صفحة 1 من 2 1 2 >

سوالف للجميع (http://www.swalif.com/forum/index.php)
-   سـوالـف الـسـيـاسـيـة (http://www.swalif.com/forum/forumdisplay.php?f=65)
-   -   ان لم تستحو فافعلو ماتشاؤن (http://www.swalif.com/forum/showthread.php?t=83521)

سعد السعودي 14-03-2001 02:46 AM




كاان الشعب السعودي بحاجة الي سماع اقوال نوارة ونوال وانضرة ودرب العرب وولدالحكومة000 وغيرهم الكثيرون من امثالهم اللذين يدخلون البيوت من الاسطح ليقولو جئنا لننقذكم,00 وهم لصوص وقاطعي الطرق0
ومهما تخفو باسماء ناعمة فسيظلون هم اصحاب الفتن والمكائد يحاولون دائما وبشتي الطرق سرقةالامن والامان من وطني 0وهل ما يفعلونه لنزعاة خاصة بهم ام بتوجيه مدروس من اصحاب الفتن المعروفين لكل المواطنين ,الصغير منهم قبل الكبير0لياتو كل يوم وفي كافة المنتديات ليقولو فقط ان المملكة العربية السعوديةدولة ظالمة لشعبها وانهم هم المنقذون الاشاوس اللذين يعلمون الغيب00 وكان الشعب ينتظرهم ليسمع عن احلامهم بخراب الوطن0

منهم من خرج وعاد باسم اخر ومنهم من تخفي وراء الدين ومنهم ايضا من تخفي وراء الوطنية التي يفسرونها لاهوائهم ومبتغاهم الخبيث وهم ايضا اللذين يقولون بانهم من الشعب ويتكلمون باسمه 0يضعون القرارات ويفسرونها وهم اللذين يقومون بالقصاص ايضا ونشر الاكاذيب حول هذا البلد المطمئن وشعبه وحكومته ولن ستعرفق الحق منهم ابدا0
انهم عبيد مستاجرون يقولون ما يملي عليهم 0 او انهم يعيشون في احلامهم للوصول الي مناصب لدي اسيادهم الخونة والمرتزقة الفاسدين يبحثون عن اية ثغرة للدخول بين صفوف الشعب الواحد والبيت الواحد من اجل زرع الفتنة والشقاق0
هؤلا كلهم ليست لديهم اية وطنية اوقليل من الدين لانهم اصحاب من يدعون ان الكذب من اساس دينهم وان الزنا هو مدخلهم الي الجنة والعياذ بالله0 فالاسلام بعيد عنهم وهم اغدر الناس من العدو اللذي نعرفه والخيانة متاصلة في جزوهم0
يظنون ان الشعب السعودي لا يفهم ولا يعي ويفسر ولا يعرف ما يدور حوله0 فاقول لهم ان الشعب السعودي يضحك عليهم لانهم اصبحو من طرائف هذا المنتدي وغيره من المنتديات لكتاباتهم التي هي هزيلة في مضمونها لا ترتبط بالواقع الحقيقي للحكامه وشعبه وهم اجبن من ان يهاجم دول اخري لانها علي شيعتهم اوانهم منها 0
فالاسلام بعيد عنهم ولو رجعت الي ما قبل مئات السنين لوجدت حقيقة دياناتهم الغريبة والتي تفسر لماذا يحقدون علي المملكة فقد تاصلة الخيانة في انفسهم وضمائرهم وهم لا يكتبون الي باسماء سعودية او قريبة منها ويتخذون دائما واجهة براقة ليخفو سمومهم وليسو بسعوديين ابدا مهما حاولو التخفي والتنكر0

فاقول لهم ان السعودية بحكامها وشعبها يد واحدة وهم اقوي مما تظنون ووطنيتهم من دينهم ومتماسكون بيد واحدة مع ولاة الامر ولن ستقدرو علي زعزعة امن هذا الوطن او زعزعة ثقة الشعب في حكامه اللذين بنو هذه الرفهية للمواطن ومهما حاولتم وتجراتم بمخاطبتهم بافكاركم الهدامة فنحن باقون رضيتم ام ابيتم

فنحن السعوديون وسنبقي متحدون الي الابد000000

shahab 14-03-2001 02:58 AM

^1
الاخ سعد السعودي
هؤلاء اما زنمات او رافضه اوحاقدين انا ممكن اصدقهم في حاله وحده اذا حرر عرفات فلسطين واذا انتصر صدام واحتل نييورك واذا علي صالح جعل من اليمن كما كان سعيدا اما الرافضه فاذا خرج من في سردابهم يزعمون وليخساء الخاسؤن

سعد السعودي 14-03-2001 05:35 PM



up

بويك ون 14-03-2001 11:19 PM

الأخ الفاضل : سعد السعودي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ونسيت المدعو البطل الباسل العربي

الله يا كبر الأسامي اللي يختارونها

ولا يهمك وأنا أخوك يا ويلهم لو يفرقونا

ولكن نقول لهم ما يقوله سيدهم

فليخسأ الخاسئون


ونبقى شعب واحد وخليج واحد

الله يعز حكامنا مثل ما عزونا

وأرجو ملاحظة توقيعي لأني لم أضعه إلا للأشكالهم

لا ويدافعون عن العراق ويسبون أي عراقي يعارض كلامهم

كأن ليس لهم قضية أو بالأحرى لا يدفع لهم إن تكلموا عنها

ولكن بالهجوم على اسيادهم الحقيقيين

ينفسوا عن ما في قلوبهم من حقد دفين علينا

ولك تحياتي يا أخي الفاضل

وكذلك للأخ الفاضل شهاب


سعد السعودي 15-03-2001 06:15 AM



شكرا للعزيز بويك ون
علي الرد الجميل

وشكرا ايضا الي اخي شهاب

لكن لي سوال( وين اختفو وين راحو؟)







باقي علي شهر محرم 10 ايام000 للعلم فقط

الرابح2001 15-03-2001 05:27 PM

اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق واللدين
 
ما اكثر المندسين في هذه المنتديات ويدعون انعم يدافعون عن الوطن ولكن سيأتي اليوم اللذي يفتضحون فيه وان غدا لناضره قريب

الغرضون 15-03-2001 05:57 PM

الأستاذ:سعد //تتساءل أين اختفوا
فأقول:إلى جحور أسيادهم.
الرابح:فعلا .. ماأكثر المندسين .. لكن أنا وسعادتك والمشاركين في المنتديات فاهمين؛ بس تقول إيه للناس البسطاء الذين يصدقون كل شئ؟؟

سعد السعودي 15-03-2001 06:52 PM




شكرا للاخ الغرضون

علي هذا الرد




سعد السعودي 16-03-2001 11:38 AM





up








باقي علي شهر محرم 9 ايام000000للعلم فقط

سعد السعودي 17-03-2001 05:43 AM


up


باقي علي شهر محرم 9 ايام000000 للعلم فقط

واللبيب بالاشارة يفهم000000

بويك ون 18-03-2001 12:59 AM

الأخ العزيز : سعد السعودي
 
ألسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أيييييييييييييي والله يستعدون للعبادة الحين

بس ترى غيرهم موجود الحين وهو القسم الثاني

اللي ما يحلل وما يحرم ولا له مذهب ولا دين

وتقبل تحياتي

أحبها 18-03-2001 01:55 AM

وطنيتك .. متطرفة .. أخي ( سعد السعودي ) تصل لدرجة الإستفراغ ..
 
أخي .. الكريم سعد السعودي .. أستغربت من كثر رفعك للموضوع ..

ولم أستغرب من .. وطنيةلديك لدرجة التطرف وإلإنغلاق .. ونبذ

الآخر .. ونفية .. وسلبه من شيء تشترك معه فيه ألا وهو ( حب

الوطن والمواطنة)

وحتى الآن قرأت جل مواضيعك وتعقيباتك .. ولم أجد فيها إلا

الإنغماس خلف ستار الذات والخوف من التغيير .. وعدم إستيعابك

لمعنى أن تهب نسمات حرية النقد .. على بلادك .. وأن تحل في

ساحة دارك إطلاق العنان لأفكار .. كنا نعدها فيما مضى التفكير

فيها من المحرمات .. ومروق من الدين والملة وعصيان لولي أمر

المسلمين وحامي القبلة ..

أخي الكريم ( سعد السعودي ) إذا كان عندك شيء غير ذلك فاتحفنا

به لعلنا نخرج من منتدانا بشيء يذكر ويقال .. أنه نافع ..

ولقد كبرتها وهي لاتذكر .. وجعلت منها قضية .. وهي لاشيء ..

أوقفت على نفسك مسمى ( السعودي ) أي مواطن من المملكة .. وهذا

حقك تسمي نفسك بما شئت ..

ولكن ليس من حقك أن تزكي نفسك بالصلاح حينما أوغلت الإتهام

وتقطيع لحوم عبادالله من الأعضاء بأنهم دسيسون .. ومغرضون ..

وأصحاب فتنة .. ألخ ..

دون إثيات .. ولا دليل .. والأمر بسيط فأنت تجهل من تكون الأخت (

نوارة ) أو ( نوال ) أو الأخ ( ولد الحكومة ) فمن أين لك إذاً

الدليل على أنهم كما ذكرت فيهم من كل شر ..

ثم أنت وصفتهم ( بالعبيد ) و ( مستأجرون ) .. وسؤالي

هل حضرت مزاد بيع العبيد أو كنت متواجداً أثناء برم العقود على

الإستجارة .. فانت حيرتنا معاك هل هم عبيد أم مستأجرون ..

( متى أستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ) ..

هم إخوانك .. لهم رأي .. فانقد رأيهم لا شخصهم ..

ولا تلتفت لمن يطبل لك .. فلكل شيء سبب وإذا ( عرف السبب بطل العجب ) ..
وبالختام هذا مجرد رأي .. وأحب أن أهمس بأذنيك أنك تحمل صفة

حسنة وهي ص( الحب ) فليشمل حبك للجميع وليس لوطنك .. وليكن

حبك وسطاً وكرهك وسطاً .. وتقبل تحيات أخيك ( أحبها )

ودمت ودام وطني العزيز .. دون تزلف ولا نفاق المنافقين ..

( أحبها )

WaSa6Y 18-03-2001 02:06 AM


الحمدالله على نعمة العقـل ...

سعد السعودي 18-03-2001 09:47 AM



الوطنية في نظركم الان اصبح تطرفا000

وحب الوطن لا ياتي الي بالتشهير والاكاذيب علي رايكم00

ولا ادري من هو المتطرف هل هو انا؟ ام هم 000اوبالاصح هو؟

نعم ان لست بكاتب متمرس بالكتابة اليومية في المنتديات وباسماء مختلفة0ولكني مواطن حر اعيش في وطني وهم اين هم الان 0 والتغير اللذي تتكلم عنه لا يؤدي الا الي الهاوية والشقاق اللذي ليس له قررار0 وهذا اللذي تخططون له وتنتظرونه فلا والف لا وساكون لكم بالمرصاد00
وساحاربكم من كتاباتكم وسرقاتكم وتخفيكم وراء الدين والوطنية لاظهر حقيقتكم الزائفة 0 وان لم تعجبك ردودي يا(احبها)فلست بمجبر علي قراتها او الرد عليها فهي بلادي كما قلت فابحث عن بلادك ام انت تناصر اللا معقول دئما لتعارض شيا لا تعرف عنه شي00
وانا اتكلم عن فتنهم ودسائسهم التي يبثونها من فترة واخري وكشفها لكل من يقراء وهم يحاولون ان يخفو الحقيقة دئما وليس لهم الا حكام المملكة وشعبهاويقولون عنهم ما يخجل الجبين 0ويدعون بعد ذلك انهم هم الوطنيون 0 والشعب في نظرهم كما قال في احدي مقالاته(كلحمير)شعب باكمله ينعت بهذه الصفة من بعض الخوارج اللذين ليس لهم دين او ذمة فماذا تتوقع منهم؟ وهل هذا هو الاصلاح اللذي يبحثون عنه والوطنية التي يتكلمون عنها00

انا احب وطني السعودية بحكامها وشعبها احب الشعب اللذي هو اخي الاكبر والاصغر احب كل من يتكلم بالمنطق والعقل وليس بالسباب والشتم لانه سيحصل مني علي مثله واكثر00

لناخذ مثلا علي ذلك :-

لفتح موضوع بسيط جدا ونقول(ما رايكم بالتعليم اليوم واين وصل منذ نشاته في المملكة ؟)واساجلس معك واناقشك وادير معك الحوار0
ولكن عندما ااتي واسمع منك تقول لي(ان التعليم في المملكة اصبح في الدرك الاسفل وان ليس هناك من يهتم به اوانه وضع لاغراض خاصة)ويبدا معك بالحوار الاستفزازي اللا مبرر ويضعون الموضوع كانه جريمة ترتكب في حق المواطن وليخلق مشكلة من لا مشكلة0 اذا فماذا تتوقع مني ان اجيبهم؟ فلن سيحصلون مني الي ما اجبت عليهم00

ولن ساذهب بعيدا , انظر الي ماكتبه المدعو (نوال)واللذي انت تعرفه في موضوعه (النظام السعودي يتامر مع الروس ضضد مجاهدي الشيشان)ويتناسي المدعو باننا نحن اول من يحارب الارهاب ولا نرضي به والمسلم لا يعتدي علي مال غيره حتي ولو كان اخاه فما بالك بترويع الامنين لراكبي هذه الطائرة ويقول عنهم بانهم كفرة(الركاب)ولا يعلم ان كانو مسلمين او نصارة او يهود0ويفتري بقوله هذا ويحورون المواضيع بانها اعتدء وينسون باننا جزاء من هذا الكوكب اللذي نعيش فيه وعلينا حمايته لكي لا يتحول الي شريعة الغاب00

فعلم السياسة يا(احبها)علم يتشعب ال بحور من الحكمة والتاني والصبر وليس من مصلحة اي شخص كان ومهما كان وضعه ان يشوه سمعة بلده ليقول بانه كشف الغلط و امام الاعداء0 فهو مساعد لهم وخائن بطريقة غير مباشرة وخاصة في وقتنا الراهن بعد ان دخل الحاسب الالكتروتي في كافة مجالات حياتنا00

تحية لك واقول كما قلت :-

دمت يا وطني عزيزا 00 دون تزلف ولا نفاق المنافقين000

وردي هذا ليثبت لك بانني اتحدث بالعقل قبل العاطفة وبالمنطق الواقعي وليس بالخيال00

اما رفعي للموضوع فمن حقي ان رفعه متي اشاء ولعلمك فقط هو لامر سيظهر في وقته000000


باقي علي شهر محرم 7 ايام00000للعلم فقط

الغربال 18-03-2001 10:16 AM

اللهم لك الحمد والشكر يارب موضوع تافه زي صاحبه مع احترامي للبقيةعزيزي سعد ((((((((((( السعودي )))))))))))) اقول ترى لو تروح تشفلك قسم اخر غير السياسة اظن افضل لك لأنك ما عندك سالفة وبعدين اعتقد ان جميع الكتاب الذين ذكرتهم في بداية مقالك لا يعترضون ولا انا اعترض على الحكم السعودي انما هناك اشياء لا بد من الجميع ان يعلمها وهناك امور يجب ان ينتبه لها من هم اعلى منك وانت ادرى بهم لأنك من اذنابهم فلم يعد الناس كما تظن بأنهم يتقبلوا ما يريدون .

تحياتي للجميع .

نوال 18-03-2001 11:43 AM

أضافة لما ذكر الغربال أحببت التنويه وذكر بعض الأمور
 
للعلم فأن المذكور سعد اليهو...................ي قد وصلت به المراه..............قه إلى حد ميؤس منه وهذا ليس بغريب على ذيل من الذيول
فهناك مثل يقول ( عمر ذيل (......) ما ينعدل )
فما أحببت التنويه أليه هو فيما يلي
كتاب ألفه الدكتور سعد الفقيه المعارض السعودي المشهور
أعانه الله على فعل الخير

بعنوان

كيف يفكر آل سعود
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فإن المتأمل في تصرفات معظم أبناء الأسرة الحاكمة الشخصية أو السياسية والمطلع على حقيقة عقلية الأسرة وواقع سلوك أفرادها وأقوالهم وأسلوب تفكيرهم سيتضح له نسق عام يفسر كثيرا من تصرفات وأقوال وسلوك وأساليب تفكير غالب أبناء الأسرة الحاكمة سواء من كان في موقع المسؤولية أو خارجها. إن ذلك التصرف والسلوك يعبر بدقة عن العقلية التي يتخذ على أساسها آل سعود قراراتهم. ولا يحتاج الأمر إلى دراسات نفسية متعمقة أو إلى خبراء نفسيين حتى يلم المتأمل في سلوك الأسرة بمجموعة من الإسقاطات النفسية التي تمثل بمجموعها نظرية متكاملة يمكن من خلالها تفسير تصرفاتهم وأساليب التفكير لديهم وآلية اتخاذ القرار عند رؤوسهم.

الدراسة التي بين أيدينا محاولة لاستقصاء أهم هذه الإسقاطات وعرض الأدلة الواقعية عليها من واقع ممارسات الأسرة وتصرفات أفرادها.

لقد اقتصرت هذه الدراسة على عدد من الإسقاطات، ولم يقصد بها الإحاطة، فبإمكان الباحث أن يجمع غيرها من الإسقاطات التي تفسر تصرفاتهم وقراراتهم.

وتأتي أهمية هذه الدراسة في أنها تعين الباحث المنصف على فهم النظام الجاثم على بلاد الحرمين، وتفسير بعض الأحداث الغامضة المريبة للنظام، وتعين كذلك في استشراف المستقبل السياسي للبلاد ورسم الصورة المقبلة لها، ومحاولة الإعداد للواجب والمسؤولية التي ينبغي للحركة الإسلامية القيام بها.

ولا يقصد بهذه الدراسة التعرض لأشخاص آل سعود من حيث هم، ولا تتبع عوراتهم فهذا ليس من شأننا، ولولا وقوفهم في وجه الدعوة وتصديهم لكل محاولة إصلاح وعداوتهم وحربهم على الدعاة الأخيار، وأهم من ذلك إعراضهم عن تحكيم شرع الله وموالاتهم أعداء الله، لولا هذا لما اكتسبت هذه الدراسة أهمية.

ويستفاد من هذه الدراسة في الرد على الذين يمجدون آل سعود، و الرد على دعاوى الشرعية المزعومة لنظامهم، وقد سبق القرآن الكريم في هذا الشأن، فقد كشف أعداء الدعوة والإصلاح، فقال في أحدهم: "ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم"، فوصفه بأحقر الصفات البغيضة، وقال في وصف قوم من المنافقين "فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا"، حتى لا يتسرب الإعجاب إلى المؤمنين أو يظنون أن هذه الأموال وهؤلاء الأولاد سيمنعونهم من بأس الله إن جاءهم، وقال عنهم كذلك "وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة"، ثم فسر القرآن جزءاً من تصرفاتهم بقوله "يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم".

وحيث أن دعوتنا إصلاح وإنصاف فإن هذه الدراسة لا تشمل بداهة ذلك النفر المعدود من آل سعود والذين لا تزال فيهم بقية خير، بل هي فيمن تجسدت فيه تلك الإسقاطات والصفات، وهي على كل حال دراسة علمية تحليلية، ولذلك فإن هذه الدراسة مهمة لآل سعود أنفسهم ولمن يريد منهم أن ينتزع نفسه من هذه الطبائع والإسقاطات القميئة.

نسأل الله أن يطرح في هذا العمل النفع والبركة ويجعله من أسباب تمكين أهل الحق في بلاد الحرمين.

توطئة تاريخية

كيف تكونت الإسقاطات
يمكن علميا تحديد مرحلتين أو طورين تشكلت فيهما عدد من الإسقاطات النفسية في أبناء الأسرة السعودية.

المرحلة الأولى صاحبت تأسيس الدولة حيث نجح الملك عبدالعزيز في خطف المشروع وتحويله من مشروع ديني إلى مشروع عائلي، ثم نجح بعد ذلك في تهميش كل القوى التي ساعدته في إنشاء الدولة، وتفرد تفردا مطلقا بالسلطة وحول أسرته منذئذ إلى عرق متميز عن الآخرين، كما نجح عبد العزيز في إقناع أبناءه وأسرته أن والدهم "هو" إنما أسس الدولة بيمينه وجهده، ولذلك فهو يمتلك الدولة امتلاكا لأنه حازها بجهده حيازة، ومن ثم فإن عائلتة ترث هذا الامتلاك منه، ومن هنا ظهر الشعور بالامتلاك، والشعور بالتميز، وتفرع عن هذين الإسقاطين شعور أ عضاء الأسرة بالصلاحية المطلقة، وغلبة الجانب الشخصي على القرارات والتصرفات.

أما المرحلة الثانية فلربما يمكن تحديدها بوفاة الملك فيصل وسيطرة فهد والسديريين على الحكم والدولة وعلى شؤون الأسرة الحاكمة. ولقد صاحب سيطرة فهد المعروف بضعف الشخصية وعقدة النقص والتردد، تدفق المال إثر الطفرة النفطية في السبعينات والثمانينات الميلادية، وتعاظم الدور الأمريكي في العالم، ولقد أدت هذه العوامل إلى ظهور نوع جديد من الإسقاطات، حيث أدى ضعف شخصية فهد أمام العوامل الأخرى إلى الانبهار بالغرب، والشعور بالقزمية تجاه أمريكا، وإلى اعتبار المال صانعا للمعجزات، كما أدت شخصية فهد الضعيفة إلى تنامي الخلاف في العائلة وإلى اعتماد فهد على الرياء والكذب في تحسين صورة المملكة مما أوجد هوة شاسعة بين التطبيق والشعار المرفوع وأدى إلى أن يتحول ذلك إلى إسقاط نفسي.

لقد أدت هذه العوامل جميعا إلى أن يجتمع لدينا مجموعة من تلك الإسقاطات التي اســتـحقت هذه الدراســة، ولا شك أن من يزيد التأمـل يكتشـف مزيدا من الإسـقاطات في هذه العائلة المثيرة.



























الإسقاط الأول

الاعتقاد بأنهم يملكون الأرض
(حدود المملكة) ما عليها ومن عليها

يعتقد عامة أبناء الأسرة الحاكمة أن ملكهم "للمملكة" ليس حكما سياسيا في حدود القرار السياسي وإدارة البلاد، بل هو ملك شخصي بكل ما تعنيه الكلمة من امتلاك للأرض، وما تحتويه من كنوز وثروات، بل وامتلاك للشعب ذاته. ولقد نشأ هذا الاعتقاد في وقت مبكر مع بداية تأسيس الدولة، وذلك من خلال تسمية البلاد باسم الأسرة الحاكمة، أي "المملكة العربية السعودية"، والاسم لا يحمل أي دلالة وطنية أو قومية، فضلا عن أن يكون له أي بعد إسلامي.

ولو أن المسألة اقتصرت على هذا الأمر لهانت القضية، فمثلاً لا يعرف الكثير من الناس ـ خاصة من هم خارج المملكة ـ مصطلح "التابعية" الذي يستخدم بدلا عن مصطلح "الجنسية" أو "الهوية الشخصية"، فالتابعية يقصد بها تبعية حامل الوثيقة لآل سعود، فالناس تبع لهم تابعية شخصية كل بمفرده، وليس علاقة مواطنة تربط الفرد بالدولة ديناً ولغة ونظاماً وقانوناً وتاريخاً، وهو أمر متفرع عن الأول أي ملكية ما يقع في حدود ما يسمى الآن بالمملكة العربية السعودية لآل سعود.

ولا يخالج آل سعود أدنى شك في أن البلاد بما تحتويه في باطن أرضها، وما يدب فوق تلك الأرض ملك شخصي لهم ليس بحاجة إلى تبرير، لذلك فإنهم مرارا ما يرددون في مجالسهم ودون مواربة “أخذناها بالسيف الأملح”، أي أنهم حازوا المملكة بقوة السيف، فهي إذن حق مطلق لا ينازعهم عليه أحد.

ملكية الأرض:

هذا الشعور الذي تحول إلى عقيدة يفسر لماذا لا يمكن لأي “حامل للتابعية”، بل ولا حتى إدارة حكومية الحصول على أرض إلا بعد أن "تمنح" لأحد الأمراء الذي يقوم هو بدوره ببيعها على ذلك الشخص أو تلك الجهة، وهي بهذا الإجراء تكتسب "شرعية" انتقالها إلى مالكها مواطنا كان أو جهة حكومية، وهذه الترتيبات لا تختص بالأراضي داخل المدن أو على الشواطئ، بل حتى في مجاهل الصحراء، ولا تكاد توجد بقعة أرض في طول البلاد وعرضها إلا وهي مملوكة لأمير أو سيملكها أمير!.

هذا التفكير يفسر كذلك لماذا لأفراد الأسرة الحاكمة الحق في امتلاك ناقلات نفط بأكملها وبما تحمله؟، ولماذا لهم 40% (أو ربما 60%) من الناتج الإجمالي القومي؟. إن مثالا بسيطا يمكن أن يفسر إلى أي حد تجذر هذا الاعتقاد لدى آل سعود، جاءت إحدى الأميرات ومعها بعض خدمها إلى المطار لتطير من مكان إلى آخر من دون حجز سابق، فقيل لها أنه لا يوجد مقعد واحد شاغر فاستشاطت غضبا، وقالت للموظفين: "تمنعوننا عن طائراتنا يا أبناء الـ...".

الكثير من القصص الغريبة لا يمكن فهمها إلا من خلال استيعاب هذا النمط من التفكير لدى آل سعود، يتحدث الناس مثلا عن قصص أبطالها أبناء الملك عبد العزيز مثل الأمير مشعل الذي هدم مسجدا وأقام مكانه أسواقا تجارية، أو شقيق الملك عبدالعزيز الأمير عبدالله بن عبدالرحمن الذي بسط يده على مساحات شاسعة من الأراضي، وضرب فلاحا بسيطا حتى أغمي عليه لأنه تجرأ وسار في تلك الأرض. أما الأمير متعب بن عبد العزيز فإن نصف الرياض "ملك" له، واضطر الناس إلى البناء مسافة 40 كم عن وسط المدينة، لأن الأمير متعب لا يريد حتى بيعها، لأنها كما يقول “عزيزة عليه ولا يستطيع أن يفرط فيها”. أما الأمير سلطان الذي يسميه الناس "اللص"، فإنه قد"باع" للدولة أرضا بقيمة أحد عشر مليار ريال، وعندما قال وزير المالية أن الخزانة لا يوجد فيها هذا المبلغ قال: "لا مانع عندي أن تدفعوها لي على دفعات أي بالتقسيط"، فما كان من الوزراء في مجلس الوزراء إلا أن وقفوا يصفقون لوطنية الأمير سلطان لمدة عشر دقائق.

قد تبدو مثل هذه القصة غريبة، لكن الأغرب منها أن تعرف أن أحد الأمراء باع أرضا شاسعة لمجموعة من "حملة التابعية" وبعد أن قبض المال رفض تسليمها بحجة أنه لا يستطيع أن يتنازل عن أرضه. أما القصة الموغلة في الغرابة فهي قصة الأمير الذي دفعت له الدولة بلايين الريالات مقابل أرض سطا عليها، فطلب مبلغا أكثر وقال وهو جاد: "هل سرقت الأرض حتى أبيعها بهذه القيمة الرخيصة". الحقيقة التي قد تصعب على التصديق، هي أن أي "حامل تابعية" لديه مشكلة قضائية حول أرض لا يمكن أن يحلها إلا إذا وجد أحد الأمراء يدخل شريكا معه مناصفة في تلك الأرض، لذلك تجد "حملة التابعية" يتنقلون بين الأمراء بحثا عن العرض الأنسب أي الحصة الأقل من الأرض.

عقلية التملك هذه أو الملكية الشخصية للأرض وما عليها تبرز جليا في مفهوم "المكرمة الملكية"، فكل شيء تفعله الدولة من واجباتها تجاه المواطنين هو تفضل من الملك ومكرمة منّ بها على الناس، فإذا ما فتح مستشفى فتلك مكرمة، وإذا ما بنيت مدرسة فتلك مكرمة، بل إن العُطل والإجازات الدراسية إذا ما تم تمديدها بسبب أمر طارئ فذلك مكرمة، هل تريدون أكثر؟ تزيد الحكومة - بأمر الملك طبعا- أسعار رسوم الخدمات مثل الماء والكهرباء والوقود والهاتف، ثم بعد إرهاق كواهل الناس مدة يأمر بإعادتها إلى وضعها الأول فتضج وسائل الإعلام حول "المكرمة الملكية" التي أنعم بها الملك على "أبنائه"، وهكذا عجائب لا تنتهي!.

ورغم أن الناس من "حملة التابعية" بدأوا يتمردون على هذا النوع من التفكير ولو بصمت إلا أن آل سعود أنفسهم شيوخا وشبابا مازالوا يعيشون هذا التفكير، ولم يعيروا أي اهتمام لتنامي شعور الرفض لدى "حملة التابعية" ومطالبتهم بحقوقهم، على سبيل المثال قال الأمير سلمان مؤخرا لأحد المسؤولين الكبار الذي قدم استقالته من منصبه: "ليس برغبتك الشخصية تقدم استقالتك فنحن الذين نقرر متى تبقى ومتى تذهب".

إن همّ الأسرة مع الأسف منصبّ على كيف يبتلعون البقية الباقية من الأراضي وكيف يمتصون الحثالة التي بقيت في خزانة الدولة، بل إن شعورهم بامتلاك البلد بما فيه واشتداد التطاحن فيما بينهم حول الوطن "الفريسة" جعلهم يبتكرون أساليب "مافوية" في استغلال "ملكيتهم الخاصة" هذه، لقد أصبحوا يبيعون خطوط الهاتف، ويبيعون تأشيرات استقدام العمال الأجانب، ويبيعون وكالات الشركات، ويبيعون أذونات الاستيراد، بل ويبيعون الجنسيات "التابعيات" والجوازات.

إن عقلية "أرض أبونا وجدنا ... وأخذناها بالسيف الأملح" هي التي تنخر في جسد البلاد فسادا وسرقة واختلاسا وإهدارا للثروات، وهي التي تقف وراء القرارات "التاريخية" التي رهنت البلاد للهيمنة الأمريكية سياسيا واقتصاديا.. وحضاريا، وهي قبل ذلك كله تنخر في النظام المتهاوي الذي يأكلون باسمه ويحترفون الإفساد تحت مظلته.

من الوزير ودون:

قصة طريفة تجسد فيها هذا الإسقاط بشكل صارخ هي على شكل خطاب وجهه الأمير سعد بن فيصل بن عبدالعزيز آل سعود إلى مدير الاتصالات بمدينة الرياض بعد أن قطعت عنه الأصفار الدولية لستة هواتف لا يدفع تكاليفها كبقية آل سعود وحواشيهم، والمتأمل لصيغة الخطاب لا يسعه إلا أن يخرج بنفس الاستنتاج، شعور بامتلاك الأرض ومن عليها. ولاحظ تكرار الخطاب لعبارة من الوزير ودون لأن من مرحلة الوزير فدون يبدأ مستوى من هو خارج الأسرة فهؤلاء يحرم أن يتجرأوا على اتخاذ قرار بشأن "سموه" لأن الجهة المخولة باتخاذ القرار بشأن "سموه" هي جهة في الأسرة الحاكمة فقط، يقول الخطاب:











المملكة العربية السعودية

مكتب سعد الفيصل بن عبدالعزيز

سعادة مدير الاتصالات بمدينة الرياض

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد

أشير إلى خطاب صاحب السمو الملكي أمير منطقة الرياض برقم 4181/خ2 وتاريخ 13/2/1413هـ والخاص بإعادة الصفر المحلي والدولي لخطوط هواتفي الستة، والتي تم قطعها من قبل إدارتكم، عليه أفيدكم بما يلي:

أولا: لا يطرأ على فكر أي مسؤول منكم من الوزير ودون أن هذه الخطوط وتسهيلاتها فضل منكم، وإنما من الله ثم من ولي الأمر، ولا أتذكر أننا بايعنا أحدا منكم بولاية الأمر.

ثانيا: لا يملك أحد في وزارتكم من الوزير ودون صلاحية أو حق أو شجاعة قطع خطوط أو سحب أصفار من منزل سعد الفيصل بن عبدالعزيز في حضوره أو غيابه.

ثالثا: أعاهدكم بالله من الوزير ودون لأن تكررت مثل هذه الحادثة لو عن طريق الخطأ في المستقبل فلن يفلت المسؤول عن ذلك من يدي من الوزير ودون وكل يقف عند حده.

التوقيع:

سعد الفيصل.

17-2-1413هـ

صورة لكل من معالي وزير البرق والبريد والهاتف.

أصحاب السعادة الوكلاء ومدير الهاتف.

الإسقاط الثاني



الاستعلاء على الآخرين..

واحتقارهم.. واستغفال الشعب.

في هذا الفصل نتحدث عن إسقاط آخر من هذه الإسقاطات، وهو شعور آل سعود بالتميز كفئة خاصة عن الناس وانعكاس ذلك على تصنيفهم للناس. ينظر آل سعود إلى المجتمع على أنه طبقات ودرجات هرمية يأتون هم على قمتها، ولكل طبقة حقوق وعليها واجبات بقدر قربها أو بعدها عن طبقتهم، التي لها كل الحقوق وليس عليها أية واجبات، ففي المرتبة الأولى يأتي أبناء الملك عبدالعزيز ونسلهم، ثم يأتي بعدهم فروع أسرة آل سعود مثل الجلوي والمقرن والفرحان وغيرهم، ويأتي في المرتبة الثانية أخوالهم آل السديري، ويلي هؤلاء الأسر التي ترتبط معهم بنسب مثل آل الشيخ والرشيد وغيرهم، وهكذا دواليك، ثم تجيء بعد هؤلاء الأسر المتنفذة بحكم المسؤولية داخل الدولة أو بحكم الثراء والجاه كل حسب نفوذه، حتى نصل إلى الطبقة العريضة من عامة الشعب الذين يأتون في الدرك الأسفل حسب تصنيف آل سعود، أي بما يقابل طبقة المنبوذين عند الهندوس.

الأسرة فوق الكفاءة

بناء على هذا التقسيم يتملك أبناء الأسرة الأحقية في تولي المراكز والمناصب الحكومية العليا بغض النظر عن كفاءتهم، بل حتى لو كانت قدراتهم العقلية والذهنية متدنية، خذ مثلا نائب وزير الدفاع ونائب رئيس الحرس الوطني ونائب أمير الرياض وأمير تبوك وأمير القصيم السابق وغيرهم كثير، ولا يفسر هذا التصرف إلا شعورهم بالأحقية بسبب الاقتناع بالتفوق العرقي، ونتيجة لهذا الشعور فإنهم ينظرون بعين الاحتقار لعامة الناس الذين لم يرتبطوا معهم بقرابة أو نسب، لذلك فإن خالد الفيصل الذي يقول لأهل المنطقة الجنوبية "قرود على حيود" هو الذي قال في برنامج بريطاني اسمه "ما وراء درع الصحراء" أن الديمقراطية لا تصلح لشعب المملكة، كما أن سلطان بن سلمان قال في نفس البرنامج "أن الشعب يفخر بأن أسرة آل سعود تحكمه"!! ومن المعلوم أن أهل الجنوب الذين يحتقرهم خالد الفيصل هم من القبائل العربية العريقة.

هذا الشعور الاستعلائي واحتقار الناس، تفسره أيضا رسالة سعد الفيصل إلى إدارة الهاتف التي سبق الحديث عنها، ففي تلك الرسالة يهدد سعد الفيصل وزارة الهاتف بأكملها “من الوزير ودون” على حد تعبيره، ويفتخر بأن الذي حل مشكلته مع الهاتف هو كونه واحد من آل سعود، وأنه لا فضل لوزارة الهاتف، وما عليهم سوى الانصياع صاغرين.

تحية عسكرية لأطفال آل سعود
الشعور نفسه تجده في القطاعات العسكرية، حيث يجب على العسكري مهما علت رتبته أن يؤدي التحية العسكرية لأي فرد من الأسرة الحاكمة حتى لو كان طفلا!.

لقد درج آل سعود عموما على التميز عن الآخرين بطرق مختلفة، فمثلا لا يجوز لأحد أن يتزوج من بناتهم إلا إن كان من أبناء عدد محدود من الأسر التي اختاروا التزاوج معها، لذلك عندما أرادت إحدى بناتهم، وهي بنت الأمير محمد بن عبد العزيز أن تكسر هذا العرف بمحاولة الزواج من شخص من عائلة “الشاعر” التي ينتمي إليها وزير الإعلام، عوقبت بالإعدام هي وذلك الشاب الذي حاول الزواج بها. وهم يميزون أنفسهم بقصورهم الضخمة التي تعد مساحة الواحد منها بعشرات الآلاف من الأمتار المربعة، وبأنواع السيارات التي يقتنونها، يقول أحدهم لأحد "حملة التابعية" ممن لديه هاتف سيارة قبل أن ينتشر الهاتف النقال: "كل شيء نافستمونا عليه: البيوت والسيارات حتى التلفون".

وفي المعاملة والخدمات أيضا
إضافة إلى تمييزهم أنفسهم بالمظاهر المادية كالسيارات والبيوت، وازدراء الناس فإنهم يميزون أنفسهم كذلك بالمعاملة، فهم فوق النظام، بل إنهم يؤمنون بأن النظام لم يوضع لهم أصلا، فهم مثلا، يحق لهم الدخول في المستشفيات بأجنحة خاصة، وهم كذلك لا يفتشون في نقاط الحدود والمطارات، ولا يسري عليهم أيضا النظام الذي يحدد "لحملة التابعية" حدود التصرف في الأعمال التجارية مثل استقدام العمال والخدم والموظفين من الخارج، ومن الأمثلة الغريبة أن المواطن له حد معين لا يتجاوزه حينما يريد أن يحفر بئرا ارتوازيا، أما الأمير فلا حد عليه، فإن استطاع أن يخرق الأرض فذلك حقه، وهم أيضا لا يخضعون للقضاء حينما يقترفون جريمة أو مخالفة نظامية، ولا يحق لرجل الشرطة أو لأي مسئول مهما علت منزلته في الدولة أن يوقفهم فضلا عن أن يوقع بمن أخطأ منهم العقاب، لذلك فهم يعتقدون أنهم الطبقة التي تجري في عروقها الدماء المقدسة، أما بقية الشعب من "حملة التابعية" فهم "قرود على حيود" أو "جرابيع بر" أو "فلاليح".

الإسقاط الثالث

الشعور بالصلاحية المطلقة

في الدول التي ينتشر فيها الفساد السياسي والإداري وتسود فيها المحسوبية ربما يمارس كثير من أصحاب المناصب تجاوزات لمسؤولياتهم انطلاقا من السلطة التي تمنحها لهم مناصبهم، ويتوسعون في ذلك من خلال تلك السلطة أو المنصب، أما في المملكة فالوضع مختلف حيث تسود عقلية القبيلة لدى أفراد الأسرة الحاكمة وآل سعود، فرغم أنهم يسكنون المدن ويلبسون الحرير ويركبون "الكاديلاك" ويستخدمون المناديل الورقية إلا أن التسلط سلوكا وتفكيرا هو الذي يحركهم، وعقلية شيخ القبيلة وأبنائه هي المتحكمة فيهم، فالفرد من آل سعود لا يحتاج لمنصب سياسي حتى يقوم بتجاوز القانون في ظل الفساد المستشري من الملك وحتى أصغر مسؤول، حيث يكفي لأي فرد من آل سعود انتسابه للأسرة "الشريفة" حتى يتمتع بصلاحيات مطلقة. وأبناء الأسرة يعتقدون أن هذه الصلاحيات "حق" أصيل بحكم الولادة لهم وليست تجاوزا، لذلك ترى الرسائل المبعوثة من أبناء الأسرة الحاكمة لا تمر من خلال الطرق النظامية، بل يحملها الخادم في بلاط "سموه" إلى أكبر مسؤول مباشرة حاملة معها الأوامر والنواهي، فتفتح له الأبواب وتنتصب القامات التي طالما استنكفت أن ترفع بصرها لتنظر إلى وجه مواطن يستجدي حقه، وهذه الرسائل التي تكون أحيانا هاتفية وأحيانا يتولاها الخادم تستفتح عادة بكلمة "اعتمدوا".

نفوذ مع المنصب
الصلاحيات التي يمارسها أفراد آل سعود لا يحدها اختصاص، وقد يكون هذا من منطلق أنهم "يملكون الأرض ما عليها ومن عليها"، فسلطان مثلا الذي يسمونه وزير الدفاع له الحق أن يتدخل في جامعة الملك سعود أو أي جامعة أخرى فارضا عليها أن تقبل طلابا معينين، مع أنه لا ناقة له في التعليم ولا جمل، وهو نفسه لم يتمكن من إنهاء المرحلة الابتدائية!، أما سلمان أمير الرياض مثلا فهو الذي يعزل ويعين رؤساء الصحف وليس وزير الإعلام، و"مواهب" سلمان هذا متعددة، تجعله يتدخل في تفاصيل مسؤوليات وزارة الحج والأوقاف أو نشاط هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إنه أحيانا يوقف بعض الخطباء عن الخطابة أو يصدر تعاميم إلى المساجد بعدم سب أمريكا على المنابر دون الرجوع إلى الجهة المسؤولة عن المساجد في وزارة الأوقاف.

نفوذ دون منصب
وإذا كان سلطان وسلمان وغيرهما من أفراد الأسرة يستخدمون مناصبهم في مثل هذه التدخلات والتجاوزات، فإن الآخرين من أبناء الأسرة لا يشعرون بالحرج من ممارسة مثل هذه الصلاحيات دون الحاجة إلى منصب مكتفين فقط باسم أسرتهم "الشريفة"، عبد العزيز بن فهد ابن الملك مثلا يقوم بتعيين عميد كلية في جامعة الملك سعود، ويرفض آخر تم انتخابه من قبل أعضاء هيئة التدريس في الكلية، ثم ينعم على صاحبه أكثر فيعينه مديرا للجامعة نفسها، والأمير ليس بحاجة لأن يبرر عمله هذا فهو ابن الملك ومن آل سعود وكفى.

بمثل هذا الشعور يكتب أبناء الأسرة ويوجهون بأسمائهم خطابات أمر وتوجيه إلى الإدارات الحكومية وإلى الشركات الخاصة بترسية مشاريع معينة على جهة يريدونها، أو إيصال مائة خط هاتفي إلى قصر أحدهم، أو حفر آبار مياه في ذلك القصر أو تلك المزرعة، أو جعل الشارع المستقيم ينحرف حتى يمر محاذيا لسكن أحدهم العامر أو مخترقا ممتلكاته التي اكتسبها "بجهده"!!.

السلطات الثلاث في شخص واحد
على أساس من نفس هذا الشعور يعتقد آل سعود أن لهم الحق في إيقاع العقوبة ومباشرتها بأنفسهم تجاه كل من يخالف هواهم، ولأن صلاحياتهم ليس لها حد فإنه يمكن أن نفهم كيف يقدم الأمير سلمان أمير الرياض على إهانة شيخ طاعن في السن في مجلسه وأمام الناس لأنه جادله في قضية!، أو كيف يقدم الأمير نفسه على البصق في وجه أحد المثقفين وضربه بقدميه “الشريفتين”، لأن المواطن المثقف اعترض على مسألة طرحها الأمير، أو كيف يقوم أمير عسير خالد الفيصل بجلد أبناء المنطقة أمام ذويهم، لأنهم عكروا عليه حفلات سكره وعربدته، بل القضية الأبشع من هذا كله إقدام الأمير مشعل، ـ الذي هدم مسجدا وبنى على أنقاضه سوقا تجارياـ على الاعتداء على عالم جليل كفيف في سوق عام، وكاد الأمير أن يفتك هو وبعض زبانيته بالشيخ الفاضل لولا تدخل المواطنين.

الشعور بالصلاحية المطلقة تكرس وأصبح عقيدة لدى أبناء الأسرة الحاكمة، فالأمير يستطيع أن يُبقي شخصا ما في السجن المدة التي يريد بغض النظر إن كان صدر في حقه حكم قضائي أم لا، وأبرز مثال على ذلك ما يقوم به الأمير محمد بن فهد في المنطقة الشرقية حيث يسجن المواطنين على مزاجه الشخصي، وبالمقابل فإن الأمير يستطيع أن يمنع تنفيذ حكم القضاء الشرعي بأعتى المجرمين متى شاء ذلك، بل إن خال الفيصل تجاوز ذلك إلى سجن القضاة أنفسهم حين رفضوا توثيق صك بامتلاك أرض له، وهل يمكن أن يصدر هذا التصرف إلا من خلال ذلك الشعور.

على الشعب أن يقدر!

الأعجب من ذلك أن يتصور أحد أفراد آل سعود أن ممارسته لتلك الصلاحية حق طبيعي ثم يفترض أن الشعب من “حملة المتابعية” يقر كل الإقرار بتلك الصلاحية له بداهة!. وهذا يفسر لماذا يأمر سلطان "وزير الدفاع" وسائل الإعلام بتقديم الشكر له على تفضله بتعميد طائرات الإخلاء الجوي بنقل مريض أو مصاب، على اعتبار أن هذا الإعلان سيظهر للشعب كرم سلطان وفضله على هؤلاء الذين احتاجوا العلاج، مع أن تقدير حاجة المريض للعلاج والنقل الجوي قرار طبي صرف ليس للأمير فيه ناقة ولا جمل، والكلام نفسه يجري على "توجيهات" أحد أبناء الأسرة بقبول مريض معين في أحد المستشفيات التخصصية، هذا كله فضلا عن التعيينات والترقيات والتنقلات التي تعتبر العلاقة فيها مع أحد أبناء الأسرة العامل الذي يصنع الأعاجيب، لكن الأمر الأشد غرابة هو أن يباشر تلك الصلاحيات مدير أعمال الأمير أو خادمه أو أحد "أخوياه"، فتجد "المحيسن" الذي كان يعمل "قهوجيا" عند سلطان تحول بقدرة قادر لمدير أعماله، وحديثا صدر الأمر الملكي بترقيته للمرتبة الممتازة، وبالتالي له أن يقرر ـ بتفويض من سلطان ـ مصير كبار الضباط وميزانية وزارة الدفاع، وتجد "النويصر" الذي كان قهوجيا كذلك عند آل دغيثر في حائل قد تحول بقدرة قادر لرئيس الديوان الملكي، واستحوذ على حق القرار في شؤون الأمة ما بين حاضرها وباديها، وأصبح تحت تصرفه جزء كبير من مال الأمة ومقدراتها وأراضيها، والكلام ذاته ينطبق على البليهد أقوى شخصية في إمارة الرياض بعد سلمان.

إنه الإحساس بملكية الأرض بمن عليها وما عليها، والتي نشأ عنها نظرة الاحتقار للمواطن من "حملة التابعية" وعقدة الصلاحية المطلقة التي ترى أن الفرد من أبناء الأسرة هو القانون والقانون هو.

























الإسقاط الرابع

غلبة الموقف الشخصي

على التصرفات والعلاقات



تبني الدول سياساتها الداخلية والخارجية عموما على استراتيجيات وموازنات بين المصالح والمفاسد وعلى تخطيط بعيد المدى، وتتنازل عن كثير من المواقف الشخصية للمسؤولين فيها في سبيل تحقيق الخطط والاستراتيجيات، أما الحال مع آل سعود فالأمر مختلف، فالسياسة العامة للدولة والقرارات الداخلية والخارجية والعلاقات داخل مجتمع الدولة ومع الأمم الأخرى تحددها العوامل الشخصية لصانعي القرار داخل الأسرة، وقد أصبحت هذه الحقيقة سمة واضحة اصطبغت بها سياسة البلاد، ثم تكرست وصارت منهجا متعمدا مع استلام فهد أمور البلاد، ويؤكد هذه الحقيقة أن البلد لا يوجد فيه مركز واحد للتخطيط الاستراتيجي، ناهيك أن يكون هناك مجلس وطني يضع دراسات، أو يتخذ قرارات حول القضايا الكبرى والمصيرية للبلاد.

قرار تاريخي في بضع دقائق

ومثّلت أزمة الخليج علامة فارقة على هذا الصعيد، حيث توج هذا النهج بقرار الملك فهد بالموافقة على نزول نصف مليون جندي أمريكي على أرض المملكة، دون أن يكون ذلك القرار مبنيا على أي دراسة استراتيجية تضع لقرار خطير مثل ذلك القرار ضوابط تحول دون سوء استخدامه، بل إن ذلك القرار لم يحتج من فهد لأكثر من بضع دقائق هي مدة لقائه بـ "ديك تشيني" وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، كما يقول مؤلف كتاب "القادة" بوب وودوارد.

درجة الحرارة في بغداد ممنوعة
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أخذت المملكة موقفا متشنجا مع كل من لم يؤيد قرار الملك فهد باستقدام القوات الأمريكية، حتى ولو كان أدان الاحتلال العراقي للكويت، وقد تجاهلت المملكة بهذه المواقف كل الأبعاد السياسية ومصالح البلاد على المستوى بعيد المدى، وقد كان من نتائج هذه التصرفات التي تنطلق من موقف شخصي، أن خلقت الدولة لنفسها أعداءا يحيطون بها من كل جانب، ليس على مستوى الحكومات فقط، بل على مستوى الشعوب. ووصل العامل الشخصي إلى أقصى مدى له في رسم السياسة حينما توقفت وسائل الإعلام الرسمية عن إذاعة درجة حرارة عواصم الدول العربية "المتهمة" بتأييد العراق!، وصار الملك يبرر تماديه في إطاعة الأوامر الأمريكية في إدارة الأزمة، بتكرار أن صدام كان بمثابة صديق له، لكنه خانه وانقلب عليه!.

ولم يكن الملك فهد وحده هو الذي يعبر عن هيمنة العامل الشخصي على قرارات الأسرة، فهذا عبدالرحمن نائب وزير الدفاع يقول معبرا عن أسفه لتصرف صدام ومبررا عدم الخروج على الأهداف الأمريكية في تدمير العراق بلدا وشعبا: "أعطينا صدام ضد إيران كل شيء، حتى البيبسي كولا"، أما فيصل بن فهد فقد صب جام غضبه على صديقه عدي صدام حسين، وقال عنه في إحدى المناسبات أن ذوقه في اختيار ألوان السيارات رديء!!

بوش صديقنا

في الانتخابات الأمريكية برز العامل الشخصي أيضا وبشكل كبير، حيث اندفعت المملكة بكل قوة وراء جورج بوش، ووضعت ثقلها الاقتصادي وراءه، فأعطت أمريكا نفطا بأسعار رخيصة جدا حتى ينتعش الاقتصاد الأمريكي، وتتحسن فرصة بوش بالفوز بالرئاسة الأمريكية، وأغرقت السوق بفائض نفطي لتنخفض أسعار النفط الأخرى، وليتحسن التبادل التجاري بين أمريكا وحلفائها الغربيين، وتبرعت بجزء كبير من تكاليف حملة الحزب الجمهوري الانتخابية، وكان بندر بن سلطان السفير في واشنطن في مقدمة الحضور في مؤتمر الحزب الجمهوري حتى بدا وكأنه أحد أعضائه المهمين!، على المستوى المحلي تبنت وسائل الإعلام السعودي نشر استطلاعات الرأي التي تبين تقلص الفارق بين بوش وكلينتون، وتجاهلت التحليلات التي تؤكد تفوق فرص كلينتون بالفوز، وظلت السياسة تجاه الانتخابات الأمريكية على هذا النحو إلى آخر لحظة، حتى أن صحافة آل سعود المحلية ذكرت في عناوين كبيرة أن بوش حقق فوزا ساحقا على كلينتون، حيث صادف صدورها في بداية الاقتراع، ولم يكن ذلك الفوز سوى نتائج اقتراع هامشي تم في قرية من قرى ولاية "نيوهامبشر"، ثم توج هذا الهوس بمصير بوش بنقل وقائع الانتخابات حية على الهواء في التلفزيون.

ولاشك أن هذا التصرف يمثل إلى جانب العامل الشخصي أقصى درجات الغباء السياسي، إذ كان بوسع المملكة أن تدعم بوش على افتراض أن هذا صحيح أو مطلوب، لكن ليس بهذا الشكل المكشوف الذي سيحرجها في المستقبل مع الرئيس الآخر وأقطاب حزبه، خاصة وأن حظ كلينتون كان كبيرا جدا منذ بداية الحملة الانتخابية وإلى آخر أيامها، ولعل هذا الاندفاع وراء بوش يمكن أن نجد له تفسيرا في العقلية التي يفكر بها أفراد الأسرة، حيث اعتقدوا أن القرار في أمريكا مثل القرار في المملكة يقوم على شخص أو على أسرة!، إذ لا يمكن لهم أن يتصوروا وقد عاشوا كل هذه الإسقاطات النفسية أن أمريكا بلد تحكمه المؤسسات، وأن السياسة لا يصنعها فرد يجيء ويذهب كما هو حال السعودية مثلا.

ولا يبالغ المرء إذا قال إن جل قرارات آل سعود أو كلها مبعثها المواقف الشخصية، فالوزراء يعينون ويقالون لأسباب شخصية تخص الملك أو كبار رجال الأسرة، وبنفس الطريقة يعين أهل الإفتاء والقضاء ووكلاء الوزارات والمدراء العامون، أما تحديد الميزانية وحصص كل مرفق أو وزارة من المال العام فيقوم أيضا على أسباب شخصية وعلى طبيعة العلاقات مع الملك أو مع وزير المالية .

وعداء الصحوة كذلك
ومن الغرائب أيضا أن معظم مواقف الملك وإخوانه تجاه المصلحين ذات بواعث شخصية، فالشيخان سلمان وسفر مكروهان لأن لهما من الشعبية والمحبة في قلوب الناس ما يحسدان عليه، بل إن كثيرا من تصرفات "الدولة" تجاه لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية كانت بسبب البواعث الشخصية، وكان الملك مثلا قد تحمل بعضا مما تقوم به "اللجنة" من فضح سوء الإدارة في الدولة والدكتاتورية والتبذير، لكنه استشاط غضبا حين ظهر في مطبوعات اللجنة بعض التفاصيل عن ابنه "وقرة عينه" عبد العزيز وبقية أبنائه، وكذا جن جنون نايف حين فضحت اللجنة تحكم زوجته به وتحكمها بوزارة الداخلية من بعده، وكان قد تحمل قبل ذلك كثيرا من حملات "اللجنة"، بل إن بعض المطلعين يذكر أن قتل الحضيف ليس إلا انتقاما شخصيا من قبل نايف، ذلك أن الحضيف سبق أن أحرجه في لقاء شبه خاص، وأثبت له بالوثائق حماية أجهزة الأمن للفساد والمنكرات وأحرجه أمام بعض جلسائه.

من أجل قريبة الملك

ومن قصص "شخصنة" السياسة المخزية يمكن تذكر ما حصل للملك فهد قبل سنوات حين فوجئ الشعب بوزير الإعلام في التلفاز يتلو توجيها من الملك للأطباء الاستشاريين بضرورة التواجد في غرف الإسعاف وتغطية الطوارئ طوال الوقت، وهو أمر شاذ وغير مقبول طبيا ولا إداريا ولا ماليا، وتبين أن السبب هو أن طفلة عزيزة على الملك احتاجت خدمة طبية طارئة وعندما وصلت المستشفى التخصصي لم يحضر الاستشاري، بل باشر علاجها عدد من الأخصائيين، كما هو النظام في كل مستشفيات العالم، لكن الملك "الفهمان" لم يتمكن من استيعاب ذلك النظام، وأصدر توجيهاته "الشريفة" للاستشاريين للقيام بأداء واجبهم "المقدس" في غرف الطوارئ وطوال الوقت ليلا أو نهارا.











الإسقاط الخامس

الشعور بالنقص تجاه الغرب

الكبرياء والتعالي الذان يتعامل بهما آل سعود مع عامة الشعب، ومع صفوته من علماء ومثقفين ومفكرين، يوازيهما صنف آخر من التعامل مع أصحاب الدماء الزرقاء، ففي الوقت الذي يمارس فيه آل سعود العناد والصلف الجاهلي برفضهم إطلاق سراح العلماء إلا باسترحام وكأنهم فراعنة، فإنهم لا يتورعون عن ممارسة كل أشكال العبودية والذل والتبعية للغرب وخاصة الأسياد الأمريكان.

فهد وإخوانه أكثر
مظاهر الشعور بالعبودية والدونية تجاه العنصر الأبيض على مستوى الدولة وعلى مستوى أفراد الأسرة من الملك “ودون” كثيرة كثيرة، ولا يكاد المرء يحصيها، ومادام الحديث عن مظاهر نفسية، فإن تلك العبودية تجاوزت التفكير الخارجي، وتحولت إلى اللاشعور خاصة في مدرسة فهد وآل السديرية، وأصبحت هذه المظاهر من المسلمات في اتخاذ القرارات وبناء العلاقات، وأصبح تقديس الغرب وتعظيمه من البديهيات التي لا يمكن التشكيك فيها.

هيام استراتيجي
لقد صار من فضول القول الحديث عن دوران الحكم السعودي في الفلك الغربي وخاصة الأمريكي، وتحكم الغرب وخاصة الأمريكان ببرنامج البلد وسياستها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية، ويعتبر آل سعود من خلال إسقاطهم النفسي ومن خلال نظرة التعظيم للأمريكان والغرب أن الاحتماء بالغرب ينبغي الافتخار به، ولذا فقد كان قرار الملك فهد باستدعاء القوات غاية الحكمة والتوفيق!، هذا في المجال العسكري، أما في المجال الاقتصادي فلا يشعر آل سعود بغضاضة أن يضعوا أموال المسلمين الضخمة في أيدي الغرب وأمريكا على وجه الخصوص اعتقادا منهم أن هؤلاء يستحقون تلك الأموال لعظمتهم وجلالهم، والغرب المحترم من حقه أن يمتلك حتى النفط الذي لم يستخرج بعد!.

في المجال الاجتماعي والتربوي والتنموي فإن الغرب هو "الفهمان"، وهو القدوة وله كل الحق أن يضع خططنا التربوية والاجتماعية، ولعل من المفيد أن يُذكر أن الخطوط العريضة للخطط الخمسية من إعداد جامعة هارفرد في أمريكا. وهذه تبعية طبيعية ذاتية في كل شيء لا تحتاج إلى التكلف.

المصيبة أن مظاهر الصغار والدونية هذه لا تتوقف على مجرد التبعية، بل تتحول إلى عقدة بالشعور بالنقص تجاه الأبيض ومحاولة إرضاءه بأي ثمن، وينعكس هذا الشعور على تصرف أفراد آل سعود والملك على وجه الخصوص، ويتجلى هذا الشعور بشكل واضح تجاه الدول الغربية بل وحتى تجاه الأفراد الغربيين.

من البعير إلى الكاديلاك
يمثل مشروع "الرياض بين الأمس واليوم" الذي أقيم في لندن وعدة عواصم أوروبية وعدة مدن أمريكية، نموذجا صارخا لذلك الإسقاط النفسي، وكان المعرض "الفضيحة" تعبيرا داخليا من قبل فهد وسلمان بالذات عن شعورهم بالنقص تجاه الغرب والسعي لإقناع الغرب أننا والله ثم والله تطورنا من البعير إلى الكاديلاك ومن الخيمة إلى العمارة، وإننا مثلكم أيها الغربيون في المأكل والملبس والمشرب، وهم حين يقومون بهذا العمل لا يعلمون بسبب سذاجتهم وسطحيتهم في التفكير أن الغربي يحتقر من يتصرف بهذا الأسلوب، وينظر إليه نظرة المستميت لتحسين صورته القبيحة.

إرضاء إمام زمانه
يمثل سعي الملك فهد شخصيا لتمويل عمليات المخابرات الأمريكية بعد أن عجزت عن تمويلها من داخل أمريكا بسبب منع الكونجرس لذلك نموذجا صارخا آخر على هذه الدونية، فالملك فهد لا يعرف عن "الكونترا" ولا "نيكاراغوا" شيئا، ولا يعلم أين تقع على الخريطة، وربما لا يستطيع حتى لفظ هذه الكلمات، ولكنه يعتقد أنه يبث الفرح والسعادة في قلب ريغان وأوليفرنورث وآخرين إذا قدم تلك الملايين لتمويل تلك العمليات، فالتفسير ليس له علاقة بسياسة دولتين ولا علاقة له إلا بعقدة فهد تجاه "إمام" زمانه ريجان!، وهو كذلك يعكس العامل النفسي في اتخاذ جميع القرارات لدى آل سعود.

والرواتب كذلك
شكل آخر من أشكال هذا الإسقاط النفسي هو طريقة التعامل مع المستقدمين للعمل في المملكة، فإذا كان المستقدم من الهند أو من سيريلانكا أو ما شابهها من الدول الفقيرة فهو في رتبة أعلى قليلا من الحيوان، وأما إذا كان من ذوي الدم الأزرق فهو من النبلاء الأشراف، سواء في المعاملة المالية أو في المعاملة القانونية والأخلاقية، والغربي يميز حتى باسم وظيفته، وحتى لو كان حمالا فهو يصبح "خبير أحمال" و"خبير نقل"، وكذا التمييز في الرواتب والمستحقات فلا يمكن بحال أن يحصل الهندي والمصري، بل و"السعودي" على عُشر راتب الأمريكي الذي يحمل نفس المؤهلات والخبرة، ومن المضحكات المبكيات أن سلم الرواتب في الشركات الكبيرة والمستشفيات والمؤسسات التابعة للدولة تذكر فيه هذه الأمور بشكل مكشوف، ففي أحد المستشفيات التخصصية مثلا تجد ترتيب السلم مكتوبا بالشكل التالي:

أمريكي "الأصل والمنشأ" أعلى الرواتب، ثم دونه الأمريكي من أصل شرقي، ثم دونه الأوروبي، ثم دونه المتجنس بالجنسية الأوروبية، ثم دونه العربي والفلبيني، ثم دونه الهندي والسيريلانكي، وهذه ليست مبالغة أو تكلف في التوصيف، بل هي حقيقة تجدها في الحاسب الآلي لذلك المستشفى. هذا التصنيف الترابي للبشر بناء على لون بشرتهم وجنسهم ومكان ولادتهم لم يعد مقبولاً في عالم اليوم، وهو قبل ذلك مرذول في ديننا الحنيف، غير أن الانبهار والذوبان في الآخر الغربي ليس لهما حدود في مدرسة آل سعود. ومن المفارقات التي يجب أن تكون مخجلة ومخزية لهذه العائلة أن الدول والجنسيات التي تصنف عادة في أدنى سلم "الاحترام والرواتب"، مثل الهند وسيرلانكا وغيرها، هي في وضع تنموي أفضل من السعودية من جهة توافر الخدمات الأساسية لأوسع شريحة ممكنة من السكان، وذلك بحسب تقارير الأمم المتحدة التي أشرنا إليها سابقا.



من أجل العيون الزرقاء

يتجلى إسقاط الشعور بالنقص تجاه الغرب في العديد من الأحيان بشكل كاريكاتوري، وذلك حين تطالعك الصحف فجأة بأن الملك يتبرع بتكاليف عملية سرطان ميئوس منها لطفلة في بريطانيا أو أمريكا، ويعتقد "المسكين" أن ذلك العمل هو الذي سيقنع هذا العنصر البشري "الرفيع" بإنسانية فهد وأرومة آل سعود، وعادة ما يضخم الملك مثل هذه القضايا ويجعلها تبرعا رسميا من خلال سفارة خادم الحرمين، ويسخر لإعلانها كل أجهزة الإعلام التي تحت يده لتحقيق مراده في إرضاء الأسياد، غير أن النتيجة هي مزيد من الاحتقار والاستهزاء من قبل العنصر الغربي لهذا المبذر الذي لا يعرف أن يذهب بالمال الفائض، ومن ثم فهو سفيه لا يستحق أن تكون هذه الخيرات بين يديه على حد قول أجهزة الإعلام الغربية، خاصة وأن العمليات الجراحية التي يتبرع في الإنفاق عليها تكون من الحالات غير المرجو شفائها بالمرة، وهي لهذا السبب لا تجد تمويلا حكوميا من قبل وزارات الصحة الغربية، التي تعتقد بأنه من الأولى صرف هذه الكميات من الأموال على جوانب صحية تستفيد منها أعداد كبيرة بدل تبذيرها في عمليات ميئوس منها، ومن هذه النقطة بالذات يأتي الازدراء الشديد "لمكرمات" فهد العربية!!

تزكية أمريكية
في بعض الأحيان يتجلى هذا الإسقاط النفسي على شكل اعتراف صريح من قبل أحد المصابين بعقدة النقص هذه، ولو تأملت أحاديث الملك فهد بالذات لرأيت هذه الظاهرة ماثلة، ففي حديث مطول له ألقاه قبل عام تقريبا، تحدث عن الغرب وعن أمريكا بالذات حديث المعظم المقدس، واعتبر زيارة أي رئيس أمريكي للمملكة وله شخصيا أعظم سجل شرف يمكن أن يظفر به، واعتبر ثناء جورج بوش على "الأنظمة الثلاثة" تزكية لا تقدر بثمن لتلك الخطوة التي قدمها.

في دهاليز القرار
يبرز هذا الإسقاط في واحدة من أهم تجلياته في موضوع "المستشارين"، حيث نجد هنا أرتالا من الغربيين، الذين تهفو لهم قلوب آل سعود، يتكدسون في دهاليز صناعة القرار السياسي والأمني والعسكري وحتى الإداري والتكنوقراطي، إذ لا يجد آل سعود الراحة والاطمئنان إلا بالإنصات المطبق للاستشارات "القيمة" التي يدلون بها، ويلقون بعرض الحائط دعاوى أهل الخير والإصلاح والمشفقين على البلد من الانهيار التام. يتمدد "المستشارون" الغربيون على مساحة واسعة ويقتحمون إضافة لما ذكرناه ساحة الإعلام والعلاقات العامة والدولية، ويتم ذلك الاختراق بسبب الهشاشة النفسية وعقد النقص التي يعاني منها أمراء وكبراء آل سعود، وبسبب النقص المريع في المناعة الحضارية مما حولهم إلى كائنات مبهورة بهذا الغرب الذي يجري على يديه "السحر"، كيف لا وقد رأوا ما رأوا في حرب الخليج الثانية !!

العقار
يحسن أن نشير أيضا إلى مظهر آخر من مظاهر عقدة النقص تجاه الغرب وهي ظاهرة التملك العقاري، وكذا السياحة التي تميز أمراء آل سعود في الغرب، إذ ليس أعذب على مسامع معظمهم من أن يقال إن له قصرا في "جنيف" أو "كان" أو "لندن" أو "لاس فيجاس" أو غيرها، ولعل ملف سياحة وإجازات الأمراء في الغرب وحده تضيق به المجلدات العظام، فالغرب هو مربط الخيل وهو الهوى والملاذ وحيث راحة البال والتخلص من وجع الرأس الذي يسببه "عيال" الشعب المزعجين الذين ليسوا سوى "قرود على حيود" في نظر آل سعود.

أنا أخدمكم أكثر
حين تصارعت أجنحة آل سعود طفق كل منهم يسابق الآخر في إقناع الأمريكان أنه الأكثر عبودية، فالملك فهد مثلا يتباكى عند السفير الأمريكي ويقول له بالحرف الواحد: "كل رجائي منكم أيها الأمريكان أن أموت وأنا ملك"، وسلطان يتعهد لهم بجعل ميزانية الدفاع تحت تصرفهم لعشر سنين قادمة، وسلمان يشغل كل عملائه عندهم ليقنعهم أنه هو الذي يناسب سياستهم، وبندر يتعهد لهم بأنه هو الذي يضمن التطبيع مع اليهود، وتصل العبودية والطاعة إلى درجة مكشوفة حين تعمم وزارة الخارجية على الشركات والمؤسسات التجارية وجوب إيقاف مقاطعة إسرائيل من "تاريخ كذا"، لأن الأمريكان حددوا ذلك التاريخ نهاية للمقاطعة.

وعلى خلاف الإسقاطات الأخرى التي سبق الحديث عنها فإن هذا الإسقاط ليس عاما على كبار آل سعود، بل ربما تميز به فهد وإخوانه أكثر من غيرهم، وتدل الدلائل على أن نماذج أخرى من العائلة من أمثال الملك فيصل لم يكونوا يعانون من هذه الظاهرة، بل كان لديهم من الثقة بالنفس ما أبعدهم عن ذلك الإسقاط النفسي.

الشعب ليس كذلك
من ناحية أخرى لا يمكن اعتبار هذه الظاهرة أمتدادا طبيعيا للواقع الانهزامي للمسلمين في هذا العصر، فلقد أثبت أهل الجزيرة خاصة في مطلع تأسيس هذه الدولة أنهم أكثر الناس حذرا في التعامل مع الغربيين، وأشدهم استعدادا لاعتبارهم نموذجا للشرك والكفر الذي يجب أن يعادى، ورغم فقر الناس ومعاناتهم وضعفهم في تلك الأزمنة، فقد كانوا أصحاب أنوف شامخة وعزة سامقة أمام كل الدماء الزرقاء التي جلبها عبدالعزيز لصحراء الجزيرة، والأهم من ذلك أن الأنفة والندية يجب أن تتوفر في القيادة السياسية أيا كانت وخلال تعاملها مع الآخرين، خاصة الذين ينظرون لها ولمجتمعاتها نظرة دونية واحتقار.

إن الأولى لمن يحب العبودية لنفسه والمذلة والمهانة لشخصيته أن تكتمل فيه صورة العبودية ولن يتمكن آل سعود إلى الأبد من الجمع بين الجبروت والاستعلاء من جهة والصغار والعبودية من جهة أخرى، ولا نحسبهم إلا في طريقهم إلى الصغار والعبودية الكاملة، ولن يمضي زمن حتى يحتقرهم الشعب، ويستخف بهم كما استخف بهم الغرب.







الإسقاط السادس

الشك هو الأساس



من المعلوم تاريخيا أن ما يسمى بالدولة السعودية الثانية التي تكونت في القرن التاسع عشر الهجري شهدت صراعا مريرا بين المتنافسين من آل سعود، تسبب في انهيار الدولة سريعا بعد أن حرمها من الاستقرار.

تعامل غير بناء
واليوم يعيش آل عبدالعزيز هاجس هذه الخلافات إلى حد كبير، إلا أن تعاملهم مع هذا الهاجس تعامل غير بناء، إذ لا يبدو أنهم تعلموا الدرس من سقوط دولة أجدادهم الغابرة، ولذلك لا تراهم يسعون لمنع تعاظم الخلاف بين أجنحة العائلة، حتى لو كان سيؤدي إلى انهيار الدولة، إنهم يعيشون الهاجس في حالة من السلبية القاتلة، حتى باتوا يعانون معاناة كبيرة من الشك في بعضهم البعض إلى أن انعدمت الثقة بينهم، ولذلك فهم لا تشغلهم قضية منع تدهور الخلاف، وإنما استحوذ عليهم الاعتقاد بتآمر بعضهم ضد البعض الآخر، والشعور بضرورة أن يقطع كل منهم الطريق على الآخر لإحباط مؤامراته.

لم تكن هذه الشكوك مجرد خلافات تحصل في العائلة كما حصل في كثير من العوائل الحاكمة في العالم، لكنها تحولت في آل سعود إلى إسقاط نفسي، بمعنى أنها أصبحت تنعكس على تصرفاتهم وقراراتهم بشكل روتيني، فإما أن يترتب عليها تصرف مفتعل بقصد إزالة الشك، أو تصرف مفتعل للتخويف والتنكيل والإحراج، أو تصرف مفتعل آخر للإشعار بالوجود والنفوذ والقدرة على المنافسة.

تاريخ
بدأت الخلافات بين آل عبدالعزيز منذ أن توفي والدهم، وتولى سعود الحكم، وتطورت بشكل كبير مع نشاط مجموعة الأمراء الأحرار، ثم وصلت ذروتها في التنافس بين فيصل وسعود إلى أن كسب فيصل الجولة. لكن تلك الخلافات رغم قوتها وخطورتها لم تكن إسقاطا نفسيا، بل كانت واقعا مباشرا ترتبت عليه أحداث مباشرة ونتائج سياسية منظورة، وبعد عزل سعود تمكن فيصل بفضل قوة شخصيته وهيمنته على مقاليد الأمور من تحجيم الآخرين وتحديد دورهم السياسي، وحاول أن يضبط الأسرة بشكل تام في تلك الفترة. بمعنى آخر، كانت الخلافات موجودة، ولكنها لم تكن منظورة ولم تترتب عليها نتائج معينة.

تكتلات
وبعد وفاة فيصل تنامى الخلاف وبرزت التكتلات واتضح التنافس على النفوذ داخل الأسرة، وساعد ضعف شخصية فهد وتردده على ترسخ الخلاف واتخاذه وضعا خاصا.

أول علامات هذا الإسقاط حرص أعضاء الأسرة على تكوين التكتلات التي يظنون أنها تحمي بعضهم من البعض الآخر، فأبناء السديرية حرصوا منذ زمن على التكتل حول بعضهم وحماية بعضهم ضد التكتل الآخر الذي اجتمع منتسبوه حول عبدالله، ويحاول كل من هذين التكتلين استقطاب بقية أعضاء الأسرة والاستئثار بدعمهم، فقد استطاع سلطان كسب خالد الفيصل، واستطاع سلمان كسب آخرين من أطراف الأسرة، بينما نجح تكتل عبدالله في كسب متعب ومشعل وبندر وبقية أبناء فيصل وآخرين من أبناء الأسرة، إلا أن الأمر لا يقتصر على هذين التكتلين، بل قد تتكون تكتلات صغيرة داخل التكتلين الكبيرين لمزيد من الحماية، وفي محاولة يائسة لاستعادة الطمأنينة، فسلطان مثلا يحاول أن يستميل نايف ضد سلمان، وسلمان يستميل الملك ضد نايف وسلطان، وهكذا يعيش الجميع حياة الصراع والمؤامرة بشكل مستمر.

تجسس
يتمثل شعور الشك بمظهر آخر غير معروف لدى كثير من الناس، وهو انتشار ظاهرة التجسس بين الإخوة واختراق كل منهم للآخر، حيث يعتقد أن لكل من الملك وعبدالله وسلطان ونايف وسلمان جهاز تجسس مستقل مكلف بالتجسس على الإخوة الآخرين بهدف التأكد من خلو المؤامرات ضد بعضهم، وفي بعض الأحيان بهدف توجيه الطرف الآخر دون شعوره، ويبدو أن أنجح الجميع في ذلك هو سلمان الذي استطاع أن يخترق معظم إخوانه ببعض الشخصيات التي زرعها في أماكن حساسة قريبا منهم، فسلمان له رجاله في الديوان الملكي، وله رجاله في الحرس الوطني، وله رجاله في وزارة الدفاع، وله رجاله في وزارة الداخلية، ولذلك فهو الوحيد القادر على التأثير على الجميع بشكل غير مباشر ودون إدراك منهم، ورغم أن أسماء الشخصيات التي يستخدمها سلمان معروفة، فإنه لا يفضل ذكرها لأن إخوانه يثقون بتلك الشخصيات لدرجة أنهم لن يصدقوا تبعيتهم لسلمان.

أنا المقصود
ومن المظاهر الأخرى لهذا الإسقاط - والتي تدل بشكل صارخ على أن تلك المشكلة قد تحولت فعلا إلى مرض نفسي- اعتقاد كل واحد منهم أن أي تصرف يصدر عن منافسه فإنه هو المقصود به، بمعنى أن أي حدث يقصد به أحدهم ولا يعرف فاعله ينسب للطرف الآخر، ولا بأس أن نورد هنا قصة طريفة لسلطان لم تشتهر بين الناس، ومفادها أن سلطان كان متجها إلى مكتبه في الوزارة، وقبل أن يصل المكتب هوجم المكتب من قبل رجل ينتمي لأحد القبائل، علم سلطان بالحادث قبل أن يصل، فلم يكمل طريقه إلى المكتب وتوجه فورا إلى أخيه عبدالله يتهمه بتدبير محاولة لاغتياله، تبين بعد ذلك أن عبدالله لم يكن يعلم شيئا عن القصة، واتضح بعد التحقيق أن المهاجم كان يستهدف أحد أعضاء مكتب سلطان لثأر شخصي بينهما، وتأكد أن هجومه على المكتب لا علاقة له بسلطان.

ومن الأمثلة على ذلك أيضا أن سلمان حين أرسل ابنه فيصل للدراسة في أمريكا قبل عامين تقريبا، فسر بندر بن سلطان ووالده تلك الخطوة بأن هدفها التجسس على بندر ونشاطاته وجمع المعلومات حول مدى نجاحه في تسويق نفسه ووالده لدى الأمريكان.

وحديثا حين انتشر شريط الفيديو الذي ظهر فيه الوليد بن طلال في وضع غير جيد، اتهم الوليد سلمان بن عبد العزيز فورا بدبلجة الصور من أجل إسقاط شخصيته، وما ذلك إلا بسبب الخلاف المستعر بينهما.

التكلف والتمثيل
يتخذ هذا الإسقاط مظهرا آخر هو المراعاة الزائدة المتكلفة للأطراف الأخرى خوفا من أن تفسر عدم المراعاة بالكيد والترصد، ومن أشكال المراعاة الإغداق في الصرف على التكتلات الأخرى من قبل الملك بطريقة تثير حسد الأطراف القريبة، فالملك مثلا يوجه أوامره إلى وزير المالية بعدم رفض أي طلب من الأمير عبدالله حتى لا يفسر رفض الطلب بكيد لعبدالله، وفي بعض الأحيان يبالغ الملك في إرضاء أحد أعضاء التكتلات الأخرى، فيأمر بترسية مشروع لحسابه أو مناقصة لشركته، فيثور فرع آخر من العائلة غضبا على ذلك فيرضيه بمناقصة أو مشروع، وهكذا، ولا تكاد السلسلة تنتهي، ولا تقتصر المراعاة على النواحي المالية بل تجدها تمارس في النواحي الأخرى، فحق منح الجنسية أو الجواز السعودي يعطى بكرم وتساهل لأطراف خارج تجمع السديرية، وكذا الحال مع توزيع المقاعد في الكليات الأمنية والعسكرية.

المراعاة
كما أن تعيينات الوزراء وكبار المسؤولين والقضاة هي الأخرى أشكال من التعبير عن هذا الإسقاط النفسي، فإذا قرر الملك تعيين أي مسؤول فإن الهاجس الأول الذي يعرض له هو كيف يرضي كل أطراف الأسرة في ذلك التعيين، ولذلك فعندما قرر آل سعود أن يمضوا قدما بالتعديل الوزاري الأخير شكلوا لجنة تمثل كل مراكز القوي فيهم حتى لا يقال إن أحدهم قد حظي بفرصة أكثر من الآخر، ويتمثل الإسقاط كذلك بشكل معاكس حيث يتجنب آل سعود طلب عزل أحد من المسؤولين إذا كان محسوبا على أحد التكتلات فضلا عن أن يعزلوا أحدهم، ولذلك لا يجرؤ أحد من آل سعود على إثارة فكرة عزل نايف بن عبدالعزيز بالرغم من فضائحه القبيحة وذلك مراعاة للتوازن في التكتلات الأسرية القائمة، هذا في الوقت الذي استطاعت الأسرة عزل تركي بن عبدالعزيز لأسباب أقل أهمية، وقد فُسر ذلك بأن أزمة تركي حصلت قبل أن تستفحل ظاهرة الإسقاط النفسي في العائلة.

الشعوذة
وحديثا انتشرت في العائلة ظاهرة جديدة تدل على مدى معاناة أفرادها ومدى استفحال الشك في بعضهم البعض، وهي ظاهرة استعمال السحرة والمشعوذين، إما لمعرفة ما يكيده هذا الطرف تجاه ذلك، أو للتأثير على طرف ما وإخراجه من حلبة المنافسة على السلطة، وقد استورد آل سعود من أجل ذلك عددا كبيرا من السحرة من شرق وغرب أفريقيا، واستعانوا ببعض العاهرات للإيقاع والتصيد نظرا لحاجة السحرة في بعض الأحيان لمن يصل إلى جسد الشخص المستهدف، ومن سوى العاهرات والخادمات والمربيات يحسن تحقيق ذلك؟، حتى يقع السحر وينجز المطلوب.

ومن المظاهر الأخرى لهذا الإسقاط رصد حركة سفر وتنقل وعلاقات المنافسين والمناوئين, وخاصة إذا كان السفر أو التحرك في أوروبا أو أمريكا، ولذلك يحاول بعضهم أن يخفي خبر سفره عن الآخرين حتى لا تحوم حوله الشبهات، وأكثر من يحسن هذه الحيلة هو سلمان بن عبدالعزيز، الذي كثيرا ما يسافر بأسماء مستعارة إلى أوروبا وأمريكا حيث يقابل شخصيات هامة من الولايات المتحدة ودول أوروبا وإسرائيل وبعض الدول العربية للتنسيق معهم حول وضعه شخصيا ووضع مجموعة السديرية عموما، وقد يتوجه أحدهم إلى إسبانيا أو المغرب بحجة الاصطياف أو السياحة ثم يختفي من هناك في زيارة سرية إلى مكان ما من العالم لإنجاز بعض أعماله الخاصة جدا .

ولي العهد الأمين
وأخيرا، من مظاهر هذا الإسقاط التكلف الممجوج من قبل بعضهم في الإكثار من عبارات التمجيد والتعظيم والثناء على الذين ينتمون للتكتلات الأخرى، ولذلك فإن سلطان لا يمكن أن يفوته التأكيد الشديد على ذكر عبارة “ولي العهد الأمين”، والجميع يعلم أنه لا يصدق فيما يقول، بل ما يضمره في نفسه لولي العهد مناقض لما يتفوه به في الأماكن العامة، وينطبق الأمر على الأمراء المنتمين للتكتل الثاني الذين لا يفوتهم ذكر عبارة “سمو النائب الثاني” بمناسبة وبدون مناسبة.

وتظل الإسقاطات النفسية تحكم تصرفات آل سعود، وتحدد سياستهم لتحل محل الفكر والتخطيط الاستراتيجي والبرمجة بما يناسب الأحوال والظروف والأزمان، وإلى إسقاط آخر من إسقاطات مرضى آل سعود.









الإسقاط السابع

الدولار هو الحل
بعض الإسقاطات والأمراض النفسية متأصلة في الأسرة السعودية الحاكمة، وما لبثت مظاهرها بادية منذ تكوين المملكة، إلا أن ثمة إسقاطات أخرى اقتصرت على الجيل الأخير من الحكام، وهو جيل فهد أو مدرسة السديرية، ومن الإسقاطات التي اختص بها السديريون الشعور بأن المال يتغلب على أكبر المعضلات، ويحل أعقد المشاكل ويذلل أشد الصعاب، ولذا فالسياسة وتصريف شؤون الدولة والنجاح على المستويات الإقليمية والعالمية والسيطرة على الأوضاع المحلية، كل ذلك رهن بتوفر المال، ويعود السبب في تبني فهد وأشقائه لهذه السياسة إلى ظروف نشأتهم المترفة من جهة وإلى تفشي الجبن والخور والميوعة في مجموعة السديرية من جهة أخرى. لم يشهد فهد أيا من المعارك الهامة التي خاضها والده ضمن "مشروعه" لإنشاء المملكة، كما لم يستلم أي منصب أو مسؤولية إلا بعد أن تخطى الأربعين عاما من عمره، وعاش وإخوته في القصور المرفهة بين العبيد والجواري دون أدنى شعور بالمسؤولية.

المال كثير
وحين بدأ فهد يستلم بعض المسؤوليات، كان المال وفيرا بين يديه، فلم يخطر بباله أنه سينفد يوما، ولعل ذلك أسهم في الصياغة النهائية للتركيبة العقلية والنفسية لديه، فآمن بأن المال هو الحل لكل مسألة، ورسخ هذا الإحساس اعتقاد آل سعود بأن البلد وما حوت ملك خالص تام لهم، ولا غرابة إذن ألا يكون هناك فرق بين أموال فهد الخاصة وبين ميزانية الدولة، فنظام الحكم لا توجد فيه وسيلة رقابة أو ضبط تمنع فهد من سحب ما يشاء من أموال الدولة ليصرفها فيما يشاء، وقد كان ولا زال ذلك هو ديدن فهد وإخوته حتى نضبت ميزانية الدولة، وتحولت من بلد يتمتع بفائض 150 مليار دولار إلى بلد مدين بما لا يقل عن 150 مليار دولار.

ولا يملك المتابع للتحول في السياسة بعد موت فيصل إلا أن يلاحظ اعتماد المدرسة الجديدة بالكامل على المال بطريقة مَرَضية كأسوأ ما يمكن أن يصاب به دكتاتور أو طاغية، حتى تحول الشعور بقدرة المال المطلقة على صنع المعجزات وإتيان الأعاجيب إلى إسقاط نفسي، بات آل سعود معه يتوهمون بأنهم ملكوا العالم بدولاراتهم.

المال والدفاع

في سياسة الدفاع لم يفهم آل سعود أن قوة البلد مرتهنة بوجود جيش قوي مدرب ومسلح بما يؤهله للدفاع عنها ورد أي اعتداء خارجي عليها، بل فهموا أن المال وحده قادر على ذلك، والمال لا يعني في تصورهم الصرف على التدريب والتسليح، بل يعني إهدار الأموال في مشاريع حرب خاسرة، فقد ظن آل سعود أنهم بالمال المصروف على العراق خلال حربه مع إيران تخلصوا من الخطر الإيراني، كما ظنوا أنهم بالمال الذي أتلفوه على القوات الأمريكية تخلصوا من الخطر العراقي، وبدلا من أن يصرف ولو عشر هذا المال في إعداد جيش منيع، بددت ثروة البلاد على “صديق” المرحلة ضد “عدو” المرحلة، أما الجيش فلا يزال من أضعف جيوش العالم وأفقرها خبرة وأتعسها تدريبا وتسليحا.

شراء الذمم
تمضي سياسة الدولار على المستوى المحلي في كل اتجاه إلا اتجاه الإصلاح والبناء، وقد أفرزت هذه السياسة ممارسات لا أخلاقية غدت تقليدا راسخا، من أبرزها تلك العطيات التي أصبحت في رتابتها ودوريتها كالرواتب الشهرية، فالعلماء المتاجرون بعلمهم ودينهم يستلمون أضخم الرواتب، بل قد يحصل بعضهم على بعض العطايا النقدية بالملايين أو العينية كالأراضي الشاسعة جزاءا له على خيانته للدين وللأمة، وبنفس الأسلوب يشترى ولاء كبار رجال القبائل، ويسترق بعض المفتونين من المثقفين، وكل ذلك ضمن سعي آل سعود لإسكات كل شخص متميز في مدينته أو في قريته أو في منطقته أو في قبيلته لجما بالدولار، وقد أمعنوا في ذلك، حتى توهموا أن كل إنسان يباع ويشترى في سوق النخاسة السعودي.

السياسة الخارجية
وأما على المستوى الدولي، فلا يخطر ببال آل سعود أن يعتمدوا من خلال النشاط الدبلوماسي على الثقل الاستراتيجي والمكانة الدولية للمملكة، وإنما يعتمدون في سياستهم الخارجية على شيء واحد، ألا وهو الدولار، فإذا كان البلد الذي يتعامل معه آل سعود بلدا دكتاتوريا فرديا يمكن أن يتعامل النظام فيه مع شخص واحد أو عصابة حاكمة، فإن الأموال تغدق على هؤلاء بشكل أو بآخر حتى تشترى ذممهم، أما العلاقة مع الشعوب فغير واردة ولا تخطر على بال آل سعود، وإذا كانت العلاقة مع دول ديمقراطية تراقب شعوبها حكامها فتحاسبهم وتقيلهم أو تستبدلهم إن أساءوا استخدام المال، فإن آل سعود لا يستطيعون استخدام أسلوب الرشوة بشكل مباشر، ولذا تجدهم يرشون جهاز الحكم عبر إبرام الصفقات التجارية والعسكرية، ولآل سعود في ذلك سلم أولويات، فأمريكا - التي تقدر قيمة العقود المبرمة معها منذ نهاية السبعينات بمئات المليارات من الدولارات - تأتي في مقدمة الدول المخدومة، وتعقد معها الصفقات الضخمة لا من باب الحرص على تحقيق نفع للبلاد، بل من باب إشعار تلك الدولة بحاجتها لآل سعود وبقدرتهم على التأثير على وضعها الداخلي، والكلام ذاته ينطبق على العقود الضخمة التي أبرمت وتبرم مع البريطانيين والفرنسيين وغيرهم.

ومن صور الرشاوي غير المباشرة في العلاقات الخارجية ما حدث أثناء أزمة الخليج حين رفضت روسيا تأييد قرار الأمم المتحدة, فدفعت لها المملكة رشوة على شكل قرض بقيمة أربع مليارات دولار، ورفضت إسرائيل التزام الحياد في حرب الخليج الثانية، فدفعت لها المملكة رشوة غير معلنة هي تكاليف التسليح لما بعد الأزمة، والتي بلغت أكثر من عشرة مليارات دولار.

وفي هذا النطاق يبرز دور المال في العمل الاستخباراتي، وهنا يتجلى حمق آل سعود الذين لا يفهمون من العمل الاستخباراتي شيئا، فيعوضون عجزهم بالتكفل بدفع تكاليف المشروعات الاستخباراتية الأمريكية مما له علاقة - أوليس له علاقة - بالمملكة، فقد دفع آل سعود مامل تكاليف البرنامج الأمريكي في أفغانستان، كما دفعوا تكاليف البرنامج الأمريكي في إيران وفي القرن الأفريقي وفي منطقة باب المندب، ويبلغ الحمق بآل سعود أن يدعموا العمليات السرية للمخابرات الأمريكية في أماكن ليس لها بالمملكة ناقة ولا جمل مثل أنغولا ونيكاراغوا، ويلخص أحد مدراء المخابرات الأمريكية الموقف السعودي بقوله "لقد أثبت السعوديون أنهم رائعون .. لقد وقفوا بجانبنا كلما لجأنا إليهم"، وكلمة رائعون هي الكلمة التي يريدها الملك فهد والتي دفع مقابلها ملايين الدولارات..

الإعلام والعلاقات العامة
كما يتجلى هذا النوع من الإسقاط في السياسة الإعلامية، وخاصة في الساحة الخارجية، وهنا لا مجال أبدا للتخطيط والعمل الاستراتيجي والاستفادة من الخبرات المخلصة، بل يكمن الحل في إغداق الأموال لتحسين صورة آل سعود وذلك عبر شراء الإعلام نفسه أو شراء ذمم القائمين عليه، ومن أجل ذلك اشترى آل سعود كثيرا من الصحف العربية وغير العربية، وإذا عجزوا عن شراء مؤسسة صحفية اشتروا ذمم القائمين عليها، أما المؤسسات التي يعجزون عن شرائها ويعجزون عن رشوة القائمين عليها فيحاولون التأثير عليها بأساليب غير مباشرة، لوكل ذلك بالمال.

ويدخل في هذا النطاق التعاقد مع أكبر شركتين في العالم للعلاقات العامة ساشي ساشي في بريطانيا وهلين نورتن في أمريكا بما قيمته مليار دولار مع أن المشروع لا يتعدى كونه علاقات عامة لا تقدم ولا تؤخر.

وحديثا قفز آل سعود قفزة أخرى في مجال حرق المال من أجل الإعلام، وذلك بإنشاء المحطات الإذاعية والتلفزيونية التي تخدم أغراضهم، وفي مقدمة ذلك محطة MBC التي تبلغ ميزانيتها السنوية أكثر من ثلاثمائة مليون دولار.

كما اخترق آل سعود المراكز الثقافية والأكاديمية والأنشطة الإسلامية بالمال، فأقاموا الكراسي الدراسية التي دفعوا لأجلها مبالغ طائلة لجامعات أمريكية وأوروبية ونجحوا في التحكم بعدد كبير من القائمين على المراكز الثقافية والإسلامية من خلال المخصصات المالية للمشاريع أو الرواتب الشهرية.

المال يغطي العيوب
ومن الإبداعات المضحكة لآل سعود اعتقادهم أن المال هو الذي يغطي فضائح الفقر والعجز الاقتصادي ولذا فقد عملوا ما لم يعمله الأوائل ولا الأواخر، حيث صرفوا عشرات الملايين على برامج إعلامية تدعي أن الاقتصاد السعودي متين، فالمال المهدور الثاني هو الذي يكذب إهدار المال الأول.

المال والجنس
يأخذ هذا الإسقاط مظهرا آخر على المستوى الشخصي للملك وإخوانه وهو الاعتقاد بأن المال يصنع كل المعجزات، فهو الذي يأتي بأجمل النساء من أقاصي الكرة الأرضية، ولذلك أصبح من الممارسات الطبيعية إرسال الطائرات الخاصة لجلب الداعرات لشخصيات من الأسرة ودفع الأموال الطائلة لهن، ويتوهم اليائسون من آل سعود بإن المال قادر على استعادة القوة الجنسية بعد فقدانها، فتصرف الملايين على المختصين وعلى المستحضرات الطبية، ولكن أنى يصلح العطار ما أفسد الدهر.

واعتقد آل سعود أن المال هو الذي يكشف الغيب ويخبر عن المستقبل ويتنبأ بالأسرار، ومن أجل ذلك بحثوا عن أشهر رجال العالم في السحر والشعوذة، ودفعوا لهم الملايين من أجل أن يستقروا عندهم ويتنقلوا معهم في رحلاتهم ليخبروهم بالأخطار المحدقة بهم، والمال هو الطريق إلى السلامة !.

الخلود

وأخيراً لا آخراً بلغ الاعتقاد بقوة المال ذروته حتى ظن الملك أن المال هو الذي سيخلده، فأمر بإنشاء وحدة طبية كاملة في المستشفى التخصصي بتكلفة مليار دولار مرتبطة بشبكة الأقمار الصناعية بثلاث جامعات أمريكية، حتى تستخدم في تشخيص وعلاج كل ما يلم به من أمراض، توهما منه أن ذلك سيمنحه مزيدا من طول العمر.

ماذا سيفعل آل سعود بعد أن بددوا الأموال، ولم يبق في أيديهم ما يكفي لتحقيق الأحلام الوردية؟ ما من شك في أننا بدأنا نرى تحول هذه الأحلام إلى كوابيس، تلك هي النتيجة الطبيعية للسياسات المنحرفة والعقليات المتخلفة والنفوس المريضة.

“وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال”.









الإسقاط الثامن

التناقض بين الشعار والتطبيق



تطبق كل دول العالم سياسات معلنة يتناغم فيها الشعار مع الممارسة، وحين تخالف بعض الشعارات السياسة الحقيقية للدولة فهي تمثل انحرافاً محدوداً وجانبياً ولا تمثل طابعاً عاماً لتسيير سياسة الدولة. هذا المبدأ ينطبق على الدول الديمقراطية التي تعلن برامج حكوماتها أمام شعوبها، وينطبق كذلك على الدول الدكتاتورية الكثيرة في العالم سواء اليسارية منها أو اليمينية. أما نظام آل سعود، وخاصة بعد نشأة مدرسة فهد، فلقد أصبح الشعار الذي يرفعه في واد والممارسة العملية في واد آخر. فالشعار الذي يرفعه آل سعود هو العمل بالإسلام وتطبيق الشريعة بينما الممارسة الحقيقية أبعد ما تكون عن الإسلام، سواء على مستوى سياسة الدولة أو على مستوى الأفراد الحاكمين. ولقد افرز هذا التناقض مع مرور الزمن إسقاطاً نفسياً خاصاً وتركيبة عقلية وأسلوباً في التفكير لا يوجد في أي نظام آخر في العالم.

فآل سعود يشعرون في قرارة أنفسهم أن ليس للإسلام من تطبيقهم نصيب، وفي نفس الوقت لا يملكون أن يزيحوا هذه الهوة بين التطبيق والممارسة، ولذلك انعكست هذه التركيبة عليهم على شكل إسقاط نفسي يفسّر كثيراً من أقوالهم وتصرفاتهم.

رب العزة والجلال
أولى مظاهر هذا الإسقاط هي كثرة ترديد دعوى تطبيق الشريعة لفظياً بمناسبة وبدون مناسبة، والحرص على الألفاظ ذات الظلال الشرعية مثل لفظة "العقيدة" و "رب العزة والجلال" و "الحرص على رضى الله". ويحرص آل سعود على انضباط ألفاظهم بشكل متكلف حيث يكثرون من استخدام كلمة "ثم" إقناعاً للعلماء أنهم حذرون من الشرك الخفي، ولقد أُحصي للملك فهد مثلاً في أحد خطبه الرنانة أكثر من ثلاثين مرة لفظة "العقيدة".

وهكذا يحرص سلطان على نعت سامعيه بأنهم إخوته في الله ودائماً يحييهم - كما يقول - بتحية الإسلام. أما نايف فيبالغ في فخره بتطبيق الإسلام حين يصف ممارسة القمع والاضطهاد بأنها هي الإسلام و"من لم يعجبه الشرع فليشرب من ماء البحر". ويتكلف بندر بن سلطان فيصف سجل المملكة لحقوق الإنسان بأنه "أحسن سجل لأنه تطبيق لحقوق الإنسان في الإسلام"، وتصل دعوى التمسح بالإسلام ذروتها عند فيصل بن فهد الشخص الذي تمرغ في الفساد والانحراف، فتجده يجيب على سؤال لأحد الصحفيين عن الهدف من إنشاء إستاد الرياض الكبير فيقول بأن "الهدف هو رضى الله". وعودة الى الملك فهد الذي سئل مرة عن منجم الذهب إن كان هو الكنز الذي تنتظره المملكة فقال لا بل نحن نعتمد على الكنز الذي لا ينضب وهو "العقيدة".. الله أكبر!

نحترم العلماء
شكل آخر من أشكال التعبير عن هذا الإسقاط هو تمثيلية احترام العلماء التي يخادع بها آل سعود الناس، فالعلماء الذين يدعي آل سعود احترامهم ليسو إلا فئة مختارة، أما العلماء الحقيقيون الذين تلقتهم الأمة بالقبول وانقادت لهم فكان مصيرهم السجن والتشريد والقتل والإيذاء والفصل والتضييق. وحتى الاحترام المدعى للعلماء الرسميين ليس إلا مسرحية تؤدى بطقوس معينة يهان فيها العلماء وتداس كرامتهم بالتراب، حيث يحضر العلماء وينتظرون ساعات من أجل أن يشرف عليهم فهد بطلعته البهية فيخرج عليهم ليهذي بما لا معنى له ولا قيمة، ثم ينصرف.

وثمة شكل آخر من أشكال الاحترام المزعوم للعلماء ألا وهو توزيع عطايا الأراضي والعقار - بل وحتى المال - عليهم من أجل كسبهم والفوز بتزكيتهم، وهذا لا يفسره إلا ترسخ الشعور لدى آل سعود بأنهم في الحقيقة كاذبون في دعوى خدمة الإسلام، وأنه لا مجال للتغطية على ذلك إلا بالاحتماء بالعلماء.

على الهواء مباشرة
وينعكس هذا الإسقاط على مستوى الإعلام الرسمي بشكل كبير، فبدلاً من أن يقدم هذا الإعلام الرسالة الإسلامية نفسها فإنه يقدم الخراب والدمار مخلوطاً بعبارات تكرر دعوى تطبيق الشريعة وخدمة الحرمين الشريفين والقيام بالواجب تجاه الإسلام والمسلمين. ويحرص الإعلام على خدمة الشكليات مثل نقل شعائر الصلاة في المسجد الحرام أو حركة الحجاج في الوقت الذي يقتل فيه معاني العزة الإيمانية والالتزام بالإسلام.

أما على مستوى السياسة الخارجية فيأخذ هذا الإسقاط مظاهر عديدة تفسر كثيراً من تصرفات آل سعود تجاه الدول والمراكز والجماعات الإسلامية والناشطين الإسلاميين في العالم.

الدعم لمن
ففي تعامله مع المفكرين والعلماء والدعاة المشهورين على مستوى العالم الإسلامي، تجد النظام السعودي انتقائياً، فهو لا يؤوي ولا يدعم ولا يتبنى إلا من يوافق على التسبيح بحمده والتزلف له بتأكيد الدعوى الكاذبة بأنه نظام يقوم على خدمة الإسلام. وتجده في المقابل يحاصر كل داعية مخلص ويضايقه حتى لو كان خارج نفوذه وبعيداً عن حدوده. كما يرفض النظام السعودي دعم أي حركة إسلامية أو جماعة أو حزب مخلص نزيه نظراً لأن برامج هذه الجماعات والأحزاب تكشف زيغ النموذج السعودي للإسلام وتفضح تلبيسه على المسلمين في العالم. ولا يكتفي النظام السعودي بالتخلي عن دعم تلك الحركات بل يسعى جاداً لشقها وتفكيكها ويتعاون مع الحكومات الظالمة في العالم الإسلامي للقضاء عليها.

لا لدولة إسلامية
وفي نفس الاتجاه يبذل النظام السعودي كل جهد ضد قيام أي دولة إسلامية في العالم يمكنها أن تكون نموذجاً أصدق من نموذج النظام السعودي وهذا ما يفسر اندفاع المخابرات السعوية في تخريب التجربة الأفغانية ودفعها لتلك النتيجة المحزنة، ويفسر كذلك حماس السعوديين لدعم الحصار على السودان، بل يفسر أمراً آخر يغيب عن كثير من المطلعين وهو دعم النظام السعودي لليمن الجنوبي ضد الشمالي أيام الحرب رغم شيوعية الجنوب تماماً ورغم دعمهم لنظام صدام حسين البعثي. ورغم العلاقات الطيبة لنظام آل سعود مع آل الأحمر في الشمال إلا أن الخوف من تنامي الصحوة الإسلامية في الشمال والإدراك بأن انتصار الشماليين سيقوي كفة الإسلاميين ويقرب فرصة نجاح المشروع الإسلامي في اليمن مما من شأنه أن يكشف زيف التجربة السعودية فقد سارع آل سعود إلى دعم الجنوب بكل ما أوتوا من موارد.

وتبرز الانتقائية بشكل واضح على مستوى المراكز الإسلامية، حيث يرفض السعوديون دعم أي مركز لا يقر لهم بالولاء ولا ينضوي ضمن الفلك السعودي، وتراهم يحرصون على التحكم الكامل بما تقع عليه أيديهم من المراكز من خلال شراء المسؤولين فيها سواء بالرواتب أو بالأعطيات أو بالدعوة للحج والعمرة على حساب النظام السعودي.

نعم للنفاق
ويفسر هذا الإسقاط لِمَ يضخ السعوديون ملايين الدولارات في مشاريع تسمى إسلامية لكن ليس لها من حقيقتها إلا الشعار، مثل بعض المساجد الكبرى في أوروبا التي يكلف بناؤها وتشغيلها من المال ما يكفي لتشغيل مئات المساجد والمدارس في كثير من أنحاء العالم. لكن يتضح جلياً أن المطلوب ليس خدمة الجاليات الإسلامية بقدر ما هو التحكم السعودي بتلك المراكز والمؤسسات وتحسين صورة آل سعود التي قبحت في أعين الداني والقاصي.

ولا يكتفي السعوديون بالتحكم بالمراكز والجماعات بل امتد نفوذهم ليشمل الجامعات المهتمة بشؤون الإسلام والشرق، فعمدوا إلى شراء الكراسي الجامعية ورشوة الأساتذة والمفكرين من أجل التأكيد على "صدق" النموذج السعودي للإسلام.

ومع أن الهوة بين التطبيق والممارسة بدأت منذ أيام الملك عبد العزيز لكنها لم تبلغ ما تحولت إليـــه فــي عهـــد فهــد من إسقاط نفسي، فلم يعهد أهل الجزيرة في أيام عبد العزيز أو فيصل كثيراً من تلك المظاهر المستحدثة. ومثل كثير من الإسقاطات النفسية الأخرى لم يتركز هذا الإسقاط إلا أيام فهد، بل من الملاحظ أن مجموعة السديرية داخل الأسرة هي الأكثر معاناة من هذا الإسقاط لما جبلوا عليه من النفاق وما استمرأوه من الكذب وما تعودوه من الغش والخداع، بما ينعكس لا محالة على كل تصرفاتهم الفردية كما تقدم.

وحري بمثل هؤلاء أن يكون عمر حكمهم قصير، فلا يمكن لدولة أن تدوم معتمدة على ردود الأفعال والانعكاسات النفسية.



كما أود أضافة هذا الكتاب
وهو بعنوان
النظام السعودي في ميزان الإسلام

مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.

فإنه رغم كثرة الجدل حول تقويم النظام السعودي من الناحية الشرعية فإنه لم تنشر أي دراسة تقويمية منهجية منضبطة لتلك القضية، رغم أهمية الموضوع وشدة الحاجة إليه. ويجنح معظم المتصدين لنقاش هذه القضية إلى اختزالها في حديث أو حديثين، ويتعلقون بظواهر بعض النصوص الشرعية دون اعتبار دلالاتها ودون اعتبار غيرها من النصوص الشرعية ولا تصور مقاصد الشريعة في قضية الإمامة والحكم في الإسلام، ولا مقارنة بينها وبين الواقع الذي يعيشه النظام. وهذا الأسلوب في تناول قضية شرعية حساسة ومتشعبة خطأ كبير، وينبني عليه استنتاجات خاطئة مثله.

الإشكال الثاني أن كثيرا من هذا النقاش دار داخل مجال نفوذ الحكم السعودي مما يعني استحالة حيادية النقاش، وتبعا لذلك لن تكون هناك دقة في الاستنتاج، لأن المشكلة ليست مجرد إرهاب الحكم، بل بسبب وجود مؤسسة دينية تتبنى طريقة معينة في شرعية الحكم السعودي، ويصعب بل يكاد يستحيل معارضة هذه المؤسسة لأن التبعات والمضاعفات على معارضة تلك المؤسسة ستأتي منها قبل أن تأتي من الحكم السعودي نفسه.

الإشكال الآخر الذي يقع فيه باحثو الشرعية السياسية هو تركيزهم على شرعية فرد الحاكم دون اعتبار نظام الحكم نفسه، ومن ثم يُحرجون أنفسهم بخيارين، إما تزكية الحاكم أو تكفيره، وهذا من الاختزال المرفوض لقضية الشرعية وإرهاب فكري ضمني، بل هو بمثابة تحجيم للشريعة ومقاصدها العظيمة في قضايا الحكم والإمامة.

ويشبه هذا الإشكال ربط قضية الشرعية ربطا عضويا بقضية الخروج المسلح على الحاكم، واعتبار رفع السلاح إلزاما فوريا لمن يرى عدم الشرعية.

وقد أدى ربط قضية الشرعية بالتكفير ورفع السلاح، وما لهاتين القضيتين من تداعيات خطيرة إلى تخوف الكثير من طرق هذا الموضوع أو الاكتفاء بطرقه تحت إسقاط هذه التداعيات، وما يترتب على ذلك من غياب العدل والمنهجية في الاستدلال والاستنتاج.

لكل هذه الأسباب كان لابد من تقديم دراسة شاملة منهجية لهذه القضية تتجاوز التحجيم والاختزال في نص شرعي واحد أو الحكم على شخص الحاكم، إلى تصور تفصيلي لتقويم قضية الشرعية من خلال فهم أركان الإمامة الشرعية التي لا يقوم الحكم الإسلامي إلا بها، ومن ثم تطبيق ممارسات النظام السعودي على هذه الأركان وعندها فقط يمكن تحديد موقع النظام السعودي من الشريعة.

وكانت هذه الدراسة قد نشرت على حلقات في نشرة الحقوق الصادرة عن "لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية"، كما نشرت أجزاء منها في مجلة "الشرعية" الصادرة عن نفس الجهة، وكان الرأي أنه من المصلحة جمعها وتنقيحها ومراجعتها وإضافة ما يمكن إضافته إليها في نفس الموضوع، ومن ثم تقديمها في هذا الكتيب.

وقد كان الحرص في هذه الدراسة على تقديمها بشكل منهجي علمي، وعلى الاعتماد على الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وتخريج الأحاديث وعزو أقوال العلماء إلى الكتب الواردة فيها. ولقد جاء ترتيب هذا البحث في عدة أبواب: أولها مقدمة عامة في تثبيت قواعد شرعية ضرورية لفهم بقية البحث، ويتبع ذلك عدة أبواب حول أركان الإمامة الشرعية، وموقع النظام السعودي منها، ثم بعد ذلك حكم المدافعين عن النظام، ثم تمام البحث بالرد على عدد من الشبهات في قضية الشرع.

نسأل الله أن يجعل هذا العمل سببا في إيضاح كثير مما التبس على المسلمين والدعاة في هذه القضية الحساسة، وأن يوفق الجميع ليساهم في إقامة الإمامة الشرعية على وجهها الصحيح، كما نسأله سبحانه أن يعيننا على إخلاص نياتنا وتصويب أعمالنا ويقر عيوننا بتمكين هذا الدين إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على سيدنا محمد على آله وصحبه وسلم.



























مقدمة عامة


إن الحكم الشرعي في أي مسألة أو نازلة أوقضية لا يمكن معرفته إلا بفهمين، الأول: معرفة الواقع والثاني: معرفة حكم الله تعالى فيه أو كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والإمارات والعلامات حتى يحيط به علماً، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر)(1)، أو كما قال ابن تيمية عندما سئل عن حكم التتار فبيّن أن الحكم الشرعي مبني على أصلين: أحدهما المعرفة بحالهم، والثاني معرفة حكم الله في أمثالهم(2).

ولقد كان الظن أن إحجام طلبة العلم وأهله عن إصدار الحكم الشرعي في حق النظام السعودي والأنظمة عامة هو لعدم معرفتهم بالشق الأول (فهم الواقع)، وذلك بسبب تلبيس النظام عليهم بتزوير حقيقته وطمسها بمجموعة من المحسّنات الظاهرة، فكان كشف هذه الممارسات والسياسات التي يجهلها طلبة العلم هو الدور الأهم، وقد أجمع العلماء على وجوب كشف المنافقين والمبتدعين(3)، وقد سئل الإمام أحمد: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟، فقال: (إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل)(4).

ومع أن بلاد الحرمين قد كثر فيها طلبة العلم إلا أن انشغالهم بالعلم وطلبه أبعدهم عن معرفة الواقع وحقيقته، وهذا قد يقع من طلبة العلم وأهله كما نبّه جماعة من السلف على ذلك، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث تحدث عن ذلك في مواطن كثيرة من الفتاوى.

ولقد تبين أن كثيراً من أهل العلم وطلبته قد أحجموا عن تنزيل حكم الله تعالى على هذا الواقع، وأسباب هذا الإحجام متفاوتة، فهناك مجموعة منهم رضيت لنفسها مقام (التقليد)، حيث تنتظر من غيرها هذا التنزيل لتكون التالية لا السابقة في هذه الفضيلة، وهناك من يخاف الأثر المترتب على هذا التنزيل، ويزعم أن قول حكم الله تعالى في النظام سيؤدي إلى فتنة لا تدرى نتائجها، وكأن هذا الصنف ظن أن معرفة حكم الله تعالى شر لابدّ من ستره وتغييبه، وفي هؤلاء يقول محمد بن وضاح رحمه الله تعالى: (إنما هلكـــت بنــو إسرائيـــل على أيدي قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على أيدي قرائها وفقهائها)(5)، وحكم الله تعالى فيه النجاة والسعادة حقيقة.

وعلى ضوء هذا فإنه من الواجب الحديث بشكل تفصيلي عن حقيقة النظام، وحكم الله تعالى فيه، وأين هو في دين الله تعالى؟ وما هو موقف الأمة منه وكيف تتعامل معه؟ أي الحديث عن كلا الشقين: الواقع والشرع.

وقبل الشروع في هذه الأمور، لابدّ من تحديد بعض الثوابت والمقدمات النظرية حتى لا يلتبس الحال أو تفهم الأمور على غير محلها، وهذه المقدمات هي:

أولاً: أنه لايقبل حكم ولا اعتقاد إلا بدليل شرعي، والدليل الشرعي هو الكتاب والسنة وفهم قواعد الصحابة ومن تبعهم من خير القرون المشهود لها، وما عداه فليس بحجة في ذاته، بل هو محتاج بنفسه إلى دليل، وكل ما هو خارج الكتاب والسنة والإجماع فهو رأي، والرأي يخطئ ويصيب، ويؤخذ منه ويرد عليه ومن ثم فإن البحث في مسألة شرعية النظام كغيرها من المسائل يجب أن يكون مبنياً على الدليل الشرعي وفهم الواقع بدقة، وعلى الرغم من أن هذا الكلام يبدو أمراً لا جدال حوله، إلا أنه في الحقيقة في عداد المهجور رغم ترداد العلماء له بألسنتهم، وترى بعضهم يرفع شعار "كل ما هو خارج النص والإجماع فهو رأي والرأي ليس بملزم"، ثم تجدهم عند التطبيق يتعاملون مع آراء أهل الفتوى والقضاء وكأنها دين يجب التزامه، ويعتبرون الخروج على هذه الآراء معصية بل معصية كبيرة، بل تراهم يضربون بأدلة الشرع عرض الحائط ويستدلون بحجج واهية هي أشبه بكلام العوام كقولهم: "نحن أحسن من غيرنا"، أو كقولهم: "لا تعكروا علينا الأمن والأمان ورغد العيش".

وهذا يلجئهم إلى تصيد الأقوال الساقطة الشاذة التي لا تمت إلى الدليل الشرعي بصلة، لتبرير أفعال النظام وإسباغ الشرعية عليه بطريقة لا تُقبل من مبتدئ في طلب العلم فضلاً عن العلماء، كموقف أحدهم من الربا المستعر والمنتشر في البلاد طولاً وعرضا،َ وغريب أمر هؤلاء، أنهم يتمسكون بالنصوص الشرعية في قضايا الحيض والنفاس وزكاة الفطر، ويعرضون عن الحكم الشرعي في قضايا جليلة القدر في السياسة والحكم والقضاء، وهي قضايا تمسّ الأمة بأجمعها .

ثانياً: أن الحكم على النظام ليس حكماً على أفراده ورجاله، ولكنه حكم على النظام كله بوصفه نظام حكم، وذلك بغض النظر عن كل فرد فيه بعينه، وقد يعود الحكم العام على بعض أفراده ، ولكن هذا لا يلزم أن يعود على جميع أفراده حسب الأحوال والشروط المعتبرة، وهذا أمر معروف لدى طلبة العلم(6)، فالكلام لا يتوجه على أفراد وشخوص بأعيانهم، ولكن البحث ينصرف إلى حكم النظام وموقعه من الإسلام، فلا يعترض مُعترضٌ علىه بوجود بعض أهل الاستقامة فيه، ثمّ لا يقال بعد ذلك ما حكم فلان أو غيره من رجال النظام، لأن البحث هو عن شرعية الكيان كله، ومقدار قربه وبعده عن الشريعة.

ومعلوم أن الطوائف الحاكمة تعامل في دين الله تعالى معاملة عامة بحسب ما اجتمعت عليه بغض النظر عن أفرادها(7).

ثالثاً: حكم الله تعالى في نازلة من النوازل لا يؤخذ من دليل واحد وقد وجد غيره، فلا بدّ من إعمال الأدلة الواردة في المسألة جميعها.

والذين يأخذون ببعض النصوص دون غيرها هم أهل البدع، وأغلب أهل البدع أخذوا بعض النصوص وردوا الباقي، كما هو شأن القدرية والجبرية والخوارج مقلدين في ذلك ومتشبهين باليهود الذي قال الله فيهم: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، وأما أهل السنة فهم أهل الهدى، وسبيلهم إعمال النصوص جميعاً دون إهمال لواحد منها، وذلك بعد ثبوت صحتها.

فهذا الأمر يقال للذين يتجاهلون بعض الأحاديث النبوية الشريفة في سعيهم الشديد للدفاع عن النظام والحكام، فلماذا توضع الأيدي على حديث: “لتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً”(8)، ولماذا يعرض عن أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟، فهذه الأحاديث النبوية نصوص يوافق بعضها بعضاً ، ولابد من استحضارها جميعاً في مجال البحث عن موقف المسلم من الحاكم كائناً من كان هذا الحاكم.

رابعاً: دين الله تعالى، دين شامل، لا يخرج عن هيمنته شيء من شؤون الدنيا والآخرة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمنا كيفية الأكل والشرب، بل ما هو أدق منهما، لا يعقل أن يترك للناس ما هو من عظائم الأمور كشؤون السياسة والحكم ليتلاعب بها الحكام تحت دعوى الضرورة السياسية، أو تحت دعوى المصلحة الموهومة، ولذلك فمن اعتقد أن للحاكم الحق في إصدار التشريعات والقوانين التي تخالف دين الله تعالى، ثم أوجب على الناس التزامها فهو بلاشك كافر زنديق كما قرر أهل العلم، قال الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى: (إن هؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم وجوب الطاعة من دون الله كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، كيف لا؟ وهم يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويسعون في الأرض فساداً بقولهم وفعلهم وتأييدهم، ومن جادل عنهم أو أنكر على من كفّرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلاً فلا يخرجهم إلى الكفر، فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق، لأنه لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم)(9).

ولذلك يجب عرض كل شؤون الحكم والقضاء وأنظمة الاقتصاد والعلاقات الخارجية والشؤون الداخلية على الشرع، ولا يخرج عن الشرع شيء منها ومن ادعى أن شيئاً من ذلك بيد الحاكم ولا سلطان للشرع عليه فهو كافر خارج من الملّة.

خامساً: إن معرفة حكم الله تعالى في النظام والحكم هو أمر واجب، لما يترتب عليه من قضايا هي من صميم الإيمان والتوحيد، أما ما يترتب على ذلك من أحكام فهذا باب آخر، يتعلق بالقدرة والإعداد واستكمال الشروط وانتفاء الموانع، لكن يلزم وجوب بيان حقائق الإسلام جميعها، وأركان التوحيد كلها، حتى يعرف الحق من الباطل والإيمان من الكفر ولا تشتبه المفاهيم والرايات، فالبيان هو عهد الله إلينا، "لتبيننّه للناس ولا تكتمونه"(آل عمران 187)، ومحاولة كتم الحق فيما يتعلق بأهم مسائل الدين تحت أي دعوى مسألة مرفوضة، كمحاولة الإرهاب الفكري الذي يمارسه بعض الشيوخ والعلماء بقولهم: إن كشف حقائق الحكام يؤدي إلى الخروج والفتنة، فهذا أمر مرفوض، لأن الفتنة العظمى هي كتم الحق وتزويره وليس بيانه.

سادساً: إن معرفة حكم الله تعالى في الحكم والنظام مناطها ومرجعها إلى معرفة قيام الحكم بالواجبات التي فرضها الله عليه، فالإمامة إنما شرعت في الإسلام لتحقيق مقاصد شرعية ضرورية ومهمة.

هذه الواجبات والمقاصد سيتم استعراضها والوقوف على أداء النظام ليتم معرفة مدى قربه وبعده عن هذه الواجبات والمقاصد، فهل النظام حقاً قام بما أمره الله به؟ أم أنه تتبع هذه الأوامر فنقضها الواحدة تلو الأخرى، وأتى على ضدها رعاية وصيانة وحماية؟.

إن مقاصد الشريعة لا تتحقق كلها على الوجه المطلوب إلا بتطبيق الأحكام الشرعية، ورأس الأحكام الشرعية هو إقامة الحكم بما أنزل الله ونبذ ما سواه، ثم قيام النظام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة العدل في الأحكام والقضاء، وإقامة شعائر الإسلام الظاهرة ورعايتها، والتعامل مع رعيته وغيرهم على أساس الحكم الشرعي، وحفظ المال العام، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم أجمع وغيرها مما هو مذكور في كتب السياسة الشرعية.

فإذا قصّر الحاكم في هذه الواجبـــات أو عمل على ضدها وجب على الأمة أن تقصره على الحق قصراً وذلك بكل أسلوب شرعي يؤدي إلى رفع الباطل وإحقاق الحق.

سابعاً : أن أمر مراقبة الحكام، وتطبيق الأمر الشرعي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أمر موكول إلى الأمة جميعها، لأن أمره صلى الله عليه وسلم بتغيير المنكر بمراتبه الشرعية المعروفة هو أمر لجميع الأمة ولكل من رأى هذا المنكر، بقوله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم ... الحديث”(10)، وهذا من صيغ العموم لأنه نكرة في سياق الشرط، ولم يأت ما يخصصه، وأما أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على الحكام الظلمة فهو بعدم الخروج عليهم وليس بترك مراقبتهم وأمرهم ونهيهم وهذا من باب إعمال جميع النصوص وعدم إهمال بعضها ولا تعارض بينهما.

وهذا في حق الحاكم المسلم الظالم، وأما من أتى بنواقض الإسلام أو بآحاد هذه النواقض فله شأن آخر سيتم بسطه في موضعه.

ومن الضرورة بمكان استحضار هذه المقدمات عند طرح قضية الشرعية، وذلك لأن كثيراً ممن يجادل في قضية شائكة مثل هذ القضية، ينسى المسلمات الشرعية ويناقش من منطلقات مائعة لا تعد مرجعاً شرعياً يعتد به، فمثلاً رغم أن كثيراً ممن يلج هذا الميدان يدعي الالتزام بطريقة أهل السنة والجماعة فإنك تجده يصبح أشد من المعتزلة في تعطيل النصوص والاعتماد على التقدير العقلي في الدفاع عن الحكام، وأشد من الشيعة في ادعاء عصمة الحكام، وأشد من الصوفية في التسليم للحكام، ولذلك كان لابد من تحديد هذه الثوابت الشرعية والعودة إليها عند الاختلاف وإلا ضاعت القضية وتبعثر الأمر.





هوامش المقدّمة



1) ابن القيم، إعلام الموقعين ، 1/87-88 .

2) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 28/544 . وللشاطبي كلام جميل في هذا السياق ، راجع الموافقات، 4/165.

3) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 28/233.

4) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 28/233.

5) محمد بن وضاح، البدع والنهي عنها، 59.

6) انظر ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 28/505.

7) انظر الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 55-56. والفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، 28/349.

8) الحديث رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن .

9) محمد بن عبدالوهاب، الرسائل الشخصية ص 188 .

10) الحديث رواه الخمسة إلا البخاري، انظر مسلم بشرح النووي 2/22.











الحكم بغير ما أنزل الله


قبل الحديث عن تقويم النظام السعودي من حيث تحكيم الشريعة أوالحكم بما أنزل الله، نستعرض بعض القواعد الهامة في هذه القضية:

أولاً: وجوب الحكم بما أنزل الله ثابت بالكتاب والسنة والإجماع بل هو معلوم من الدين بالضرورة، قال تعالى: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً" (النساء، 105). قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (...ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله لا بين المسلمين ولا الكفار ولا غير ذلك إلا بحكم الله ورسوله، ومن ابتغى غير ذلك تناوله قوله تعالى: "أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" (المائدة، 50) وقوله تعالى: "فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما" (النساء، 65)(1). وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: (وتحكيم شرع الله وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسوله هو المتبع المحكم ما جاء به فقط، ولا جُردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك، والقيام به فعلاً وتركاً وتحكيماً عند النزاع ...)(2).

ثانياً: ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله تحاكم إلى الطاغوت، وأن سن التشريعات المخالفة لحكم الله "أياً كان اسمها" هو من الكفر البواح، قال تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" (المائدة، 44)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (... فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر)(3)، وقال: (... والإنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه، أو حرّم الحلال المجمع عليه، أو بدّل الشرع المجمع عليه كان مرتدا ...ً)(4) وقال ابن القيم رحمه الله: (... من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء عن الرسول فقد حكم بالطاغوت وتحاكم إليه، وقد أمرنا سبحانه باجتناب الطاغوت قال سبحانه: "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها" (الزمر17،) فالاحتكام إلى شريعة الطاغوت هو نوع من أنواع العبادة التي أمر الله بهجرها واجتنابها ...)(5)، وقال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ: (... من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ورغب عنه وجعل لله شريكاً في الطاعة، وخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله تعالى به في قوله: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك" (المائدة، 49) وقوله تعالى : "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً" (النساء، 65))(6)، ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في تفسير هذه الآية: (... وقد نفى الله الإيمان عمن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين كما قال تعالى: "ألم تر إلى الذين آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً" (النساء60،)(7).

ثالثاً: الالتزام بحكم الله يقتضي هيمنة الشرع على كل نظام وقانون وهيئة ومحكمة ومؤسسة وحاكم وقاض ومدير ومسؤول ومحكوم، وإقرار أي قانون مخالف للشرع حتى لو كان فرعياً أو صغيراً هو من الحكم بغير ما أنزل الله ويترتب عليه من الأوصاف والآثار الشرعية ما يترتب على الحكم بغير ما أنزل الله.

وقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: (كل بدعة - وإن قلّت - تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون ملحقاً بما هو مشروع، فيكون قادحاً في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامداً لكفر، إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير - قل أو كثر - كفر، فلا فرق بين ما قلّ أو كثر ...)(8)، قال الجصاص: (... إن من ردّ شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام سواء ردّه من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع عن التسليم ...)(9)، وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في رسالته إلى أمير الرياض: (... واعتبار شيء من القوانين للحكم بها ولو في أقل القليــــل لا شك أنه عدم رضاً بحكم الله ورسولـــــه، ونسبـــة حكم الله ورسوله إلى النقص، وعـــدم القيـــــام بالكفاية في حل النزاع وإيصال الحقوق إلــــى أربابها وحكم القوانين إلى الكمال وكفاية الناس في حل مشاكلهم، واعتقاد هذا كفر ناقل عن الملة والأمر كبير مهم وليس من الأمور الاجتهادية ...)(10) .

رابعاً: سنّ القوانين والأنظمة واللوائح الوضعية وإقامة المحاكم أو الهيئات التي تحكم بها هو لاشك من الحكم بغير ما أنزل الله ويترتب عليه أحكام شرعية عظيمة، قال تعالى: "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" (المائدة، 50)، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية : (ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيره، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد هواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير)(11)، ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: (... إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين في الحكم به بين العالمين والرد إليه عند تنازع المتنازعين ...)(12)، ويقول العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (تحكيم النظام المخالف لتشريع خالق السموات والأرض في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها، وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى أن يكون معه مشرع آخر علواً كبيراً "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" (الشورى، 21)، "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالا، قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون" (يونس، 59)(13)، ويقول الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله في تعليقاته على كتاب التوحيد، في شأن مُحَكِّم القوانين الوضعية: (... فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله، ولا ينفعه أي اسم تسمى به، ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها ...)(14)، ويقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تحكيم القوانين الوضعية: (فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه ...)(15).

خامساً : إن هناك فرقاً كبيراً بين من يقصّر حيناً، ويتجاوز حينا،ً ويظلم حيناً آخر لجهل أو لمحاباة أو لهوى، وبين من يسن الأنظمة، ويجعلها تشريعاً ملزماً للناس يفرضه عليهم، ويؤسس لها المحاكم والهيئات والمجالس ويعين لها القضاة والحكام، ومن الضروري التفريق بين الصنفين لأن الصنف الأول رغم أنه جريمة كبيرة فقد لا يكون كفراً أكبر ناقلاً عن الملة، أما الثاني فهو بلا شك كفر أكبر، قال الشيخ محمد بن إبراهيم في الصنف الأول: (... أما الكفر الذي لا ينقل عن الملة والذي ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنه كفر دون كفر، وقوله أيضاً “ليس بالكفر الذي تذهبون”، فذلك مثل أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى، وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملّة فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة وغيرها، فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمّها الله كفراً...)(16)، وقال في وصف الصنف الثاني: (...وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ورسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعداداً وإمداداً، وإرصاداً وتأصيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً، وحكماً وإلزاماً ومراجع ومستندات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستندات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك، فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيّأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم الكتاب والسنة من أحكام ذلك القانون، وتلزم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة لشهادة أن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة ...)(17).

سادساً : مجرد زعم الحاكم أو النظام أنه يحكم بالإسلام ويطبق الشريعة لا يُغني شيئاً إذا كان يحتكم إلى غير شرع الله، قال تعالى: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً" (النساء ، 60)، قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ في تفسير هذه الآية: (فمن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعاً لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه، وإن زعم أنه مؤمن، فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله: "يزعمون" من نفي إيمانهم، فإن يزعمون إنما يُقال غالباً لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: "وقد أمروا أن يكفروا به" (النساء، 60)، لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد، كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحداً، والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه، كما أن ذلك بيّنٌ في قوله تعالى: "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى" (البقرة، 256)، وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به)(18)، وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في تفسيرها: (... فإن قوله عز وجل "يزعمون" تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد فكل من حكم بغير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه ...)(19)، وقال رحمه الله في موضع آخر بعبارة أكثر تصريحاً في نفس المعنى "لو قال من حكّم القانون أنا أعتقد أنه باطل، فهذا لا أثر له، بل هو عزل للشرع كما لو قال أحد: أنا أعبد الأوثان وأعتقد أنها باطل"(20).

ومن هذا المنطلق يمكن تقويم الحكم السعودي، هل جعل السيادة للشرع في الأنظمة والسياسات، واقتصرت مخالفاته على بعض التقصير والتجاوز وبعض المظالم أما لجهل أو لمحاباة أو لهوى، كما وقع لكثير من خلفاء المسلمين في التاريخ الإسلامي؟، أم أن الأصل في حكم آل سعود الحالي هو تعطيل سيادة الشرع وتحكيم القوانين والأنظمة غير الشرعية وحصر المحاكم الشرعية فيما يحال إليها من الحكام ثم تخويل الحكام وأمراء المناطق حق تعطيل الأحكام التي تصدرها تلك المحاكم أو إلغاءها؟.

الواقع:

والمتأمل بدقة للواقع التشريعي وأحوال القوانين والأنظمة في المملكة لا يسعه إلا أن يخرج باستنتاج أكيد أن واقع المملكة ينطبق تماماً وبلا جدال على الحالة الثانية. ولكن الدولة تتهرب من كلمة تشريعات وقوانين وتستخدم بدلاً من ذلك عبارات أنظمة ولوائح وتعليمات وأوامر ومراسيم، وهي في حقيقتها تشريعات كاملة بما تحويه كلمة تشريع من معنى، ففيها نصوص بالإيجاب، ونصوص بالمنع، ونصوص بالعقوبات، ونصوص بإباحة الحرام وتحريم الحلال، والذي يدعي أنها مجرد أنظمة إجرائية ليس لديه من علم الشريعة ولا القانون شروى نقير.

فمن هذه الأنظمة: نظام الأوراق التجارية ونظام الشركات، ونظام العمل والعمال، ونظام مراقبة البنوك، ونظام الجنسية العربية السعودية، ونظام المطبوعات والنشر، ونظام المؤسسات الصحفية، ونظام الأحكام العامة للتعرفة الجمركية، ونظام الجيش العربي السعودي، ونظام العلم الوطني، وغيرها من القوانين والتشريعات، والمتأمل لهذه الأنظمة يكتشف أن الإسلام في وادٍ وحكم آل سعود في واد آخر، فإن مقدمة كل نظام أو لائحة أو مرسوم تؤكد على أن مصادر تشريعها غربية أو مختلطة المصادر، وقد تكون الشريعة من بيبها ولكن ليست المصدر الوحيد!. بل وتصل الوقاحة في بعض الأحيان أن تعتبر الشريعة مصدراً احتياطياً للتشريع، كما في نظام هيئة تسوية المنازعات لدول مجلس الخليج العربي وكما في المادة (185) من نظام العمل والعمال هذا من جهة اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً للأحكام، فقد نصت هذه الأنظمة على كل أشكال التشريع المخالف للأسلام أما من جهة الحدود والعقوبات الشرعية فإن نظام الجيش العربي السعودي ونظام الأوراق التجارية ونظام مكافحة الرشوة، وغيرها كثير، فيها عدد كبير من العقوبات لا يمت للإسلام بصلة، أما من جهة المسائل المدنية والتجارية ونظام الأوراق التجارية ونظام الشركات وغيره فإنه يحوي أشكالاً من فض المنازعات وأنماط الصلح المخالفة للشريعة جملة وتفصيلاً، ونظام مراقبة البنوك يبيح بلا تحفظ جميع الأنشطة الربوية التي حرمت بالدليل القاطع من الكتاب والسنة، ويعتبرها محمية من قبل الدولة، بل لقد ورد فيه نصوصاً مخالفةً للشرع من جميع الوجوه، وأعطت الملك حق الربوبية الكامل بلا تحفظ، تقول المادة (27) من نظام المحاكمات العسكرية: “ولصاحب الولاية (الملك) وحده حق تنفيذ الأحكام أو توقيفها أو استبدال حكم بحكم فيها”. وسعياً لإمضاء هذه التشريعات والقوانين المسماة أنظمة ـ تهرباً وتلبيساً ـ فقد شكلت الدولة محاكم غير شرعية، أسمتها لجاناً وهيئات ودواوين ومجالس، ويشترط في أعضاء هذه المحاكم أن يكونوا متقنين لما ورد في تلك الأنظمة والقوانين لا أن يكونوا شرعيين، وقد تقصّى أحد الباحثين هذه المحاكم فوجدها أكثر من ثلاثين لجنة أو هيئة كلها تمارس دوراً قضائياً مناهضاً للشرع، منها على سبيل المثال هيئة فض المنازعات المصرفية، والمحاكم التجارية وديوان المحاكم العسكرية، وغيرها كثير.

أما المحاكم الشرعية فهي محصورة عملياً في شؤون محدودة، ومع ذلك فهي نفسها لا تسلم من هيمنة القوانين غير الشرعية، فالقضاة الشرعيون ملزمون تعميمات مجلس الوزراء والوزارات المختصة والإمارات والبلديات، حتى لو خالفت تلك التعليمات الشرع، وأحكام القضاة المخالفة لتلك التعليمات أو للأنظمة المذكورة أعلاه غير نافذة أبداً، بل إن القاضي نفسه لا يمكن أن ينظر في كثير من القضايا إلا "حسب النظام"، والنظام هو تصنيف القضايا بما يضمن حصار الشرع في حدود معينة، وإطلاق يد القانون الوضعي في مساحات كبيرة!.

فهذا هو الواقع إذاً! السيادة ليست للشرع، والهيمنة ليست للإسلام، والقوانين والتشريعات غير الإسلامية والمخالفة للشرع قد سرت في معظم أنظمة الدولة، والقضاة الشرعيون محاصرون في دوائر صغيرة لا يستطيعون تجاوزها؟ فكيف يمكن أن يدعي مدع أن هذه الدولة تطبق الشريعة أو تحكم بالإسلام؟ و كيف يشك طالب حق أن الاحتكام إلى تلك التشريعات احتكام إلى الطاغوت؟.

والثابت هنا أن هذه المعاندة للشرع ليست تجاوزاً عن هوى أو رغبة في الجبروت والظلم مع هيمنة الشرع بل هي إعراض عن شرع الله، وترسيخ لغير شرع الله وحصار لشرع الله، ولكن هل يمكن أن يكون ذلك جهلاً أو غفلة؟.

والإجابة على ذلك سهلة وقصيرة وهي أن الحجة في العلم قد قامت على الحكام بلا شك ولا جدل، فلقد وقف العلماء من أمثال الشيخ بن عتيق والشيخ بن سعدي والمفتي السابق الشيخ محمد بن إبراهيم رحمهم الله جميعاً في وجه تلك التشريعات بشكل صريح، ودوّنت مراسلات الشيخ محمد بن إبراهيم في إنكار تلك القوانين والأنظمة والتحذير منها واحداً واحداً، وبدلاً من أن يرتدع آل سعود، ويعملوا بنصيحة الشيخ محمد بن إبراهيم فقد منعوا "بالقوانين نفسها" وبأمر ملكي طبع وتوزيع مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم حتى لا يفتضح هذا الكفر والنفاق، وحديثاً قدم العلماء لهم النصيحة مرة أخرى بشكل منهجي ومركز في "مذكرة النصيحة" بطريقة لا تدع مجالاً لهم أن يدعوا الجهل وسوء الفهم، ولكنهم أبوا النصح وأصروا على قوانينهم وأنظمتهم، فالحجة قامت عليهم قطعاً بلا جدل.

فهل يجادل أحد من أهل العدل والإنصاف بعد هذا الاستعراض في أن الحكم السعودي يحكم بغير ما أنزل الله، وأن تلك الشعيرة العظيمة معطّلة. وأن الإثم في تعطيلها يقع على الأمة كلها؟ لأن ذلك من فروض الكفاية، والأمة مسؤولة بعد ذلك أن تسعى بما أوتيت من قدرة واستطاعة أن تقيم هذه الشعيرة حتى تسلم من الإثم وتؤدي حق الله عليها.

وبناء على ما سبق فإن الذين يدافعون عن النظام بدعوى زعمه تطبيق الإسلام ويستميتون في ذلك في خطر عظيم، قال تعالى "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً" (النساء، 105،107)، قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في تفسير قوله تعالى "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" (التوبة، 31) (... من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم فقد اتخذهم أرباباً ...)(12).









هوامش الحكم بغير ما أنزل الله



1) ابن تيمية الفتاوى، 35/407-408 .

2) محمد بن إبراهيم، الفتاوى، 12/251 .

3) ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، 3/12 .

4) ابن تيمية، الفتاوى، 3/267 .

5) ابن القيم، إعلام الموقعين، 1/49.

6) عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، فتح المجيد، ص392.

7) محمد بن إبراهيم آل الشيخ، رسالة تحكيم القوانين (ص8).

8) الإمام الشاطبي، الاعتصام، 2/61.

9) الجصاص، أحكام القرآن، 2/214.

10) مجموع فتاوي الشيخ محمد بن إبراهيم ج12/،251 رسالة تحكيم القوانين الصفحات 15،14،13.

11) انظر تفسير ابن كثير، في تفسير سورة المائدة (ج2/17).

12) محمد بن إبراهيم، رسالة تحكيم القوانين (ص5).

13) محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، 4/84.

14) انظر فتح المجيد ، شرح كتاب التوحيد، 3/396.

15) أحمد شاكر، عمدة التفسير، 4/157.

16) محمد بن ابراهيم، رسالة تحكيم القوانين، 8.

17) محمد بن إبراهيم، رسالة تحكيم القوانين، ص7.

18) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، 393 .

19) انظر محمد بن إبراهيم، رسالة تحكيم القوانين (ص 8-9).

20) مجموع الفتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (189/6).

12) محمد بن عبدالوهاب، كتاب التوحيد، 146.



















الولاء والبراء


الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين من لوازم الإيمان، ومعيار صحيح يتميز به المؤمن من المنافق، وقبل استعراض العلاقات الخارجية للنظام السعودي يحسن إيراد الحقائق الشرعية في هذا الموضوع الخطير.

أولاً : ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن علاقات المسلمين مع غيرهم ينبغي أن تبنى على أساس الإسلام، فالإسلام هو الأصل في العلاقة مع الآخرين، وقد بينت الآيات موقف المسلم من أهل الشرك والكفر، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين" (المائدة، 51). ويقول سبحانه: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ، ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير" (آل عمران، 28)، ويقول سبحانه: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله" (المجادلة، 22)، ويقول أيضاً : "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" (البقرة، 120)، وقال كذلك: "ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم، ويحلفون على الكذب وهم يعلمون" (المجادلة، 14)، وقال سبحانه: "بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أيبتغون عندهم العزة، فإن العزة لله جميعاً" (النساء، 139).

ثانياً : ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن إقامة العلاقات على خلاف الأساس الإسلامي يؤدي إلى الكفر والخروج من ملة الإسلام. قال ابن جرير رحمه الله: (من اتخذ الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً يواليهم على دينهم، ويظاهرهم على المسلمين فليس من الله في شيء، أي قد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ..) ثم قال: (... ومن تولى اليهود والنصارى من دون المؤمنين فإنه منهم، أي من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولٍ أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه)(1)، وقال ابن حزم رحمه الله: (... صح أن قوله: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" (المائدة، 51)، إنما هو على ظاهره، بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين)(2)، وقال ابن تيمية رحمه الله: (أخبر الله في هذه الآية أن متوليهم هو منهم، فقوله سبحانه: "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء؛ (المائدة، 81)، يدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، فالقرآن يصدق بعضه بعضاً ...)(3)، وقال ابن القيم رحمه الله: (إن الله قد حكم ولا أحسن من حكمه أنه من تولى اليهود والنصارى فهو منهم، "ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن، كان لهم حكمهم، وهذا عام ...)(4)، وقال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ: (... وأخبر سبحانه وتعالى أن من تولاهم فهو منهم ...)(5)، وقال الشيخ حمد بن عتيق: (... قد دلّ القرآن والسنة على أن المسلم إذا حصلت منه موالاة أهل الشرك والانقياد لهم ارتد بذلك عن دينه ...)(6)، قال الشيخ عبدالله بن عبداللطيف: (... إن كل من استسلم للكفار ودخل بطاعتهم وأظهر موالاتهم فقد حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام ووجب جهاده ولزمت معاداته ...)(7).

ثالثاً : أن من واجبات الدولة المسلمة بناءً على ذلك أن تسعى لنشر الإسلام وتدعم الدعوة في كل مكان وتنصر المسلمين وقضايا المسلمين وتدافع عنهم، فقد قال تعالى : "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوِلدان.." (النساء، 75)، وثبت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله”(8)، وعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أُذِلّ عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذلّه الله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة”(9)، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من امرئ ٍ يخذل امرءاً مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يُحبّ فيه نُصرته”(10).

رابعاً : أجمع علماء المسلمين أن الدولة أو الجماعة أو الفرد الذي يظاهر أعداء الإسلام ضد المسلمين بالمال أو بالرجال أو بالسلاح أو بالتجسس والمعلومات فهو خارج من الملة، قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ: (إن خرج معهم لقتال المسلمين طوعاً واختياراً وأعانهم في بدنه وماله فلا شك أن حكمه حكمهم في الكفر)(11)، قال الشيخ سلمان بن سحمان: (وأعجب من هذا أن بعض من يتولى خدمة من حادّ الله ورسوله، ويحسّن أمرهم، ويرغب في ولائهم، ويقدح في أهل الإسلام، وربما أشار بحربهم، فإذا قدم بلاد بعض أهل الإسلام تلقاه منافقوها وجهالها بما لا يليق إلا مع خواص الموحّدين، فافهم أسباب الشرك ووسائله، ومن كان في قلبه حياة وله رغبة وله غيرة وتوقير لرب الأرباب يأنف ويشمئز مما هو دون ذلك ...)(12)، وقد عد الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب عليه رحمة الله مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين من نواقض الإسلام، قال في تعداد النواقض: (موالاة المشرك والركون إليه ونصرته وإعانته باليد واللسان أو المال كما قال تعالى "فلا تكونّن ظهيراً للكافرين" (القصص، 17)(13).

خامساً: أفتى علماء المسلمين أن الذي يمكّن أعداء الإسلام من المسلمين أفراداً أو جماعات أو يسلمهم لهم فهو مرتد، فقد ذكر البرزلي في كتاب "القضاء" في نوازله (أن أمير المؤمنين علي بن يوسف بن تاشفين اللمتوني استفتى علماء زمانه ـ وهم من هم في علمهم ـ في استنصار ابن عباد الأندلسي بالإفرنج ليعينوه على المسلمين فأجابه جُلّهم بردّته وكفره)(14).

الواقع:

إن سجل آل سعود في حرب الإسلام والتواطؤ مع أعدائه سجل طويل لا يسعنا في هذا المقام الإحاطة به، وهذه بعض النماذج لإثبات تلك الحقيقة، وطلبة العلم يعلمون أن واقعة واحدة من مظاهرة أعداء الإسلام على المسلمين، أو التعامل مع أعداء الإسلام تعامل الولي المناصر القريب، يكفي لنزع الشرعية منه ووصفه بالكفر والنفاق،كما نصّ عليه أئمة الإسلام وخاصة علماء الدعوة من أمثال الشيخ محمد بن عبدالوهاب وعبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، وهذا ليس مجال نقاش عضوية المنظمات الدولية التي تحارب الإسلام ولا المعاهدات الدولية والإقليمية والعلاقات التي قامت على أساس إسقاط دور الدولة في نشر الدعوة ومسؤوليتها تجاه المسلمين في العالم رغم أن تلك بحد ذاتها تقضي على الشرعية، ليس لعدم القناعة بذلك ولكن لأن كثيراً من المسلمين بل حتى من طلبة العلم استمرأها وتعود عليها، فكانت هذه النتائج والأمثلة أبرز وأخطر من ذلك بكثير حتى لا يجادل فيها مجادل أو مكابر.

النموذج الأول: العلاقة مع الأمريكان: لا يشك عاقل أنها علاقة عمالة وعبودية، وقد يُقال أن الدولة المسلمة لا بأس أن تسدد وتقارب إذا كانت في مرحلة ضعف، لكن لا يمكن أن يقبل مسلم من دولته وضع الانبطاح والعبودية الذي يمارسه آل سعود تجاه الأمريكيين، ويكفي أن الأمريكان هم الذين يرسمون سياسة المملكة بكاملها: السياسة الخارجية والعلاقات، السياسة العسكرية، السياسة الاجتماعية، السياسة المالية والاقتصادية، فالخطط الخمسية التي نفذتها المملكة منذ منتصف السبعينات الميلادية وضعها أساتذة من جامعة هارفرد تحت إشراف المخابرات الأمريكية، والاستراتيجية العسكرية وضعتها وزارة الدفاع الأمريكية وتتضمن تلك الاستراتيجية تحديد من هو العدو للمملكة، وقد حُدّد العدو ببعض الجيران من البلاد الإسلامية وشعب الجزيرة نفسه!، والسياسة الاقتصادية وضعها الأمريكان، وقد رسمت تلك السياسة بحيث تحقق أكبر عملية استنزاف مالي في التاريخ، فضلاً عن التحكم المباشر بأسعار النفط وسياسة تسويقه، والتمكن من ارتهان كل احتياطي النفط في أرض الجزيرة، وتمادى الأمريكان في استعباد آل سعود إلى درجة أن وظفوا أموال المملكة لتأمين العمليات السرية التي تقوم بها المخابرات الأمريكية في نيكاراغوا وأنغولا ولبنان وبلاد أخرى، وحين وقعت حرب الخليج مكّن آل سعود نصف مليون من الأمريكان من جزيرة العرب ثم من تدمير العراق وحصار شعبه المسلم، وكانت السلطة الوحيدة للملك في تلك الحرب أن سمح له الأمريكان بمعرفة توقيت الضربة الأولى، ثم بعد الحرب بقي عشرات الألوف من الأمريكان اليهود والنصارى منهم ذكورهم وإناثهم، مع سلاحهم وطائراتهم يتصرفون تصرف الأسياد، ويدخلون جزيرة العرب ويخرجون بدون معرفة السلطات السعودية، والنصوص الشرعية والإجماع منعقد على تحريم ذلك تحريماً قطعياً، قال صلى الله عليه وسلم "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً" رواه مسلم، وكان آخر الأمثلة على تلك العبودية البيان الرسمي من وزارة الخارجية الموجه للشركات يطالبها فيه بالتوقف عن مقاطعة إسرائيل، ويشير البيان صراحة وبدون خجل إلى أن هذا التعميم تم بناءً على توجيهات أمريكا، وهذه النماذج المذكورة مما عرف واشتهر، أما ما خفي من العلاقات والمعاهدات والاتفاقيات فخطير خطير.

النموذج الثاني: علاقة المملكة مع الأنظمة الجاثمة على صدور المسلمين والتي تحارب الإسلام والدعاة، وخاصة دول شمال أفريقيا، فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن آل سعود دعموا تلك الأنظمة بالمال وبالدعم الإعلامي والدعم المعنوي علناً وبكل افتخار وقد إستلم واحد من هذه الأنظمة من آل سعود أكثر من ألفي مليون دولار دفعة واحدة كمحاولة لإنقاذه، واستقبل آل سعود أحد وزراء الدفاع في تلك البلاد الذي لا يُعرف عنه إلا حرب الإسلام استقبال الفاتحين وقلّدوه وسام والدهم الملك عبدالعزيز حتى أصبح الحرم الشريف مزاراً مفتوحاً لكل عدو حاقد على الإسلام، وامتلأت وزارة الداخلية بخبراء القمع وحرب "الأصولية" من تلك البلاد، وكانت أكبر الجرائم التي اقترفت في هذا الميدان والتي نص علماء المسلمين بالإجماع أنها ردة عن الإسلام هي تسليم كثير ممن لاذ بالحرم من الدعاة هرباً من طغاة بلاده لحكام بلادهم لقتلهم والتنكيل بهم، وقد تقدّم كلام الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ في أمثال هذا الفعل الذي لم يجرؤ حتى الجاهليون، ولا حتى الدول الكافرة في الزمان المعاصر على اقترافه.

النموذج الثالث: الدعم الصريح للدول والمؤسسات والجماعات الملحدة التي حاربت الإسلام علناً وتقديم ذلك الدعم لها في معركتها مع الإسلام، فقد استلم "الاتحاد السوفياتي" في أوج الحرب مع المجاهدين أربعة آلاف مليون دولار من آل سعود، ودعم آل سعود النظام الاشتراكي الملحد في اليمن الجنوبي بأكثر من ثلاثة آلاف مليون دولار فضلاً عن الدعم العسكري والبشري والسياسي والإعلامي والمعنوي، بل وحتى بالدواء والغذاء، كما قدم آل سعود الدعم المادي والمعنوي للصليبي المجرم جون قرنق وزودوه بالسلاح وبالدواء والغذاء، وكذلك دعموا حزب الكتائب النصراني الماروني وأخيراً دعموا أسياس أفررقي لاحتلال جزيرة حنيش اليمنية.

النموذج الرابع: ذلك الاندفاع الكبير تجاه مشروع الصلح مع اليهود المغتصبين، حيث يفتخر بندر بن سلطان أن المملكة هي التي دفعت تكاليف مؤتمر "مدريد" كاملة، وقبل ذلك تكفّلت المملكة خلال حرب الخليج بتقديم ثلاثة عشر مليار دولار لإسرائيل مقابل إسكاتها عن ضرب العراق، فضلاً عن الدعم الذي تحظى به مسيرة التطبيع مع العدو، دع عنك موافقة المملكة وتأييدها لكل القرارات الدولية التي أعطت الشرعية لاحتلال اليهود لفلسطين، وهذه كلها مما أُعلن وتداوله الإعلام، أما ما لم يُعلَن فطوام عظيمة تصل إلي حد التنسيق الأمني والعسكري والتواطؤ ضد الحركات والجماعات الإسلامية.

النموذج الخامس: اختراق كل الحركات والجماعات والمراكز والمؤسسات الإسلامية بهدف تشتيتها وإثارة الفتنة بينها وإفشال برامجها وتمييع قضيتها وتشويه الإسلام وجعله قاصراً على بعض المعاني المحدودة، وتحويل عدد كبير من المراكز والمؤسسات الإسلامية إلي مؤسسات عميلة تخدم الدعاية للنظام السعودي، ومن ثم الأهداف الأمريكية واليهودية.

ولقد تبين بالأدلة القاطعة من خلال تتبعنا لسياسة المملكة وخاصة بعد حكم الملك فهد أن ما من مصيبة ألمت بالإسلام والمسلمين والدعوة الإسلامية إلا وكان لآل سعود فيها دور فعّال والعياذ بالله، وعلى الذين يدافعون عن النظام أن يثبتوا أن السياسة الخارجية للمملكة لا تحارب الإسلام، فضلاً عن أن تكون في صالح الإسلام.

وبعد هذا الاستعراض فإنه قد ترسخ لكل طالب حق أن الحكام يوالون أعداء الإسلام ويعادون المسلمين ويكيدون لهم، وأن علاقاتهم مبنية على دعم وتأييد كل عمل يضر بالإسلام والمسلمين، ويكفينا من الشواهد الماضية تسليم الذين يلوذون بالحرم من المجاهدين والمضطهدين لحكومات بلادهم، فهل يُعتبر هذا النظام شرعياً بعد كل ذلك؟.



هوامش الولاء والبراء



1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن ج313/6.

2) ابن حزم، المحلى، ج35/13.

3) ابن تيمية، الإيمان، 14.

4) ابن القيم، أحكام أهل الذمة،ج 67/1-69.

5) سليمان بن عبدالله آل الشيخ، أوثق عرى الإيمان، 26ـ27.

6) انظر الرسائل والمسائل النجدية،ج1 ص745، وكذلك مجموع رسائل حمد بن عتيق (100ـ101).

7) عبدالله عبداللطيف، الدرر السنية، 11/7.

8) رواه مسلم.

9) رواه أحمد بسند حسن.

10) قال الهيثمي إسناده حسن.

11) انظر الرسائل والمسائل النجدية، 134/2-135.

12) المرجع السابق، 52/3.

13) انظر محمد بن عبدالوهاب، مجموع التوحيد، 29، والمرجع السابق.

14) انظر نصيحة أهل الإسلام، 179.





رفع شعائر الإسلام


من المسلمات الشرعية أن المسلمين أفراداً وجماعات ودولة يجب أن يسعوا لإعزاز الإسلام ورفع شعائره، ولكن قبل تقويم أداء النظام في هذا الجانب لابد من التأصيل الشرعي العام لهذه القضية.

أولاً : ثبت بالكتاب والسنة أن التمكين للإسلام، ورفع كلمة الله وإقامة شعائر الإسلام وإظهارها واجب شرعي على من تولى أمر المسلمين، قال تعالى "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" (الحج، 41)، نقل القرطبي عن الضحاك في تفسير هذه الآية قوله: (... هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الله الملك ...)(1)، وقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: (...جميع الولايات مقصودها أن يكون الدين كله لله، فإنه سبحانه إنما خلق الخلق لذلك وذلك هو الخير والبر والتقوى ...)(2)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها)(3)، وقال إمام الحرمين الجويني (الغرض ـ من الإمامة ـ استيفاء قواعد الإسلام طوعاً أو كرها،ً والمقصد الدين)(4)، وقال الماوردي رحمه الله: (... الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ...)(5)، وهكذا فإن الغرض الأول الذي شرعت من أجله الإمامة هو تحقيق الدين على مستوى المجتمع والدولة.

ثانياً : ثبت بالكتاب والسنة أن رفع شعائر الإسلام والتمكين لدين الله لا يتحصل إلا بقيام الولاة بالأمر بالمعروف "كل معروف"، والنهي عن المنكر "كل منكر"، ولذا صار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناه الشامل واجباً منوطاً بولي الأمر، إذا قصّر فيه قصّر عن شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، وإذا نقضه نقض مقصود الإمامة في الإسلام، قال تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" (آل عمران110،)، وقال: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" (الحج، 41)، وقال تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" (التوبة، 71)، والإمام وكيل أو نائب عن الأمة في تحقيق عهد المؤمنين مع الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على ذلك بشكل واضح وصريح فقال: (... جميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...)(6)، وقد نقل ابن القيم عبارة الشيخ ابن تيمية تقريباً بقوله: (... وجميع الولايات الإسلامية مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...)(7)، وقال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله: (... ومما يجب على ولي الأمر تفقد الناس من الوقوع فيما نهى الله عنه ورسوله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن بإزالة أسبابها، وكذلك بخس الكيل والميزان والربا ...)(8)، قال شيخ الإسلام في حديثه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (... هذا واجب على كل مسلم قادر وهو فرض على الكفاية، يصير فرض عين على القادر الذي لم يتم به غيره، والقدرة هي السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم ...)(9).

ثالثاً: ثبت بالكتاب والسنة كذلك أن تعطيل هذه الشعائر وإنعاش الباطل، وإضعاف الحق سبب في الهلاك والدمار والعذاب الدنيوي، فضلاً عن الإثم المترتب على ذلك، قال تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً" (الإسراء، 16)، قال القرطبي في تفسيرها (وقيل أمّرنا: جعلناهم أمراء لأن العرب تقول: أمير غير مأمور أي غير مؤمّر، فإذا أراد (الله) إهلاك قرية مع تحقيق وعده على ما قال تعالى أمر مترفيها بالفسق والظلم فحق عليها القول بالتدمير ...)(10)، وقد تضافرت الأحاديث النبوية في هذا المعنى فمنها ما رواه الترمذي وأبي داود عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لما وقع النقص في بني إسرائيل، كان الرجل منهم يرى أخاه يقع على الذنب، فينهاه عنه، فإذا كان الغد، لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن، فقال: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانو يعتدون" (المائدة، 78) وقرأ حتى بلغ "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون”" (المائدة، 78-81)(11).

وعن قيس بن أبي حازم رضي الله عنه قال، قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (يا أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" (المائدة، 105)، وإنما سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب”، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيّروا ولا يغيّرون، إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب”)(12)، وعن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيّروا عليه ولا يغيّرون، إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا”(13)، وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم”(14).

فهذه الأدلة وغيرها كثير دليل قاطع على أن تقصير الأمة ممثلة في نوابها وعلى رأسهم الحاكم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب مباشر في حلول العـــذاب الدنيوي، فضلاً عن الإثم والسيئات، فكيف إذا كان الحال أكثر من مجرد تقصير، بل أمر بالمنكر ونهي عن المعروف، وإشاعة للفاحشة، ودفاع عن الباطل، وحرب للدعوة.

رابعاً: نص العلماء على أن الطائفة الممتنعة التي تصر على تعطيل الشرائع الثابتة، أو استحلال الحرام الثابت الذي لا عذر لأحد فيه تعامل معاملة مانعي الزكاة الذين قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، ليس لإنكارهم النبوة ولا القرآن ولا حتى لتركهم الصلاة، بل لمجرد تعطيل تلك الشعائر الثابتة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (... وأيما طائفة ممتنعة انتسبت إلى الإسلام وامتنعت عن بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين حتى يكون الدين كله لله ...)(15)، ويقول في موضع آخر: (... فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج، أو التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا، أو عن نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها ...)(16)، وتأمل قوله "أو التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا"، وأين يقع الربا في ذلك، وتأمل قوله كذلك "وإن كانت مقرة بها"، فلا يكفي الإقرار بل لابد من التطبيق.

وبعد هذا الاستعراض لما يفرضه الإسلام على الدولة من إقامة الشعائر، والتمكين للدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخطر تعطيل ذلك على المجتمع، فكيف كان إنجاز النظام السعودي في هذا الجانب؟ وكيف يمكن تقويمه من هذا المنطلق؟ وعلى الذين يحرصون على إصابة الحق في معتقدهم وعملهم، أن يتأملوا الأمر بحنكة وفطنة، ويتخلوا عن السذاجات والتبسيط وخداع النفس ويقبلوا بحقائق الأمور ولا تغرهم الدعاوى والافتراءات.

الواقع:

عند النظر إلى النظام السعودي الحالي بهذه الطريقة فإن المتأمل يخرج باستنتاج غريب مؤدّاه أن ذلك النظام لم يقصر في ذلك الواجب الشرعي الذي من أجله شرعت الإمامة في الإسلام، بل نقضه نقضاً وعمل على خلافه، ولقد تبين أن تعامل النظام مع قضية التمكين لدين الله في الأرض وإظهار الشعائر والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبارة عن خطة كاملة واستراتيجية عريضة، مؤداها مسخ هذا المجتمع، وبتر الأمة عن إرثها الديني العظيم، وتحويل المسلمين إلى مجرد أفراد من المسلمين كلٌّ دينه بينه وبين ربه، ونزع الجانب الاجتماعي، وجانب الدولة عن الإسلام على الأقل من الناحية العملية، وإليك بعض النماذج لواقع الشعائر الإسلامية في النظام السعودي الحالي:

النموذج الأول: شعيرة الجهاد، والحد الأدنى منها الذي تعتبر بعده معطلةً تعطيلاً كاملاً هو حماية البيضة وتحصين الثغور، حتى يكون المسلمون في أمن على دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، قال الماوردي في تعداده لمسؤوليات الإمام: (... الثالث: حماية البيضة، والذب عن الحريم لتتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال ...)(17)، وقال إمام الحرمين: (... وأما اعتناء الإمام بسد الثغور فهو من أهم الأمور وذلك بأن يحصن أساس الحصون والقلاع ـ إلى قوله ـ ويرتب على كل ثغر من الرجال ما يليق به...)(18)، ومن المعلوم من الدين بالضرورة وجوب الجهاد وتحقيق أدنى درجاته بما ذكر من حماية الببضة وتحصين الثغور ولاشك أن الإضعاف المتعمد للجيش، وانكشاف البلد أمام الأعداء، والاعتماد الكامل في حماية البلاد على أعداء الإسلام واستقدام قواتهم وتمكينها من ثغور المسلمين وقرب الحرمين، بل جعل الاعتماد على هؤلاء والاحتماء بهم أمراً عادياً والاعتراف به صراحة أمام الناس، وعقد المعاهدات من أجله هو تعطيل صريح ونقض كامل لأدنى مراتب تلك الشعيرة العظيمة، وعندما انكشفت تلك الجريمة النكراء في حرب الخليج الثانية، توقع البعض ممن أحسن الظن بأن الوضع سيصلح، لكن الذي حدث هو التأكيد على هذا الواقع، من خلال بقاء جيوش اليهود والنصارى "قوات الحماية" في بلاد المسلمين، والتوقيع على مزيد من المعاهدات في ذلك مما أوقع جزيرة العرب ومهد الإسلام في احتلال كامل، ولا نزيد تعليقاً على اعتبار هذا الوضع مما ينطبق عليه كلام ابن تيمية في وصف الطوائف الممتنعة، حيث اعتبر رحمه الله مجرد التوقف عن جباية الجزية من تعطيل الشعائر فكيف بما ذكر.

النموذج الثاني: من الشعائر المعطلة بشكل صريح شعيرة تحريم الربا الذي ثبت تحريمه قطعياً في الكتاب والسنة وأصبح تحريمه من المعلوم من الدين بالضرورة، بل نص القرآن على أنه حرب لله ورسوله قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون" (البقرة، 279)، وقد ثبت في الحديث أن تحريم الربا أعظم من تحريم ما يستعظمه الناس وهو الزنا، ومع كل ذلك التحريم ومع أنه حرب لله ورسوله، فقد أصر الحكام ليس على مجرد السماح للربا علناً ـ وهو بحد ذاته جريمة كبرى ـ بل لقد اعتبروه أساس التعامل الاقتصادي داخل البلاد وخارجها، ودعموا كل المؤسسات الربوية قانوناً ونظاماً، بل وحتى بالمال حيث أنقذت الدولة بقوتها المالية البنوك أكثر من مرة حين أوشكت على الإفلاس، ولم تكتف الدولة بذلك بل منعت رسمياً وبسلطتها إنشاء المصارف الإسلامية، ومنعت نشر فتاوى العلماء حول البنوك الربوية، ومنعت الأحاديث والإعلانات التي تؤيد المصارف الإسلامية، حتى الموجودة منها في بلاد الكفر، فهل يشك أحد بعد ذلك أن شعيرة تحريم الربا معطلة في بلاد الحرمين. نعود ونذكر بحديث شيخ الإسلام ابن تيمية عن الطوائف الممتنعة، واعتباره مجرد الإقرار بالوجوب أو التحريم لا يمنع من انطباق الوصف عليها بتعطيل الشعيرة وما يترتب شرعاً على ذلك(19).

النموذج الثالث: للشعائر المعطلة أو المنقوضة هو شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمقصود الشرعي بذلك ليس ما يسمى في بلادنا بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هو قيام الدولة من خلال سلطتها على جميع المستويات بنشر الدعوة والأمر بالمعروف وحمايتهما، ومنع المنكرات كما في كلام ابن تيمية رحمه الله فيما سبق(20)، ولربما تبين لطالب الحق أن الدولة لم تقصر في تلك الشعيرة فحسب، بل لقد سعت ضدها فأمرت بالمنكر، ونهت عن المعروف، وحاربت الدعوة، ولو تأمل المرء طريقة الدولة في التعامل مع الدعوة لاكتشف أن تعاملها عبارة عن برنامج متكامل شبيه ببرامج "تجفيف المنابع" المنفذة في بعض دول شمال أفريقيا، وفي هذا البرنامج سعت الدولة لسد كل المنافذ التي يمكن أن تصل بها كلمة الحق والمعروف إلى الناس، وتسهيل كل الطرق التي يصل بها الباطل والمنكر إلى الناس.

ففي المجال الأول ضيقت الدولة على الدعاة فجعلت الحديث إلى الناس سواء في المسجد أو في المنتديات العامة ممنوعاً إلا بإذن، واستخدم هذا النظام في منع عدد كبير من الدعاة المخلصين، وفي نفس الاتجاه فصلت الدولة عدداً كبيراً من الخطباء والعلماء والدعاة من المساجد، بل وحتى من الجامعات، رغم أن بعضهم لا يتجاوز حديثه الإيمانيات، ثم استكملت الدولة تلك الخطوة باعتقال عدد كبير من العلماء والدعاة ومئات من أتباعهم، وغيّبتهم خلف القضبان بل وعرّضت بعضهم للعذاب، وحرمت الأمة من مجرد رؤيتهم ومقابلتهم، هذا فيما يخص الدعاة والعاملين للإسلام من داخل البلاد، أما فيما يخص من هم خارج البلاد فقد كانت بلاد الحرمين إلى عهد قريب ملاذاً للذين يهربون من الطغاة والظالمين، وأما الآن فقد أصبح من دواعي منع الحصول على تأشيرة لدخول البلد وحتى الحج والعمرة هو الانخراط في نشاط إسلامي سياسي، وأدهى من ذلك جرماً تسليم من يلوذ بالحرم لحكوماتهم لقتلهم والتنكيل بهم، وأما في سياق الحرب على الدعوة، فقد فرضت الدولة حصاراً شديداً على الشريط الإسلامي بإقفال عدد كبير من محلات التسجيلات الإسلامية ومنعت عدداً كبيراً من الأشرطة، وفرضت عقوبات صارمة على من يخالف ذلك، وفي نفس الميدان منعت المجلات الإسلامية بالكامل تقريباً ، ومُنِع الإسلاميون من التحدث إلى الأمة من خلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، إلا من يلتزم في حدود العبادات الفردية، ومُنع الإسلاميون كذلك من الوصول إلى أي منصب سياسي أو عسكري أو أمني أو تعليمي حساس، وتدخلت الدولة حتى في تعيين عمداء الكليات ورؤساء الأقسام سعياً لمنع الإسلاميين من نشر الخير ورفع لواء الدعوة، ولنفس الغرض وهو حصار الدعوة فقد نفذت حديثاً سياسة إيقاف كل الأنشطة المالية حتى الخيرية، وأقفلت جميع المبرات والمؤسسات الخيرية، وسعت الدولة وبكل قوة لمنع أي شكل من أشكال التجمع لهدف التعاون على البر والتقوى، وتعاملت مع ذلك بكل قسوة وعنف، والمطلع على تفاصيل تنفيذ هذه الخطة يخرج بقناعة أن المقصود منها هو الإسلام ذاته، وليس مجرد الانزعاج من شيخ أو عالم دأب على انتقاد الحكام، وهذه قصة ما يسمى بـ"شارع الموت" التي تجسّد فيها مفهوم حرب الدولة للإسلام ذاته، وليس لمن ينتقد الحكام، فقبل بضع سنوات لاحظ عدد من الدعاة والغيورين على الإسلام تجمعات من الشباب المنحرف خارج مدينة الرياض تجتمع للعب بالسيارات، وتداول المخدرات واللواط وغيره، فسعى أولئك الدعاة لإقامة مخيم قريب منهم، ودعوهم بأساليب غاية في الرقة والترغيب، ولم تمض أيام حتى استقطبت تلك الفكرة آلاف من أولئك الشباب المنحرف، وبدأوا يتحولون إلى شباب صالح، ولكن لم تبدأ الفكرة بالانتعاش حتى داهمت قوات الأمن المخيم، وتم تكسيره وطرد المجتمعين بحجة عدم وجود إذن له، فلم ييأس الدعاة وسعوا إلى استصدار إذن شخصي من الشيخ بن باز، وأعادوا تأسيس المخيم، ولم يمض يومان حتى داهمتهم قوات الأمن وحطمت المخيم مرة أخرى، واعتقل الشخص الذي سعى لاستصدار إذن من الشيخ بن باز، ولم يُفرج عنه إلا بعد تعهد بعدم تكرار ما عمل، فبالله عليكم أليس هذا دليلاً على حرب الدعوة ذاتها والسعي في نشر الباطل بكل أشكاله؟؟.

وفي مقابل حصار الدعوة سعت الدولة حثيثاً لتخريب المجتمع بكل وسائل التخريب ففي الإعلام التخريب الفكري والتخريب الأخلاقي، وخروجاً من الحرج في نشر الرذيلة والانحراف الفكري والخلقي في وسائل الإعلام الرسمية، فقد صدّرت الدولة وسائل إعلامها إلى الخارج لتبث السموم من هناك، وفي مجال السماح لأعداء الإسلام والمنحرفين فكرياً وخلقياً والتمكين لهم، فقد استحوذ هؤلاء على معظم المناصب والأماكن الحساسة في البلد، بل لقد أصبح من ضرورات توظيف الإنسان في مركز حساس أن يثبت عدم التزامه الشرعي، حيث تحول الالتزام الشرعي إلى صفة قادحة فيمن يستلم تلك المسؤوليات، وفي الوقت الذي مُنِع فيه المصلحون عن مخاطبة الأمة، فقد فتح الباب على مصراعيه للمفسدين في وسائل الإعلام، ففي الوقت الذي تمنع فيه المجلات الإسلامية، سمح للمجلات الهابطة والساقطة بغزو البلد وتخريبه، وكذلك الحال بالنسبة للتسجيلات الإسلامية، ومحلات الفيديو، بل لقد دعمت الدولة من خلال المتنفذين من الأمراء وحاشيتهم كل أشكال الفساد من دعارة وخلاعة ومخدرات وخمر ولواط وتحلل وانحراف بل وحمت أصحابها من كل أشكال العقاب، والحكايات في هذا الميدان يشيب لها الولدان، وتصور أن آلاف الأمراء كل أمير يستطيع أن يستورد ويوزع ويبيع ويحمي من يريد، فكيف تريد للبلد أن ينجو من الهلاك دون الأخذ على يديه؟.

بالإضافة إلى ما سبق سعت الدولة إلى حل جذري لتلك القضايا، وذلك من خلال تغيير المناهج التعليمية، حتى ينعزل الطالب عن ارتباطه بالعقيدة والدين، ولا يفرق بعدها بين إسلام وكفر، أو بين سنة وبدعة، ويتحول إلى بهيمة تبحث عن إشباع غرائزها.

بقي أمر واحد وهو الحديث عما يسمى بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحقيقة هذه الهيئات أنها ورطة تورط النظام في إرثها، ولم يستطع التخلص منها خوفاً من ردة الفعل لدى العلماء، فسعى إلى أن يجعلها تؤدي دوراً معاكساً لما يراد منها، وهو تشويه الإسلام وتنفير الناس منه، وحوّلها بعد عدد من الإجراءات إلى مؤسسة عاجزة لا يساوي نفوذها نفوذ أصغر مركز من مراكز الشرطة، وحرمها من كل أشكال التطوير والتنظيم، وفرض عليها عدداً من الموظفين المدربين في المخابرات لتشويه صورة الإسلام، ولولا الجهود العظيمة من قبل بعض المخلصين من داخل هذا الجهاز لكان أثر هذا المشروع في تشويه صورة الإسلام من خلال هذا الجهاز أكبر بكثير من الحاصل حالياً.

فهذا واقع النظام إذاً: برنامج متكامل لحرب الإسلام في المسجد والسوق والمدرسة والتلفاز والمذياع والمجلة والجريدة وعلى مستوى الفرد والجماعة والمجتمع والدولة، برنامج لمسخ الأمة وعزلها عن دينها وحضارتها، فهل يستطيع أحد أن يثبت أن النظام يدافع عن الإسلام والدعوة ويحميها؟ إن ذلك مستحيل!، بل أن يثبت أن وضع النظام مع الدعوة هو مجرد تقصير وعجز!؟. وبعد فقد أقيمت الحجة على أن حرباً غير معلنة قائمة ضد الإسلام والدعوة والدعاة في بلاد الحرمين، فكيف تبقى شرعية بعدئذ لمن نقض شعائر عظيمة مثل شعيرة الجهاد وحماية الثغور وحارب الدعوة وحمى الربا والفساد؟!.



















هوامش رفع شعائر الإسلام



1)القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 7/73.

2) محمد بن عبدالوهاب، المجموعة الكاملة، 9/42.

3) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 139.

4) الجويني، غياث الأمم، 138.

5) الماوردي، الأحكام السلطانية، 5.

6) ابن تيمية، الحسبة، 6.

7) ابن القيم، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، 246.

8) انظر الرسائل والمسائل النجدية، 2/11.

9) ابن تيمية، الحسبة، 6.

10) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 1/230.

11) رواه أبو داود والترمذي.

12) أورده أبو داود والترمذي.

13) رواه أبو داود.

14) رواه الترمذي ورواه مسلم في كتاب الإمارة ووجوب طاعة الأمير.

15) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 108.

16) ابن تيمية، الفتاوى، 28/503.

17) الماوردي، الأحكام السلطانية، 16.

18) الجويني، غياث الأمم، 156.

19) انظر ابن تيمية، الفتاوى، 28/503.

20) انظر ص 40 وما بعدها من هذا البحث .







































الواجبات تجاه الرعية


لقد بّين العلماء من خلال فهم النصوص الشرعية ومن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين أن على الإمام واجبات شرعية محددة تجاه رعيته، فكان أبرز هذه الواجبات هو إقامة العدل، وحفظ المال العام وجمعه وصرفه بالطرق المشروعة، وتولية أهل القوة والأمانة في المناصب والولايات، بالإضافة إلى مسؤولية الحاكم في تسهيل سبل المعيشة، وهذه الواجبات فروض شرعية ملزمة، وليست منّة يمنّ بها الحاكم على شعبه، وتنفيذه لها وحرصه عليها هو تنفيذ لواجب، وليس تفضلاً على أحد، وحقيقة دوره في تلك المسألة أنه أعظمهم مسؤولية وأكثرهم حملاً، ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، وذكر منها “الإمام الأعظم الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته”(1)، وعن معقل بن يسار قوله صلى الله عليه وسلم: “ما من عبد يسترعيه الله رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة”(2)، وقال صلى الله عليه وسلم “ما من عبد يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل الجنة معهم”(3)، وعن عائذ بن عمرو رضي الله عنه قوله مخاطباً عبيد الله بن زياد قال: أي بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “إن شر الرعاء الحُطمة فإياك أن تكون منهم”(4)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: “اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به”(5)، وهكذا فالمسألة تكليف وواجب وليست منة وتفضلاً، وهذه الواجبات متعددة من أهمها:

الواجب الأول: إقامة العدل، قال تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ... الآية" (النحل، 90)، وقال: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" .... الآية (النساء، 58)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... وذكر منهم إمام عادل”(6)، وقال “ليس من وال أمةِ قلت أو كثرت لا يعدل فيها إلا كبّه الله تبارك وتعالى على وجهه في النار”(7)، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قوله كذلك “ما من أمير عشيرة إلا يؤتى يوم القيامة مغلولاً لا يقله إلا العدل أو يوبقه الجور”(8). وفي ذم الظلم قال تعالى: "وإذا ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريّتي قال لا ينال عهدي الظالمين" (البقرة، 124)، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: (لا عهد لظالم عليك في ظلمه أن تطيعه) وقال: (ليس للظالمين عهد، وإن عاهدته فانقضه)(9)، وقال الجصاص في تفسير الآية: (فلا يجوز أن يكون الظالم نبياً، ولا خليفة لنبي، ولا قاضياً، ولا من يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين من مفت أو شاهد)(10)، وقال: (... فثبت بهذه الآية بطلان إمامة الفاسق، وأنه لا يكون خليفة، وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناس اتباعه ولا طاعته ...)(11)، وقال القرطبي: (... قال إبن خويز منداد: الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكماً ولا مفتياً ولا شاهداً ولا راويا ...)(12)، وقال تعالى: "إن الظالمين لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة" (الشورى21،)، وفي الحديــث القدســي “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا”(13)، وقال صلى الله عليه وسلم: “اتقو الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة”(14)، وقال صلى الله عليه وسلم: “صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي، إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق”(15). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (... والمقصود أن الحكم بالعدل واجب مطلقاً في كل زمان ومكان على كل أحد ولكل أحد، والحكم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو عدل خاص، وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها، والحكم به واجب على النبي صلى الله عليه وسلم، وكل من اتبعه، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر ...)(16)، وقال: (... وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة، والسياسة الصالحة)(17)، وقال ابن القيم: (...إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها وحكمة كلها، وكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه ...)(18).

وزوال العدل وانتشار الظلم لا يدل على جور الحاكم ومخالفته الشريعة فحسب، بل يؤدي إلى خراب البلاد وحلول العذاب، قال تعالى: "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد" (هود، 102)، قال ابن تيمية: (... ولهذا يروى: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة ...)(91)، وقال كذلك: (... إن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، وإن لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة ...)(20).

الواجب الثاني: حفظ المال العام وجمعه وصرفه بطريقة شرعية، حيث حددت الشريعة طرق معينة لا يجوز تجاوزها لجمع المال العام، والزمت الإمام بحفظه وصونه وصرفه في الوجوه الشرعية، ووردت الأدلة بالوعيد الشديد على من يفرط في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: “إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة”(21)، قال ابن حجر: (... وفي هذا الحديث ردع الولاة أن يأخذوا من المال شيئاً بغير حقه، أو يمنعوه من أهله ...)(22)، وقال أبي يعلى في جباية المال: (... جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير عسف ...)، وقال في صرف المال: (... تقدير العطاء وما يستحق من بيت المال من غير سرف ولا تقصير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير ...)(23)، وقد روي عن عمر تشبيهه دور الإمام مع المال بدور ولي مال اليتيم (ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم، إن استغنيت عففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف)(24)، والآيات والأحاديث في تحريم الغلول والوعيد الشديد منه كثيرة معلومة، ومن أكثر هذه الأحاديث تحديداً لدرجة الغلول ما رواه أبو داود عن المستورد بن شداد قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكناً فليكتسب مسكناً"، قال: قال أبو بكر: أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق”(25)، وقد فصل علماء المسلمين في الأموال تفصيلاً دقيقاً من خلال فهمهم للكتاب والسنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، قال الماوردي في تعداده لواجبات الإمام: (... تقدير ما يتولاه من الأموال بسبب الدين من غير تحريف في أخذها وإعطائها ...)(26)، قال ابن تيمية رحمه الله في تقسيم أنواع الجباية: (... نوع يستحق الإمام قبضه بالكتاب والسنة والإجماع، كما ذكرناه، ونوع يحرم أخذه بالإجماع، كالجبايات التي من أهل القرية لبيت المال لأجل قتيل قتل بينهم، وإن كان له وارث، أو على حد ارتكب وتسقط عنه العقوبة بذلك، وكالمكوس التي لا يسوغ وضعها اتفاقاً، ونوع فيه اجتهاد وتنازع كمال من له ذو رحم وليس بذي فرض ولا عصبة ونحو ذلك ...)(27).

الواجب الثالث: تعيين الأكفاء من أولي القوة والأمانة في مناصب الدولة الحساسة، قال تعالى: "إن خير من استأجرت القوي الأمين" (القصص، 26)، قال ابن تيمية رحمه الله في تفسيرها: (وهذه الشروط القوة والأمانة، وتعنيان العلم والخبرة في العمل الموكل إليه والقدرة عليه والخشية لله لا للناس ...)(28)، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله”، وفي رواية “من قلد رجلاً عملاً على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين”(29)، وقال عمر بن الخطاب: (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين)، وقال عمر كذلك: (من استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله)(30)، وعند البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيره لتضييع الأمانة: “إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة”(31)، قال الماوردي في تعداد واجبــات الإمام (والسابع اختيار خلفائـــه في الأمور أن يكونوا من أهل الكفايــة فيها والأمانة عليها ...)(32)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (... يجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، وهذا واجب عليه، فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار ومن الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاة ومن أمراء الأجناد، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده، فيجب على من ولي شيئاً من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية أو سبق في الطلب فذلك سبب للمنع ...)(33). وإضافة إلى وجوب اختيار أهل الأمانة والقوة فقد أوجبت الشريعة محاسبة الولاة وعزلهم أو عقابهم عند صدور ما يستدعي ذلك، فقد ثبت في الصحيح حديث ابن اللتبية الذي حاسبه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقات، وهكذا كانت سياسة الخلفاء بعده صلى الله عليه وسلم(34).

الواجب الرابع: تسهيل سبل المعيشة وتوفير الأمن وشق الطرق وغيرها، والحديث عن هذه الأمور يطول ويحسن إفراده في بحث آخر .

الواقع:

بعد هذا التأصيل يكون السؤال هل أنجز النظام تلك الواجبات الشرعية وعمل بمقتضاها؟.

ففي مجال إقامة العدل تكاد تلك الدولة تكون أسوأ بلاد العالم في الظلم وهضم الحقوق والتفرقة بين الناس، سواء الظلم الصادر من الدولة نفسها أو من المتنفذين فيها بأفرادهم، وآخر ما يمكن أن يفكر فيه المرء في مثل بلادنا أن يتحقق العدل والمساواة، فنظام البلد قائم أصلاً على تميز الآلاف من أبناء الأسرة الحاكمة عن عامة الشعب وتمتعهم بكل الحقوق، وإعفائهم من كل الواجبات، وحصانتهم ضد القضاء، وإطلاق يدهم في إهانة الناس وأكل أموالهم وهتك أعراضهم، بل وحتى قتلهم وإزهاق أرواحهم، وتتناقص قيمة الإنسان كلما ابتعدت القربى والعلاقة مع الأسرة إلى أن يصل الحال بالإنسان إلى مستوى الرق والعبودية، كما هو حال بعض العمال المستقدمين من بلاد المسلمين، أو حال بعض أبناء البادية المقيمين في أطراف البلد بلا هوية ولا تعريف، أما ممارسة الظلم وهتك الحقوق من قبل الدولة نفسها فحدث ولا حرج، فقول كلمة الحق ممنوع، والتجمع والتعاون من أجل البر والتقوى ممنوع، بل مجرد السعي لجمع الصدقة لوجوه الخير ممنوع، وبالمقابل فإن كل ما منعته الشريعة من أشكال الظلم كالإهانة والسجن والتغييب والتعذيب والتجسس ومداهمة البيوت كل ذلك يمارس بشكل منتظم حتى أصبح هو الأساس، ولم يعد للمرء خصوصية في بيته ولا في هاتفه ولا حق في أداء واجباته الشرعية، وسعياً لاستكمال واقع الظلم المطبق شلّ القضاء، وقبضت عليه الدولة بيد من حديد، وحولته إلى آلة لتأصيل الظلم وتبرير الجرائم، وأصبح القضاء من أمضى الأسلحة في وجه العدل، ومن أراد صورة متكاملة عن ذلك فليقرأ تقرير منظمة ليبرتي عن واقع الحقوق والقضاء في المملكة(35).

وأما في مجال الأموال السلطانية وجمعها وصرفها فلا يُعلم أحد أجرم في ذلك مثل جريمة فهد وإخوانه، وسوف يشهد التاريخ أن فهداً ضيع على أمة الإسلام أكبر ثروة مالية مرت في تاريخها، وأنه تخوّض في مال الله، وأنه أخذه من غير حقه بالمكوس والضرائب والاقتراض بالربا في الوقت الذي أغناه الله بكنوز الأرض، وصرفه بغير حقه على نفسه وعلى قرابته وعلى القريبين منه وعلى أعداء الإسلام والمسلمين، حتى تحول واقع الدولة من فائض بمئة وخمسين مليار دولار إلى ديون ومستحقات بمئة وخمسين مليار دولار، وقدّرت ممتلكات الأسرة في الخارج بما لا يقل عن خمسمائة مليار دولار، يملك فهد لوحده منها إحدى وأربعين ملياراً، وسلطـــان حوالي ثلاثين ملياراً، وابنه خالد حوالي خمساً وعشرين وعليك حساب الباقي، فهل هذا هو أداء الواجب الشرعي في حفظ المال؟ والمضحك أن فهداً وإخوته يمنون على المسلمين بزخرفة البيت الحرام وصناعة باب الكعبة من الذهب الخالص وقد نص العلماء أن ذلك من الجرائم في مال المسلمين، وقد عد الشوكاني ذلك من المعاصي الصريحة، وعد الشيخ صديق حسن خان “وضع الذهب في الكعبة من الكنز الذي يتضمنه قول الله: "يوم يحمى عليها في نار جهنم ... الآية" (التوبة، 35)(36).

وأما استخلاف القوي الأمين فلا يوجد بلد في العالم تحول إلى شركة مساهمة تملكها عائلة اقتسمت الإمارة فيما بينها إلا بلاد الحرمين، فكيف يستقيم النهي الشديد عن تولية الأقارب والمعارف والتشديد على تولية القوي الأمين مع تولية أبناء الأسرة وأخوالهم وأخوال أخوالهم على كل إمارة وسلطة، واختيار أفسق خلق الله وأشدهم تضييعاً للأمانة، وأكثرهم جريمة وخيانة ليوضع في المناصب الحساسة سواء كانت مالية أو عسكرية أو سياسية أو استخباراتية أو حتى بعض المناصب المنسوبة للدين؟، ثم بعد ذلك يكون هؤلاء جميعاً معصومين من كل أشكال المحاسبة، ولديهم كل الحصانة ضد أي مساءلة، وعندهم ضمان تام وتأكيد كامل أن منصبهم لن يتعرض لأي خطر، بل إن جزاءهم على كل جريمة يقترفونها هو تأكيد البقاء، وربما الترقية، ومزيد من التقدير، وأعظم الأمثلة على ذلك وزير الدفاع الذي ضيع البلاد في الجيش الكرتوني، وانكشفت خيانته في أزمة الخليج، فلم يزدد إلا تقديراً واحتراماً!، وضيع البلاد مرة أخرى في حرب اليمن، وحرق الأموال بل وحرق القيم والدين هناك، ثم كوفئ على ذلك بزيادة صلاحياته ومسؤولياته، ولايزال يمني نفسه بالملك بعد كل هذه الجرائم!، فأين المحاسبة والعقاب؟ بل أين المحاسبة لعشرات بل مئات من المتنفذين الذين تعسفوا في استغلال نفوذهم من أمراء ووزراء ومدراء ومسؤولين؟؟ لاشك أن هذه الواجبات ليست معطلة فحسب، بل منقوضة ومعكوسة، فالمناصب لا يعين فيــها إلا من يكون وبــالاً عليهـــا!، والمجـــرم الذي يستغل نفوذه يُكرّم ويُشكر على جريمته وُيشجع على مزيد مـن الجرائـــم .

والعاقل يتساءل بعد هذا الاستعراض ماذا قدم "ولاة الأمر" حتى يستحقوا الشرعية بل كيف تكون لهم شرعية أصلاً؟، فلا هم أدوا الواجبات الدينية ولا هم قاموا بالرعاية الدنيوية، ولا يمكن أن يُفهم كيف يستحق الولاية من نقض كل مقومات ومقاصد الإمامة الدينية ونقض مقاصدها الدنيوية، وحول ملكه للبلد إلى ملك يمين يتصرف بها كما يشاء ويشرع ويرفع ويخفض ويبيع ويشتري؟ والسؤال إلى متى يعيش بعض طلبة العلم هذا التناقض الشرعي، ويخادعون أنفسهم بتلك الشرعية وهم يعلمون كل ما سبق من نصوص شرعية وأدلة واقعة؟.





















هوامش الواجبات تجاه الرعية



1) رواه البخاري ومسلم.

2) رواه البخاري.

3) رواه مسلم.

4) رواه مسلم.

5) أخرجه مسلم والبخاري في كتاب المظالم.

6) متفق عليه.

7) رواه أحمد والبخاري بنحوه.

8) رواه أحمد والبزار والدارمي وقال الهيثمي إسناده جيد.

9) تفسير ابن كثير، 1/167.

10) الجصاص، أحكام القرآن، 1/69-70.

11) المرجع السابق، 1/69-70.

12) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 2/109.

13) رواه مسلم.

14) رواه الشيخان.

15) رواه الطبراني، وقال الهيثمي رجاله ثقات.

16) ابن تيمية، منهاج السنة، 1/32.

17) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 3.

18) انظر ابن القيم، إعلام الموقعين، أول الجزء الثالث .

19) ابن تيمية، الحسبة، 4.

20) المرجع السابق، 94.

21) رواه البخاري.

22) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 7/27.

23) أبو يعلى الفراء، الأحكام السلطانية، 28.

24) ابن الجوزي، مناقب عمر ، 350 .

25) أخرجه أبو داود، وأحمد في السند بلفظ غير لفظ أبي داود.

26) الماوردي، الأحكام السلطانية، 71

27) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 37-38.

28) المرجع السابق، 14.

29) رواه الحاكم وصححه.

30) ابن الجوزي، مناقب عمر، 58.

31)رواه البخاري، انظر البخاري مع فتح الباري ج11/279.

32) الماوردي، الأحكام السلطانية، 70.

33) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 9-10.

34) رواه مسلم في كتاب الإمارة، والبخاري في الإمان والنذور.

35) "حقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية" تقرير خاص صادر عن منظمة ليبرتي لمناسبة انعقاد المؤتمر العالمي الثاني لحقوق الإنسان في فيينا/النمسا 14-25 يونيو (حزيران) 1993م .

36) انظر صديق حسن خان ، الكيل الكرامة، 118.



حكم مبدّلي الشرائع

والمدافعين عنهم



كان الكلام عن التأصيل الشرعي لما يجب أن تكون عليه الولاية الشرعية، وعن أداء النظام السعودي من خلال ذلك المنظار، وبين يدي القارئ الآن محاولة لتحديد موقع النظام حسب التقويم الإسلامي المدعم بالدليل الشرعي وأقوال العلماء الثقات، وما يترتب على ذلك من موقف من قبل الأمة تجاهه وتجاه من يدافعون عنه، ومن أجل ذلك تم تلخيص الفقرات الرئيسية في الصفحات الماضية .

أولاً: ثبت بالدليل الواقعي الموثّق والتطبيق العملي المنظور أن النظام السعودي قد سنّ تشريعات كثيرة فيها معنى التشريع الكامل المناهض للشريعة، من إلزام وتحريم وإباحة وعقوبة، ونصّب لها المحاكم والهيئات، وأنفذ أحكامها بقوة السلطة، ولقد تبين من خلال نقل النصوص الشرعية وأقوال العلماء أن هذا العمل كفر أكبر مخرج من الملة باتفاق العلماء ، وقد تم الرد على شبهتين في ذلك:

الأولى: شبهة من يدعي أن ذلك كفر أصغر، وتقدم نقل كلام الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في الرد على ذلك، حين فرق بكل وضوح بين من يحكم بغير ما أنزل الله تقصيراً أو تهاوناً أو هوى أو شهوة في بعض المواقف فيكون اقترف كفراً أصغر ـ في أحد القولين ـ وبين من يسن التشريعات ويضاهي بها الشريعة ويقيم لها المحاكم، وسمّى رحمه الله ذلك كفراً أكبر صراحة حيث قال: (... إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين...)، وقال في موضع آخر في وصف ذلك: (... فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة لشهادة أن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة ...)(1).

الثانية: دعوى بعض المدافعين عن النظام، بأن ذلك العمل لا يكون كفراً إلا إذا اعتقده من يعمل به، حيث ردّ القرآن على ذلك بقوله تعالى: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً" (النساء، 60)، ونقلنا كلام الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ في تفسير هذه الآية إذ قال: (... فمن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله أو طلب ذلك اتباعاً لما يهواه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وإن زعم أنه مؤمن ...)(2)، ونقلنا كذلك كلام الشيخ محمد ابن إبراهيم في تفسيرها قال: “فإن قوله عز وجل "يزعمون" تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلا ...ً”(3)، وقوله فيمن يدعي أنه يحكم القوانين لكن لا يستحلها، وتمت الإشارة إلى أن العذر بالجهل غير وارد لقيام الحجة على الحكام بما تم من الإنكار عليهم في هذا العمل مرّات متتابعة، مع التأكيد هنا على أن الحجة لم تقم على الحكام فحسب بل قامت على العلماء الذين يدافعون عنهم، حيث بينت لهم حقيقة تلك التشريعات والمحاكم والوضعية بما لا يترك لهم عذراً، ومع ذلك فلم يكتفوا بمجرد كتمان الحق والتخاذل عن الإنكار على الذين حكموا بغير ما أنزل الله، بل سعوا إلى تزكية الحكام والتأكيد على أنهم مطبقين للشريعة وأنهم يحكمون بما أنزل الله بكل حماس واندفاع!، وسعوا كذلك بأعلى أصواتهم إلى التشنيع على من ينكر على الحكام تلك الجريمة العظيمة، وهؤلاء يحسن تذكيرهم بما قاله الشيخ محمد بن عبدالوهاب فيمن دافعوا في زمانه عن الذين كانوا يحكمون بالأعراف وبسلوم البادية بحجة أن ظاهرهم الإسلام، قال رحمه الله: (... إن هؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم وجوب الطاعة من دون الله كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، كيف لا وهم يحلّون ما حرّم الله، ويحرّمون ما أحلّ الله، ويسعون في الأرض فساداً بقولهم وفعلهم وتأييدهم، ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفّرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلاً لا ينقلهم إلى الكفر، فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق، لأنه لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم ...)(4)، فإذا كان مجرد عدم التكفير جريمة كبرى عند الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فكيف بمن يصفهم بأحسن أوصاف الإسلام ويزكي دولتهم ونظامهم، ويحمل على من أنكر عليهم؟!.

الثالث: ثبت بالدليل الواقعي الموثق أن علاقات النظام الحاكم قائمة على موالاة أعداء الإسلام ومعاداة المسلمين، ومظاهرة أعدائهم عليهم وتبين من خلال النماذج المعروضة فيما سبق أن معاداة المسلمين وموالاة أعدائهم ومظاهرتهم عليهم هو الأصل، وليس الاستثناء، ووصل الأمر إلى ذروته حين سلّم النظام الدعاة الذين لجأوا للحرم إلى الطغاة من حكام بلادهم يبطشون بهم ويعذبونهم ويقتلونهم، وتبين من خلال النصوص الشرعية وأقوال العلماء أن هذه الأعمال خروج عن الإسلام، وللتأكيد فهذه بعض أقوال أهل العلم في شأن ذلك، كقول ابن حزم في تفسير الآية: ("ومن يتولهم منكم فإنه منهم" (المائدة51،) إنما هو على ظاهره، بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين)(5)، وصرح الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ بردّة من يقترف ذلك فقال: (إن كل من استسلم للكفار ودخل بطاعتهم، وأظهر موالاتهم فقد حارب الله ورسوله، وارتد عن الإسلام ووجب جهاده ...)(6)، وكذا الشيخ حمد بن عتيق حيث قال: (... قد دل القرآن والسنة على أن المسلم إذا حصلت منه موالاة أهل الشرك والانقياد لهم ارتد بذلك عن الدين ...)(7)، وقد عد الشيخ محمد بن عبدالوهاب ذلك من نواقض الإسلام حيث قال في النواقض: (... موالاة المشرك والركون إليه ونصرته وإعانته باليد واللسان ...)(8)، وقد ثبت من خلال استعراض النماذج الواقعية لعلاقات النظام أنها ولاء حقيقي كامل لأعداء الإسلام، ومظاهرة صريحة لهم على المسلمين، وتربص بالمسلمين وكيد لهم وسعي لإضعافهم، وللأسف فإن الذين يدافعون عن النظام من علماء السلطة وغيرهم يعلمون تلك التفاصيل حق المعرفة، ويعلمون جيداً أن تلك العلاقات ليست مجرد تسديد ومقاربة ودفع للشر، ومع ذلك فلم يكتفوا بترك الإنكار عليهم وبيان الحق في أعمالهم فحسب بل أصروا على تزكيتهم ونعتهم بالحرص على خدمة الإسلام والمسلمين والدفاع عن قضايا الإسلام، وهذا لاشك خيانة لواجب البيان، وتضليل للأمة، وتلبيس على المسلمين، وتلك الجريمة أكبر بكثير من مجرد السكوت عن إنكار ذلك المنكر الكبير، والقعود عن تغييره.

ثالثاً: ثبت بالدليل الواقعي الموثق أن النظام عطّل شعائر الإسلام الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، بل نقضها وعمل بضدها، ومن بين تلك الشعائر وجوب إقامة الحد الأدنى من الجهاد وهو حماية البيضة وسد الثغور، ولقد ثبت أن النظام تعمّد إضعاف الجيش والاعتماد الكامل في حماية البلد على أعداء الإسلام، وسلمهم ومكنهم من أرض الإسلام، وكذلك نقض النظام شعيرة تحريم الربا، ولم يكتف بإباحته وحمايته ودعمه بميزانية الدولة وجعله الأساس في تعامل الدولة الاقتصادي، بل منع بسلطة الدولة إنشاء المصارف الإسلامية، ومنع نشر فتاوى العلماء في البنوك الربوية، ونقض النظام كذلك شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحول إلى نظام يحارب الدعوة ويرمي العلماء والدعاة في السجون، ويضع كل العقبات في سبيل إيصال الحق إلى الأمة، ويوفر كل التسهيلات في إيصال الباطل والفساد والانحراف، وينفذ ما يسمى ببرنامج تجفيف المنابع لعزل الأمة عزلاً كاملاً عن دينها وقيمها، ولقد تبين من خلال أقوال العلماء أن الذين يصرون على تعطيل شعيرة من شعائر الإسلام الثابتة يعامل معاملة الطوائف الممتنعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (... وأيما طائفة ممتنعة انتسبت إلى الإسلام وامتنعت عن بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين...)(9)، وقال كذلك: (... فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج، أو التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا، أو عن نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها ...)(10)، فلا يكفي الإقرار بل لابد من التطبيق، والذين يدافعون عن النظام من علماء السلطة وغيرهم يعرفون كل تلك التفاصيل، وهم مطلعون على واقع الجيش والوجود الأمريكي في جزيرة العرب، ومطلعون على واقع الربا ومنع البنوك الإسلامية ومطلعون على ما يجري للدعوة وللدعاة وما ينفذ من برنامج لتجفيف المنابع والإفساد والتخريب، ويصرون بعد ذلك كله على تزكية النظام والتشنيع على من أنكر عليه ولا يكتفون بمجرد السكوت عن جرائمه ونقضه لتلك الشعائر.

رابعاً: ثبت بالدليل الواقعي الموثق أن النظام نقض واجباته تجاه الرعية وأهمها العدل وتعيين الثقات وحفظ المال العام، ولقد ثبت أن الظلم ضرب أطنابه سواء كان ظلم الدولة أو ظلم المتنفذين، وثبت أن التعيين لا يتم إلا على أساس القربى والعلاقة مع الأسرة والولاء لها وخدمتها، وليس على أساس القوة والأمانة، وثبت كذلك أن المال العام يجنى ويحفظ ويصرف بطرق غير شرعية، ولقد ضيع النظام على الأمة أكبر ثروة مالية في تاريخها، واقترف جريمة استراتيجية في تحميل كاهل الأمة الديون الضخمة ومسؤولية سدادها، رغم ما حبا الله هذه البلاد من كنوز عظيمة، ولقد تبين من خلال ما نقل من النصوص الشرعية ضخامة هذه الجرائم وكونها سبب سريع وقوي لحلول الهلاك والدمار وأشكال العذاب الدنيوي، والذين يدافعون عن النظام يعلمون يقيناً كل هذه التفاصيل ومع ذلك فلم يكتفوا بمجرد السكوت على من ظلم وولّى الفسقة والفجار وخاض في مال الله، بل برروا كل ذلك الواقع، ووصفوا الحكام بأوصاف العدل والأمانة والقيام بالمسؤولية، وشنعوا على من أنكر عليه فأي خيانة أكبر من ذلك، وأي غش للأمة وتضليل لها أعظم منه!؟.

تنبيه هام:

قطعاً للطريق على المغالطين والمجادلين فإن الاعتراض على الشرعية لم يرد على قضية تغلب الإمام وحيازته الملك على غير رضا من المسلمين، ولم يرد على قضية فسق الإمام وانحرافه ومجرد بطشه وظلمه، ولم يرد على تقصيره وتهاونه ببعض واجبات الإمامة الشرعية، بل جاء على التعطيل الكامل لأركان الحكم في الإسلام، والتي شرعت الإمامة من أجلها، وفي مقدمتها الحكم بما أنزل الله وهيمنة الإسلام والتمكين لدين الله وسيادة الشريعة.

لقد اختلف العلماء في شرعية من يتغلب تغلباً أو من ينحرف في شخصه أو من يظلم أو يقصر في بعض الواجبات مادام مقيماً للشريعة ملتزماً بالكتاب والسنة في أركان دولته، لكنهم لم يختلفوا في أن الإمامة التي تنقض تلك الواجبات وتعرض عن حكم الله وتوالي أعداء الله ليست إمامة شرعية وأن إمامة المتغلب إنما تصح إذا قام المتغلب بالواجبات الشرعية للإمام، ولم يأت بما يناقض الإمامة، أما إذا أخل المتغلب بالواجبات الشرعية وارتكب نواقض الشريعة فقد صارت باطلاً على باطل، ولم يصححها شيء.

والذين يصرون على اختزال قضية الشرعية في شخص الحاكم والحكم عليه بظاهر الإسلام هؤلاء هاربون من الحقيقة، ومعطلون لكل تلك النصوص الشرعية وكأن القرآن والسنة جاءا لأهداف كمالية اختيارية ولم تأت إلزاماً وفرضاً، وحتى لو قُبل كلامهم جدلاً وحُصرت القضية في شرعية الفرد الحاكم أو الفئة التي معه، فإن هذا الفرد أو تلك الفئة مسؤولة مباشرة عن تلك الجرائم التي صنفها العلماء بأعمال مخرجة من الملة، وقد تقدم حديث الشيخ محمد بن عبدالوهاب في حكمه عليهم وحكمه رحمه الله على من يدافع عنهم(11). والذين يصرون على الحكم بالشرعية ليس لهم إلا حل واحد وهو التنازل عن الاحتكام إلى الكتاب والسنة والاحتكام فقط إلى الأهواء والشهوة، ويكفي ما قاله في شأنهم الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، أما دفاعهم وجدالهم بالباطل فإنه بمثابة ارتكاب عدة جرائم عظيمة والمتأمل لحال بعض العلماء في بلاد الحرمين ممن انساق وراء النظام يلاحظ تلبسه بسلسلة من الجرائم هي:

الجريمة الأولى: كتمان العلم والسكوت عن بيان الحق في تلك المخالفات الشرعية المقطوع بها والمعلومة من الدين بالضرورة، وكاتم العلم مستحق للعنة الله بنص القرآن ولا تقبل توبته إلا بعد البيان والإصلاح، قال تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم" (البقرة، 159-160).

الجريمة الثانية: القعود عن إصلاح الأوضاع والقيام بفرائض الكفاية في إقامة الواجبات الشرعية العامة. وقد ثبت بالكتاب والسنة أن القعود عن الإصلاح وترك تغيير المنكر إثمه عظيم، ويؤدي دائماً إلى حلول العذاب الدنيوي، وقصة أصحاب السبت مشهورة حيث لم ينفع الذين لم يمارسوا المنكر مجرد تركهم المنكر، بل أصاب العذاب الجميع والآيات والأحاديث في ذلك مشهورة معلومة.

الجريمة الثالثة: تزكية المجرمين والثناء عليهم وتزيين أعمالهم، والبحث عن التخريجات الفقهية لتبرير أعمالهم، وذلك في الحقيقة ليس إلا شهادة زور بما تعنيه هذه الكلمة، لما في ذلك الثناء وتلك التزكية من تضليل للأمة، وغش للمسلمين مع ما يترتب على ذلك من فتنة الناس وغوايتهم من ورائهم وتشويه الدين، فأمانة العالم على علمه وتنزيله حكم الله في مسائل الحياة أعظم بكثير من أمانة الشاهد على حادثة فردية محدودة، فهل يدرك كثير ممن يثنون على النظام ويدافعون عنه أنهم يقترفون تلك الجريمة العظيمة أولا يدركون؟.

الجريمة الرابعة: التشنيع على من ينكر المنكرات ويقول كلمة الحق فيها، والإصرار على هذا التشنيع ورفع الصوت فيه والبحث عن كل الأوصاف المذمومة لتبرير هذا التشنيع فهم "خوارج"، و"مثيرون للفتنة"، و"مهيجون للناس"، ومقاصدهم سيئة، إلى غير ذلك من الأوصاف المذمومة، ولقد دأب المدافعون عن النظام من علماء السلطة على ذلك السلوك إلى أن تحول إلى عمل رتيب وكأنه دين يدينون الله به، فكم من خطيب وواعظ فصل وسجن بتوجيه من هؤلاء؟، وكم من بيان صدر من الهيئات الرسمية في تقبيح أعمال المصلحين من خطاب المطالب إلى مذكرة النصيحة إلى لجنة الدفاع؟، ولقد قرأ الجميع ما كُتب من قبل نفس الجهة في الشيخين سلمان وسفر، وحث الدولة على “حماية المجتمع من أخطائهما”، فكيف يطلب من الحاكم المعطل لشرع الله أن يحمي المجتمع من أخطاء الشيخين سلمان العودة وسفر الحوالي؟.

فإذا صدرت تلك الجرائم من قبل من حباه الله علماً بالكتاب والسنة ندرك أن هؤلاء على خطر أعظم من خطر الحكام أنفسهم، لأن الحكام إنما اتكأوا عليهم في تبرير ما يفعلون، وتزيينه للناس، واتكأوا عليهم كذلك في حرب الإصلاح والمصلحين، فهل تصور هؤلاء ذلك الخطر وتلك الجرائم؟. وإن كانوا لا يعلمون فالجميع يشهد عليهم أمام الله ثم أمام الأمة أن الحجة قد قامت عليهم سابقاً ولاحقاً وسوف يشهد عليهم علمهم وأيديهم أمام الله يوم القيامة بكل تلك الجرائم، "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم" (الشعراء، 88-89)، وإن كانوا يعلمون فليس لهم مثل إلا اليهود المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق فحادوا عنه، وجنسهم هذا يعد أخطر جنس على الإسلام.. والعياذ بالله.











هوامش حكم مبدّلي

الشرائع والمدافعين عنهم



1)انظر محمد بن إبراهيم، رسالة تحكيم القوانين، 5 .

2) انظر فتح المجيد، 393.

3) انظر محمد بن إبراهيم ، رسالة تحكيم القوانين 80 .

4) محمد بن عبدالوهاب، الرسائل الشخصية، 188.

5) ابن حزم، المحلى، ج13/35.

6) انظر الدرر السنية، 7/11.

7) محمد بن عبدالوهاب، مجموعة التوحيد، ،29 وانظر الرسائل والمسائل النجدية، ج2/124-135.

8) انظر الرسائل والمسائل النجدية، 1/745.

9) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 108.

10) ابن تيمية، الفتاوى، 28/503.

11) محمد بن عبدالوهاب، مجموعة التوحيد، 29 .













واجبات الأمة تجاه النظام


لقد سبقت مناقشة الوضع الشرعي لنظام الحكم الحالي من خلال استقراء الأدلة الشرعية وأقوال العلماء وإنزال ذلك على واقع ذلك النظام وممارساته، وهذه المناقشة ليست من باب الترف الفكري والجدل البيزنطي، بل يترتب عليها إلزامات وأحكام شرعية عديدة على المسلم، فالمسلم يدين الله كما أراد الله، وهذا لا يكون إلا إذا توخى المسلم قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وما يخصه منه من الإلزامات الشرعية، وهذه طريقة الإسلام، أما تقليد الأحبار والرهبان وإلقاء التبعة عليهم فهذه طريقة اليهود والنصارى وليست طريقة المسلمين، فنحن متعبدون بما أراد الله سبحانه، وأراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ونتبع من العلماء من كانوا موقعين حقيقة عن الله، ومن وافق مرادهم مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما من جادل عن الطواغيت ودافع عن الظملة أو تهرّب عن المسؤولية الشرعية بترديد العموميات غير المنضبطة شرعاً في الواقع المراد، أو تعلّق ببعض شواهد التاريخ التي أجمعت الأمة أنها ليست دليلاً شرعياً، فهؤلاء ضلوا وأضلوا ولن يصمد جدلهم أمام قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، والمسلم مأمور على كل حال إذا عرض له أمر أن يجتهد لدينه ويحرص على إصابة الحق فيه عملاً بالكتاب والسنة على طريقة فهم السلف الصالح، فتحديد الإلزامات الشرعية المترتبة على فهم الواقع يجب أن يكون منضبطاً تماماً بالضوابط الشرعية.

ومادام الحديث عن الإلزامات الشرعية فإن العلماء أمام قضية النظام ينقسمون إلى ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: ترجح لديه عدم شرعية النظام لتعطيله الكامل لمقاصد الإمامة في الإسلام، بل لعمله بضدها، وعلى الخصوص لارتكابه أكبر سبب من أسباب عدم الشرعية، وهو سن التشريعات الكفرية وإلزام الناس بها.

الصنف الثاني: يوافق على كل ما قيل عن نقض مقاصد الإمامة في الإسلام بتفاصيلها المذكورة سابقاً، لكنه يتوقف عند ذلك ويتحرج من أن يستنتج بناءً على ذلك أن النظام غير شرعي بسبب فهمه لبعض الأحاديث وأقوال العلماء التي تشدد على وجوب الطاعة حتى للإمام الفاجر والظالم.

الصنف الثالث: لا يوافق أصلاً على ما قيل كله، ويدعي أن النظام قائم بما يستطيع من الواجبات الشرعية، وأنه حريص على خدمة الإسلام والمسلمين والدفاع عن الدين، وأن ما يبدو في أعين الناس من جرائم هي حقيقة من الاجتهاد الذي قد يخطيء فيه الإمام، وما عدا ذلك فهو من الفسق الفردي والظلم البشري الذي لا مناص منه، والذي لا يقدح أبداً في الشرعية أو في أركان الإمامة ومقاصدها.

ورداً على مزاعم الصنف الثالث، فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا الصنف من العلماء وطلبة العلم يمارس جريمة أعظم من جريمة الحاكم نفسه، لما يصنعونه لدى الأمة من تلبيس وتضليل وتعطيل لكل الإلزامات الشرعية المترتبة على تعطيل فروض الكفاية، وهم بتصرفهم هذا أقرب إلى التعاون على الإثم والعدوان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (... ولا يحل للرجل أن يكون عوناً على ظلم، فإن التعاون نوعان، الأول: تعاون على البر والتقوى من الجهاد وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين، فهذا مما أمر الله به ورسوله، ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضاً من الأعيان، أو على الكفاية متوهماً أنه متورع، وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع، إذ كل منهما كف وإمساك، والثاني: تعاون على الإثم والعدوان، كالإعانة على دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، أو ضرب من لا يستحق الضرب، ونحو ذلك فهذا الذي حرمه الله ورسوله ...)(1)، ومن المعلوم أن إصدار الفتاوى والبيانات لتبرير جرائم السلطان في حق الدعاة وسجنهم وإيقافهم وفصلهم واتهامهم بسوء النية، وتضليل الأمة في تزكية الحاكم، فضلاً عن السكوت عن جرائمه وتبديله للشرائع أخطر بكثير من الإعانة على دم معصوم أو ضرب من لا يستحق الضرب، وهو قطعاً من التعاون على الاثم والعدوان، والأولى أن ينطبق عليه كلام شيخ الإسلام رحمه الله، والعالم من هؤلاء جريمته أعظم لأنه يعلم الواقع ويعلم الشرع، وإذا استمر في الخصومة واستمات في الجدال في الدفاع عن الباطل الذي ثبت ثبوتاً لاشك فيه فالأحرى أن يكون مقصوداً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن بن عمر: “ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع”(2)، وإصرار هؤلاء على التشبث بالدفاع عن الظلمة وتبرير جرائمهم هو إصرار على كبيرة، والإصرار على الكبيرة أمر عظيم خاصة إذا ثبتت الحجة على من يرتكبها، فهذا الصنف هو من أعوان الظلمة بل ربما كانوا من الظلمة أنفسهم إذا كانوا في منصب القضاء أو الإفتاء أو السلطة وأعانوا الظالم بفتواهم وقضائهم أو بسلطتهم ومركزهم، وقد سأل أحد السجانين الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إن كان من أعوان الظلمة؟ فقال له الإمام أحمد: "بل أنت من الظلمة أنفسهم"، وقد ذكر أصحاب الحديث من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم وصدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد على الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يقصدهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وهو وارد على الحوض”(3)، فهذا هو القول في الصنف الثالث وفقاً للأدلة الشرعية.

وأما الصنف الثاني: فلهم شبهة لما جاء في الأحاديث وأقوال العلماء من وجوب طاعة الأمير، ولكن انكشاف الواقع واستفاضة الأدلة كفيل بتغيير موقفهم.

أما عن الإلزامات الشرعية المترتبة على فهم واقع النظام فيمكن أن تبسط كالتالي:

أولاً: ما يجب على أعيان الناس وهو الإنكار بالقلب، وقد ثبت أن ذلك فرض على الأعيان في الحديث الصحيح الصريح بقوله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”(4)، وفي رواية “وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”، وقد نقل ابن حزم في كتاب الإجماع أن الأمة أجمعت على أن الإنكار بالقلب من فروض الأعيان(5)، وقرن شيخ الإسلام ابن تيمية بين الإنكار بالقلب وأصل الإيمان، فذكر أن انعدام الإنكار بالقلب بالكلية يُضاد الإيمان واستدل على ذلك بنفس الحديث قال شيخ الإسلام: (... فأما القلب فيجب بكل حال إذ لا ضرر في فعله ومن لم يفعله فليس بمؤمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “وذلك أدنى أو أضعف الإيمان” وقال: “وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)(6).

وقضية الإنكار بالقلب نفسها لها مستلزماتها فلا يتحقق الإنكار بالقلب إلا بانعكاس ذلك على عدم تأييد المنكر والرضا به، فلا يجوز أن يدعي مدّعٍ أنه قد أنكر بقلبه، وهو يساير الظلمة ويعينهم ويبش لهم ويحضر مجالسهم دون أن ينكر عليهم، وربما دافع ونافح وجادل عنهم، فهذا كله يتنافى مع دعوى الإنكار بالقلب ويقدح في إيمان المرء، ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها”(7)، ورغم أن الإنكار بالقلب ضمان السلامة في الآخرة إلا أنه لا يضمن النجاة من عذاب الدنيا المترتب على عدم تغيير المنكر، وهذا مقتضى تفريقه صلى الله عليه وسلم بين من أنكر فسلم ومن كره فبرئ، ففي الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها، قال صلى الله عليه وسلم: “ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع”(8)، وهو كذلك مقتضى قصة أصحاب السبت في قوله تعالى: "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً أليماً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون. فلما نسوا ما ذُكّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون" (الأعراف 164/165) حيث سلم المنكرون وهلك أصحاب المنكر والساكتون على أصح القولين، وفي الحديث كذلك “أن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة”(9).

ثانياً: من فروض الأعيان كذلك الالتفاف حول العلماء الصادقين المصلحين المجاهدين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، قال ابن العربي في شرح سنن الترمذي: (... إنما أراد عبدالله بن المبارك بالجماعة حيث يجتمع أركان الدين وذلك عند الإمام العادل أو الرجل العالم فهو الجماعة، وذلك صحيح، فإن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً وجماعته العلم والعدالة والله أعلم ...)(10)، وقال إمام الحرمين: (... فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم)(11).

ثالثاً: أما فروض الكفاية في تلك القضية فمدارها على ثلاثة فرائض:

الأول: بيان الحق للناس وما يترتب عليه من كشف الباطل حتى لا يضلوا بممارسة الحكام وأهل النفوذ ويختلط عليهم الحق بالباطل.

الثاني: السعي لإقامة الفرائض الكفائية المعطلة بكل السبل المشروعة.

الثالث: السعي لتغيير المنكرات الظاهرة قدر الاستطاعة.

ففي وجوب البيان يقول تعالى: "وإذ أخد الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينّنه للناس ولا تكتمونه" ( آل عمران، 187)، ويقول: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينّاه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" (البقرة، 159). قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: (... هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدي النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه التي أنزلها على رسله ...) وقال: (... فكما أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء، فهؤلاء بخلاف العلماء فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ـ إلى قوله ـ ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه، فقال: "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا" أي رجعوا عما كانوا فيه، وأصلحوا أعمالهم وبيّنوا للناس ما كانوا يكتمونه)(12). وفي الصحيح عن أبي هريرة أنه قال (لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحداً شيئاً وذكر الآية "إن الذين يكتمون ...") وجاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم “من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار”(13).

وقد تقدم الحديث في الصفحات السابقة عن وجوب قيام الأمة بأداء فروض الكفاية وانتداب جماعة لذلك حتى يسقط الاثم عن باقي الأمة، وكذا بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكررت الإشارة إلى أن تعطيل هذه الواجبات لا يترتب عليه إثم في الآخرة فحسب بل يترتب عليه عذاب الدنيا من الهلاك والدمار والكوارث.

ومن الحقائق التي يغفل عنها المسلمون وحتى طلبة العلم منهم أن الأمة بمجملها هي المكلفة بتحقيق المراد الشرعي، وليس الحاكم بنفسه، ذلك أن أصل التكليف هو للأمة، والحاكم حين ينفذ أوامر الله يطبق الإسلام كوكيل ونائب عن الأمة، والذين يشلّون دور الأمة في المسؤولية مخالفون لمنهج الإسلام الصريح في ذلك، ولذلك كان المردّ عند الاختلاف إلى الكتاب والسنة بفهم الأمة جميعاً وليس بفهم الحاكم، والذين ينزعون من الأمة حق الاحتساب على الحاكم هم أقرب إلى طريقة الذين يدعون عصمة الأئمة وأن الإمام حافظ للشرع، فرد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة بقوله: (... والجواب من وجوه إحداها أنا لا نسلّم أنه يجب أن يكون الإمام حافظاً للشرع بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع)(14)، وقال كذلك: (... ذلك لأن عصمة الأمة مغنية عن عصمته، وهذا مما ذكره العلماء في حكمة عصمة الأمة، قالوا: لأن من كان قبلهم من الأمم قبلنا كانوا إذا بدلوا دينهم بعث الله نبياً يبين الحق، وهذه الأمة لا نبي بعد نبيها فكانت عصمتها تقوم مقام النبوة)(15)، وقال كذلك: (وأما إجماع الأمة فهو حق، لا تجتمع الأمة ـ ولله الحمد ـ على ضلالة كما وصفها الله بذلك في الكتاب والسنة فقال: "كنتم خير أمة أخرجت للناس ... الآية" (آل عمران، 110)(16)، ولذلك كان من يحتج على دعاة الخير بأنهم مفرقون للكلمة فهو بالضرورة يدعو إلى الاجتماع على الباطل، وهذا خلاف ما أراد الله بقوله "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" (آل عمران، 103)، فالاعتصام لا يكون مجرداً بل لابد أن يكون بحبل الله، والذي يقول بالاعتصام المجرد أو تحت راية الوطنية أو القومية فمثله مثل العلمانيين الذين يدعون أن الدين يفرق بين أهل الوطن الواحد.

وبعد فهذه ليست إلا لفتات وإشارات ومداخل عامة والواجب على المسلم السعي بكل قدرته وما أتاه الله من قوة مادية أو جسدية أو نفوذ أو منصب أو علاقة أو صفة، أن يستثمرها في تحقيق فروض الكفاية والقضاء على المنكرات. ونسأل الله أن يعيننا في أداء فرائضه واجتناب نواهيه.





هوامش واجبات الأمة تجاه النظام



1) ابن تيمية، السياسة الشرعية،ص 56ـ57.

2) رواه أبو داوود في سننه.

3) أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه.

4) أخرجه الشيخان أبو داوود والترمذي عن أبي هريرة، انظر التاج الجامع للأصول 41/5.

5) ابن حزم، مراتب الإجماع، 176.

6) ابن تيمية، الفتاوى،127/28، وانظر ابن حزم في كتاب الإجماع.

7) رواه أبو داوود.

8) رواه مسلم، وانظر تعليق النووي على الحديث في مسلم بشرح النووي 226/12.

9) رواه أحمد بسند حسن.

10) ابن العربي، تحفة الأحوذي، 11/9.

11) إمام الحرمين الجويني، غياث الأمم. ص39.

12) ابن كثير، تفسير ابن كثير، 352/1ـ353.

13) رواه من أصحاب السنن أبو داوود، والترمذي والنسائي وأخرجه الإمام أحمد في مسنده.

14) ابن تيمية، منهاج السنة، 270/3.

15) المرجع السابق، 272/3.

16) ابن تيمية، الرسائل الكبرى، 191/1.







































شبهات وردود


لا شك أن بحث مثل هذا الموضوع الخطير والحساس سيثير بعض التساؤلات، وتطرأ بعض الشبهات لدى فريق من الناس، نظراً لما ترسخ في أذهانهم من أوهام مبنية على مقدمات خاطئة، فكان لابد من مناقشة تلك الشبهات والوقوف على حقيقتها للوصول إلى الحق.









الشبهة الأولى


زعم بعض طلبة العلم أن حكم آل سعود لا يختلف عن الحكم في صدر الدولة الأموية، ومع ذلك فلم يقدح الصحابة والتابعون في حكم أو شرعية تلك الدولة رغم الظلم والفسق الذي كان فيها، والرد على هذه الشبهة الضعيفة من عدة وجوه:

الوجه الأول: لا ينكر عاقل منصف ما جرى على يد الخلفاء الأمويين من ظلم وإسراف في الدماء، لكنه لم يثبت أن أولئك الخلفاء سنّوا قوانين أو تشريعات أو أنظمة غير إسلامية، أوبدلوا الشريعة، ولم يثبت أن ولاء الدولة وبراءها كان لغيـــر الإســـلام، ولم تكن الشعائر الإسلامية وفي مقدمتها الجهاد معطّلة، ولقد تقدم الكلام في التفريق بين الإخلال بأركان الإمامة الشرعية وبين مجرد الفسق الشخصي والظلم والشدة في قمع الخصوم.

الوجه الثاني: ليس صحيحاً أن كبار الصحابة والتابعين أقروا بشرعية إمامة الفاسق والظالم، فلقد ثبت أن عدداً كبيراً من الصحابة والتابعين خرجوا على الدولة الأموية، فقد أنكر جمهور الصحابة شرعية إمامة يزيد وانعقاد البيعة له، وقد ثبت خروج سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي رضي الله عنه، وخروج عبدالله بن الزبير ومن خرج معهم من الصحابة والتابعين، بل الصحيح الذي عليه المحققون هوأن عبدالله بن الزبير كان الخليفة الشرعي للمسلمين، حيث اجتمع عليه جمهور الصحابة والتابعين وعامة الناس في الحجاز ومصر وإفريقيا والعراق وسائر جزيرة العرب، ولم يبق في يد الأمويين سوى بلاد الشام، بل أن مروان بن الحكم أوشك أن يُبايع عبدالله بن الزبير لولا أن رده عن ذلك بعض أهل الشام، وكان الخارج حقاً على الخليفة الشرعي والمغتصب للسلطة هو مروان ثم ابنه عبد الملك من بعده في أول الأمر، لكن الناس اجتمعوا على عبدالملك بعد مقتل عبدالله بن الزبير رضي الله عنه وبايع له الجمهور فأصبح بذلك ـ أي بالبيعة من الأكثرية ـ خليفة المسلمين، بعد أن كان خارجاً مارقاً، ورأت طائفة من محققي أهل الحديث أن خلافة عبدالله بن الزبير هي الخلافة الشرعية وصنّفتها ضمن الخلافة الراشدة. وثبت كذلك خروج من بقي من المهاجرين والأنصار وأبناءهم من التابعين في المدينة واشتهر ذلك في موقعة الحرة، وكذلك خروج بن الأشعث على الحجاج مع جميع من في البصرة من الفقهاء والقراء من التابعين، وقد اشتهر رفض سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وطلعة بن حبيب وقتيبة بن مسلم للبيعة. وقد ورد عن عمر بن عبدالعزيز أنه أمر بضرب من سمى يزيد بن معاوية أمير المؤمنين عشرين سوطاً، مما يدل على عدم إقراره لإمامة يزيد، وقد قال ابن حجر في تلخيص تلك القضية: (وهذا ـ يعني الخروج بالسيف ـ مذهب للسلف القديم)(1)، فليس صحيحاً دعوى إقرار الصحابة والتابعين بإمامة الظلمة مع أن النقاش أصلاً ليس في الظلم بل في الكفر البواح وتبديل الشريعة وتعطيل الشعائر.

الوجه الثالث: لم يرد في كل ما سبق ذكر للخروج أو حمل السيف على كل حال والذي قيل هو أن الإمامة الشرعية معطلة ويجب إقامتها فقضية شرعية النظام شيء وقضية الخروج عليه شيء آخر، ولكل منهما أركان وشروط وضوابط، فإذا كان طالب العلم ممن يوافق على ذلك وجب عليه السعي لإقامتها بكل وسيلة مشروعة، ومن أقر بوجود تبديل للشرائع وتعطيل للشعائر وجب عليه السعي لتغيير ذلك المنكر العظيم بكل وسيلة مشروعة، والذين يعتبرون كل سعي للإصلاح وكل صدع بالحق وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر نوع من أنواع الخروج والبغي والعدوان هؤلاء مغالطون ومخالفون لصريح القرآن وصحيح السنة ومتقولون على الله بغير علم.

ومن المجمع عليه عند العلماء أن الحاكم إذا أمر بمعصية أي أمر بفعل حرام أو ترك واجب فإنه لا يطاع في ذلك الأمر المعين، وذلك بغض النظر عن كونه خليفة راشداً أو غير راشد، شرعياً أو غير شرعي، يحكم بالإسلام أو يحكم بالكفر، وكذلك لا جدال أن الحاكم الكافر والذي يحكم بغير ما أنزل الله في حكم المعدوم شرعاً فلا تجب طاعته في أي أمر من أوامره إطلاقاًَ، وتحرم طبعاً في كل أمر معين بمعصية، وقد جرى خلاف بين العلماء في شرعية ولاية الظالم والفاسق مما يترتب عليه وجوب طاعته من عدمها، كل ذلك قضية تختلف عن المنابذة بالسلاح، أي عن الخروج الذي لايكون في عرف الفقهاء إلا بالسلاح. ولكن لما عجز بعض علماء السلطان عن مقارعة الحجة بالحجة وإقامة الدليل والبرهان لجأ أولئك إلى الإرهاب الفكري وذلك بالتلويح بلفظة "الخروج" منعاً للمصلحين من القيام بفرائض النصيحة والاحتساب والقيامة لله بالقسط "يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون" (آل عمران، 71).





الشبهة الثانية
يحتج بعض المدافعين عن شرعية النظام بما يصفونه بأنه أدلّة شرعية في طاعة الإمام، ولكن ليس من منهج أهل السنة بتر الأدلّة أو الاحتجاج ببعضها دون بعض، بل منهجهم إعمال الأدلة جميعاً، والجمع ما بين كل ما صحّ في الكتاب والسنة ثبوتاً ودلالة، لدفع التعارض المُتوهّم بين الأدلة ولتجنّب إهمال أي لفظ في القرآن والسنة، فكل ما جاء في القرآن والسنة نحن ملزمون باتباعه والعمل به مع ملاحظة الاستثناءات المتفق عليها بين الأصوليين كالنسخ والتخصيص والتقييد، والذين يحتجون بنصف حديث أو بحديث مع وجود ما يخصّصه أو يقيّده، فهم من جنس الذين يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه والذين يكتمون ما أنزل الله، والذين يحرّفون الكلم عن مواضعه إذا تعمّدوا ذلك، وإذا لم يتعمّدوا فهم جهلة لا يعرفون كيف يعمل بالدليل الشرعي، ولا يجوز الأخذ بأقوالهم ولا بفتاويهم، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (... ومدار الغلط إنما هوعلى حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت ...) وأضاف قائلا:ً (... فشأن الراسخين في العلم تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضاً كأعضاء الإنسان إذا صور صورة مثمرة ...) ثم قال: (... وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما ـ أي دليل كان ـ عفواً أو أخذاً أولياً ، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي، فكان العضو الواحد (أي الدليل الواحد) لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكماً حقيقياً فمتبعه متبع المتشابه، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ ...)، ثم قال: (... من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها، وبالعمومات من غير تأمل هل لها مخصصات أم لا؟ وكذلك العكس بأن يكون النص مقيداً فيطلق، أو خاصاً فيعمّ بالرأي من غير دليل سواه، فإن هذه المسالك رمي في عماية واتباع الهوى في الدليل ...)(2).

وعملاً بهذا المنهج يمكن استعراض الأدلـــــة الــــواردة في تلك المسألــة والقواعد الشرعية المرتبطة بها:

ففي القرآن يقول تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، ثم يقول سبحانه في العبارة التي تليها "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" (النساء، 59).

وأما الأحاديث فقد جاءت في ثلاث مجموعات، الأولى يفهم من ظاهرها الطاعة المطلقة للحاكم وتحمّل ظلمه وغشمه، والثانية يفهم منها نزع طاعة الحاكم إذا عصى الله، كما يفهم منها الحث على جهاد الأمراء العصاة باليد، والمجموعة الثالثة فيها الأمر بالطاعة بشرط معيّن حدّدته تلك الأحاديث.

فمن المجموعة الأولى ما روي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”(3)، والحديث المروي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع”(4).

ومن المجموعة الثانية الحديث المروي عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من نبيّ بعثه الله قبلي إلا كان له من أمّته حواريون وأصحاب يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”(5)، قال ابن رجب الحنبلي: (... وهذا يدل على جهاد الأمراء باليد)(6)، ومنها الحديث المروي عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، قلت يا رسول الله: إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا ابن أم عبد كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله”(7)، وثبت في الحديث أن عبدالله بن عمرو لبس سلاحه وتهيأ لقتال عامل معاوية الذي أرسله معاوية لأخذ أرضه في الطائف، واحتج عبدالله بن عمرو رضي الله عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من قُتل من دون ماله مظلوماً فهو شهيد”(8)، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سيكون أمراء من بعدي يأمرون بما تعرفون ويعملون ما تنكرون فليس أولئك عليكم بأئمة”(9).

المجموعة الثالثة من الأحاديث تجمع بين الأمرين فهي تحثّ على الطاعة وتستثني بحد معين، ومنها ما روي عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أنه قال: “بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان”، وفي رواية: “وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم”(10). والحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله”(11)، ومنها حديث أم الحصين الأحمسية رضي الله تعالى عنها قالت: “حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع .. إلى أن قالت: ثم سمعته يقول: إن أُمّر عليكم عبد مجدع ـ حسبتها قالت أسود ـ يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا”(12)، وفي رواية الترمذي والنسائي سمعته يقول: “يا أيها الناس اتقوا الله وإن أُمّر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله”، والحديث المروي عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين يبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قال: قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة ... الحديث”(13).

فهذه المجموعة حثّت بشكل شديد على الطاعة، ولكن اشترطت لذلك شروطاً لابدّ من تحقيقها جميعاً حتى تكون الطاعة ديناً يُدان الله به، وإذا تأملت طريقة احتجاج المدافعين عن شرعية النظام رأيت فيها المخالفات الشرعية التالية:

أولاً: احتجاجهم بقوله تعالى: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (النساء، 59) دون ذكرللعبارة التي تليها، وهذا فيه تجاهل للأمر بالرد لله والرسول عند التنازع والاختلاف، وعن أبي حازم (من أئمة التابعين) أن سليمان بن عبدالملك قال له: ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله "وأولي الأمر منكم" قال أبو حازم: (أليس قد نزعت منكم إذ خالفتم الحق بقوله: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول")(14) (النساء، 59).

ثانياً: الاحتجاج بالمجموعة الأولى من الأحاديث التي تحث على الطاعة المطلقة للحاكم، ومن المعلوم بالضرورة أن طاعة الحاكم لا يمكن أن تكون مطلقة لا من جهة الأمر المطلوب تنفيذه ولا من جهة المطاع، فقد جاءت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وأجمع المسلمون على أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما أجمعوا على أن لا طاعة للحاكم الكافر، فلا يجوز الاحتجاج بهذه الأحاديث مع إهمال المجموعة الثانية التي تقيّدها، والتي تدعو إلى نبذ طاعة من عصى الله بل تدعو إلى جهاده باليد كما قال ابن رجب رحمه الله(15).

ثالثاً: الاحتجاج بالمجموعة الثالثة من الأحاديث بشكل مبتور فتراهم يستدلون بحديث عبادة ويتوقفون عند قوله “وألا ننازع الأمر أهله”، ويتجاهلون قوله: “إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان”، ومن المقطوع به أن تبديل الشرائع وسن القوانين المضاهية لشرع الله ومظاهرة المشركين على المسلمين واستحلال الحرام وتحريم الحلال هو من الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، وأما حديث أنس وحديث أم الحصين فقد ورد فيه الاستثناء الصريح بقوله صلى الله عليه وسلم: “ما أقاموا فيكم كتاب الله”، وإقامة كتاب الله تعني كل ما تقدم من الحكم بما أنزل الله ورفع شعائر الإسلام والتمكين لدين الله وهذا هو شرط القبول بالإمامة، وأما حديث عوف بن مالك فقد ورد فيه الاستثناء بقوله صلى الله عليه وسلم “ما أقاموا فيكم الصلاة”، وإذا أُعملت الأدلة مع بعضها البعض يتبين أن المقصود بقوله “ما أقاموا فيكم الصلاة” يعني ما أقاموا فيكم الدين لأن الصلاة عمود الدين، ولأن الأحاديث الأخرى تفسر ذلك الحديث، وهو الأليق بكلام سيد الفصحاء صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مثل قوله: “الحج عرفة”، مع علمنا بالاضطرار من دين الإسلام ببطلان حج من حضر عرفة ثم انصرف من غير أداء بقية الأركان كطواف الإفاضة مثلاً.

بناء على ذلك تسقط شرعية النظام الذي يظهر فيه الكفر البواح، وكذلك النظام الذي لا يمكّن من إقامة الصلاة، كما تسقط شرعية الحاكم الذي لا يصلي. هذا من جهة إعمال الأدلة جميعاً، أما من جهة استحضار قواعد ومقاصد الشريعة فلا يُعقل أبداً أن يدعو الإسلام لإقامة الإمامة الشرعيــة ويجعــل الحــكم بمــا أنــزل الله ورفع شعائــــر الإســـلام وتمكيــن دين الله في الأرض من أركان الإمامة في الإسلام ثم يعتبر بعد ذلك الـــذي أخـــل بتلك الأركان من أساسها أو عطّلها إماماً شرعياً.

والذين يجادلون في شرعية النظام ويصرون على ذلك رغم كل هذه الأدلة الشرعية والواقعية، فإن كانوا يعتبرون عملهم هذا اجتهاداً شرعياً فأقل ما يطالبون به أن يعتبروا من خالفهم قد اجتهد اجتهاداً شرعياً وليسعهم ما وسع إمام أهل السنة أحمد بن حنبل حيث وقف تجاه الشيخ أحمد بن نصر الخزاعي موقف الرجال فلم ينتقده ولم يشنّع عليه، رغم اختلافه معه في الخروج على الإمام بل أثنى عليه بقوله: (رحمه الله ما أسخاه لقد جاد بنفسه)(16)، هذا مع أن أحمد بن نصر خرج خروجاً مسلحاً ولم يتوقّف فقط عند القول بعدم الشرعية، ومع أن مخالفات الحاكم في ذلك الزمان لم تبلغ عشر معشار نظام الحكم في بلاد الحرمين.



الشبهة الثالثة
هي دعوى بعض المنسوبين للعلم أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يمكن أن يكون كفرا إلا إذا استحله فاعله، ولقد انتشرت هذه الدعوى في السنين الأخيرة، وابتلي بها عدد من المحسوبين على كبار العلماء، ولا حول ولا قوة إلا بالله مع أنها مما يمكن أن يصنف بسهولة أنه قول طائفة من أهل الإرجاء الذين يشترطون الاستحلال لكل ذنب حتى لو كان عملا مكفرا بنفسه.

والرد على هذه الشبهة من عدة وجوه هي:

أولا: أن شرط الاستحلال بدعة لا دليل عليها من الكتاب والسنة، بل الأصل أن ما كان موصوفا من الأعمال بالكفر في الكتاب والسنة فهو كفر مع الاستحلال أو بدونه، وهذا باب عظيم في عقيدة أهل السنة والجماعة، وهو مقتضى فهم الصحابة رضي الله عنهم، حتى لقد قالوا في شأن جدلهم مع أبي بكر رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة: "لو أطاعنا أبو بكر لكفرنا"(17)، هذا لأن الصحابة قاتلوا المرتدين على مجرد منعهم للزكاة لا على جحود وجوبها، قال شيخ الإسلام بن تيميه: "والصحابة لم يقولوا: أأنت مقر لوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة، بل قد قال الصديق لعمر رضي الله عنه:"والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها"، فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب، وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعا سيرة واحدة، وهي قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار وسموهم جميعا أهل الردة"(18). وقد شبه الشيخ محمد بن ابراهيم دعوى هؤلاء بمن يعبد الأوثان ويقول أنها باطل،

قال رحمه الله: "لو قال من حكّم القانون أنا أعتقد أنه باطل فهذا لا أثر له، بل هو عزل للشرع، كما لو قال أحد: أنا أعبد الأوثان وأعتقد أنها باطلة"(19)، واشتراط الاستحلال بهذا المعنى خطير جدا لأن معناه أن إهانة المصحف والسجود للصنم وسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سب الدين أو تعليق الصليب كل هذه الأعمال ليست كفرا ما لم يستحلها صاحبها حسب دعواهم والعياذ بالله.

ثانيا: أن عدم تحكيم الشرع والولاء للكفار وغير ذلك من الأعمال المرتكبة من قبل النظام السعودي هي أعمال موصوفة بالكفر سواء تحقق الكفر في آحاد أفراد النظام أم لم يتحقق، ثم إن العمل إذا وصف بالكفر فإنه جريمة عظمى في الشرع، وهي أخطر من الكبائر التي لم توصف بالكفر مثل الزنا والربا وشرب الخمر وقطع الطريق، ولهذا كان قتال ما نعي الزكاة مثلا أعظم من قتال الخوارج كما أشار إلى ذلك بن تيميه رحمه الله(20)، وذلك لأن منع الزكاة كفر بغض النظر عن استحلال ذلك، أما الخوارج فهم من أهل البدع، ولا يسمون كفارا، ومن ثم فإن اشتراط الاستحلال في تكفير المعين لا يغير من حقيقة أن العمل نفسه كفر وأنه مناقض للإسلام.

ثالثا: أن المسلم متعبد بما يجب عليه من واجبات شرعية وهي السعي لتحقيق أركان الإمامة الشرعية بغض النظر عن الحكم المترتب على أفراد النظام، فتحكيم شرع الله وتحقيق هيمنة الشريعة ورفع شعائر الإسلام وولاء المسلمين وعداء الكافرين واجب شرعي في عنق كل مسلم بقدر استطاعته، أما حكم أفراد النظام من حيث الإسلام والكفر فهو شأن آخر، ولذلك فحتى لو صحت هذه الشبهة جدلاً فلا حجة فيها ولا دفاع عن شرعية النظام، ولا عذر في التخلي عن وجوب السعي لإقامة النظام الشرعي، لكن مشكلة أولئك الذين يشترطون الاستحلال أنهم لا يكتفون بمنع إطلاق الكفر، بل يقفزون مباشرة إلى التزكية وإضفاء الشرعية على كل ما يصدر عن الحاكم ولا يبدون أي استعداد لاعتبار ممارسات النظام جرائم كبيرة، بل لا يقبلون مجرد السكوت عن تزكية النظام والسكوت عن تجريم المصلين.

لهذه الأسباب فإن هذه الشبهة ساقطة ولا مجال للاستدلال بها وننصح المستزيد في رد هذه الشبهة عموما بالرجوع إلى البحث القيم للشيخ سفر الحوالي في كتابه "ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي"

فقد تناولها ـ وفقه الله وفك أسره ـ تناولا كافيا وشافيا.







هوامش شبهات وردود



1)ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، 2/288.

2) الشاطبي، الاعتصام، 1/244-246.

3) رواه مسلم

4) متفق عليه.

5) رواه مسلم .

6) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، ص304.

7) رواه ابن ماجه، وأخرجه أحمد والطبراني، والبيهقي بألفاظ متقاربة وصحح الحديث كلاً من أحمد شاكر والألباني.

8) رواه مسلم .

9) أخرجه الطبراني بإسناد جيد .

10)الحديث متفق عليه .

11) رواه البخاري .

12) رواه مسلم والترمذي والنسائي.

13) رواه مسلم .

14) انظر البحر المحيط، 39/278.

15) انظر ابن رجب ، جامع العلوم والحكم ، 304.

16) ابن كثير، البداية والنهاية، 10/304.

17) المصنف لابن أبي شيبة 265/12.

18) الدرر السنية 135/8.

19) فتاوى محمد بن إبراهيم 198/6.

20) منهاج السنة 501/4.



















الخاتمة


تم بحمد الله هذا البحث المؤسس علي الأدلة الشرعية وعلى أقوال العلماء الثقات. ولقد جاء في البحث تقويم للنظام السعودي وذلك من خلال استعراض مفصل لأركان الإمامة الشرعية في الإسلام، ومن ثم مقارنة واقع النظام السعودي فيما يخص كل ركن منها، و استعرض البحث حقيقة الذين يدافعون عن النظام السعودي مع توصيف شرعي لجريمتهم، وقد تم في هذا البحث مناقشة الشبه التي يوردها هؤلاء وتفنيدها جميعاً. وبهذا تكون قضية الشرعية بسطت بطريقة تقوم بها الحجة على الذين يدافعون عن النظام السعودي، ولا مجال لهؤلاء إلا أن يعودوا عن قولهم أو أن يقارعوا الحجة بالحجة.

وما على الدعاة العاملين إلا أن يوحدوا صفوفهم ويصابروا في عملهم ويرابطوا على ثغورهم ويجب على الأمة أن تضطلع بمسؤولياتها الملقاة على عاتقها لتقوم الإمامة الشرعية والدولة الإسلامية على هدى الكتاب والسنة.

وقانا الله من مضلات الفتن وألهمنا الصواب في القول والعمل

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


وهناك كتب بعنوان
زلزال آل سعود

مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.

حظي تاريخ "المملكة العربية السعودية" الحديث باهتمام عدد من الكتاب والباحثين والمؤسسات الثقافية والأكاديمية، لكن جلّ هذا الاهتمام كان منصبا على الجوانب السياسية أو الاقتصادية العامة وكان متأثرا بهيمنة الحكم السعودي الذي يلزم برؤية واحدة.

ولذلك فإن المكتبة تفتقر إلى تدوين لتاريخ تطور الحركة الإسلامية في المملكة العربية السعودية ودخولها غمار السياسة ومن ثم مواجهتها للحكم السعودي.

نشاط "المعارضة" في لندن ليس بداية لما يعتبر الإسلام السياسي في المملكة، بل إنه في الحقيقة ثمرة عمل طويل لم يظهر للعيان إلا قليل منه، والمسيرة التي سبقت ذلك كانت مسيرة مضنية مليئة بالعمل خلف الكواليس والإجراءات المعقدة والطويلة والمفاوضات والاتصالات والتحديات والمجازفات، ونرى أن من حق الأمة وحق الدعاة العاملين على وجه الخصوص الاطلاع على أهم تفاصيل هذه المسيرة، والتعرف على خطواتها المتميزة.

في هذا الكتاب نفتح بعض ملفات هذا التاريخ الهام ونبسط تفاصيل بعض الحوادث من خلال مشاهدة ومعايشة شخصية، ونقدمها مع وصف ما أحاط بها من ظروف وتطورات.

ورغم أن هذه المذكرات رواية شخصية فإن حوادثها عامة وذات أثر شامل والجانب الشخصي محدود فيها. ومع ذلك فهي لا تمثل إلا بداية تدوين لتاريخ تلك الفترة، ولا يمكن استكمال هذا التدوين إلا بعد أن يزاح كابوس القمع والإرهاب الذي يمنع كثيرا ممن يمكن أن يساهموا في هذا التدوين من إضافة ما لديهم.

جاء ترتيب هذه المذكرات في هذا الكتيب زمنيا حسب تتابع الحوادث، وتركز الحديث فيها على الفترة التي أهملها المؤرخون وهي منذ قبيل أزمة الخليج سنة 1990م، إلى أن خرجت "المعارضة" إلى لندن سنة 1994م، ومن أجل إعانة القارئ على فهم الحوادث وتركيبة المجتمع فقد جاء في الفصلين الأولين استعراض لواقع المملكة سياسيا واجتماعيا وتربويا منذ الدولة السعودية الأولى إلى أزمة الخليج.

ونحن إذ نعرض هذا التاريخ أو نسجل تلك المذكرات فإننا لانسردها تاريخا مجردا، بل نحاول بسطها في وعاء فكري نقدي يعين على فهم مبررات كل خطوة وعلاقتها بالمسيرة الشاملة، ونسعى كذلك من خلال نقد ذاتي إلى تقويم تلك المسيرة والخطوات التي مرت بها، و إذ نبادر بنقد ذاتنا إنما نقدم تجربة لما نرى أن تكون عليه الحركة في بسط منهجها وقبول الرأي الآخر والنظر في عيوبها قبل أن يراها الآخرون.

نسأل الله أن يكشف الغمة ويعين الآخرين ممن شاركوا في هذه المسيرة على المساهمة في تدوين هذه الحقبة الهامة من تاريخ بلاد الحرمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.







آل سعود والإسلام

والحركة الإصلاحية

في هذا الفصل سنضع مقدمة عن حقبة لم نعايشها كلنا، وربما أدركها بعض المخضرمين من أبناء "وآباء" الحركة، لأن تلك الحقبة لم تكن مرسومة من قبل أي فئة، بل كانت تتابع أحداث ومواقف ومجموعة من الأفعال وردود الأفعال، إلى أن انتهت بالعمل السياسي المؤصل للحركة الإسلامية إلى ما هو عليه في الوقت الحاضر.

تعارف معظم المؤرخين على اعتبار الدولة السعودية الحالية امتدادا للدولتين السعوديتين الأولى (1750 - 1820م) والثانية، والدولة المهمة هي الأولى التي قامت على تحالف بين محمد بن سعود وبين محمد بن عبدالوهاب، وفرضت نفسها مدة من الزمن إلى أن قضى المصريون عليها بتوجيه من الآستانة، وكانت تلك الدولة واسعة الأرجاء استحوذت على كل شبه جزيرة العرب، وامتدت في أعماق العراق والأردن، ودامت حوالي ستين سنة، أما الدولة الثانية فلم تكن دولة بالمعنى المتعارف عليه، بل كانت إمارة استطاعت بسط نفوذها على عدد من القرى في أواسط نجد، ولم تدم إلا سنين معدودة.

وحينما نشأ عبدالعزيز مؤسس الدولة الحالية في الكويت حدّث نفسه باستعادة ملك الآباء، وعزم فعلا على ذلك، وغزا الرياض بهذا الشعار، ففشلت حملته تلك فشلا ذريعا، وبعدها غيّر الشعار، ورفع شعار تجديد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وبعث السفراء يهيئون الأرضية لذلك فنجح نجاحا باهرا، ولذا فإن نشأة هذه الدولة مربوطة تاريخا وانتسابا على الأقل بالدولة الأولى، وحينما كوّن عبدالعزيز قاعدة له في الرياض كانت راية الدين عاملا قويا في ترجيح كفته على ابن رشيد وعلى الشريف حسين.

حركة الإخوان
وبلغت الدوافع الدينية أوجها حينما نشأت وترعرعت حركة “الإخوان” من البادية، وتكونت هذه الجماعة إثر تأسيس مجموعة مما يسمى بالهُجر، وهي قرىً صغيرة يأوي إليها البادية يتعلمون القرآن والدين و"الجهاد"، واختطلت جلافة البادية باندفاع الجهاد وطلب الجنة، فأصبحت تلك المجموعات فرقا ضاربة تجتاح الخصم بكل سهولة لما لديها من شجاعة وإقدام.

وما أن استقر لعبدالعزيز المقام حتى أصبحت تلك المجموعات منافسة له، فعبدالعزيز لا يريد أي مزيد من الجهاد، ويريد أن يثبت مفهوم الدولة القطرية، وهذه المجموعة تريد استمرار الجهاد، وترفض الاعتراف بالحدود، وتلا ذلك التشكيك بولاء الدولة للإسلام، وتفاقمت مشكلة الإخوان إلى أن تحولت إلى معارضة مسلحة، انتهت بمواجهة مع جيش عبدالعزيز في معركة السبلة التي قضى فيها على الحركة، وألقى بقادتها في السجون إلى أن ماتوا وقيل قتلوا.

وقد تعرضت حركة الإخوان هذه لدراسات عدة عربية وغير عربية ولكن التاريخ غالبا يكتبه الطرف المنتصر وبالتالي لا ينال الطرف الآخر حظه من الإنصاف، وفي اعتقادنا فإن تلك الفترة تحتاج إلى إعادة كتابة ودراسة وتمحيص، ونحسب أن كل الدراسات التي أجريت، إما أن تكون موجهة من قبل جهات معنية أو أن تكون متأثرة بسياسات معينة. وتعتبر أكثر الدراسات عدلا في هذا الجانب “كتاب السعوديون والحل الإسلامي”، الطبعة الأولى للاستاذ محمد جلال كشك، وهناك رسائل ماجستير ودكتوراه لبعض الباحثين نشر فيها من الحقائق ما ليس في غيرها، ونعتقد أن من الضروري التعجيل باستنطاق من بقي على قيد الحياة من الإخوان لتدوين تاريخهم.

أما من ناحية التقويم التاريخي، فإنه لم يكن التمكين من نصيب تلك الحركة بالضرورة -رغم سلامة نياتها- لماذا؟ لأن الحركة تحمل عدة مشاكل جوهرية، الأولى: أنها حركة قامت على الرفض أكثر من قيامها على البناء، بمعنى أنها رفضت كل جديد، ورفضت الواقع، ولم تقدم بديلا واضحا لما رفضته، وثانيا: عاشت الحركة عزلة حقيقية عن غالبية المجتمع الحضري بسبب تشكيلتها البدوية، وعاشت عزلة عن العلماء كذلك، واكتفت بأنصاف طلبة العلم ممن كانوا فيها، وثالث مشاكل الحركة: أنها لم تمض بقيادة واضحة ولا برأي واحد ولا موقف محدد من القضايا المصيرية، وأهمها الموقف من السلطان، واضطربت الحركة فكريا بين مفهوم طاعة ولي الأمر أو “الإمام” كما كانوا يسمونه وبين رفض مواقفه السياسية، ولم يتضح لدى قادتها كيف يجب أن يكون الموقف، فانهارت معنويات الأفراد، وتلاشى الحماس الذي كان يدفعهم لمقاتلة أعداء عبدالعزيز بصفتهم مشركين أو على الأقل يستحقون القتال، وساد بينهم جدل شديد حول شرعية قتال جيش عبدالعزيز.

ونظرا للعجز الحضاري في تلك الحركة لم تترك أثرا اجتماعيا يذكر، وتلاشت آثارها، ولكنها أثرت بشكل غير مباشر حين قوّت مركز العلماء، حيث لم يستطع عبدالعزيز توجيه ضربة قاصمة لهم إلا بالاتكاء على العلماء، وهكذا قوّوا مركز العلماء بشكل غير مباشر، وأحس عبدالعزيز أنه لن يستطيع الاستغناء عن دعم العلماء في تثبيت أركان دولته.

الدولة القطرية
لقد كان الإخوان أكبر تحد يواجهه عبدالعزيز منذ أن أنشأ الدولة، ولا شك أنه تجاوزه بنجاح، ورغم أن ذلك النجاح أتى بالاستعانة بالعلماء كما ذكرنا، إلا أن حسم المعركة لصالح عبدالعزيز بهذه النهاية المحزنة أعطى لعبدالعزيز فرصة ترسيخ مفهوم الاستبداد، ومكنه من تأكيد مفهوم القطرية، ولذلك فقد تغيرت تصرفات عبدالعزيز وثقته بنفسه وقوة سطوته بعد انتصاره في هذه المعركة، ورغم الاحترام الذي استمر يلقاه العلماء بعد ذلك فقد ضعف اهتمامهم بقضايا السياسة، وساد منذئذ مفهوم “ولي الأمر أعرف بالمصلحة” وهي في اعتقادنا أسلوب مطور لمفهوم “ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، ولذلك لم يكلف العلماء أنفسهم - في تلك الفترة - النظر في تعاملات عبدالعزيز الدولية والأنظمة والقوانين التي سنها بطريقة تخالف الشريعة فضلا عن ترسيخ النظام الملكي الوراثي وولاية العهد.

ما بعد الاخوان
بعد حركة الأخوان التي انقرضت تقريبا لم يكن هناك أي شكل من أشكال العمل السياسي، فيما عدا محاولات فردية لانتقاد الحاكم كان أبرزها بعض مواقف الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالرحمن السعدي والشيخ بن عتيق، وكان معظمها يدور حول العلاقة بالكفار وبعض القضايا الداخلية، مثل سوء توزيع الأموال وإلخ..، وكان الملك عبدالعزيز ذكيا في التعامل مع هذه القضايا وكان لديه قدرة فائقة على امتصاص غضب العلماء دون أن يدخل معهم في صراع مكشوف، أو أن يضطر إلى سجنهم وعقابهم.

وكانت بعض تلك القصص والحوادث جميلة وطريفة في معناها وتدل في تفاصيلها على مدى عمق أثر الدين في المجتمع وقوته كعامل في بناء الدولة وسجل التاريخ حادثتين تضامنت فيهما الجماهير مع العلماء ضد عبد العزيز، الأولى للشيخ سعد بن عتيق مع أهل الرياض، والثانية للشيخ بن باز مع أهالي الخرج..، والمقام لايسع لذكر تفاصيل تلك الحوادث.

حركة جهيمان
استمر الحال دون تغيير طوال عهد الملك عبدالعزيز والملك سعود والملك فيصل وردحا من حياة الملك خالد، ورغم أن هذه الفترة كانت حافلة بالتغيرات السياسية الكبيرة ونشأة التيارات العلمانية من قومية وناصرية ويسارية، إلا أن النشاط الإسلامي السياسي في المملكة أثناءها كان غائبا، وفيما عدا التيار الديني الرسمي لم تقدم أي طروحات إسلامية سياسية، ولربما كان جمود أو هدوء التيار السياسي في تلك الفترة يُعزى إلى اسباب منها، عدم دخول الدولة في صراع مكشوف مع التيار الإسلامي و شعور كثير من الإسلاميين بأن من الأولى عدم تبني معارضة الدولة بسبب قيام الدولة حسب تصورهم بدور جيد في مقاومة التيارات العلمانية، ولاعتقادهم أن من مصلحة العمل للإسلام في تلك الفترة مهادنتها.

وأيا كان الأمر فلم تكن الحركة الإسلامية تشكل معارضة بالمفهوم السياسي حتى عام1980 م، حين وقعت الحادثة المشهورة، حادثة دخول الحرم والاعتصام فيه بقيادة جهيمان، وما ترتب عليها من مواجهة عسكرية مع القوات النظامية السعودية.

ورغم أن بواعث نشوء هذه الحركة كان مختلفا قليلا عن حركة الأخوان، إلا أنها تشابهت معها في طابعها العام، كحركة رفض أكثر من كونها حركة بناء، وفيما اتسمت به من غلو، لذلك كان حظها في النجاح محدودا جدا، بل إن القضاء عليها لم يستغرق أسابيع، ولم تحظ بتعاطف يذكر من قبل المسلمين سواء محليا أو على نطاق العالم الإسلامي، لأن دخول الحرم ورفع السلاح فيه أمر يستنكره عامة الناس مهما كانت دوافعه، ولكن من المهم الإشارة هنا إلى أن من بواعث نشأة هذه الحركة تبني الدولة عموما لمشروع إفساد الشعب من خلال الإعلام والتعليم والسماح بانتشار التحلل والتغريب في المجتمع، فقد أثار انتشار الفساد سخط هذه المجموعة، التي تبنت أسلوب المواجهة المباشرة مع الدولة لدرجة الاقتتال وسفك الدماء، ولكن كسابقتها حركة الإخوان كانت حركة جهيمان منقطعة، ما أن نشأت حتى اندثرت، إلا أنها أثرت كثيرا في النظام الذي شعر بحساسية المجتمع تجاه عملية التغريب، وما رافقها من قضايا الفساد الاجتماعي، وأيقن النظام بضرورة إبطاء هذه العملية على الرغم مما توفر لدى أركانه من نوايا لحقن كم هائل من البرامج عبر أجهزة الإعلام والتعليم، فجاءت حركة جهيمان لتشعر النظام بالرفض لمشروع الإقساد.

ولئن كانت هذه النتيجة ثمرة لحركة جهيمان العتيبي، فإنها سياسيا لم تترك أثرا ذا بال في ضمير المجتمع السعودي بعد ذلك.

حادثتان هامتان
قبل أزمة الخليج لم تشهد البلاد على المستوى السياسي تطورا مهما، فيما عدا حدثين لم يكونا في ذاتهما سياسيين، ولكن كانت لهما ظلال سياسية.

سعيد الغامدي والحداثة
أما أولهما فكان في بادئ الأمر حدثا بسيطا، لكن سرعان ما تحو ل إلى قضية وطنية كبيرة، بدأ ذلك بتبني أحد طلبة العلم الشاب سعيد الغامدي - وهو من منطقة أبها - دراسة حركة “الحداثة” في المملكة على مستوى الأدباء، ويقصد بالحداثة هنا ذلك التيار الجديد الذي يستهدف حرب النشاط الفكري لدى المثقفين من الإسلام بحجة التحديث، ولم يكن ذلك في حقيقته تحديثا، بل حقنا للعلمانية في أذهان المثقفين، وقد نجحت المجموعة المتزعمة لهذا التيار -وفيها الشعراء والكتاب والناقدين- في السيطرة شبه التامة على جميع الصفحات الأدبية في المجلات والجرائد في المملكة، واستطاع الدكتور سعيد الغامدي أن يتتبع نشاط هذه المجموعة وأن يوثق استنتاجاته في مادة مسجلة على شريطين، ما لبثت نسخ الشريطين أن انتشرت بسرعة فاقت التصور في جميع أنحاء المملكة، وغدا موضوعها قضية الشارع، فانهالت التقارير على وزارة الداخلية مفيدة بأن ملايين النسخ قد وزعت في كافة أنحاء المملكة، بل إن جامعة الملك سعود وحدها وز ع فيها ما لا يقل عن 60 ألف نسخة، وكان كثير من الناس يتبرعون بدفع تكاليف الاستنساخ والتوزيع في تظاهرة فريدة من نوعها لمقاومة العلمنة.

أثبتت هذه التجربة للنظام وللعلمانيين بأن مستوى الوعي لدى عامة الناس كان أعلى بكثير مما كانوا يتصورون، وبأن الغيرة المغروزة في أذهان الشعب على الإسلام قوية جدا، فلولا هذه الغيرة وذلك الحماس للدفاع عن الإسلام لما تبنى الشعب بنفسه توزيع هذا الشريط لمحاصرة الحداثيين فكريا، كانت هذه الحادثة دليلا قويا على مدى تعاطف عامة الناس مع الإسلام، ليس الإسلام بوصفه عادة أو شعيرة فحسب بل الإسلام بوصفه عقيدة ومنهجا لأن القضية المطروحة في ذلك الشريط لم تكن حول قدسية الحرم أو شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، أو أي من القضايا التي لا يختلف المسلمون في التعاطف معها، بل كانت قضايا فكرية متخصصة تحتاج إلى درجة عالية من النضج والتميز في النظر إلى القضايا الإسلامية.

عايض القرني والأمير
وأما الحادثة الثانية فكانت محاولة الأمير خالد الفيصل الإساءة إلى سمعة الشيخ عايض القرني بتدبير مؤامرة لاتهامه باللواط، وذلك من خلال إغراء طفل في المنطقة بادعاء ذلك لتوريط الشيخ، سجن الشيخ ثم ما لبث أن برأ من قبل المحكمة، فانهالت الاتصالات والاحتجاجات من قبل الناس، وتوجه الآلاف منهم إلى أبها للتعبير عن تأييدهم للشيخ وتنديدهم بما حيك ضده، وغصت الشوارع المحيطة بمنزل الشيخ بالزائرين من جميع أنحاء المملكة، حتى أن الذين كانوا يحجزون للسفر إلى أبها في تلك الأيام كان يعجزهم الحصول على حجز قبل أسبوع من تاريخ السفر. بعد ذلك غادر عايض القرني أبها متوجها إلى الرياض وجدة والقصيم وغيرها في جولة كان يلقي خلالها المحاضرات والدروس فيتوافد الناس من كل حدب وصوب عليه من باب التأييد له والاهتمام به، وكانت أبرز هذه المحاضرات تلك التي ألقاها في جامع الملك خالد في منطقة أم الحمام في الرياض حيث قدر الحضور بعشرين ألف شخص.

كلا هاتين الحادثتين وقعتا قبل أزمة الخليج، وبينما كانت الأولى دليلا على الوعي العام والمقاومة الشعبية لما كان يسعى العلمانيون لتحقيقه من نزع الصبغة الإسلامية عن المجتمع، كانت الثانية دليلا على تعاطف الناس مع أهل العلم وزعماء التيار الإسلامي.

استمر الحال على ذلك إلى أن تفجرت أزمة الخليج، التي أحدثت انقلابا كبيرا في وضع العمل الإسلامي في المملكة الذي عبر منذ الأزمة بثلاث مراحل: الأولى بدأت بغزو العراق للكويت إلى أن أخرج منها تماما، الثانية بدأت بخطاب العلماء حتى إعلان إنشاء لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية، الثالثة بدأت منذ الإعلان عن لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية إلى هذا الوقت .













التغيرات الاجتماعية والتربوية والثقافية والانفجار السياسي
التطورات والأحداث السياسية ليست في الحقيقة إلا تجليات نهائية للواقع الاجتماعي والحضاري للمجتمعات، وفي الدول المتحضرة تظهر تلك التجليات بشكل منتظم وسهل، لأن القيادات السياسية في تلك البلاد تمثل المجتمع نفسه من خلال مؤسسات تعكس مباشرة واقع القواعد البشرية في تلك المجتمعات، أما في البلاد التي فقدت تلك المؤسسات وعاشت فصاما بين قيادتها السياسية وقواعدها البشرية، فإن حوادثها السياسية في كثير من الأحيان تبدو تصرفات فردية للحكام، ولا تظهر انعكاسا لتغير اجتماعي حقيقي إلا بعد تراكمات كبيرة أو بعد صدمات حضارية تربك التوازن القسري المفروض الذي منع ذلك الانعكاس فيظهر بعدها دفعة واحدة.

انفصام
وقد حصل ذلك في جزيرة العرب خلال أزمة الخليج تماما، فقد كان مسار القيادة السياسية منفصلا بشكل كبير عن خط التطور الاجتماعي والمسيرة الثقافية لسكان الجزيرة، ولقد تراكمت قبل أزمة الخليج تغيرات كثيرة كانت مستورة بالغطاء السياسي المنفصم عنها، وكانت تلك التغيرات تنتظر الصدمة التي تزيح ذلك الغطاء وتجلي تلك التراكمات المهمة، فجاءت الصدمة متمثلة في أزمة الخليج، فانكشف اللثام وطفت التغيرات على السطح، واكتشف الذين حسبوا حساباتهم على أساس الواقع السياسي قبل الأزمة أن تلك الحسابات خاطئة، وأنه لابد من إعادة دراسة الواقع الاجتماعي هناك، غير أن بعض المتابعين للتغيير الاجتماعي نفسه توقعوا شيئا من هذه التغيرات، ولم تفاجئهم تداعيات أزمة الخليج، لأن تناولهم للقضية جاء من العمق ولم يأت من السطح، ولعل هذا هو الذي يفسر الانفجار السياسي لنشاط الحركة الإسلامية في المملكة واستلامها لزمام المبادرة بعد أزمة الخليج الثانية.

نحاول الآن وصف التغيرات الاجتماعية والتربوية والثقافية التي هيأت لذلك الانفجار السياسي، وأثبتت أن الإسلاميين هم أصحاب لقضية الإصلاح وأصحاب مشروع التغيير، وأن لديهم نفسا طويلا في الصراع الفكري والمنازلة الحضارية، وسنتناول نفس الفترة التي تم تناولها في العدد الماضي سابقا، أي بين نشأة المملكة وأزمة الخليج الثانية، ولكن من وجه آخر وزاوية أخرى، والمبحثان ضروريان باعتبارهما مقدمة للحديث عن تداعيات أزمة الخليج والتطورات السياسية الداخلية التي تبعتها.

عزلة عن العالم
حينما نشأت المملكة في مطلع القرن العشرين كانت تركيبة المجتمع بسيطة جدا، بل بدائية بالتعريف المدني الحديث. ولقد كان غالب الجزيرة العربية معزولا عن العالم، فيما عدا مكة والمدينة اللتان اتصلتا بالعالم من خلال الحج، ورغم أن لهذه العزلة سببا كونيا قدريا هو الموقع الجغرافي والطبيعة القاسية لجزيرة العرب، إلا أن أسبابا أخرى ظرفية ساهمت في تلك العزلة، من أهمها أن غالب جزيرة العرب لم يتعرض للغزو الغربي الذي تعرضت له بلاد المسلمين، وبذلك لم يحصل احتكاك يذكر مع الحضارة الغربية التي دقت أبواب العالم الإسلامي منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، ومما ينبغي الاعتراف به أن الحضارة الغربية في ذلك الأثناء “وحتى الآن” كانت هي السائدة في العالم بل كانت هي العالم بنفسه، والعزلة عنها كانت عزلة عن العالم كله، ومما لا شك فيه أن سلامة جزيرة العرب من الغزو الغربي كانت له آثاره الفكرية والأخلاقية الحميدة في عدم تلوث أفكار وأخلاق سكان الجزيرة بالغرب، لكن غياب ذلك الاحتكاك ترتب عليه قضايا أخرى يغفل عنها كثير من المحللين، ولا يضعونها في الاعتبار حين يعدون مجتمع الجزيرة نسخة من المجتمعات العربية، ويعتبرون الدورة الحضارية متشابهة في تلك المجتمعات.

من القضايا التي ترتبت على غياب الاحتكاك عدم تنامي الحس العدائي للمستعمر الغربي والإحساس بضرورة إخراجه من بلاد المسلمين التي احتلها بسبب انعدام المعاناة المباشرة من ذلك، ولقد كان لهذا الشعور دور كبير في بعث الحركات الجهادية في أنحاء العالم الإسلامي لإخراج الغزاة من بلاد المسلمين، ومن ثم ما صاحب ذلك من تجارب عسكرية وسياسية وحركية مضت كمرحلة مهمة في تاريخ تلك المجتمعات، واختفت من تاريخ الجزيرة الحديث، وهذا لا ينفي بالطبع الموقف النظري لأبناء الجزيرة من الكفار الذي لم ينفعل كثيرا بواقع عملي.

و ترتب على سلامة الجزيرة من الاستعمار غياب التأثر بالجوانب التنظيمية والإدارية، والمفاهيم الدستورية واللغة السياسية، وغيرها من المفاهيم والتطبيقات التي استصحبها وجود المستعمرين، والتي كان في بعضها جوانب إيجابية ثبت نفعها على المستوى التنظيمي والإداري والثقافي العام، ونتج عن ذلك مجتمع لا يعرف ألف باء السياسة الحديثة، ويعتبر المفردات السياسية طلاسم ورموز غير مفهومة، وهذا بالتأكيد ليس ثناءا على الاستعمار لكنه وصف لبعض الحقائق باعتبار الواقع المجرد.

لم تكن الجزيرة معزولة عن الاستعمار والعالم الغربي فحسب، بل كانت معزولة حتى عن العالم الإسلامي، ولم يعايش سكان الجزيرة بسبب تلك العزلة المستجدات في واقع المجتمعات الإسلامية ونشوء حركات التجديد والإصلاح التي انتشرت في العالم الإسلامي.

في مقابل تلك العزلة لم توجد مصادر اكتفاء ذاتي للثقافة والتحضر من داخل المجتمع، بل كان المجتمع يعاني من الجهل والتخلف، سواء بالمعنى الثقافي العام، أو بالمعنى الشرعي الخاص، فبعض طلبة العلم والمشايخ كانوا يدرسون بنسق معين وحدود معينة تضيق كثيرا عن مفهوم شمولية الإسلام وعالميته وسعة الشريعة وقدرتها على استيعاب كل المستجدات العلمية المدنية الحديثة، وقد سعى الملك عبدالعزيز لترسيخ هذا الواقع من خلال تبطئة مسيرة التعليم، حيث كان يعتقد أن الاستعجال في توسيع دائرة التعليم يذكي روح المعارضة السياسية، ويشجع على الرغبة في الثورة والتمرد على الاستبداد، ويقال إن الملك عبدالعزيز جعل ذلك جزءا من وصيته لأولاده، ومن المفارقة أن ابنه سلطان يتندر على إخوانه بتلك الوصية، ويتهمهم بأنهم السبب في بروز المعارضة الإسلامية حين خالفوا وصية والدهم بتوسيع الجامعات والمدارس والمعاهد والمؤسسات التعليمية.

الملك عبد العزيز والمفاهيم غير الشرعية
استطاع الملك عبدالعزيز من جهة أخرى استثمار إنجازه في توحيد أجزاء كبيرة تحت ملكه، وإنجازه في ضبط الأمن، في إقناع الشعب أن تلك الإنجازات هي غاية المرام عرفا وشرعا من إنشاء الدولة، ونجح في إقناع الشعب اعتمادا على نفس المنطق، بأن نقد الحاكم سوف يؤدي إلى خسارة تلك الإنجازات، ونظرا لأن الشعب كان مهيئا حينذاك لقبول هذه المقولات بسبب ما عاناه من الفوضى والنهب والسلب وانعدام الأمن فقد تحولت شعارات الملك عبدالعزيز هذه إلى عقائد، وترسخت في أذهان الناس ولاتزال بقاياها إلى الآن، وقد تمكن الملك عبدالعزيز بعد أن حقن تلك الدعوى في عقول وقلوب الناس من فرض بعض المفاهيم غير الشرعية على التيار المشيخي والشرعي، ومن ثم على من يتبعهم من العامة.

نعم للقطرية
أول هذه المفاهيم هو أن المملكة ليست مسئولة إلا عما يقع داخل حدودها، وليس على عاتقها أي تبعة شرعية تجاه المسلمين في أنحاء العالم، وكانت تطبيقات الملك عبدالعزيز لهذا المفهوم في العلاقات والمواقف صارمة، إذ لم يكتف بالتطبيق، بل نص على ذلك صراحة في مؤتمر عالمي عقد في مكة في العشرينات الميلادية، وقد نشأ تبعا لذلك جيل كامل يؤمن بمفهوم القطرية في الإسلام، ويقبل بفكرة التابعية لآل سعود، وكاد مفهوم الإسلام للعالمية أن يندثر حتى في أذهان طلبة العلم والعلماء، ويحكي كثير ممن حضروا مجالس وحلقات بعض طلبة العلم عن طريقتهم التي تدل على اعتقاد القطرية ونبذ العالمية.

الشيوخ أبخص
أما المفهوم الثاني الذي استطاع الملك عبدالعزيز ترسيخه من خلال التباهي بإنجازاته فهو مفهوم “ولي الأمر أعرف بالمصلحة” أو بالعامية “الشيوخ أبخص”، وخطورة هذا المفهوم تربويا وفكريا تأتي من المرونة والمطاطية في تطبيقه واستعماله، حيث يتسع هذا المصطلح ليشمل قضايا شرعية ثابتة بالكتاب والسنة بحجة أنها من المصالح المتروكة للإمام، وهو أعرف بالمصلحة وأعرف بتقديرها، والإشكال هنا أنه بما أن طاعة ولي الأمر واجبة، فإن اجتهاده في هذه - المصلحة - ملزم للأمة، وتجب عليهم فيه الطاعة، ومع مرور الزمن وتتابع الأجيال تحول هذا المفهوم إلى عرف اجتماعي، بل اتسع المعنى ليتحول إلى ما يشبه العصمة للإمام باعتبار اجتهاداته دائما ملزمة بل ومصيبة.

في تلك الأثناء التي كان مجتمع الجزيرة يتربى فيها على تلك المفاهيم الخاطئة، كان العالم الإسلامي يعج بالحركات الجهادية المناهضة للاستعمار، وبالجماعات والحركات الإسلامية التي تدعو إلى شمولية الإسلام وعالميته، لكن المملكة بقيت معزولة عن تلك التطورات ولم تجد المفاهيم التي فرضها عبدالعزيز مفاهيم منافسة، وذلك بسبب إقفال الباب أمام كل فكر وافد حتى لو كان حقا، ومن الحكايات الطريفة في هذا السياق أن الشيخ حسن البنا رحمه الله مؤسس حركة الإخوان المسلمين في مصر التقى الملك عبدالعزيز في إحدى المناسبات، وعرض عليه فتح شعبة للإخوان في المملكة، فأجابه الملك عبدالعزيز بأن لا مانع أن تكون المملكة كلها شعبة، ويكون هو “الملك عبدالعزيز” رئيسها، ثم قطع الملك عبدالعزيز الاقتراح تماما، فقال: “كلنا إخوان مسلمون ولا حاجة لشعب”، مما يدل على أن الملك عبدالعزيز حرص جديا على عزل المجتمع عن الأفكار التي لا توافق آرائه.

تطورات نوعية
لقد تسببت العزلة والانغلاق والرتابة في حياة المجتمع في عدم بروز أي مظهر يدل على تطور نوعي، وكان العمل الإسلامي التربوي الوحيد في تلك الفترة - التي امتدت بين العشرينات والخمسينات الميلادية - هو نشاط بعض العلماء وطلبة العلم بالأسلوب التقليدي، وبقي الحال كذلك طيلة فترة الملك عبدالعزيز. وبعد وفاة الملك عبدالعزيز واعتلاء الملك سعود ومن بعده فيصل للعرش حصلت عوامل جديدة أدت إلى تطورات هامة على المستوى التربوي والثقافي.

العامل الأول تمثل في تعرض المملكة للهجمة الناصرية القومية وللمد اليساري الاشتراكي من خلال الإعلام ومن خلال تبني كثير من الأعيان، بل من أبناء الأسرة لهذه التيارات، ولا شك أن الصراع الذي تولد بين الحكم القائم وتلك الهجمة ولد حسّا سياسيا عند الناس، هذا رغم أن تلك الهجمة قضي عليها تماما .

العامل الثاني هو قيام الملك فيصل بفرض عدد كبير من الأنظمة المستمدة من غير الشريعة في مؤسسات الدولة، رغم معارضة عدد كبير من العلماء، بحجة أن هذه أمور تنظيمية إدارية وليست تشريعية، ولقد سبب ذلك على امتداد الزمن استمراءا من قبل الناس عموما والعلماء خصوصا لفكرة القوانين الوضعية، وكانت هذه بلا شك وسيلة من وسائل علمنة النظام وتعويد المجتمع على هذه العلمنة، ولا بد من الاعتراف هنا بأن ذلك قد تحقق فعلا، وأن حساسية بعض العلماء تجاه التشريعات غير الإسلامية بسبب تلك الحيلة قد تلاشت.

العامل الثالث وهو الأهم كان مرتبطا بإيواء المملكة للإسلاميين الذين فروا من نظام عبدالناصر وغيره من أنظمة العرب، وسواء كان احتضانهم نكاية بعبد الناصر أو إيواء للمسلمين فهذا ليس مهما هنا، والمهم هو أن تلك المجموعات اختلطت واحتكت بالمجتمع في المملكة وتبادلت معه المعرفة والتجربة، وكانت أول نموذج لتبادل التجربة والخبرة في العمل الإسلامي داخل المملكة في العصر الحديث، ويعتقد معظم المفكرين الذين عايشوا تلك الفترة أن التلاقح الذي تم بين أفكار التوحيد وسلامة المنهج التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، وأفكار العمل الإسلامي الحركي الذي جلبه القادمون إلى الجزيرة، نتج عنه نموذج فريد من نماذج العمل الإسلامي الناضج الذي عبر عن نفسه سياسيا خلال وبعد أزمة الخليج.

لقد امتزجت بساطة المجتمع وفطرية الناس والتدين العام مع الفكر التجديدي لشمولية الإسلام وعالميته ومفهوم ضرورة التعاون بشكل منظم لتحقيق الأهداف المشروعة، ساعد على تحقيق ذلك التطور النسبي في المجتمع مدنيا، حيث انتشرت المدارس والجامعات، وظهرت المؤسسات شبه الاجتماعية، وأصبحت تلك المحافل مظلات مناسبة لنشر الفكرة الإسلامية، وإخراجها عن دائرة المسجد والحلقة الشرعية، إلى المدرسة والجامعة والشارع والمنزل، وأيضا إلى الدائرة الرسمية.

عصر النفط
بعد أن دخلت المملكة عصر النفط في الستينات والسبعينات الميلادية، وتسهلت المواصلات، وكثرت الحاجة للعقول واليد الفنية من جميع أنحاء العالم بما في ذلك البلاد الإسلامية أصبح الاتصال الحضاري بالعالم حتمية لا يمكن الفرار منها، وبذلك استطاعت كل التيارات إيصال فكرتها إلى مجتمع المملكة من خلال تلك الحركة البشرية، ولم يقتصر ذلك على التيارات الإسلامية بل تعداه إلى التيارات اليسارية والليبرالية والقومية، ورغم ذلك فقد بقي الطابع العام للمجتمع طابعا إسلاميا، وبقيت تركيبة المجتمع والعائلة سليمة ومتماسكة، ولم يظهر عليها ما أصاب المجتمعات الأخرى من تفكك وخلافات داخل العائلة الواحدة فضلا عن المجتمع، غير أن أيا من هذه التيارات لم يستطع تجاوز النقل النظري لأفكاره، ولم يتمكن أيا منها بالخروج للسطح بناءا اجتماعيا ظاهرا أو كيانا أو حزبا سياسيا معلنا رغم اتساع تلك التيارات أفقيا.

ومن خلال هذا الاتصال بالعالم انعكست معظم التجارب في العمل الإسلامي على المجتمع في المملكة، وبرز فيه كل الطيف الفكري الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، بدءا بجماعة التبليغ ومرورا بالإخوان المسلمين والسلفيين وانتهاء بجماعات التكفير، وقد حظي تيار الفكر الإخواني والفكر السلفي بحظ أكبر بكثير من سواهما في هذا التمثيل، غير أن هذه التيارات لم تتجاوز كونها امتدادا فكريا وثقافيا لتلك الحركات، ولم يوجد ما يدل على ارتباط حركي أو عضوي بتلك الجماعات في الخارج بسبب شعور بعض أهل الجزيرة بأسبقيتهم في الإسلام ورفضهم للانقياد إسلاميا من قبل آخرين.

من جهة أخرى لم تتجاوز هذه التيارات - فيما عدا جهيمان العتيبي - النشاط التربوي، هذا رغم شمولية الطرح وعالمية الهدف، غير أن الإنجاز التربوي ذاته لم يكن هينا، فقد استطاعت تلك التيارات صياغة أعداد هائلة من الإسلاميين الواعين من كل شرائح المجتمع، بدءا برجل الشارع والعامل والفني وطالب الثانوية وانتهاء بالأستاذ الجامعي والقاضي ورجل الأعمال.

العلماء الشباب
أما النشاط التقليدي للدعوة المتمثل في دروس وحلقات المساجد فلم يتوقف بل اتسع وانتعش، وكان بينه وبين النشاط الجديد مواءمة وانسجام، وقد أصبح عدد كبير من علماء الشباب الذين تأثروا بالفكر التجديدي من أصحاب الحلقات الكبيرة في المساجد، وتجاوز عدد طلابهم ومريديهم الآلاف، وبدأت هذه الحلقات بالانتعاش منذ بداية الثمانينات الميلادية، وتحولت إلى منتديات ضخمة في نهاية ذلك العقد، وأصبحت المشاركة فيها من علامات الوجاهة بعد أن كان الأمر على خلاف ذلك في الماضي.

وخلال هذه الفترة أي فترة الثمانينات برز علماء الشباب كوجوه جديدة للمرجعية، وضمت حلقاتهم أعدادا كبيرة من الطلاب والمريدين، وممن برز في هذه الفترة من خلال تلك الحلقات الكبيرة الشيخ سلمان العودة والشيخ سفر الحوالي والشيخ عايض القرني والشيخ ناصر العمر والشيخ عوض القرني وغيرهم من علماء الصحوة، وقد تميز نشاط هؤلاء بميزة هامة هي قدرة أولئك الرموز على الجمع بين الحديث عن المستجدات والتعليق على الأحداث بوعي ومتابعة وبين التمكن من المواضيع الشرعية الأصيلة مثل الفقه والعقيدة والتفسير، وكانت دروس الشيخ سلمان في شرح كتاب بلوغ المرام التي بلغت عدة مئات من الدروس من أهم الأنشطة الفقهية في تلك الفترة، كما كانت دروس الشيخ سفر الحوالي في شرح كتاب العقيدة الطحاوية من الدروس العميقة في علم العقيدة، وكان سلمان وسفر وناصر العمر وعايض القرني وغيرهم من المشايخ يستفتون من قبل العامة في شؤونهم الحياتية، وشكل ذلك بلا شك تطورا مهما كونه حوّل أولئك العلماء إلى مراجع فقهية مقبولة من قبل الشارع، ولقد تحولت هذه الأسماء إلى رموز إسلامية حتى خارج المملكة، حين شاركت في التعليق على أحداث هامة، فقد اشتهر الشيخ سلمان بتعليقه على كتاب الشيخ محمد الغزالي “السنة النبوية” بمجموعة أشرطة وكتاب بعنوان “حوار هادئ مع الشيخ الغزالي”، ولقيت دروس الشيخ سلمان تلك قبولا عريضا في المملكة والعالم الإسلامي، كما اشتهر الشيخ سفر الحوالي باهتمامه بقضية العلمانية وبحثه في جذورها الفكرية والتاريخية، وكانت المؤتمرات الإسلامية في أوروبا وأمريكا تتسابق على دعوة هؤلاء المشايخ للمشاركة في أنشطتها في تلك الفترة.

ومن الظواهر التي تميز بها نشاط هؤلاء الرموز محافظتهم على درجة عالية من الاحترام والعلاقة الجيدة مع التيار المشيخي التقليدي رغم الاختلاف معه في قضايا كثيرة، ولذلك لم يبرز أي نوع من الشرخ أو الفجوة بين العلماء في المملكة، وكانت تلك العلاقة الوثيقة سبب في منع بعض الضربات لشيوخ الشباب، وهذه الخصائص التي اختلفت عن تركيبة العمل الإسلامي خارج المملكة يغفل عنها بعض الباحثين، ولذلك يستغربون بعض نتائج الأحداث بسبب قياسهم على تجربة البلاد الأخرى.

المؤسسات الإسلامية
تطورت مؤسسات الدولة التي تحمل الشعار الإسلامي خلال نفس الفترة وكثرت وتنوعت، ففي حين اقتصرت في البداية على دار الفتيا، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد تأسست بعد ذلك رابطة العالم الإسلامي والندوة العالمية للشباب الإسلامي، وتطورت كذلك المؤسسات الإسلامية التعليمية، فامتدت المعاهد العلمية في جميع أنحاء المملكة، وأنشئت جامعتان إسلاميتان الأولى الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة والثانية جامعة الإمام محمد بن سعود، ثم أنشئت أيضا جامعة أم القرى في مكة، وانتشرت كذلك جماعات ومدارس تحفيظ القرآن، وساعد هذا التكوين الجديد أيا كان الهدف من إنشائه في إنعاش العمل التربوي الإسلامي، ولكن لم تكد الثمانينات أن تنصرم حتى قضي على الدور التربوي “المحدود” لهذه المؤسسات بعد حشرها بالموظفين المنفذين لبرامج الدولة.

انتعاش تربوي
ولقد أدت هذه العوامل مجتمعة في نهاية الثمانينات إلى انتعاش الحركة الإسلامية تربويا رغم انحسارها السياسي، ونظرا لغياب الطرح السياسي لم تشعر الدولة بخطر مباشر يهدد الكيان، واعتبرت انتشار ظاهرة التدين انعكاسا طبيعيا لواقع الصحوة في العالم الإسلامي. ولم تتصرف الدولة قبل أزمة الخليج بما يدل على أي محاولة لاستئصال أي عمل إسلامي سوى ما حصل تجاه جماعة جهيمان وبعض ذيول القضية المتصلة بها، ولم تقف موقفا حادا تجاه أي من العلماء والمشايخ سوى أشخاص قليلين لم يكونوا بذلك الثقل الذي يمثله المشايخ المعتقلون الآن.

بين الوضع الاجتماعي والسياسي
وقد أدى ذلك الوضع إلى صياغة تركيبة غير متناسقة، فالتيار الإسلامي قوي ومتنام تربويا، والدولة تتخلى أكثر فأكثر عن رسالتها الإسلامية، وفي نفس الوقت تأخذ من هذا النشاط موقف المراقب الحذر ولا تواجهه.

لقد أوجد هذا الواقع شعورا عند معظم الإسلاميين بضرورة تجنب المواجهة، بل وتجنب أي نقد مباشر وصريح للنظام خوفا على ما كان يعتقد أنه مكتسبات تربوية كبيرة يمكن أن تنهار.

أضف إلى ذلك أن هيبة الدولة قبل أزمة الخليج كانت قوية، ولم يكن أحد يفكر بإمكانية ضعف النظام أو انهياره أو انكشافه، ثم إن الدولة كانت ناجحة تماما في إقناع الناس وطلبة العلم أنها نظام شرعي، وناجحة كذلك في فرض بعض المفاهيم التي تحاصر كل من يفكر بالإصلاح من خلال أساليب معينة أحدثت درجة عالية من الإرهاب الفكري الذي منع تلك المبادرات قبل الأزمة.

الفكر الإسلامي يسيطر .. ولكن..

ونستطيع القول أن الفكر الإسلامي سيطر بأطيافه المختلفة على الشرائح المهمة في المجتمع، وتحول إلى واقع ملموس متمثل في ظواهر إسلامية كثيرة في البيت والشارع والمدرسة وغيرها من المرافق الاجتماعية، ورغم أن ذلك لم ينجح في فرض أي تغيير سياسي ملموس إلا أنه فرض تغييرا اجتماعيا تمثل في رفع مستوى الذوق الإسلامي عند الناس، واستعادة هيبة الدين واحترام الرموز الدينية، والأهم من ذلك أن التيار الإسلامي أزاح عن الساحة الاجتماعية كل آثار التيار القومي والليبرالي واليساري، واعترف رموز تلك التيارات بهزيمتهم المنكرة على المستوى الاجتماعي على يد الإسلاميين، ويذكر أحد الذين كانوا في موقع رفيع في إحدى تلك التيارات أنهم قرروا منذ نهاية السبعينات وبداية الثمانينات الاستغناء عن البعد الاجتماعي في برنامجهم، والاعتماد كليا على اختراق النظام الحاكم والتأثير من خلال الإعلام.

ومما ينبغي الاعتراف به أن تلك التيارات حققت ذلك الهدف، واستطاعت من خلال عملية انبطاح جماعية اختراق النظام الحاكم وتحديدا الأسرة الحاكمة، ساعدهم في ذلك عوامل منها استعداد الأسرة وخاصة بعد حكم الملك فهد لتبني تلك التيارات في المناصب الحساسة، والثاني تخوف الإسلاميين من خوض غمار السياسة ودخول معترك المناصب، والثالث عدم استعداد آل سعود للسماح للشخصيات النزيهة الشريفة والمتدينة من الوصول إلى أي منصب حساس، بسبب تخوفهم من مشاركة هؤلاء بشكل مباشر أو غير مباشر في القرار السياسي أو مجرد إطلاعهم على مجريات السياسية.

لقد تولد عن تلك التركيبة المتمثلة في الاكتساح الإسلامي على مستوي المجتمع، والغياب الإسلامي على مستوى الإعلام والمناصب الحساسة، ذلك الانفصام الذي أشير إليه في بداية البحث بين القيادة السياسية والقاعدة البشرية، ويبدو أن الرفض الاجتماعي كان متشبعا إلى درجة الاحتقان ينتظر الفرصة التي يعبر فيها عن نفسه، وكانت أزمة الخليج هي الصدمة الحضارية والحدث التاريخي الذي دفع الواقع الاجتماعي لأن يتجلى سياسيا وبشكل صارخ فكان ما كان.





















مراحل تطور الصحوة

خلال أزمة وحرب الخليج الثانية

مع بداية أزمة الخليج الثانية بدخول الجيش العراقي للكويت، دخلت الصحوة في الجزيرة طورا جديدا، كانت سمته الأساسية وجود عدد كبير من المبادرات الفردية والجماعية الهامة، والتي تركت أثرا اجتماعيا وسياسيا كبيرا، واستمرت هذه المرحلة إلى ما بعد انتهاء المعركة البرية، حيث بدأ طور المبادرات المنهجية والتي كان في مقدمتها خطاب العلماء ومذكرة النصيحة، بعد ذلك جاءت بداية العمل المؤسسي والذي تجسد في إعلان تأسيس لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية، أعقبه الانتقال إلى طور "المعارضة" وذلك بعد خروج اللجنة إلى لندن، ثم أخيرا طور المواجهة الأمنية في الداخل بعد اعتقال كبار طلبة العلم وفي مقدمتهم الشيخين سلمان العودة وسفر الحوالي، ونتحدث في هذا البحث عن الفترة الواقعة فيما بين اجتياح الكويت وانتهاء المعركة البرية.

كنا قد ذكرنا سابقا كيف مهد التغيير الاجتماعي الذي حصل في السبعينات والثمانينات الميلادية للعمل السياسي الذي فجرته أزمة الخليج، ذلك العمل لم يفجره فقط دخول العراق للكويت، بل ما تبع ذلك من نتائج وتفاعلات حركت ضمير الأمة وأفرزت سلسلة التطورات التي نقف حاليا على قمتها، والتي كان من أهمها عجز النظام السعودي وانكشافه إعلاميا وسياسيا وعسكريا، ومن ثم إقدامه على الخطوة الخطيرة التي ظن ولايزال يظن أنها هي التي أنقذته من الخطر الماحق ألا وهي الاستعانة بالقوات الأمريكية على أرض الجزيرة العربية، وسواء كان الملك فهد هو الذي استدعى الأمريكان أو أن الأمريكان دخلوا محتلين وطلبوا منه مباركة وجودهم فالحصيلة واحدة.

لقد كان صمت النظام وعجزه عن مجرد نقل الحدث في وسائل الإعلام لعدة أيام دليلا صارخا على هشاشته وورقيته وارتباكه الشديد، فمن الممكن تصور قوة تأثير الصدمة، ومن الممكن أيضا تصور حدوث أخطاء في ردود الأفعال والمواقف المستعجلة، لكن الذي لا يمكن تصوره هو أن تتكلم وسائل إعلام العالم كلها عن الحدث الذي وقع في أطراف البلد، ثم لا تسمع عنه في وسائل الإعلام المحلية شيئا على الإطلاق.

الأهم من ذلك والأمر الذي صدم كثيرا من العقلاء والمفكرين هو قفزة الذعر التي قام بها النظام باتجاه الأمريكان، من دون أن يتخذ أي إجراء داخل البلد في حشد الجيش أو التعبئة العامة أو حتى الاستعانة بالعرب والمسلمين ، حيث تم تجاوز كل ذلك والارتماء في أحضان الأمريكان الذين ترك لهم كافة تفاصيل والإدارة والتحكم بكل الأزمة. أدت هذه القفزة الوقحة باتجاه الأمريكان إلى أن يتأكد الشعب من أمرين:

الأول: أن كل ما كان يتشدق به النظام من عقود السلاح وقوة الجيش والأواكس وطائرات (ف 15) وغيرها كلها سراب وضحك على الذقون، وأن كل تلك الأموال كان مصيرها جيوب المتنفذين والمرتشين.

الثاني: أن حكام البلاد ليسوا حكامها الفعليين، إذ ليس لديهم أي غيرة على بلادهم وحكمهم، وأنهم مستعجلون في الاتكاء على الأمريكان الحكام الفعليين للمملكة لحماية العرش السعودي، وقد تحدث الشارع عن كثير من مظاهر الهلع بين علية القوم، وكيف أن الأسرة الحاكمة لم يكن عندها أدنى تردد في التخلي عن البلد، “إذا وقع الفأس في الرأس”، حيث أعد ت ما يقارب أربعين طائرة مدنية لهروب أعضاء الأسرة المهمين فورا إلى الغرب فيما لو دخل الجيش العراقي للمملكة.

وقعت هذه الأحداث على الناس كالصواعق المتتالية، وهم ما بين مذهول لما يجري وبين غاضب على التلاعب بمصيرهم من قبل قلة غير أمينة، كان جلّ همها تأمين هروبها وتأمين حماية أبنائها.

على جانب آخر كان للصفوة من المفكرين والقيادات العلمية والشعبية شأن مختلف، ورغم أن مجموعة من هؤلاء “حمشتها” الأحداث، وانساقت عقولهم وراء وصف وزيف الإعلام ، وبنيت أفكارهم وفق ما يريد النظام، لكن العدد الأكبر من هؤلاء بدأ يتميز صفهم ويبرز فكرهم منذ بواكير الأزمة، فبالنسبة لهذه الفئة لم تكن دعوة الأمريكان والاستعانة بهم حدثا أهم من صدور فتوى هيئة كبار العلماء بشرعية هذه الخطوة، وكيف تم ذلك بلا دليل شرعي ولا استنارة بآية ولا حديث، وكيف اختزلت القضية الشرعية الضخمة التي يتوقف عندها جهابذة العلماء بكلمة واحدة “الضرورة”، ولربما كانت هذه الفتوى تطورا لا يقل أهمية عن دخول القوات الأمريكية ودخول العراق للكويت.

سفر الحوالي يقول الحق
لقد كانت تلك الفتوى بمثابة أول سقوط للمؤسسة الدينية الرسمية التي اتكأ عليها النظام في شرعيته، وكانت أول مرة يتحدث بها الناس عن الفتاوى التي تصدر لتبرير انحراف النظام واقترافه للجرائم الكبرى، لقد كان مجرد تقصير العلماء عن قول الحق أمرا محتملا عند الناس، اعتقادا منهم أن العلماء ربما يقومون بدورهم وراء الأسوار وخلف الكواليس، لكن لم يخطر ببال طلبة العلم أن يفتي العلماء الذين يعتبرون أعضاء في هيئة "كبار" العلماء فتوى يخالفون فيها الشرع ويراعون فيها الحاكم، لكن مع ذلك ومع أن هذه بحد ذاتها كافية لضرب الشرعية، فقد كان لابد من بديل يحمل الراية ويصدع بالحق الأبلج حتى يؤدي فرض الكفاية في التبليغ، وهنا قيض الله الشيخ المجاهد سفر بن عبدالرحمن الحوالي ليفضح المشروع الأمريكي في الخليج من ألفه إلى يائه، وهو-وفقه الله وفك أسره- لم يتحدث عن هيئة كبار العلماء، ولم يخطئهم مباشرة، لكن فحوى كلامه يشير إلى أن الهيئة تنفذ المشروع الأمريكي من حيث لا تعلم، أما قضية الاستعانة بالأمريكان فقد نسفها الشيخ نسفا من جذورها.

كان ذلك في محاضرتين إحداهما في جدة بعنوان “فستذكرن ما أقول لكم” والأخرى في الرياض بعنوان "ففروا إلى الله" وذلك بعد شهرين تقريبا من الأحداث أي في بداية سبتمبر (1990)، وقد كانت المحاضرتان مثل الغوث لأصحاب الفكر السليم والعقيدة الصحيحة، وأحسب أن الله تعالى سخر الشيخ سفر حتى لا يضيع الحق وينطلي الباطل على الناس، فقد تكلم الشيخ سفر بالآية وبالحديث وبأقوال العلماء وبالتاريخ وبالوثيقة وبالنقول عن كتابات الأمريكان أنفسهم، وبيّن للعامي من الناس ولطالب العلم حقيقة ما جرى ويجري، دون أن يسيء الأدب مع العلماء ودون أن يستفز أحدا.

الشيخ سفر مقابل من؟
ولم تمض أيام على إلقاء المحاضرتين حتى بلغ عدد نسخها من الأشرطة عدة ملايين في كل أنحاء المملكة، بل العالم، وأذكر شخصيا أننا عشنا غربة حقيقية، وضاقت علينا الدنيا بما رحبت في الفترة ما بين فتوى هيئة كبار العلماء بجواز الاستعانة بالأمريكان وبين شريط سفر الحوالي هذا، وقد جاءنا هذا الشريط كالفرج الذي انتعشنا به، وأحسب أن ما قام به الشيخ سفر من دور أهم بكثيرمن مجرد الصدع بالحق في وجه حاكم، لقد صدع الشيخ سفر بالحق في وجه كل المؤسسة الدينية وكل أعضائها مجتمعين، وكانت مواجهة المؤسسة الدينية أصعب بكثيرمن مجرد مواجهة النظام.

وأصبحت أشرطة محاضرات الشيخ سفر المادة الوحيدة المواجهة للحملة الإعلامية والدينية الرسمية للدولة متمثلة في هيئة كبار العلماء وأحاد العلماء من أعضاء الهيئة وغيرهم، وكذلك من الأزهر ومن غيره من المؤسسات الدينية الرسمية في العالم الإسلامي، ولقد شهد كاتب هذه السطور ذات ليلة خلال تلك الأيام مأدبة عشاء لأحد الأعيان حضرها أحد الأمراء الكبار، وكان واضحا على ذلك الأمير المسؤول الشعور بالحصار جر اء ما طرح في ذلك الشريط اليتيم من تفنيد لفتوى استقدام الأمريكان.

الحصيلة التي نريد أن ننتهي إليها هنا هي أن موقف الشيخ سفر كان نقلة نوعية في إفهام المجتمع أن التوقيع عن الله وإبلاغ رسالة العلماء ووراثة النبوة ليست بالضرورة منوطة بالعالم الرسمي أو المفتي أو القاضي، وشتان بين كلام مؤصل قوي ومتضمن لتفاصيل كيد الأعداء ومعرفة الذات، وبين اختزال الدين كله في كلمة واحدة هي “الضرورة”!!.



دور سلمان العودة
في الوقت الذي تصدى الشيخ سفر لتلك المسؤولية وقام بها خير قيام، كان الشيخ سلمان العودة يقوم بدور آخر، حيث ألقى في نفس الفترة محاضرة هامة كانت بمثابة رسالة جامعة، تصف بشكل غير مباشر حال البلد وإلى أين تؤول، اشتهرت تلك المحاضرة بعنوان “أسباب سقوط الدول” ولقد بهر الشيخ السامعين بغزارة علمه وسعة أفقه وكان فحوى المحاضرة إنباء واستشراف غير مباشر لمستقبل جزيرة العرب في كلام مقنع رصين.

ورغم أن الشيخ سلمان لم يتطرق إلى قضية استقدام الأمريكان، إلا أن هذا الشريط انتشر هو الآخر، وارتفعت أسهم الشيخ سلمان أضعافا مضاعفة عند الناس، وكان نموذجا آخر للعالم المستقل الذي يحق له أن يكون مرجعا، بدل أولئك الذين يعينهم الحاكم فيفتون بما يريد.

العمل الشعبي
في تلك الفترة التي لمع فيها نجم الشيخين سلمان وسفر، كانت هناك نجوم أخرى يسطع ضوؤها بين الحين والآخر، لكن مما ينبغي الاعتراف به مادمنا في مقام نقد الذات، هو الإشارة إلى أن الأنشطة العامة في تلك الفترة لم تكن عملا متكاملا يشكل مشروعا واحد، بل كانت أعمالا متفرقة منها الخيري ومنها الدعوي ومنها السياسي شابها شيء من الفوضوية والسطحية، ولقد انتدبت فئة نفسها لإغاثة لاجئي الكويت، وعرّض كثير من الشباب أنفسهم للخطر في سبيل إنقاذ الكويتيين وتأمين سلامتهم، ولاشك أن ذلك ترك أثرا طيبا لدى أولئك اللاجئين، وتحرك عدد كبير من الشباب في مجال الدعوة والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان لذلك النشاط دور بارز في حماية المجتمع من هجمة الفساد التي جلبها انفتاح الحرب، غير أن التطور الأهم من ذلك هو الاتجاه نحو العمل الجماعي الشعبي الذي تصدى له بعض الرموز وعلى رأسهم الشيخ عبدالمحسن العبيكان، وكانت بداية هذا العمل متواضعة بسيطة، ثم تطور إلى عمل ذي أهمية قصوى، لكن ضعف الخبرة بشؤون السياسة ومراوغات الحكام ساعدت على إجهاض ذلك المشروع الطموح في بداياته.

عمل جماعي منتظم
كان الباعث لتلك الفكرة عدد من الشباب المتحمس أقنعوا الشيخ عبدالمحسن العبيكان والشيخ عبدالله بن جبرين والشيخ عبدالرحمن البراك والشيخ سعيد بن زعير بالذهاب معهم إلى بعض الأماكن الحساسة في البلد، وذلك بعد شهرين تقريبا من اجتياح الكويت، حيث أروهم بأنفسهم بعض مظاهر الفساد المستشري وضرورة العمل بشكل جماعي منظم لمنع استشراء ذلك الفساد، وحينما اطلع هذا النفر من العلماء على الواقع صدموا وقرروا الدعوة إلى اجتماع جماهيري مفتوح في أحد الجوامع الكبيرة في الرياض وهو جامع الجوهرة، وتم الاجتماع بالفعل وحضره بضع آلاف من الشباب، وتحدث الخطيب تلو الآخر، وقيل لأول مرة بشكل علني في تاريخ المملكة “لابد من عمل جماعي منظم”، وكان بعض الشباب قد أعد استمارات تسجيل في جماعة خيرية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونجح ذلك الاجتماع بشكل كبير، وشكل بحق اجتماعا ناجحا وحالة حضارية تبشر بالخير، وكان الشيخ عبدالمحسن العبيكان هو الشخصية الرئيسية في الاجتماع، واتخذ المجتمعون قرارا بالالتقاء مرة أخرى ودعوة آخرين لحضور اللقاء وترتيب عملية الجماعة الخيرية هذه، وانفض الاجتماع بعد الاتفاق على تفويض الشيخ عبدالمحسن العبيكان مسؤولية متابعة اللقاء الثاني.

الأمير سلمان يتدخل
وهنا سارع الأمير سلمان إلى استدعاء الشيخ عبدالمحسن واحتد النقاش بينهما، وهدد الأمير سلمان وتوعد وأرغد وأزبد من أجل أن يثني الشيخ عن فكرته، لكن الشيخ أصر وقرر المضي قدما في ذلك الاجتماع، وهنا تدخل طرف آخر هو الشيخ عبدالعزيز بن باز، وبحيلة خبيثة من الأمير سلمان استطاع إقناع الشيخ بعقد الاجتماع بدار الإفتاء بدلا من جامع الجوهرة، واستطاع إقناعه كذلك بضرورة حضوره هو أي الأمير سلمان شخصيا، واستطاع إقناعه كذلك أن يكون الحضور مقتصرا على عدد من طلبة العلم وبعض الشخصيات، ولعل موافقة الشيخ العبيكان على تلك الشروط هي التي وأدت المشروع في وقت مبكر.

المظاهرة جرعة منشطة
وفيما بين الاجتماعين حصلت حادثة هامة جدا وهي المظاهرة النسائية في الرياض والتي طالبت بحق النساء في قيادة السيارات، ولن نتحدث الآن عن تلك المظاهرة، لكن نذكر هنا أن قيامها بين الاجتماع الأول الثاني أعطى فكرة الإعداد للاجتماع الثاني دفعة هائلة بسبب الغضبة التي اجتاحت الشارع بعد تلك المظاهرة، ثم عقد الاجتماع فعلا في نهايات شهر أكتوبر بالشروط التي وضعها الأمير سلمان حيث تم الاجتماع في دار الإفتاء، وبحضور الأمير سلمان شخصيا، وبعدد محدود لم يتجاوز المئة، وكان كاتب هذه السطور بين الحاضرين، وحوصرت دار الإفتاء بما يناهز العشرة آلاف متظاهر جاءوا مؤيدين للشيخ العبيكان، غير أن الشيخ العبيكان استطاع إقناع هؤلاء بالانصراف، وتم الاجتماع في داخل الدار بذلك العدد المحدود، واستطاع الأمير سلمان باتكائه على الشيخ بن باز إجهاض المشروع من خلال جر لسان الشيخ لأن يقول: "إن كل عمل لابد له من إذن ولي الأمر"، ومادام ولي الأمر حاضرا وهو أمير الرياض فالأمر متروك له، وحينها أجهض المشروع وأسقط في يد الشيخ عبدالمحسن العبيكان.

فشل ودرس
لكن رغم فشل هذه التجربة فقد كانت ثرية وتعلم الدعاة والحركيون منها الكثير، فقد كانت أول محاولة لربط طلبة العلم المتفرغين للقضايا الشرعية بأساتذة الجامعات وغيرهم من ناشطي المثقفين بشكل أكبر من مجرد التأييد والمحبة والتقدير والاحترام، وكأنما شيد بعد ذلك جسر متين بين عدد من المشايخ وبين ما يسمى "بالتكنوقراط" الإسلاميين، وامتزجت هناك ميزة العلم الشرعي والثقل الجماهيري للعلماء والقدرة على التخطيط والترتيب والمنزلة الاجتماعية لأساتذة الجامعات، ولقد كان خطاب العلماء ومذكرة النصيحة ولجنة الدفاع حصيلة هذا التعاون المبارك، وكان الأمير سلمان هو أول من فطن إلى خطورة هذا التعاون، فكان يحاول في وقت مبكر دق إسفين بين الفريقين، ومن شدة حرصه على ذلك فلتت منه عبارة كاملة في يوم من الأيام بعد أن نفد صبره في إقناع أحد طلبة العلم "إن أساتذة الجامعات هم حفنة من العلمانيين"، وكان في تلك العبارة تصريح برغبته الداخلية في ضرب ذلك التعاون.

على صعيد التفاعلات الداخلية في صف الصفوة كانت تلك الأحداث هي الأهم في تلك الفترة، أي الفترة فيما بين دخول الجيش العراقي للكويت وما بين بداية حرب الخليج الثانية، واستثنينا في حديثنا قصة مظاهرة النساء في السيارات لأهميتها كحادثة مستقلة تدرس كظاهرة كاملة مع خلفياتها وملابساتها ونتائجها وآثارها.

وعندما قاربت الحرب على البداية لم يحصل أي حادث ذي بال على المستوي الاجتماعي، فربما حرصت كل الجهات على عدم فتح الباب حتى لا يقال فلان يضعف الجبهة الداخلية، واستمر الحال كذلك إلى أن انتهت الحرب، حيث بدأت حقبة جديدة هي حقبة المبادرات والتي كان أولها خطاب العلماء.

























حقيقة المظاهرة النسائية الشهيرة المطالبة بقيادة السيارات
في غمرة أحداث الخليج وبينما كانت الآليات الأمريكية تطوف الجزيرة العربية، وحيث كانت الأذهان مشدودة تجاه تلك القضية الشرعية الحساسة، وقعت حادثة ما عرف بمظاهرة قيادة المرأة للسيارة، وما كادت الحادثة تقع حتى تناقلتها وسائل الإعلام الغربية الأوروبية والأمريكية.

انفجار
تفجرت هذه القضية كالقنبلة، واستحوذت على اهتمام الإعلام وأحدثت زوبعة في المجتمع، وشدت أذهان الجماهير عن كل أمر آخر، وبقيت ثورة جماهيرية مشتعلة أياما بل أسابيع، وهو الأمر الذي قد يعجب له من ليس له صلة وثيقة أو اطلاع كاف على الواقع المجتمعي لشعب الجزيرة إذ ارتبط هذا الأمر ارتباطا وثيقا بجملة من الأعراف والخصوصيات التي تعارف عليها المجتمع، والتي تفرض على من يريد استيعاب التحولات الاجتماعية الداخلية فهم تلك الخصوصيات والأ عراف، وذلك من أجل إحسان الحكم والتقويم وتفادي الانصراف إلى إطلاق الأحكام والتعميمات الخاطئة ودون استناد إلى مرجعية ذات صلة بالأحداث والخصوصية التي ميزت مجتمع الجزيرة.

في هذا المبحث نعرض لملابسات هذه الحادثة من خلال رؤية داخلية عاصرت الحدث نفسه وعاصرت رد الفعل تجاهه:

الرواية
انصرفنا من صلاة العشاء يوم الثلاثاء السابع من نوفمبر/تشرين ثاني 1990 وجلسنا نتحدث أمام مسجد السكن الجامعي، وإذ بأحد الزملاء من الأساتذة يأتينا بخبر غريب: هذا المساء فوجئ سكان السليمانية في الرياض بقاطرة من السيارات تقودها مجموعة من النساء في مسيرة راكبة تتوجه إلى أحد المواقف في نفس المنطقة، ثم تنزل السائقات وينظمن مهرجانا خطابيا تتعاقب عليه بعض النساء، وتبادر إحداهن بإلقاء حجابها ودوسه برجلها مع إطلاق الصيحات المعبرة عن هذا التصرف، بعضنا لم يصدق وبعضنا اعتبر الأمر طبيعيا، ولم نعلم في تلك اللحظة عن مدى انتشار الخبر بين الناس، وما هي ردود الفعل عليه، غير أن الوقت كان مبكرا، وكان من المتوقع من قبل الجمهور الذي يعتمد كليا على النقل الشفوي للأخبار وتبادل المنشورات والأوراق المصورة كان من المتوقع أن لا يتابع الأمر إلا متأخرا، غير أنه لم تكد شمس اليوم التالي تشرق حتى كان الأمر مختلفا، فقد نقل الخبر في إذاعات العالم، وأصبح بعدها حديث الشارع ثم بدأت فورا الضجة وردود الأفعال، حيث تحدث الخطباء معترضين بقوة على ذلك، وألقيت المحاضرات، وعبّر الناس عن غضبهم الشديد تجاه الأمر بوسائل كثيرة منها إرسال أعداد هائلة من البرقيات للملك ولوزير الداخلية ولأمراء المناطق، ومنها توزيع أسماء النساء اللواتي قدن السيارات، ونجح بعضهم في تسريب محاضر الشرطة ومحاضر الهيئات التي تضمنت تفاصيل العملية، وأخيرا تجسد التعبير عن ذلك الغضب في الحضور الضخم لأعداد هائلة من المتظاهرين أمام دار الإفتاء للمشاركة في الاجتماع الذي دعا إليه الشيخ عبدالمحسن العبيكان، وكان واضحا من خلال الصيحات التي أطلقها هؤلاء أن دافع الحضور كان ذلك الحدث أكثر منه المشاركة في اجتماع الإفتاء، ولم يخفف الحملة اجتماع الهيئة الدائمة للإفتاء وإصدارها بيانا بتهدئة الأمر، ولم يخففها كذلك إصدار وزارة الداخلية قرارا يؤكد على منع النساء من قيادة السيارات.

مصطلحات جديدة
واستمرت حالة الرفض والتعبير عن الغضب حيال هذا التصرف إلى أن هدأت الحملة بشكل تدريجي مع الزمن، وانتشر مع تلك الحملة استعمال بعض المصطلحات التي لم يتعود عليها الناس مثل “العلمانية والليبرالية”، وسمى الناس بعض الرموز التي وصفت برؤوس العلمانية، بعدها بدأت الصحافة الغربية تتحدث عن الموضوع، وحاول عدد منها ربطه بمستجدات أزمة الخليج، وأصبح الوضع الاجتماعي في المملكة لأول مرة موضع اهتمام من قبل تلك الصحافة.

المكاسب والخسائر
كان ذلك التتابع المجرد للأحداث كما جرت، فما الذي كان خلف الكواليس وما الذي أغضب الناس حقيقة وما هي مكاسب وخسائر الحدث؟ ومن كان حقيقة وراء تلك المظاهرة؟.

تفسير
في اعتقادنا فإن الحدث لم يكن على ظاهره، ولم تكن ردة الفعل كذلك على ظاهرها، والقضية في حقيقتها ذات بعدين اجتماعي وسياسي، أما البعد الشرعي أو الديني فمحدود جدا في نظرنا، وعلى قدر من سبرنا غوره من العدد الكبير من المشاركين في رد الفعل الضخم لم تكن المطالبة بالقيادة لذاتها أمرا كبيرا، ونحسب أن هذه الجموع حركها عاملان قويان الأول: الغضب الدفين في نفوس كثير من الشباب المتحمس تجاه الوجود الأمريكي في الوقت الذي لا يستطيع الشباب أن يعمل شيئا بسبب فتوى كبار العلماء، وكان التعبير عن الغضب من خلال رد الفعل تجاه المظاهرة النسائية متنفسا لذلك الغضب المكتوم، والعامل الثاني: أن المجموعة التي شاركت في تلك المسيرة لم تقصر مطالبها على مجرد القيادة بل تصرفت بما فهم منه تسفيه القيم الدينية وإهانة تعاليم الإسلام والثورة على الالتزام الشرعي، وحينما ردد الخطباء أن إحدى النساء خلعت الحجاب، ووضعته تحت قدمها ثارت ثائرة الجمهور واعتبروا ذلك تمردا على الدين نفسه، ولذلك لم تكن الضجة في رد الفعل موجهة إلى قضية قيادة المرأة للسيارة، بل كانت موجهة إلى ذلك التمرد وتلك الثورة.

المشروع العلماني
وهذا يفسر كيف أن حديث الشارع الغاضب تلك الأيام تجاوز كثيرا قضية قيادة المرأة إلى قضية المشروع العلماني والتغلغل العلماني في الدولة، وتداول الناس أسماء المتهمين بالعلمانية على شكل قوائم ومنشورات مصورة، وحتى حديث المثقفين والخطباء كان يدور حول ذلك، وتحدث في تلك الأيام كثير من العلماء حول الموضوع كان أبرزهم الشيخ سفر الحوالي الذي راجع في محاضرته مشروع إفساد الأسرة والمجتمع من خلال ما يسمى بتحرير المرأة، وكذلك الشيخ سلمان العودة الذي ألقى محاضرة بعنوان “لسنا أغبياء بدرجة كافية” شرح فيها أسلوب المستغربين في إفساد المجتمع، وبيّن أن تلك الحيل لا تنطلي على الأذهان، وأشار عدد كبير من المتحدثين من طرف خفي إلى تورط بعض الشخصيات العامة في ذلك المشروع.

الظاهر والباطن
لقد كان الحدث من التجارب التاريخية التي يمكن تعلم الكثير منها حيث أنه لا يعقل أن تكون تلك المسيرة عملا ارتجاليا، دفع إليه حماس بعض النساء بعد رؤيتهن المجندات الأمريكيات يقدن السيارات، ونحن هنا لا نكتفي بمجرد التحليل للاستنتاج بأن هناك تورط لجهات مسؤولة من داخل الأسرة بالحدث، بل نشير إلى ثبوت ذلك من خلال معلومات تؤكد بأن أكثر من شخصية من كبار رجال الأسرة تورطوا في هذا العمل، وتعهدوا للمشاركين بالدعم والحماية، وتفيد المعلومات التي تم جمعها في تلك الفترة أن الهدف حقيقة لم يكن مجرد فرض مسألة قيادة المرأة للسيارة، بل كان الهدف هو التحضير للقيام بانقلاب اجتماعي ينسف القيم الدينية كأساس للنظام الاجتماعي، والشروع في ذلك من خلال المطالبة بقضية مقنعة وبسيطة مثل قيادة المرأة للسيارة.

واعتقدت الجهات التي أعدت المشروع أن نسف نظام القيم سيقضي على البقية الباقية من قوة الإسلام في جزيرة العرب، ويفسح المجال لإكمال المشروع التغريبي في الجزيرة، وكانت حسابات الذين أعدوا المشروع أن الفرصة جد مواتية، وأن انشغال الناس بالحرب والخطر القادم من العراق، وتعودهم على رؤية المجندات الأمريكيات وبعض الكويتيات قائدات للسيارات جعل الأرضية مناسبة لإتمام الفكرة، فإذا لم تنجح الفكرة فعلى الأقل يكون رد الفعل مشغلا للشباب المتحمس عن قضية دخول القوات الأمريكية للجزيرة الذي أصبح يتنامى فعلا بعد محاضرات الشيخ سفر الحوالي .

وتؤكد مصادر المعلومات أن الذين شاركوا في الإعداد لذلك المشروع يمثلون قوى غربية تعاونت مع الأطراف العلمانية في المملكة ومع عدد من رجالات الأسرة الكبار وفي مقدمة المتهمين سلمان بن عبدالعزيز وفيصل بن فهد!!، ويعتقد كثير من المطلعين أن معظم النساء اللواتي شاركن في المسيرة مغرر بهن لا يعلمن إلا قضية القيادة.

المظاهرة والجيش الأمريكي
على كل حال مضت المسيرة وحصل رد الفعل، ولذلك فلم يتحقق المطلب الأول في نسف النظام الاجتماعي في الجزيرة، فهل تحقق المطلب الثاني؟ بعبارة أخرى هل تم فعلا تحويل انتباه الشباب المتحمس عن قضية الوجود الأمريكي في الجزيرة؟ الجواب نعم ولا في نفس الوقت، نعم إذا قصدنا تحويل الانتباه المجرد، وهنا يجب أن نعترف أن وعي الشعب والشباب المسلم ليس بالدرجة التي تقد م مسألة الوجود الأمريكي على تلك القضية!، ومن المشاكل التي تعاني منها الشعوب المسلمة استعدادها للغضب للقضايا المتعلقة بالعرض والأخلاق والأحوال الشخصية أكثر من غضبها لقضايا الدين الكبرى، ورغم الثقافة الشرعية المنتشرة في الجزيرة فقد تجسدت هذه الحقيقة في تلك الحادثة بصورة واضحة، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الهدف الثاني تحقق وهو تحويل انتباه الشباب عن الغزو الأمريكي.

من الكاسب؟
ولعل ردة الفعل القوية هذه وما صاحبها من رفض للمشروع العلماني ورفض للرموز العلمانية حققت عدة نتائج تتعارض مع ما كان يتمناه راسمو المشروع، ومن هذه النتائج الكشف العريض لتلك التوجهات ورفع مستوى الحساسية عند الناس لقضية العلمانية التي لم يتعرفوا عليها من قبل، النتيجة الثانية إعادة الثقة بالكيان الاجتماعي الإسلامي، وتوجيه رسالة قوية إلى من أرادوا ضرب هذا الكيان عن مدى تماسكه وقوته، النتيجة الثالثة ضرب هيبة الدولة من خلال تتابع الأعمال الجريئة في التعبير عن الرفض والاستنكار، والتي تمثلت في المظاهرات وإرسال البرقيات، ومن الطريف أن مكاتب البرقيات تحولت إلى مراكز تجمعات ضخمة واضطر موظفو “البرقيات” لإعداد صيغ جاهزة للتعجيل بعملية الإرسال، والنتيجة الأخيرة هي إجبار الدولة من خلال الضغط على إعادة التأكيد على المنع، والمهم هنا ليس تأكيد المنع نفسه، ولكن إذعان الدولة للضغط وإصدارها بيانا من وزارة الداخلية لتأكيد ذلك، وكانت هذه تجربة فهم منها أن الضغط الشعبي يجبر الدولة على الإذعان لمطلب شعبي.

التكتيك يتغير
لقد كانت تلك النتائج درسا قويا لأولئك الذين سعوا في المشروع فقرروا بعدها التوقف عن استعمال الأساليب "الانفجارية"، وخاصة عند التعامل مع القضايا الاجتماعية، ومنذ ذلك الحين تغيرت السياسة، وتنازل هؤلاء عن الهدف الفرعي الذي هو قيادة المرأة للسيارة، وركزوا على الهدف الرئيسي وهو مسخ الفرد المسلم، وسعوا من خلال برامج التغريب والإفساد الخلقي إلى محاولة تحقيق أهدافهم.

وتم الاستغناء عن أسلوب التمرد على المجتمع والثورة على الأخلاق، واستعيض عنه بالاستفادة من طبيعة تركيبة الدولة والمجتمع التي تتمتع فيها الأسرة الحاكمة بالنفوذ والصلاحية والحصانة المطلقة، وتم استثمار هذا النفوذ في نشر الفساد الخلقي كجسر فعال لمشروع التغريب هذا، ويبدو أن هذا الأسلوب البطيء الهادئ فعال حقا، خاصة حينما واكبته حرب شعواء ضد جميع أشكال الدعوة والإصلاح، ولو كان هذا الأسلوب هو الوحيد لكان الزمن في صالح أصحاب هذا المشروع فعلا، لكن الحقيقة أنه بقدر ما يظن أولئك أنهم يستثمرون الزمن بالتخطيط والصبر، فإن أهل الإصلاح استثمروه كذلك بمشاريعهم، وإذا كان الفريق الأول يملك الإعلام وقوة السلطة والمال، فإن الفريق الثاني يملك قلوب الناس، ويتسلح بالدين، ويعتمد على الفطرة السليمة وعلى حصيلة السنين التي هي نتيجة هذا الصراع المتواصل .

لقد دامت تلك الضجة في رد الفعل قرابة الشهرين، وتركت بعدها آثارا مهمة على المستوى الاجتماعي والسياسي، ومن الضرورة بمكان إعادة التأكيد على أن القضية لم تكن مجرد مطالبة بقيادة المرأة للسيارة، فتلك القضية ليست أشد خطورة بحال من الأحوال من حرب الله ورسوله بالربا المستعر في البلاد، وبالتأكيد ليست أشد خطورة من القوانين الكفرية التي انتشرت في أنظمة وأجهزة الدولة، بل إن الذين رأوا منع قيادة المرأة للسيارة شرعا قالوا إن التحريم ليس لذات العمل وإنما هو لما يفضي إليه، ولذلك فالتحريم كما رأوه هو من باب درء المفاسد، وكان يمكن للمطالبين برفع المنع أن يجادلوا في الأمر بنقاش شرعي منضبط مدعوم بالدليل، كما هي عادة علماء المسلمين وفقهائهم عبر التاريخ ولكن مرادهم شيء آخر تماما.

كيف واجه الإسلاميون الصخب الإعلامي الأمريكي والسعودي المرافق لحرب الخليج


تحدثنا في الصفحات الماضية عن التفاعلات الاجتماعية التي حدثت استجابة للتطورات الكبرى التي شهدتها المنطقة، وأشرنا بشكل تفصيلي إلى تداعيات فتوى العلماء بشرعية نزول القوات وآثار مظاهرة قيادة المرأة للسيارة، ونتحدث هنا عن ظروف الحرب نفسها والتفاعلات النفسية والاجتماعية التي حصلت قبل وخلال وبعد المعركة الجوية والبرية، وماهية النقلة التي ساهمت تلك الحرب في تحقيقها.

معركة إعلامية
يرى كثير من المراقبين أن معركة ضرب العراق كانت معركة إعلامية سياسية قبل أن تكون عسكرية، إذ سعى الأمريكان من خلال آلتهم الإعلامية الضخمة والخبرة الهائلة التي يمتلكونها في مجال الحرب الإعلامية، وعبر الاستعانة بكل الإدارات ذات العلاقة كالمخابرات ومراكز البحوث غيرها، سعوا إلى تهيئة الجو نفسيا واجتماعيا لتحقيق ضربة قاصمة للجيش العراقي، وبالفعل فقد استعد الناس نفسيا لتلك الضربة، وأصبح الكثير منهم ينتظر بتلهف إنتهاء المهلة التي حددها الأمريكان لانسحاب العراق من الكويت، حتى يروا كيف تكون الضربة.

وتشكلت نفسيات الناس بطريقة جعلت معظمهم يتطلعون إلى لحظة الضربة انتقاما من العراق الذي فعل الأفاعيل في الكويت كما صورته أجهزة الإعلام، من جهة أخرى ضخمت أجهزة الإعلام قدرات الجيش العراقي، والقت في روع الناس أن هذه القوة الجبارة لا يستطيع مواجهتها وهزيمتها إلا الأمريكان، وتحدث الناس كثيرا عن المليون جندي وعن تطور العراق في الحرب الإلكترونية والجرثومية، واهتم الناس بشكل خاص بخطر الغازات السامة، وأصبح خطر تلك الغازات ماثلا أمام الأعين، ولم تتوقف وسائل الإعلام عن عرض وإعادة عرض آثار الغازات السامة على الأكراد، وأن الجزيرة ستتعرض قريبا لمثل ما تعرض له الأكراد.

ونجحت وسائل الإعلام بشكل خاص في أشغال عامة الناس عن السؤال الأهم، وهو كيف صنع العراق هذه القوة الجبارة كما صورها الإعلام، في حين أن صرفه على الجيش لا يجاوز خمس صرف آل سعود المعلن على تسليح الجيش السعودي؟، أعقل جواب يرد به علينا، ونحن نلح على هذا التساؤل أننا أبناء ساعتنا، وأن ما حصل قد حصل، ونحن الآن أمام الكارثة!، ولابد أن نقبل باستلام الأمريكان لهذه المهمة التي لا يتقنها إلا هم.

نجاح سياسي
في موازاة هذا النجاح الإعلامي، كان هناك نجاح سياسي مرافق, حيث نجح الأمريكان في استثمار الضعف السياسي الروسي، وبالتالي عزل العراق سياسيا، وصناعة ما يسمى بالإجماع العالمي والرأي العام الدولي وغيرها من المصطلحات التي أنست الناس كل قضايا الظلم والقهر في العالم وفي مقدمتها قضية فلسطين، وأبقت قضية واحدة منتصبة أمام الأذهان، احتلال العراق للكويت، وقد بلغ الحال ببعض سكان الجزيرة والخليج آنئذ أن يعلنوا استعدادهم لإدخال الكيان اليهودي في الحلف ضد العراق، وردد كثير من الجهلة الشرط الأمريكي بانسحاب العراق برجاله وبدون أسلحته بعنفوان ونشوة، وأضفوا على ذلك الشرط اصطلاح الإرادة الدولية، وغضوا الطرف في نفس الوقت عن اعتراف الإرادة الدولية بالكيان الصهيوني، واستخدام الأمريكان حق الفيتو ضد مجرد شجب ممارسات اليهود ضد الفلسطينيين، وباختصار فأن الحملة السياسية والإعلامية الأمريكية لعبت بعقول ونفوس الجماهير في الجزيرة والخليج وهيأتها لتمجيد أي عمل يقوم به الأمريكان ضد العراق، واعتبار ما تقرره أمريكا هو الخيار الأصلح.

الضعيف يقلّد
إلى جانب النجاح الأمريكي إعلاميا وسياسيا في التأثير على عقليات الناس كانت هناك محاولة النظام السعودي نفسه للتضليل واستغفال الجماهير، فقد حاول النظام إظهار ما يسمى بالقوات المشتركة، وهي القوات العربية والمسلمة بمظهر قوى حقيقية موازية ومكافئة للقوة الأمريكية، وحاول النظام كذلك إظهار خالد بن سلطان الذي عين قائدا لتلك القوات “كزعيم عظيم”، وحاول النظام في آخر أيام الاستعداد للحرب إظهار درجة من الجدية والاهتمام بموضوع الحرب، لكن الجمهور كان مدركا أن الأمر والنهي بيد الأمريكان وأن المعركة حقيقة هي بين أمريكا والعراق، وأن المحاولات السعودية الإضافية لا تعدو أن تكون وسائل تجميلية، ولذلك لم تحقق تلك المحاولات نجاحا يذكر.

لم يدرك النظام ذلك الفشل، وسعى لأمر أكثر غرابة محاولا تقليد الأمريكان في الحشد الإعلامي والسياسي، وشط النظام شططا كبيرا في هذا السياق حين حاول تصوير الحرب المقبلة بمظهر “الجهاد المقدس”، وتولت تلك المهمة جامعة الإمام محمد بن سعود التي نظمت مؤتمرا يحمل هذا الاسم، وحضر عدد من العلماء الرسميين وبعض المخدوعين من داخل وخارج المملكة للمشاركة في المؤتمر الذي حظي بتغطية إعلامية ضخمة وموسعة، ولكن كانت النتيجة فشلا ذريعا، ولم ينفع رفع الشيخ ابن باز وغيره فوق منصة المؤتمر، ولا إخراج النشرات والكتيبات، وفرّق الناس بشكل واضح بين مبدأ القول بضرب الظالمين بالظالمين، وبين اعتبار معركة يقودها الأمريكان جهادا! وإن كان فعلا قد تحقق نجاح المشروع الأمريكي الإعلامي بشأن المعركة فقد فشل المشروع السعودي الموازي فشلا واضحا.

الضربة
جاء السابع عشر من يناير 1990والناس يترقبون الحرب وينتظرون الضربة، وما أن انتصفت ليلة الثامن عشر من الشهر ذاته حتى تحولت أنظار العالم كله إلى الخليج، وتسابقت الإذاعات ومحطات التلفاز في نشر تفاصيل الحرب: صواريخ كروز، طائرات إف 15، إف 16، طائرات الشبح، ودخلت وسائل الإعلام الأمريكية للمنطقة وقامت القناة الثانية في التلفاز السعودي بعرض CNN حية، وتفنن الأمريكان في إظهار الأهداف العراقية وهي تُضرب كما لو كانت في لعبة "الأتاري"، وبدأت حرب الصواريخ وانطلق "الباتريوت" ليحطم "سكود" في الجو وكأنه عمل السحرة، وامتلأت سماء الخليج بآلاف الطائرات، وألقيت على العراق أطنان هائلة من القذائف الضخمة، وشلّ الأمريكان الطيران العراقي من الضربة الأولى، وقضوا على كل وسائل دفاعه الجوية، وحطموا عددا كبيرا من منصات الصواريخ خلال وقت قصير، وماذا بعد؟، الأمريكان "الحضاريون" لم يضربوا إلا الأهداف العسكرية بطريقتهم التي تسمى بالضرب "الجراحي"، أي ضرب الأهداف فقط دون ما حولها بكل دقة وقوة تهديف، حقا لقد كانت فتنة، والشواهد للعامة من الناس تقول بكل وضوح أن قرار الاحتماء بالأمريكان كان قمة الصواب والحكمة!!، ألا تراهم كيف قضوا على قوة العراق بكل سهولة، ألا تراهم كيف يرأفون بالمدنيين، ويتجنبون الأهداف المدنية، وشاشات التلفاز تؤكد كل ذلك، بل لقد صور المصورون صاروخ "الباتريوت" وهو يفجر صاروخ "سكود"، في منظر أخاذ فاتن لا يصمد له إلا من لديه ثوابت خارجة عن التأثر بالإعلام وشاشات التلفاز.

واستمر الحال كذلك وعظمة أمريكا تزداد في أذهان الناس، ثم حلت المعركة البرية، وانهار الجيش العراقي في لحظات، وقدم تنازلات المهزوم، ومرة أخرى نجح الإعلام في تصوير الأمريكان كمنقذين للكويت بالوسائل الحضارية والإنسانية، وكان منظر الجندي العراقي وهو يقبل قدم الأمريكي مستسلما له مؤلما حقا، لا يتمنى المرء أن يكون قد رآه أو سمع به.

فتنة
خلال الحرب تحدث الناس كثيرا عن صواريخ صدام، وضخمت وسائل الإعلام خطورة تلك الصواريخ، وفي نفس الوقت طبلت لقدرات "باتريوت"، وكان الحديث عن الصواريخ والغازات السامة طاغيا على المجالس، وسمع الناس صفارات الإنذار التي لم يتعودوا سماعها من قبل، وشعر شعب الجزيرة بأنهم ليسوا طرفا في تلك الحرب، ولذا فقد انتقل كثير منهم إلى خارج المدن خوفا من الغازات السامة، ورغم تفوق الأمريكان فقد خيم الرعب على بعض القلوب، أما النظام وطوال مراحل الحرب، فإنه لم يتوقف عن استمراره في وصف المعركة بالجهاد، ووصل الحال ببعض البسطاء للحديث عن رائحة المسك في شهداء معركة الخفجي بوصفها دليلا قاطعا على أن الحرب جهاد مشروع!!.

تنحُّّّ عن العاصفة
أمام تلك الحملة الإعلامية والسياسية الضخمة وتشكل نفسيات الناس وعقولهم طبقا لتلك الحملة، وسيادة مظاهر المعركة والقتال وانخداع الناس بأن دور الأمريكان هو مجرد طرد العراق من الكويت، أمام كل ذلك كان لابد لمفكري الصحوة وقيادييها أن يطأطأوا رؤوسهم للعاصفة الفكرية العاتية ويتنحوا قليلا عن موجة الحرب النفسية، وكان لا مناص من تخفيف الظهور الجماهيري وتأجيل النظر في القضايا السياسية.

من جهة أخرى لم يرغب قياديو الصحوة ومفكروها بالظهور بمظهر المفرّق للكلمة المخلخل للجبهة الداخلية، حتى لا يستغله خصومهم في تشويه صورتهم، ولم يكن مقبولا على كل حال والناس في أجواء حرب ومواجهة مع "المعتدي" أن تثار قضايا داخلية حساسة، وأحسب أن هذا الهدوء المؤقت كان ضروريا خاصة أنه لم يكن هدوءا مطلقا، فقد دلف الدعاة والمربون إلى استثمار تلك الفترة في التربية الروحية والسلوكية والفكرية العامة والتركيز على جوانب الإصلاح الفردي بشكل أعمق.

وضعت الحرب أوزارها وانهار الجيش العراقي تحت مطارق الأمريكان، واستسلم النظام العراقي بذلة أمام العنجهية الأمريكية، ونجح الإعلام في تصوير النصر الأمريكي كنجاح لحكمة حكام الجزيرة, وبدا جليا أن العراق طرد من الكويت دون دماء "سعودية" وعاد أهل الكويت لبلدهم "معززين مكرمين"، يشعرون بكل الفضل والامتنان لأمريكا العطوفة الحريصة على استقلال الشعوب وعدم السماح للقوي بأخذ حق الضعيف!!.

