عرض مشاركة مفردة
مستر مستر غير متصل    
عضو نشيط جدا  
المشاركات: 725
#8  
القضاء والمحاكم

مقدمة :
عظمت الشريعة الإسلامية شأن القضاء الشرعي،حيث جعلت الشرع والقضاء صنوان، فالدين الإسلامي كما جعل الشرع هو الحاكم على أفعال البشر وهو مصدر أنظمة الحياة، جعل القضاء جهة الإلزام بأحكام التشريع في إزالة التنازع، ورفع المظالم، ومنع التجاوزات، ولذا لا يمكن إقامة أحكام الشرع في واقع الحياة إلا بوجود القضاء الشرعي المهيمن والفاصل لكل نزاع بين الأفراد والأمة والدولة، قال تعالى " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً". وإنفاذ مقتضى هذه الآية يوجب الرد إلى الله والرسول، ويحتم وجود القضاء الشرعي المبين للحكم الشرعي الملزم به بما يقطع النزاع، وقد جعل تعالى الخضوع والامتثال والقبول لحكم الله تعالى ورسوله حال المؤمنين فقال تعالى "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا". ونفى تعالى الإيمان عن المعرض عن حكمه وشرعه لفصل النزاع فقال عزوجل " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم". ووصف تعالى المنافقين بالإعراض عن الانقياد لحكمه قال تعالى "وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين، أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا، أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون". ولذا فإن العناية بالقضاء في الدولة، وحصر الحكم في القضاء بشرع الله من أعظم واجبات الدولة المسلمة، وينبغي اعتباره لذلك من أهم مرافق الدولة، لأن عدل الشرع وحكمه يبسط من خلاله، وتحفظ حقوق العباد، ويسود الأمن، وقد أكد النظام الأساسي هذه الأهمية للقضاء حيث جعل "القضاء سلطة مستقلة، ولا سلطان على القضاة في قضائهم إلا الشريعة الإسلامية".
وقبل بيان واقع القضاء والمحاكم في هذه البلاد، نريد أن نذكر مسلّمات مقررة شرعاً تتعلق بالقضاء، لكي تكون أساساً لكثير من القضايا المتعلقة بالقضاء وسبل الإصلاح المقترحة في ذلك :
أولاً: إن ثمة فرقاً جوهرياً بين أمرين: أولهما توزيع عمل القضاء الشرعي بين مجالس قضائية متخصصة، وهو ما يسمى في كتب الفقه الشرعي "التولية على خصوص العمل" والأمر الثاني توزيع العمل القضائي بين المحاكم الشرعية واللجان النظامية التي تحكم وفقاً للأنظمة والمبادئ المقننة لها. فأما الأمر الأول فجائز قطعاً لأن جميع القضايا في المجالس القضائية الشرعية يفصل فيها بشرع الله، وإنما أجاز الشارع تخصيص القاضي الشرعي بحسب نوع القضية، أي تخصيص نوعي للقضاة. وأما الأمر الثاني الذي هو توزيع قضايا النزاع ـ سواء بين الناس أو بين الناس والدولة ـ بين المحاكم الشرعية وبين اللجان النظامية والقانونية فإن مقتضاه عزل الشرع المطهر عن الفصل في القضايا التي تختص بها تلك اللجان النظامية.
ولقد اختلط هذان الأمران على الكثيرحيث ساد لدى الكثير مفهوم مؤداه أن اختصاص القاضي الشرعي عند توليته بقضايا معينة يسوغ ويبيح إيجاد جهات أخرى لا تقضي وفق النظر الشرعي كاللجان والهيئات النظامية أوالقانونية.وهذا المفهوم يخالف الكتاب والسنة والإجماع، حيث أن الأدلة الشرعية فصلت في أن الكتاب والسنة حاكمان على كل شيء، وأن ولاية القضاء الشرعي عامة في جميع الأمور، وأنه لا يجوز إخراج أي نزاع عن الرد إليهما، قال تعالى "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله"، وقال " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول". فالعموم بهذه الآية لجمع النزاعات جنساً ومقداراً يقطع ويدل على أنه لا أمر مطلقاً يخرج عن النظر الشرعي هذا، فضلاً عن أن عزل الشرع عن بعض القضايا مخالفة عظيمة لقواعد الإسلام الذي حرم التحاكم إلى غير شرعه، وجعل الرجوع إلى الشرع هو مقتضى الإيمان بالله ورسوله، ومقتضى تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
أما مفهوم تخصيص القاضي الشرعي بأنواع القضايا فهذا أمر مبسوط في كتب الفقه الإسلامي وغايته ومقصوده حسن اختيار القاضي الشرعي بما يناسب القضية، حيث أن أنواع أحكام القضايا التي ينظر فيها القاضي الشرعي تعددد إلى قضاء للزجر عن الحدود والجنايات، أوالحسبة في منع المخالفات والجرائم المضرة بحق الجماعة، أو لإزالة النزاع في العقود والمعاملات، أو لرفع المظالم عموماً سواء الواقعة من ذوي السطوة والهيبة كالدولة والحكام أومن غيرهم، وكل نوع من هذه القضايا يتطلب صفات معينة في القاضي الشرعي إضافة إلى الشروط الضرورية من إسلام وفقه وعدالة، فقضاء المظالم مثلاً يتطلب أن يكون القاضي متصفاً بالهيبة والقوة لأنه يجري الأحكام على ذوي الشوكة الذين يجرؤون على الظلم والتعدي، وأن يكون مجتهداً لإنه يفصل في القضايا المعضلة، وقضاء الحسبة يتطلب أن يكون القاضي متصفاً بالفطنة والقدرة على البحث والتقصي لأن عمله هو إزالة المخالفات العامة في المجتمع...وهكذا.
ولهذا يجب أن يدرك الفرق العظيم بين عزل الشرع عن بعض القضايا، وبين تخصيص القاضي الشرعي في أنواع من القضايا، حيث أن تخصيص القاضي الشرعي إنما يقصد به حسن اختيارالقاضي، ولكن لا يجوز أن يجعل ذلك ذريعة لعزل القضاء الشرعي عن أي قضية لما في ذلك من زلزلة لقواعد الإسلام ومخالفة عظيمة لها.
ثانياً: إن كون القضاء شرعياً في كافة القضايا والنزاعات لا ينافي الاستعانة بالموثوقين من أهل الخبرة في معرفة الواقع، إذ أن القضاء الشرعي يقتضي أمرين: الأول منهما هو معرفة الواقع الذي يطلق عليه علماء الأصول تحقيق المناط، ومعرفة الواقع هذا يتطلب رأي أهل الخبرة بحسب القضية، فإن كان هندسياً يرجع فيه إلى أهل الهندسة، وإن كان طبياً روجع فيه أهل الطب..وهكذا. والأمر الثاني هو بيان حكم الشرع في هذا الواقع، وهذا البيان لا يجوز أن يصدر إلا عن فقيه بأحكام الشرع، ذي معرفة بأدلته الشرعية، متأمل للحكم بالشرع، وإلا كان حكماً مستنداً إلى جهل، ولهذا لا يجوز أن يعارض وجوب جعل القضاء شرعياً الحاجة إلى معرفة الواقع من أهل الخبرة، حيث أن دور أهل الخبرة محدد ببيان واقع الحال وليس له تجاوز ذلك إلى الحكم على أفعال العباد بالإلزام أو المنع أو الإبطال أو غير ذلك حيث أن هذا قصْرعلى الشرع وحده.
ثالثاً: إن تولي عمل القضاء أمر في غاية الخطورة لأثره البالغ على حياة الناس وإنفاذ أحكام الإسلام، ولذا وضعت الشريعة ضوابط وشروطاً لازمة في كل من يتولى هذا المنصب حيث شرطت في القاضي ـ الإسلام والبلوغ والعقل ـ بالإضافة إلى توفر الفقه والعلم الشرعي وإدراك تنزيل الأحكام على الوقائع، لأن عمل القاضي هو الإخبار عن حكم الله على وجه الإلزام، وغير الفقيه سيقضي عن جهل ويكون حكمه لذلك حكماً بغير ما أنزل الله تعالى. كما أن العدالة شرط أساسي في القاضي حيث اشترطت الشريعة ذلك في الشاهد فلزومها في القاضي المؤتمن على إجراء الأحكام التي تحفظ بها الحقوق ويفصل بها النزاع أولى وأعظم. ولهذا فإن تولي أي عمل ذي اختصاص قضائي سواء للحسبة أو لفصل النزاع في المعاملات والعقود، أو للزجر عن الجرائم في الحدود والتعزيرات، أولرد المظالم يحرم شرعاً أن يتولى القيام به من لا يكون فقيهاً بالشرع عالماً بأحكامه عدلاً تتوافر فيه شروط القاضي الشرعي.

واقع القضاء والمحاكم :
وبعد عرض هذه المسلّمات المقررة بالشرع نبين مشاهدات عن الواقع القضائي على ضوء ماذكر في القضاء والمحاكم، ويتلخص أهمها في ما يأتي:
1) وجود ازدواجية في القضاء باختلاف الجهات المنوط بها صلاحية الحكم أو فصل النزاع أوالتعزير،حيث يوجد في أجهزة الدولة ـ بالإضافة إلى المحاكم الشرعية ـ مايزيد على ثلاثين لجنة ذات اختصاص قضائي تستند في أحكامها إلى الأنظمة التي تشكلت بموجبها تلك اللجان، وقد نجم عن ذلك مخالفات شرعية خطيرة نذكر منها:
أ ـ عزل القضاء الشرعي عن النظر في كثير من القضايا المالية وفصل النزاع في المعاملات، وقضايا التعزير والمخالفات،وكثيراً من القضايا الكلية والعامة كنزاعات الوزارات والمؤسسات العامة فيما بينها، والنزاعات مع البنوك، والنزاعات الدولية وقضايا الطيران والملاحة.
ب ـ إلزام الناس بالإعراض عن التحاكم إلى القضاء الشرعي المتمثل بالمحاكم الشرعية واللجوء إلى اللجان النظامية ودفعهم لطلب ما لا يحل لهم شرعاً أوالامتناع عما يجب عليهم شرعاً أداؤه. والأمثلة على ذلك كثيرة في القضايا العمالية والقضايا المصرفية والتجارية.
ج ـ تناقض الأحكام الصادرة في القضية الواحدة بسبب اختلاف جهة القضاء فيها، وضياع حقوق الناس وإطالة أمد النزاع في كثير من القضايا للالتباس الحاصل في تحديد جهة الاختصاص بين المحاكم الشرعيةواللجان.
د ـ امتناع بعض اللجان المنوط بها صلاحيات قضائية في كثير من الأحيان أو مسئولي المراجع التي ترتبط بها هذه اللجان عن قبول دعاوى تعد من اختصاصها ورفضها دون حكم قضائي.
هـ ـ ظهور الحاجة إلى تعلم القوانين الوضعية والتفقه فيها بدلاً من الفقه الشرعي، وإقرار تعلم هذه القوانين الوضعية رسمياً في معهد الإدارة وأقسام الأنظمة بالجامعات، بل أصبح المختصون بالقوانين الوضعية يتمتعون بالمزايا الوظيفية التي تُمنح لأهل الاختصاصات النادرة، كما أصبحت المكاتب القانونية ظاهرة لا يُستغنى عنها.
ز ـ ظهور أحكام قضائية مخالفة للشرع صراحة، نحو كثير من أحكام لجنة الأوراق المصرفية وبعض أحكام لجنة الأوراق التجارية ولجان التعزير على سبيل المثال.
ح ـ إنشاء لجان قضائية في بعض الجهات للتظلمات التي تقدم ضد الجهات نفسها نحو لجان التظلم من تعويضات شركات الكهرباء في هذه الشركات، ووجود لجان يكون القاضي هو المدعي العام في نفس الوقت أويرتبطان بمرجع واحد، مما ترتب عليه تحكيم الخصم وأن يكون ممثل المتظلم منه أو أجيره هو القاضي المختص بفصل النزاع.
2) إلزام القضاء الشرعي بأنظمة وتعليمات تضعف من استقلال القضاء وسريان أحكامه على الجميع وتخالف بذلك مبدأ سيادة الشرع على الجميع. ومن أمثلة ذلك:
أ ـ القيود التي تصدر من جهات تنفيذية كالإمارات والداخلية والبلديات بعدم نظر المحكمة الشرعية في أنواع من القضايا أواشتراط الإذن المسبق أو الإحالة إلى القضاء من تلك الجهات قبل النظر فيها. والأمثلة في ذلك عديدة ،نحوإلزام القضاء الشرعي بعدم قبول قضايا الديات في مواجهة بيت المال إذا كان المتسبب أجنبياً، ونحو عدم توثيق العقارات التي لم تُخطط لمن كانت بحوزتهم بناء على طلب وزارة الشؤون البلدية والقروية، أومنع النظر في إثبات الإعسار التجاري، أو منع النظر في إثبات إعسار الأفراد إلا بعد طلب الإمارات ذلك..إلى غير هذا من أمثلة.
ب ـ ادعاء بعض جهات الدولة عدم اختصاص القضاء الشرعي في قضية ما، من أجل منع القضاء الشرعي من النظر في تلك القضية أو لإلغاء الحكم الصادر فيها، أو تبرير عدم إحالتها إليه. وامتناع بعضها عن المثول أمام المحاكم الشرعية ومطالبتها بإلغاء الأحكام الصادرة عنها بعد صدوره، وهذا كثيراً ما يقع في أحكام التعزير حيث تُرَدُّ أحكام القضاء الشرعي على أفراد متهمين بالرشوة والتزوير بحجة عدم الاختصاص.
ج ـ إلزام وزارة العدل والمحاكم الشرعية بكثير من التعاميم الصادرة عن وزارة الداخلية مما أفقد القضاء استقلاليته وحاكميته في القضايا التي تتعلق بتلك التعاميم نحو التعميم الصادر بمنع المحاكم الشرعية من إثبات إعسار المطالب بدين تجاري إنفاذاً لنظام المحكمة التجارية، ونحو قرار وزارة الداخلية عام 1406هـ بعدم إحالة القضايا التجارية والعمالية إلى المحاكم الشرعية.
د ـ منع المحاكم الشرعية من نظرالدعاوى المقامة على جهات حكومية إلا بعد الإذن بذلك، ومنع النظر في قضايا ترفع لدى المحاكم أو ديوان المظالم بحجة أنها من قضايا السيادة كالدعاوى التي تقدم ضد أجهزة الجوازات أو المباحث أوغيرها.
3) افتقار المحاكم الشرعية في كثير من المناطق للإمكانات التي ترفع من مستوى أدائها وكفاءتها مقارنة بغيرها من القطاعات. والأمثلة على ذلك عديدة منها: عدم توفر المباني اللائقة بهذا المرفق العظيم، فمعظم مباني المحاكم الحالية سيئة التصميم والإنشاء والتأثيث. والنقص الشديد في تدريب وعدد الموظفين والكتّاب والسكرتارية المساعدة لأعمال القضاء، وعدم توفر مراكز لتدريب موظفي المحاكم أوالأجهزة الحديثة التي ترفع من كفاءة إدارات المحاكم كأجهزة الحاسب الآلي وأجهزة التخزين والاتصالات الحديثة.
4) التأخير الملحوظ في إنفاذ الأحكام القضائية التي اكتسبت صفة القطعية الصادرة من ديوان المظالم ضد بعض أجهزة الدولة أو وزاراتها، وكذلك الصادرة بإعادة الحقوق لأهلها إذا ما تعلقت هذه الأحكام بأجهزة الدولة أو بعض كبار المتنفذين فيها.


مستر غير متصل قديم 28-06-2001 , 05:21 PM    الرد مع إقتباس