقتباس