عرض مشاركة مفردة
مستر مستر غير متصل    
عضو نشيط جدا  
المشاركات: 725
#10  
حقوق العباد
مقدمة:
لقد أكدت الشريعة الإسلامية على كرامة الإنسان وعلى حفظ حقوقه الشرعية في مبادئها العامة وتوجيهاتها الأخلاقية، كما جاءت كذلك بأرقى النظم والأحكام التفصيلية العملية لضمان هذه الحقوق وإقامتها في المجتمعات الإنسانية ومنع كل تعد عليها. ونعرض فيما يلي أصولاً وقواعد مقررة في الشرع تتعلق بحقوق العباد للاستهداء بها في إصلاح الأحوال وبيان الحق وتطبيق الشرع في ذلك.
الأصل الأول: مصدر حقوق العباد هو الشرع وحده
لقد كفلت الشريعة الإسلامية حقوق العباد بأن قصرت الحكم بالإباحة والتحريم والتشريع لأفعال البشر على حكم الله تعالى لا غير. ولم تجعل لأحد الحق في أن يحل أو يحرم أو يمنع حقوقاً أو يسلبها إلا بإذن الله تعالى وفي حدود شرعه وبالاجتهاد والاستنباط الصحيح من أدلة شريعته، قال عزوجل " إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم"، وقال تعالى " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون"، وقال " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله".
وبتقرير أن الشرع وحده مصدر الحقوق، ضمان لحقوق العباد، ومنع من أن يكون منح الحقوق أوسلبها تبعاً للمصالح الآنية ورغبات النفوس وأهوائها، وبجعل الحقوق منوطة بالتحديد الشرعي منع لتسلط فئة على أخرى أو طبقة اجتماعية على غيرها أوالحكام على المحكومين، كما أن ذلك يجعل الاحتكام ـ عند تضارب المصالح والرغبات ـ مقتصراً على هذا المرجع الثابت وهو الشرع الإسلامي الذي لا يتبدل ولا يتغير باختلاف العصور والأحوال، والذي لا يختص بالرجوع إليه أحد من المسلمين دون أحد.
وبتقرير هذا الأصل يتبين كمال دين الإسلام الذي حدد للعباد مصدراً نهائياً لحقوقهم ذا سيادة عليا عليهم جميعاً هو شريعة الله تعالى وأحكامه وجعل استمداد الأحكام الحقوقية مبنياً على ما جاء بالأدلة الشرعية. وهذا بخلاف ما وقع فيه التشريع الوضعي من ربط مصدر الحقوق بجمعية تأسيسية لوضع الدستور أو هيئة تشريعية لوضع القوانين ابتداء، مما يجعل الدستور والقانون من وضع السلطة الحاكمة، وتكون النتيجة الحتمية لذلك هو تقييد الحقوق وفقاً لما تراه السلطة المهيمنة. وهذا الحال يؤدي في كثير من الأحيان إلى انتهاك كرامة الأفراد باسم القانون وسلبهم حقوقهم بالقواعد الاستثنائية وقواعد الطوارئ والقوانين العرفية ثم فقدان حقوقهم الإنسانية في نهاية المطاف.
ويترتب على هذا الأصل كذلك أمر في غاية الأهمية هو أن الدولة الشرعية التي ترفع لواء العقيدة الإسلامية وتطبق شريعة الإسلام يلزمها الرجوع إلى شرع الله وحده لإقرار حقوق الناس فلا يسعها أن تقرر حقوقاً للمواطنين أو للوافدين بها استمداداً مما يخالف الشرع.
الأصل الثاني: كل ما أمر أو أذن به الشرع يُعد حقاً ثابتاً للمكلف.
إن جعل الشريعة وحدها مصدر حقوق العباد يجعل للمكلف الحق في القيام بكل فعل مباح أو مندوب أو واجب بالشرع، فإذا قرر الشرع مثلاً وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو إبداء الرأي والنصيحة في حدود الشرع، أو إذا أباح أو ندب الشرع للفرد ممارسة فعل أو قول أوتصرف من بيع أوشراء، فإن هذا الإقرار من الشرع يجعل كل هذه الأفعال مشروعة أبداً، فلا يجوز لأحد كائناً من كان أن يمنع ذلك إلا بمقتضى شرعي. قال عزوجل "تلك حدود الله فلا تقربوها"، وقال"وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه".. إلى غير ذلك من آيات تلزم بالوقوف عند حدود الله التي شرعها لعباده.
الأصل الثالث: كل انتهاك للحقوق المشروعة محرم شرعاً:
أكدت الشريعة الإسلامية أيضاً علي صيانة حقوق العباد حيث حرم الشرع انتهاك حقوق الإنسان المشروعة وكفل حرمة دمه وماله وعرضه ومنع كل اعتداء على ذلك. كما جاءت كذلك بالتشريعات الأخلاقية الراقية التي تضمن إقامة هذه الحقوق بتحريم الظلم والحسد والغيبة وغمط الناس والحث على المكارم الأخلاق، قال تعالى "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً" ويقول عليه الصلاة والسلام "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" وقال عليه الصلاة والسلام "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام".
وحرم الشرع التجسس على المسلمين مطلقاً، قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا". وأكدت السنة المطهرة على منع تجسس الدولة على الرعية، وقال عليه الصلاة والسلام "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم"، وقال عليه الصلاة والسلام " من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صُب في أذنيه الآنك"وقال " من تتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته" وفي رواية قال "ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته".
ولقد أكدت الشريعة على ضمان خصوصيات الفرد بأن جعلت للبيوت حرمة ومنعت الاطلاع عليها أو دخولها بغير إذن أهلها، قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون". ويقول عليه الصلاة والسلام "لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح". ولهذا لا يختلف الفقهاء على حرمة التجسس وحرمة دخول البيوت بغير إذن أهلها ولم يستثنوا في ذلك إلا حالة واحدة فُصلت في كتب الفقه وآداب الحسبة وهي منع وقوع جرم يؤدي إلى هلاك حرمة يفوت استدراكها واستنقاذها كانتهاك عرض أو قتل نفس أو إتلاف مال، وذلك لتعارض حرمة الفرد والبيت مع حرمة النفس والعرض والمال. أما ما عدا ذلك فالأصل حرمة بيوت المسلمين وخصوصياتهم ووجوب إنفاذ النصوص القطعية التي جاءت بتحريم التجسس على الناس ومنع دخول البيوت إلا بإذن أهلها أو بإذن الشارع في ذلك.
حرمت الشريعة أيضاً التعذيب مطلقاً في غير العقوبات الشرعية، قال عليه الصلاةوالسلام "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا"، وحفظ الإسلام كذلك حقوق المسلم بأن أسقط كل ما ينجم عن الإكراه للمسلم صوناً له من ضياع حقه عن طريق الاعتداء والإكراه له، قال عليه الصلاة والسلام "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ومنعت الشريعة كذلك من إنزال العقاب على جرم إلا بعد ثبوته بالبينة الشرعية ووفق الدليل الشرعي. وبينت السنة أن حبس المتهم على سبيل الاحتياط للتحقق في أمره قبل إحالته إلى القضاء لا يكون إلا لمدة يسيرة لما روى الترمذي وحسنه وروى البيهقي عن بهز بن حكيم أن النبي صلى الله عليه وسلم "حبس رجلاً ساعة من نهار ثم خلى سبيله". كما حرصت الشريعة على قاعدة براءة الذمة حتى تثبت إدانة المرء شرعاً، بأن جعلت الأصل براءة الذمة، وأكدت على درء الحدود بالشبهات وعلى أن خطأ الإمام في العفو خير من خطئه في العقوبة.
فكل هذه الأحكام العملية تصون حقوق العباد وتحرم كل انتهاك وسلب لها من غير وجه شرعي.
الأصل الرابع: الدولة الشرعية مسؤولة في الجملة عن إيصال الحقوق إلى أهلها ورعايتها.
أوجبت الأدلة الشرعية كذلك تأمين حقوق الإنسان بأن جعلت الدولة مسؤولة تجاه رعاية شؤون كافة رعيتها وحمايتهم وإيصال الحقوق إليهم والعدل بينهم وحرمت عليها كل حيف أو جور بين أفراد رعيتها بسبب الطائفة أو الجنس أواللون أو القبيلة أو غير ذلك. فالإسلام لم ينصب الدولة لحفظ الحريات للأغنياء وذوي الثروات من المرابين والمحتكرين كما في الأنظمة الرأسمالية أو للحكم نيابة عن طبقة أو فئة كالأنظمة الماركسية المستبدة، إنما نصبها لإقامة أحكام الشريعة الإسلامية، ويقتضي ذلك مسؤولية الدولة المباشرة عن رعاية شؤون أفراد الرعية وإيصال حقوقهم إليهم والعدل ومنع التظالم والجور بينهم في ذلك. قال تعالى "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، ويقول " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي"، وثبت كل ذلك أيضاً بالسنة العملية والقولية حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته"، وقال " ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة". وأكد الشرع على تحريم الجور والحيف بين المسلمين، قال عليه الصلاة والسلام " من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله"، وقال " إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد". وكل هذه الأحكام الشرعية تدل قطعاً على مسؤولية الدولة تجاه رعيتها وواجبها في إيصال الحقوق لأهلها والعدل بينهم في ذلك.
وبناء على هذا العرض للأصول والقواعد الشرعية المتعلقة بحقوق العباد يظهر جلياً أن الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة تؤكد على كرامة الفرد وتضمن حقوقه بالعيش الكريم وتصون هذه الحقوق على أكمل مثال وأحسن وجه، والمتأمل الناظر في التاريخ يجد أن تسلط أي دولة على رعاياها بالإيذاء أوالتعذيب أوالغش أوالتجسس وانتهاك حقوقهم والتقصير في إيصالها إليهم يؤدي إلى تمزيق المجتمع ومنع الاتقياء وأهل الصلاح من العمل على حفظه وصيانته مما قد يؤدي بالنهاية إلى انهيار الدولة أو خضوعها لأعدائها أو زوال آثارها بالكلية. ولهذا يذكر علماء الاجتماع كابن خلدون رحمه الله هذا الأمر العظيم قائلاً " إن الحاكم إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات منقباً عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف والذل ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلقوا بها وفسدت بصائرهم وأخلاقهم، وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات ففسدت الحماية بفساد النيات فتفسد الدولة ويخرب السياج".

مستر غير متصل قديم 28-06-2001 , 05:25 PM    الرد مع إقتباس