نجح الإعلام أيضا في تصوير الدور الأمريكي أجيرا أخذ أجرته وأدى مهمته ورحل، ولا أسف على المال إذا ما صرف على إنقاذ البلاد والعباد، وطفق كثير من الناس يردد أننا طردنا العراق بأموالنا، وأن الله سخر الأمريكان لنا، وانزج بعض المثقفين في هذا السياق، وكانت فعلا فتنة.

أمام هذا الإنجاز الإعلامي ظن النظام أن المعادلة الاجتماعية قد تغيرت لصالحه، واعتقد النظام والمدافعون عنه أن الجدل حول استقدام الأمريكان حسم على أرض الواقع، وأن الهدف من استدعاء الأمريكان تحقق بكل معانيه المطلوبة، وشحن في أذهان الناس أنه لو تردد الحكام ومالوا إلى رأي سفر الحوالي وبعض “المتشددين” لربما سقطت كل الجزيرة بيد الجيش العراقي، ولعانى شعب الجزيرة من جرائم العراقيين كما عانى الكويتيون، فالحمد لله الذي ألهم الحكام الصواب!!.

من جهة أخرى نجح الإعلام في إقناع الناس أن الأمريكان لم يأتوا ليبقوا، فهاهم بدأوا يرحلون فور انتهاء مهمتهم، وبذلك فإن دعاوى الغزو الفكري والأخلاقي والحضاري كلها إسقاطات تاريخية ونفسية يعاني منها بعض المعقدين من الشيوخ المتخلفين، ثم من هم هؤلاء المتخلفون؟ هم ليسوا إلا حفنة من الذين عجزوا عن مواكبة العصر، وقلبوا الدنيا رأسا على عقب لمجرد بضع نسوة قدن السيارات في شوارع الرياض!، وتثبيتا لتلك الصورة حاول النظام من خلال جهاز الإعلام ومن خلال جهاز الإشاعات بالمباحث ربط التيار الإسلامي كله بتجاوزات أعضاء هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي كان في بعضها شدة في غير محلها أو تصرف غير شرعي، وللحقيقة نقول أن شيئا من ذلك قد تحقق فعلا، ونجح النظام في تشويه صورة التيار الإسلامي في تلك الفترة.

نشوة ملكية
الأخطر من ذلك أن النظام ذهب بعيدا في نشوته بسحق العراق وحكمة القرار "الملكي"!، ومشاركات القوات المشتركة وبطولات الجيش السعودي في الخفجي ومهارة القائد "الفذ" خالد بن سلطان، واستغرق النظام بهذا الشعور إلى أن ظن أنه هو الذي هزم العراق، وانتصر هذا الانتصار "المذهل"، واستنتج النظام أن "نصره العسكري" هذا!، وما صاحبه من حملة إعلامية وسياسية عالمية طبلت له هو في الحقيقة نصر ساحق على المشاغبين من المشايخ والعلماء وبعض المتعالمين من الذين شككوا في حكمة قرار استدعاء القوات!!.

لقد أدت هذه الأجواء إلى اعتقاد النظام أن الشعب قد جدد ولاءه لآل سعود، وأن الشعب سيلفظ كل هؤلاء المشاغبين، ولذلك لم يمض شهر على انتهاء الحرب حتى بدأت كواليس الأسرة تتحدث عما ينبغي عمله للانتقام من سفر وسلمان وغيرهم من أصحاب الأصوات المرتفعة، واستقر الرأي في الأسرة الحاكمة على بداية حملة قمعية يتخلص بها النظام من كل هؤلاء المزعجين، فلماذا لم يمض هذا المشروع قدما؟ وكيف تعامل رموز الصحوة معه؟، هذا ما سنراه في المباحث القادمة إن شاء الله.



















القصة الكاملة لخطاب المطالب
وضعت الحرب أوزارها وبدا كأن الناس مطمئنون، وأن الظروف التي اضطرت رموز الإصلاح للصمت قليلا أيام المعركة ذاتها قد زالت، انتهت المعركة في أواخر شتاء ذلك العام 1991 ميلادية 1411 هجرية، واستقبل الناس الربيع بشعور هو مزيج من البهجة بانقشاع الأزمة، والغضب من انكشاف النظام، والقلق من المستقبل وخاصة مستقبل قوات الأمريكان في الخليج، لقد كان هناك إجماع بين عقلاء المثقفين والعلماء في تلك الفترة أن المرحلة مرحلة محاسبة وأن التفريط في المحاسبة في ذلك الوقت بالذات ترك لواجب شرعي وتخل عن المسؤولية، لكن الأمة لم يكن لديها من قنوات التعبير ولا وسائل الإعلام ولا الطرق النظامية المسموح بها وما تعبر به عن رفضها لذلك الانكشاف المخجل في الأزمة والذي عكس واقعا خطرا لوضع النظام ووضع المجتمع.

لماذا الخطاب
كان لابد في ظل غياب هذه القنوات من إيجاد وسيلة فعالة لتحقيق ذلك الهدف، كان النظام يصر على أسلوب السادة والعبيد، كان النظام يريد من الناس أن يتركوا السياسة لأصحابها من أهل الدم الأزرق لأن "الشيوخ أبخص"، وإذا كان ولابد فلا يحق لهؤلاء العبيد أن يتجاوزوا مجرد كتابة برقية أو رسالة فردية خاصة توجه إلى أحد أبناء الأسرة "الشريفة" أو تبلغ من خلال الشيخ ابن باز، وهذا مع أنه يقبل على مضض وبامتعاض فإنه أقصى ما يمكن أن يقبل به آل سعود، والمشكلة أن ذلك التقليد لم يقتصر على كونه مطلبا لآل سعود تحقق من خلال الإرهاب والكبت بل تحول إلى عرف شعبي وعقيدة دينية في ظنهم مفادها أن الحاكم لا ينقد ولا ينصح ولا يوجه إلا سرا، وخلف جدران أربعة، وأن مجرد إخبار الشيخ ابن باز كاف للقيام بواجب إنكار المنكر، ولا يهم بعد ذلك هل أزيل المنكر أم لم يزل، ولذلك فلم تكن مهمة مشروع الصحوة مجرد إحراج الحاكم بإيجاد القناة المفروضة عليه، بل كان الهدف أعمق من ذلك، وهو كسر هذا العرف المخالف للشريعة، ومع ذلك فقد لُبس لباس الشريعة واستقر في أذهان الناس وضمائرهم، كان لابد من القضاء على تلك العلمانية المستترة و "المؤصلة" التي جعلت ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وهذا هو مقتضى عبارة "الشيوخ أبخص"، وكان لابد من نسف تلك العقيدة من أذهان الناس قبل فرضها على النظام.

مشروع التويجري
في بداية الأمر وحتى قبل نهاية الأزمة حاول أحد رموز الصحوة وهو الشيخ عبدالله التويجري تجاوز الجانب الأقل حرجا من هذا التقليد والعرف الخاطئ، فأعد رسالة على هيئة نصيحة شخصية، وطاف بها على مجموعة من العلماء وأساتذة الجامعات والقضاة والأعيان، واستطاع إقناع ما يربو على المئتين منهم بالتوقيع عليها وسلمها للحكام.

وهو بعمله هذا تجاوز الخط الأحمر في قصر الرسالة على شخص واحد، فجمع هذا العدد الكبير من التوقيعات، ولكنه لم يتجاوز الخط الآخر الأكثر خطورة، وهو نشر تلك الورقة باعتبار أن من حق الأمة معرفة الواقع، ومن حقها التحاور حول القضايا التي تهمها بشكل مفتوح من أجل إصلاح الأوضاع، ولقد شارك كثير ممن وقّع تلك الرسالة بمن فيهم كاتب هذه السطور من باب إقامة الحجة مع علم الجميع أن آل سعود سيجعلون مصير هذه الرسالة الحفظ ومصير الشيخ عبدالله التويجري التوجس والشك ومصير الموقعين وضعهم جميعا تحت عين المخابرات، وهذا ما حصل فعلا.

فيما عدا تجربة الشيخ عبدالله التويجري لم يكن واضحا لدى كثير من رموز الإصلاح ورواد التغيير الطريقة المثلى للعمل والخطوة المناسبة، بعضهم كان يرى المحاضرات العامة وسيلة، بينما كان البعض الآخر يرى توجيه وفود لمقابلة العلماء والحكام، وكان فريق ثالث يرى الاستمرار في الإكثار من الرسائل المغلقة والسرية، وكانت مشكلة تلك الوسائل أنها تجمع بين محدودية الهدف وترسيخ بعض الأوضاع القائمة من جهة أخرى، وحتى لو تسببت في إصلاح محدود، فلن تأتي بأي نقلة حضارية تطور آلية عمل المجتمع وتقربه إلى المجتمع الصحي الذي يعيش على هدى الإسلام.

مشروع مختلف
فكرت مجموعة قليلة من بينهم -كاتب هذه السطور- تفكيرا مختلفا، لقد بدا الأمر لتلك المجموعة أكثر صعوبة من ظاهره، وأن الحل لابد له من دراسة عميقة ولابد من تحليل المشكلة تحليلا دقيقا، ومعرفة الظروف المحلية قبل المضي قدما بأي حل، وتطلب الأمر لقاءات طويلة ربت على العشرين لقاءا، دارت كلها حول فلسفة الفكرة وكيفية تحقيق الهدف بأكبر نتيجة وبأقل خسائر، وبالطبع مع بقاء الطابع الإصلاحي للمشروع.

غير أن النقاش المستفيض والحوار الواسع أدى إلى نتيجة هامة وخطيرة مفادها أن المطلب ليس مجرد إصلاح الجيش أو إصلاح الاقتصاد أو إصلاح التعليم والصحة والخدمات بتفضل من الحاكم، بل إن المطلب هو إصلاح شامل للدولة عموما وتعديل شكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأولى خطوات ذلك هي بعث روح المسؤولية والإيجابية في المجتمع كله وتربية الأمة على ضرورة المشاركة المباشرة في تسيير شؤون الدولة وتحمل المسؤولية التاريخية في إنقاذ البلد من الكوارث القادمة، ومما بدا لهذه المجموعة أن من المطالب الهامة إثبات دور العلماء والرموز الشرعية في قيادة المجتمع وتوجيهه واستعادة هذه الراية بعد أن نجح المشروع الإعلامي في تحويل مفهوم الرموز الدينية إلى رجال دين مختصين بشؤون الطهارة وتزكية النفس، وإذا تجاوزوا ذلك فإلى تأمين قدسية الحاكم وطاعته المطلقة، بل كان لابد من إثبات أن العلماء المصلحين والرموز الدينية هي التي تشفق على الشعب وتضحي من أجل حصول الأمة على حقوقها.

مطلب آخر مهم كذلك كان تصحيح الصورة المشوهة لتلك الرموز في أذهان الناس من أنهم قصيرو النظر محدودو الفكر لا يهتمون إلا بمطاردة النساء والشباب في الأسواق ينهالون عليهم بالعصي والشتائم، هذه الصورة التي صاحبت اسم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان لابد من تغييرها تماما وإثبات أن مطالب الإسلاميين عالية، وآراؤهم سامية، فهم يطالبون بإصلاح السياسة وإصلاح الاقتصاد وإصلاح القضاء وإصلاح الإعلام.

وكان من الضرورة بمكان إظهار الإسلاميين بمظهر النماذج الراقية الطاهرة التي تستحق أن تكون قدوة للمجتمع.

وظهر لتلك المجموعة كذلك ضرورة إثبات اتفاق الأمة على مطلب الإصلاح، اتفاقا أجمع عليه الشمال والجنوب، الشرق والغرب، الأستاذ الجامعي وطالب العلم، الجيل القديم والجيل الجديد، ابن المدينة وابن القرية وابن البادية، المحسوبون على التيار المتشدد والمحسوبون على التيار المتساهل، وكان لابد لمن يمثل كل هذه التيارات والمناطق والأجناس أن يكون عدده كبيرا.

غير أن كثرة العدد يجب أن لا تؤثر في النوعية فلابد من إثبات أن الذين تصدوا للإصلاح هم وجوه الأمة وقادتها وأعيانها، وأن تلك الأسماء ليست مجرد قائمة طويلة، وأنه ليس فيهم من يقدح في دينه وخلقه.

فكرة الخطاب
بحثت المجموعة عن وسيلة فعالة تناسب الظروف والمعطيات وتحقق الأهداف المذكورة، واستعرضت كل تجارب حركات التغيير من المحاضرة إلى الشريط إلى التجمعات والمسيرات، واستقر الرأي في النهاية على الخطاب المكتوب الموقع من قبل شريحة كبيرة من وجوه الصحوة ورموز الإصلاح.

ثم بدا النقاش حول تفاصيل الخطاب وأسلوب كتابته وإعداده وجمع التوقيعات وكيفية تسليمه لمن يسلم إليه, وكان لابد لهذه التفاصيل أن تحقق الأهداف المذكورة، ولذلك اتفق الجميع على أن يكون الخطاب قصيرا ومركزا وشاملا وأن لا يتجاوز صفحة واحدة، واتفقوا على أن تكون لغته مفهومة للعامي وفي نفس الوقت لغة شرعية جزلة واتفقوا على أن تكون في صفحة الخطاب مساحة كافية لكبار الموقعين، وبعد هذا الاتفاق كان هناك خلاف حول السبيل الأمثل لإيصال فحوى الخطاب للناس لأن فلسفة المشروع تقوم على أن الخطاب موجه إلى الأمة أكثر مما هو موجه إلى الحكام، فبعضهم رأى تسليم الخطاب والتريث والتصرف تبعا لموقف النظام، والآخر رأى حمل الخطاب في مسيرة حاشدة وتسليمه للملك بشكل معلن، وآخر رأى عدم تسليمه بل قراءته في المساجد بعد صلاة الجمعة وربما جمع الناس من أجله، وأخيرا ترجحت فكرة التوزيع المباشر وإن لم تحظ بنفس إجماع الأفكار الأخرى، ولذا أضمر المتحمسون لها مشروعهم، وتحمل كاتب هذه السطور مسؤولية ذلك بنفسه.

الصياغة
كانت العقبة الأولى هي كيفية إخراج العصارة من نصيحة شاملة ومطالب متكاملة في صفحة واحدة، بل في ثلثي صفحة، وهذه لاشك مهمة صعبة فالاختصار دائما أصعب من الإسهاب، ثم إن هذا الاختصار يجب أن يحقق الأهداف الأخرى التي هي سهولة العبارة والقوة والشرعية والشمول، ولذا فقد استغرقت الصياغة زمنا ليس بالهين ولقاءات كثيرة حتى ظهر الخطاب بصورته الأخيرة.

كانت السرية في التنفيذ هي التحدي الثاني لأن أي تسرب للمشروع معناه إجهاض له، والسرية هنا لم تكن إخفاءا لخبر الخطاب وأهدافه عن النظام بل كانت إخفاءا له حتى عن كثير من رموز الصحوة الذين قد لا يفهمون أبعاد المشروع، وقد يتسببون في إجهاضه دون علم منهم، بل ربما كانت قدرتهم على الإجهاض أكبر من قدرة الدولة، وبحمد الله فقد تحققت تلك السرية بشكل جيد.

الخطة
أعد الخطاب صياغة قبيل رمضان من نفس العام 1411هـ، وبدأ النقاش عن كيفية تسيير عملية التوقيع، وذلك لأن طلب التوقيع من الناس هو كشف للمشروع، ومن جهة أخرى فقد ترجح لدى المجموعة ضرورة وجود موقعين أكبر بكثير من الأسماء الموجودة في الصفحة الرئىسية كدعم وتعضيد لهم، وهذه العملية فيها مخاطرة كبيرة، وهنا ظهرت لنا حيلة، وهي إجراء عملية التوقيع على مرحلتين، الأولى للصفحة الرئيسية فقط يحرص فيها على السرية التامة، ويجمع خلالها عدد يملأ ثلث الصفحة الأسفل، والذي وصل حقيقة إلى اثنين وخمسين اسما، والمرحلة الثانية هي السريعة وتجمع فيها التوقيعات على التوازي حيث تصور الصفحة الأولى بتوقيعات، ويمكن لكل من عرض عليه الخطاب للتوقيع الاطلاع عليه، ومعنى التوازي هو قيام أكثر من شخص في أكثر من مدينة أو مؤسسة بجمع التوقيعات على أوراق مختلفة، ولكن لنفس الخطاب وهذه الأسماء حتى لو لم تظهر في الصفحة الأولى فستشكل دعما معنويا وحماية اجتماعية للمجموعة التي وقعت على الصفحة الأولى.

وفيما نحن نتناقش حول طريقة التوقيعات بدت لنا فكرة هامة، وهي الحصول على دعم خاص من كبار العلماء الرسميين وفي مقدمتهم الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين، واختلفنا مرة أخرى حول الأمثل هل هو وضع تواقيعهم إلى جانب التوقيعات الأخرى، أم الأمثل الحصول على تزكية مستقلة للخطاب منهما، وترجح الرأي الثاني على أن ينفذ بعد اجتماع عدد جيد من أسماء الموقعين.

بعد استكمال الاستعدادات ووضوح الخطة وضع جدول زمني، وزع فيه الوقت المناسب للمرحلة الأولى والمرحلة الثانية من التوقيع، وتعين أن تكون لحظة التسليم للملك في شوال من نفس العام، وأما النشر والتوزيع فقد تم ترتيب جدول إضافي للنشر في الداخل ومن ثم في الخارج.

كانت عملية جمع التوقيعات والحصول على تزكية الشيخين عبدالعزيز بن باز ومحمد ابن عثمين، ومن ثم تفاصيل تسليم الخطاب أعمالا درامية طريفة، نراها في الفصل القادم.





















كيف سُلم خطاب المطالب وكيف ترددت أصداؤه


تحدثنا سابقا عن الظروف التي مهدت لمشروع خطاب المطالب، وعما بذل من جهد لإعداده، وتحدثنا كذلك عن فلسفة الخطاب وعن أهدافه, وانتهينا في سردنا التاريخي إلي بداية مرحلة جمع التوقيعات، وسوف نتحدث في هذا المبحث عن الكيفية التي تم بها جمع التوقيعات وعن تسليم الخطاب وانتشاره، وعما تمخض عنه من آثار اجتماعية وسياسية، وما أفرزه من ردود أفعال شعبية ورسمية.

التوقيع

كان أول الموقعين على الخطاب بعد الانتهاء من إعداده هو الشيخ العلامة حمود بن عبدالله التويجري رحمه الله الذي وضع ختمه الشهير في رأس الخطاب، ثم وقع بعده الشيخ عبدالله بن جبرين والشيخ عبدالمحسن العبيكان وعدد من مشايخ الرياض، ثم سافر أحد الإخوة بالخطاب إلى مكة حيث وقع عليه الشيخ سفر الحوالي والشيخ محمد بن سعيد القحطاني، وبعد ذلك إلى القصيم حيث وقع عليه الشيخ سلمان العودة والشيخ عبدالله الجلالي ومشايخ القصيم، ثم إلى المنطقة الشرقية حيث وقع عليه الشيخ محمد الشيحة وعدد من القضاة والعلماء في المنطقة الشرقية، ثم إلى المدينة المنورة وإلى المنطقة الجنوبية حيث وقع عليه العلماء والقضاة هناك، بعد ذلك عاد الخطاب إلى الرياض حيث استكمل التوقيع في الصفحة الأولى من قبل عدد من العلماء وأساتذة الجامعات والشخصيات الإسلامية الشهيرة.

بعد ذلك صورت عدة نسخ من الصفحة الممتلئة بالتوقيعات، وأرفقت مع كل نسخة صفحة من الخطاب خالية من التوقيعات، ووزعت تلك النسخ بالتوازي على مناطق المملكة مرة أخرى وجمعت على الصفحة الثانية المرفقة توقيعات أعداد من طلبة العلم وأساتذة الجامعات والقضاة، وبلغ المجموع الكلي للتوقيعات حوالي أربعمائة توقيع.

بعد استكمال التوقيعات نجحت المجموعة المشرفة على الخطاب في الحصول على تزكية تفصيلية من الشيخ ابن باز للخطاب في مقدار صفحة ونصف، يؤيد فيها الشيخ المطالب وينصح "ولاة الأمر" بإحالتها إلى هيئة كبار العلماء لدراستها وتحديد طريقة تنفيذها، فشجع ذلك الشيخ ابن عثيمين على كتابة خطاب تأييدي حذر، ذكر فيه أنه يؤكد ما قاله الشيخ ابن باز.

الفكرة محترقة!!
وفيما نحن مشغولون بجمع التوقيعات نشرت مجلة الجزيرة العربية التي كانت تصدر في لندن نص خطاب موجه للملك فيه بعض الشبه من الصيغة الواردة في خطابنا يحمل توقيعات حوالي أربعين شخصا من المثقفين والكتاب وعدد من الشخصيات الرسمية السابقة، فاتصل بي أحد الإخوة وقال: ماذا نعمل لقد حرقت الفكرة، قلت: لا تقلق! الفكرة لم تحرق، فمشروع خطابنا مختلف تماما سواء من حيث صياغة نصه أو من حيث نوعية الموقعين وعددهم، أو من حيث أسلوب تقديمه للجمهور، وكنت أضمر في نفسي خطة النشر الداخلية التي رتب لها ترتيبا جيدا، وكنت أعلم أن تداول الخطاب بين أيدي الناس في الداخل سيكون أثره أعظم بكثير من خروج الخطاب في مطبوعة تصدر في لندن لا يعلم الناس في الداخل عنها شيئا، هذا مع قناعتنا بضرورة النشر في الخارج لا لمجرد وروده في مطبوعة من المطبوعات، بل الغاية من ذلك أن يكون لنشره في الخارج أثر على الساحة المحلية، ولم نجد أنسب لذلك من السعي لإيراد خبر صدور الخطاب في إذاعة لندن نظرا لما لهذه الإذاعة من شعبية في المنطقة العربية بشكل عام، هذا بالإضافة إلى أن إيراد الخبر في إذاعة لندن يحقق أكثر من مجرد هدف النشر لما يتركه من انطباع لدى الناس من أن الأمر ينطوي على أهمية سياسية عالمية، فليس الحاكم وحده القادر على أن يصنع حدثا تتحدث عنه وسائل الإعلام العالمية، كما أن نشر الخبر يوفر نوعا من الحماية للقائمين على المشروع، لأن البطش بهم لن يكون سهلا.

التسليم
صار المشروع جاهزا في منتصف شوال من نفس العام 1411هـ، وكان لابد من التعجيل بتسليم الخطاب قبل أن ينكشف أمره ويجهض مشروعه، وتقرر أن يسلم الخطاب فورا قبل نهاية شوال وأن ترسل النسخة الأصلية للملك، وترسل نسخ من الخطاب للشيخ ابن باز بصفته المفتي والشيخ صالح اللحيدان بصفته رئيس الهيئة الدائمة للقضاء, وللأمراء عبدالله وسلطان وسلمان ونايف، أعدت النسخ بالتوقيعات الأربعمائة، وألحقت بكل واحدة منها نسخة من رسالة توجيهية في مقدمتها تعريف بالمحتوى، وكانت المشكلة التي اعترضتنا هي من يسلم الخطاب للملك وكيف؟؟

بعد المداولات ترجحت فكرة التسليم للديوان الملكي وأخذ إيصال بذلك, وعدم انتظار فرصة مقابلة الملك شخصيا لأن تلك الفرصة قد لا تسنح إطلاقا، شكل وفد لهذا الغرض من كل من الشيخ عبدالمحسن العبيكان والشيخ عبدالله التويجري والشيخ عبدالله بن جبرين والشيخ سعيد بن زعير على أن يسافر الوفد إلى جدة لتسليم الخطاب في الديوان، وفي صباح اليوم المحدد في حوالي العشرين من شوال حضر الجميع للمطار فيما عدا الشيخ عبدالله بن جبرين الذي تأخر عليه السائق، ففاتته الرحلة فلم تكتب له مشاركة وكتب له الأجر إن شاء الله، وصل المسافرون إلى جدة وسلموا الخطاب فعلا لمدير الديوان محمد النويصر، وسلمت بعد ذلك النسخ الأخرى للأشخاص المحددين، وبذلك انتهت المرحلة الأهم ـ مرحلة إيصال الخطاب إلى الملك ـ من مشروع هذه الوثيقة التاريخية التي عرفت بـ "وثيقة شوال".

استراحة
بعد التسليم تنفسنا الصعداء، وفضلنا الهدوء لعدة أيام، ثم استأنفنا النقاش حول الخطوة التالية، خطوة التوزيع والنشر في الداخل والخارج، في تلك الأثناء كان كاتب هذه السطور قد اتفق مع مجموعات أنيطت بها مهمة التوزيع في كافة أنحاء المملكة على أن تبدأ التوزيع بعد أسبوعين من تسلم الملك للخطاب في وقت واحد، وكنا ننتظر انقضاء الأسبوعين بفارغ الصبر حتى نشرع في التوزيع، وفي نفس الوقت كنا ننتظر رد فعل الدولة على الخطاب وعلى ذلك العدد الكبير من التوقيعات.

صدمة آل سعود
حين رأى الملك الخطاب أصيب بصدمة كبيرة، لم يصدم بصيغة الخطاب ولا بمحتواه ولكن صدم لأن التوقيعات التي عليه جمعت من حفر الباطن إلى جيزان ومن الدمام إلى جدة ومن المدينة إلى الإحساء دون علم المباحث ولا المخابرات، أين كان نايف؟ وماذا كانت تفعل وزارته؟ استدعى الملك نايف فورا ووبخه توبيخا شديدا، فماذا كان رد فعل نايف؟ لقد استدعى بدوره طه الخصيفان رئيس المباحث العامة ووبخه بشدة دل عليها ما أسر به الخصيفان لأحد رجال الصحوة من أن وقع خطاب المطالب على آل سعود كان أشد من وقع اجتياح العراق للكويت.

أما سلمان بن عبدالعزيز فاستشاط غضبا، ورفع الهاتف يتحدث لأحد إخوانه مستغربا كيف نجح معدو الخطاب في تحريك الشيخ الكبير حمود التويجري وكيف نجحوا في استصدار تزكية من ابن باز وكيف نجحوا في جمع ذلك العدد الكبير من التوقيعات.

التوزيع
بعد ذلك استعاد آل سعود توازنهم قليلا، وكلفوا سلطان بمقابلة عدد من الشخصيات الواردة أسماؤها في الصفحة الأولى اعتقادا منهم أنهم وراء مشروع الخطاب، اتصل سلطان بالدكتور أحمد التويجري وبالدكتور توفيق القصير وبالشيخ عبدالمحسن العبيكان وبالشيخ سعيد بن زعير وطلبهم للمقابلة، وبينما كانوا على وشك مقابلته بناء على موعد تم ترتيبه، اتصل مدير مكتب سلطان يخبرهم بإلغاء المقابلة، ذهب الظن ابتداء إلى أن سبب الإلغاء هو الحاجة إلى جمع مزيد من المعلومات، ولكن تبين فيما بعد أن السبب كان ورود تقارير من جميع أنحاء المملكة عن نشر الخطاب على نطاق واسع، مما وجه صفعة أخرى لآل سعود الذين كانوا لا يزالون في دوار من جراء الصفعة الأولى.

أصدر آل سعود بعد نشر الخطاب قرارا بمنع كل الذين وقعوا على الخطاب من السفر إلى الخارج، كان القرار غريبا، فلماذا يحظر السفر على الموقعين؟، تبين بعد التحليل والتدقيق أن عبقرية آل سعود توصلت إلى هذا القرار كوسيلة لمنع تسريب الخطاب ومن ثم الحيلولة دون نشره في الخارج، وفاتهم أن العالم أصبح قرية كونية لا مجال فيه لحجز المعلومات، وفاتهم أن الذي أتقن إعداد الخطاب وأتقن جمع التوقيعات وأتقن عملية النشر في الداخل ما كان ليصعب عليه نشره في الخارج، والحقيقة التي لم يعرفوها أن الخطاب كان قد سرب إلى الخارج قبل أن ينشر في الداخل، وجاء منع الموقعين من السفر ليكون دليلا آخر على الحماقة التي أضحت سمة من سمات النظام.

كان النشر في الداخل كثيفا فعلا، وتفنن الناس في طريقة النشر، فمنهم من وزعه يدويا، ومنهم من ألقى به داخل السيارات، ومنهم من أدخله إلى البيوت من تحت الأبواب ومنهم من وزعه في فتحات صناديق البريد، أو شبابيك البريد الداخلي للإدارات الحكومية، ومنهم من وزعه بالبريد الداخلي نفسه، إذ وصل الخطاب إلى عدد كبير من الناس عبر عناوينهم البريدية، وكان التوزيع في البداية عملا مشوبا بالخوف والتردد، ثم شجع توفره في أيادي الناس بشكل مكثف على توزيعه بشكل شبه علني، وصار من المشاهد الطبيعية أن تدخل أحد محلات البقالة أو القرطاسية وترى نسخ الخطاب مصفوفة أمامك لتستلم منها نسخة، وشوهد البعض يطوف بسياراته يوزع الخطاب علانية على الناس.

في بداية الأمر كلف رجال المباحث بتتبع الموزعين، وقد قبض على مجموعة منهم، لكن السلطات سرعان ما أدركت أن الخرق قد اتسع على الراقع.

في إذاعة لندن
وأخيرا، صدعت إذاعة لندن بالخبر، وتتابعت الإذاعات والصحف العالمية في التعليق على الحدث، واهتمت مراكز البحوث في الغرب والشرق بتحليل تلك الخطوة، وكان من أظرف التعليقات ما جاء في صحيفة الحزب الشيوعي الصيني في بكين من: أن هذا الخطاب كسر مقولة ماركس “الدين أفيون الشعوب”، فها هو الدين محرك للشعوب وهاهم “رجال الدين” قد أصبحوا روادا للثورة الفكرية والنهضة الثقافية.

تحول الخطاب إلي قضية المجتمع الرئيسية، وصار حديث الناس صباح مساء، واعتبر الموقعون أبطالا وقيادات اجتماعية تستحق التقدير، لقد كان النشر من أنجج الوسائل لوضع الأمة والعلماء والشخصيات البارزة أمام الأمر الواقع، وكان زخم الخطاب وقوته باعثا للموقعين على الافتخار بوجود أسمائهم في تلك الوثيقة، حتى أن الذين ترددوا في التوقيع في أول الأمر رفعوا بعد ذلك رؤوسهم عاليا معتزين بمشاركتهم في المشروع.

محاولة متأخرة
خلال تلك الفترة حاول النظام إقناع كبار الموقعين بالتراجع وجمع سلمان بن عبدالعزيز قضاة الرياض وجادلهم، ثم حاول تخويفهم فلم يفلح، وحاول آخرون من الأسرة مع علماء آخرين فلم ينجحوا إلا مع شخصين أو ثلاثة من بين أربعمائة اسم، كتب المتراجعون اعتذارات سرية، ورفضوا الإعلان عن تراجعهم خجلا من مواجهة الجمهور.

الهيئة... أدركونا
لم يجد آل سعود حلا سوى اللجوء إلى المشيخة الرسمية ليخاطبوا من خلالها عامة الجمهور علهم يفندوا ما جاء في الخطاب، كلفت هيئة كبار العلماء بدراسة الموضوع وإصدار بيان بشأنه، وأوعز الملك وسلمان إلى صالح اللحيدان وعبدالعزيز بن صالح رحمه الله وهما من أعضاء الهيئة بعمل شيء ما لتقبيح الخطاب في أعين الناس، وتسرب خبر اجتماع الهيئة فتحرك الجمهور للتأثير عليها, وتوجهت الوفود الكبيرة لتوعية أعضاء الهيئة وتذكيرهم بالله وبالمسؤولية الشرعية الملقاة على كواهلهم، وكان عجبا أن يكون عامة الناس هم الناصحين والمذكرين للعلماء، مع أن الأصل أن يكون ذلك هو دور العلماء الذين يفترض فيهم التجرد وإنكار المنكر أيا كان مصدره وإقرار المعروف أيا كان فاعله.

كان تجاوب أعضاء الهيئة متفاوتا فبعضهم كان يبدي تعاطفا مع مشروع الخطاب، بينما أبدى البعض اعتراضا شديدا واحتج بحجج واهية ليست من الدين في شيء، قال أحدهم "ماذا أبقيتم للأسرة الحاكمة"، وقال آخر "النصيحة لا ينبغي أن تقدم إلا من العلماء"، وهو يقصد بذلك أعضاء الهيئة.



النشر حرام!!
اجتمعت الهيئة وتحرك لوبي اللحيدان وابن صالح، فلم يستطع إقناع الآخرين بتقبيح الخطاب نفسه، ولكن نجح في استصدار بيان ينتقد نشر الخطاب باعتبار أن الخطاب نصيحة والنصيحة لا تجوز إلا سرا، وقُرئ بيان الهيئة في الإذاعة والتلفاز ونشر في الجرائد الرسمية في أواخر ذي القعدة من نفس العام.

كان صدور بيان هيئة كبار العلماء أول اعتراف رسمي من قبل الدولة بوجود كيان مستقل قدم عملا فكريا موجها للنظام الذي أجبر على الرد عليه من خلال جهازه “الشرعي”، إلا أن البيان كانت له آثار إيجابية على مشروع الخطاب بما أعطاه من زخم إعلامي، وبما تمخض عنه من تحويل فكرة “المعارضة” إلى حقيقة واعدة.

كان بيان الهيئة هو الحلقة الأخيرة من سلسلة ردود الأفعال التي رافقت نشر الخطاب، واستمرت موجة الحديث عن الخطاب والبيان ردحا من الزمن، وبطبيعة الحال لم يقدم آل سعود أي بادرة يثبتون بها أنهم مستعدون لقبول ما ورد في الخطاب من نقد واقتراح.

لقد حقق الخطاب ما أريد له أن يحقق من أهداف اجتماعية وحضارية ونفذ مشروعه بطريقة متقنة حتى قال أحد كبار المشايخ في وصف نجاحه: "كأني بهذا الخطاب يحمله ملك من الملائكة"، لقد سلم الخطاب قبل أن ينكشف أمره، ونشر في الداخل في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة، ونشر في الخارج عبر أفضل القنوات الإعلامية، وتحقق المطلوب من نشره من التوعية الجماعية لعامة الناس ولشباب الدعوة، وتحققت النقلة المتوقعة في تحويل اهتمام الشباب المتدين من القضايا الجانبية إلى القضايا الكبرى، وتحقق إقناع الأمة بأن الذي يتكلم باسمها ويطالب بحقوقها هم العلماء العاملون ومثقفوا الإسلاميين، وتبين من خلال الأسماء الواردة إجماع القيادات العلمية والثقافية على مطالب الخطاب.

درس من المشروع
وبالنسبة لنا، ولّد نجاح المشروع لدينا قناعة بأن المرء بإمكانه أن يصنع حدثا إن أراد، وأن بإمكانه أن يخاطب الأمة وينبه فكرها لو عزم على ذلك، لقد ولّد ذلك أيضا إحساسا بالإيجابية، وبأننا كأعضاء فاعلين في هذا المجتمع لدينا القدرة على تغيير الأحداث، وهذا بدوره أزال الشعور بالعجز والإمعية والقطيعية الذي سيطر على عقول وقلوب قطاع واسع من الإسلاميين في زماننا، ظنا منهم - مع الأسف الشديد - أن ذلك العجز هو قدرنا، لقد دفعنا هذا الشعور بالإيجابية والعطاء والانتاج للتصميم على مزيد من صناعة الأحداث سعيا لتغيير وجه المجتمع واتجاه التاريخ.

من النتائج الهامة للخطاب كذلك أنه كان عبارة عن تجربة حية للتعامل مع الواقع من خلال قضايا حساسة، والتعامل مع هذا الواقع وأطرافه المتعددة المتمثلة في الدولة والقيادات الاجتماعية والظروف المحلية والعالمية والشعب نفسه يعين على تعلم كثير من الحقائق الهامة من أجل المضي قدما في أي مشروع، ولقد تبين من هذا المشروع الذي يبدو سهلا وهو حقيقة مليء بالصعوبات وجود كثير من عوامل الضعف والقوة لدى التيار الإسلامي وتبين كذلك مدى استعداد القيادات للإيجابية والعطاء واستعداد الشعب للتعاطف مع قضايا الإصلاح، كانت هذه النتائج الحقيقية رصيدا غنيا يحتاجه المرء وهو ينتقل للمرحلة الثانية من مراحل العمل الجماهيري الاستراتيجي.



















نص خطاب المطالب
خادم الحرمين الشريفين وفقه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، فقد تميزت هذه الدولة بإعلانها تبني الشريعة الإسلامية، وما زال العلماء وأهل النصح يسدون لولاتهم ما فرضه الله عليهم من النصيحة، وإننا في هذه الفترة العصيبة التي أدرك فيها الجميع الحاجة إلى التغيير نجد أن أوجب ما تتوجه إليه العزائم هو إصلاح ما نحن فيه مما جلب علينا هذه المحن، ومن أجل ذلك فإننا نطالب ولي الأمر بتدارك الأوضاع التي تحتاج إلى الإصلاح في النواحي التالية:

* إنشاء مجلس للشورى للبت في الشؤون الداخلية والخارجية يكون أعضاؤه من أهل الاختصاصات المتنوعة المشهود لهم بالاستقامة والإخلاص مع الاستقلال التام دون أي ضغط يؤثر على مسؤولية المجلس الفعلية .

* عرض وصياغة كل اللوائح والأنظمة السياسية والاقتصادية والإدارية وغيرها على أحكام الشريعة الإسلامية، ومن ثم إلغاء كل ما يتعارض معها، ويتم ذلك من خلال لجان شرعية موثوقة ذات صلاحية.

* أن تتوافر في مسؤولي الدولة وممثليها في الداخل والخارج استقامة السلوك مع الخبرة والتخصص، والإخلاص والنزاهة، وأن الإخلال بأي شرط من هذه الشروط لأي اعتبار كان تضييع للأمانة، وسبب جوهري للإضرار بمصالح البلد وسمعته.

* تحقيق العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع في أخذ الحقوق وأداء الواجبات كاملة دون محاباة للشريف أو منة على الضعيف، وأن استغلال النفوذ أيا كان مصدره في التملص من الواجبات أو الاعتداء على حقوق الآخرين سبب لتمز ق المجتمع والهلاك الذي أنذر به النبي صلى الله عليه وسلم .

* الجدية في متابعة ومحاسبة كل المسؤولين بلا استثناء، لاسيما أصحاب المناصب الفعالة، وتطهير أجهزة الدولة من كل من تثبت إدانته بفساد أو تقصير بصرف النظر عن أي اعتبار.

* إقامة العدل في توزيع المال العام بين جميع طبقات المجتمع وفئاته، وإلغاء الضرائب وتخفيف الرسوم التي أثقلت كواهل الناس وحفظ موارد الدولة من التضييع والاستغلال,، ومراعاة الأولوية في الصرف على الاحتياجات الملحة، وإزالة كافة أشكال الاحتكار والتملك غير المشروع، ورفع الحظر عن البنوك الإسلامية وتطهير المؤسسات المصرفية العامة والخاصة من الربا الذي هو محاربة لله ورسوله وسبب لمحق البركة.

* بناء جيش قوي متكامل مزود بأنواع الأسلحة من مصادر شتى مع الاهتمام بصناعة السلاح وتطويره، ويكون هدف الجيش حماية البلد ومقدساته.

* إعادة بناء الإعلام بكافة وسائله وفق السياسة الإعلامية المعتمدة للمملكة ليخدم الإسلام، ويعبر عن أخلاقيات المجتمع ويرفع من ثقافته، وتنقيته من كل ما يتعارض مع هذه الأهداف، مع ضمان حريته في نشر الوعي من خلال الخبر الصادق والنقد البناء بالضوابط الشرعية.

* بناء السياسة الخارجية لحفظ مصالح الأمة بعيدا عن التحالفات المخالفة للشرع، وتبني قضايا المسلمين مع تصحيح وضع السفارات لتنقل الصبغة الإسلامية لهذا البلد.

* تطوير المؤسسات الدينية والدعوية في البلاد، ودعمها بكل الإمكانات المادية والبشرية، وإزالة جميع العقليات التي تحول دون قيامها بمقاصدها على الوجه الأكمل.

* توحيد المؤسسات القضائية، ومنحها الاستقلال الفعلي والتام، وبسط سلطة القضاء على الجميع، وتكوين هيئة مستقلة مهمتها متابعة تنفيذ الأحكام القضائية.

* كفالة حقوق الفرد والمجتمع وإزالة كل أثر من آثار التضييق على إرادات الناس وحقوقهم بما يضمن الكرامة الإنسانية حسب الضوابط الشرعية المعتبرة.











المدفع العملاق في الرياض


يقفز بعض المتابعين لمسيرة التغيير في الجزيرة العربية من الحديث عن خطاب العلماء إلى الحديث عن مذكرة النصيحة متجاوزين أحداثاً هامة في تلك الفترة الزمنية الحرجة، ترتبت عليها آثار وطّأت الأرضية، وهيّأت الأجواء لمذكرة النصيحة، وربما لم تكن تلك الأحداث أقل شأناً من خطاب المطالب ولا مذكرة النصيحة، رغم أنها لم تحظ بنفس الشهرة والانتشار، فما هي هذه الأحداث وكيف نشأت وتعاقبت؟ هذا ما سنتطرق له في هذا المبحث من مذكرات الصحوة.

الخطاب بداية فقط
كان مشروع خطاب العلماء بداية لتنفيذ الركن الأهم من استراتيجية التغيير، وهو إيصال رسالة الإصلاح للجمهور، وكان لدى المجموعة العاملة قناعة بأن من ضرورات التغيير الشامل والراسخ أن تعيش معك الأمة قضية الإصلاح، وأن تطلع على تلك الرسالة بتفاصيلها، وكان الخطاب هو الذي كسر الحاجز بين الأمة ومسيرة التغيير.

رغم أهمية الخطاب بوصفه قفزة حضارية ونقلة نوعية للمجتمع، فإنه لم يكن إلا بداية وكان لابد من إكمال مهمة إيصال تلك الرسالة، وإبقاء الأمة دائماً على علم بحقيقة حالها، وما يجب أن تكون عليه، وفي مثل الظروف التي تلت مشروع خطاب العلماء توجب أن يبدأ أي مشروع من حيث انتهى الخطاب ليبني على مكتسباته.

شرح الخطاب
وتطبيقا لتلك الفكرة اتفقت المجموعة المعدة للخطاب على إنجاز ذلك الأمر من خلال شرح مادة الخطاب، إلا أنها اختلفت حول أسلوب الشرح ونوعية الجمهور المخاطب به إلى فئتين: أما الفئة الأولى فهي الفئة التي أخذت بنجاح مشروع الخطاب، وعاشت في أصدائه واهتمت بردود أفعاله، وتأثرت بهاجس المراعاة لوضع الحكام والعلماء معتبرة ذلك أهم من الاستمرار في الخطاب المفتوح الواسع، وأما الفئة الثانية فهي الفئة التي رأت استكمال نفس الفكرة بالنظر إلى الهدف البعيد رغبة في تغيير الواقع والتأثير في المحيط بدلاً من التأثر به، واعتبار واقع الحكام والعلماء من القضايا المؤقتة التي تغير المبادرات الاستراتيجية كل معطياتها، ورأت الفئة الثانية أن ذلك لا يتحقق إلا من خلال استمرار أسلوب الخطاب الصريح الموجه إلى عامة الأمة، ولقد أظهرت الممارسة العملية أنه لم يكن ثمة تعارض بين الفكرتين، وسعى كل فريق لتنفيذ فكرته دون إبطال لفكرة الفريق الآخر.

الشرح الكتابي
أما الفريق الأول فسعى لتحقيق فكرته من خلال إعداد وثيقة تفصيلية تشرح المطالب وتدعمها بالدليل والتأصيل الشرعي، ومن ثم تقديمها لأعضاء هيئة كبار العلماء وبعض المسؤولين دون توزيعها على العامة، وكان أصحاب هذا الرأي حريصين على كسب رأي العلماء واسترضائهم أكثر من حرصهم على استكمال مشروع الخطاب العريض، ونظراً لأن هذه المهمة سهلة التنفيذ سواء من ناحية إعداد الوثيقة أو من ناحية توزيعها المحدود، فقد نفذت بسرعة من خلال إعداد بضعة صفحات من النصوص الشارحة للخطاب سلمت للأشخاص المعنيين.

ولا يُعرف إن كان الهدف الذي أعدت من أجله هذه الوثيقة تحقق أم لا؟، فهو هدف غير قابل للقياس إذ من الصعوبة بمكان معرفة وجهة نظر العلماء الرسميين إلى أن يختبروا في أزمة أخرى، أما من حيث الآثار الاجتماعية فمن الطبيعي أن لا تترك هذه الوثيقة التي أعدت وسلمت للعلماء في نهاية شوال من عام 1411هـ أثراً يذكر.

الشرح الصوتي
وأما الفريق الثاني فقد سلك طريقاً تعثر في بدايته، ثم ما لبث أن غير مساره فحقق نجاحاً جيدا، وكانت الخطة المطروحة لتحقيق فكرة هذا الفريق هي إقناع أحد العلماء أو الدعاة أو عدد منهم بالتصدي لمهمة شرح خطاب المطالب من فوق المنبر، والمقصود هنا ليس مجرد شرح الخطاب والتعريف ببنوده وتقديم التأصيل الشرعي له، وإنما المقصود هو تعويد الشارع وتدريب الجمهور على نقاش القضايا الحساسة مع قياداته الشرعية ورموزه الاجتماعية دون خوف أو تردد، واعتبار الحوار في قضايا السياسة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم حقاً شرعياً للأمة وأمراً طبيعياً ينبغي أن يحدث بشكل روتيني منتظم، وسعياً لتنفيذ تلك الفكرة فقد فوتح عدد من الدعاة بها، لكن النتيجة جاءت مخيبة للأمل، حيث اعتذر كل الذين فوتحوا لعدم استعدادهم لتلك المهمة بطبيعة الحال ليس تهرباً ولا نكوصاً، ولكن لعدم القناعة بأن الأمة مهيأة لهذه الخطوة "الخطيرة"، وفي تقديري كان ذلك الاعتذار نكسة، وكان عذر هؤلاء غير مقبول في نواميس التغيير، فكيف يراد للأمة أن تتهيأ إذا لم يسع لتهيئتها روادها، ولماذا تضيع هذه الفرصة الذهبية وأصداء الخطاب لاتزال تتردد في أرجاء البلاد، وكأني بثمرة يانعة تبحث عمن يقطفها، فعافها من هو أحق بها وتركها.

ولربما كانت الرموز في تلك المرحلة أبطأ من حركة الجمهور واستعداد الأمة أكبر من عطاء الرموز، ولذلك فقد كانت التطلعات أكثر من قدرات وإمكانيات الحركة الإسلامية.

أمام هذا الاعتذار من قبل القيادات، لم يكن التراجع مقبولاً، وكان لابد من وسيلة أخرى يتم بها تجاوز تلك الصعوبة، وهنا لاحت لنا طريقة تنفذ بها الوسيلة، شريط مسجل بصوت شخص غير معروف تتضمن الشرح الكامل للخطاب.

مشروع جاد
قفزت الفكرة إلى الذهن كما لو كانت طرفة أو خيالا، ثم ما لبثت أن تحولت إلى مشروع جاد، وحرص الذين تبنوا تلك الفكرة علي أن يبقوها داخل إطارهم منعاً لإحراج الفريق الآخر الذي تحفظ على أصل الفكرة، وهكذا تقرر أن نشرع في تنفيذ الفكرة التي تحولت في النهاية إلى إنتاج شريط من جزئين غاية في الخطورة، بل بلغت خطورته أن سمّاه بالمدفع العملاق، تشبيهاً له بالمدفع الذي كان يصنعه العراق بزعم ضرب إسرائيل، والذي كان حديث الصحافة والإعلام في تلـك الأيام.

لقد جاء الشريط ليملأ فراغاً هاماً في ساحة العمل السياسي في الفترة ما بين خطاب العلماء ومذكرة النصيحة، فكيف أعد هذا الشريط وما هي ملابساته وآثاره؟

يعتبر إنتاج شريط بصوت سري عملاً حساساً من الناحية الأمنية، وكان من طبيعة العاملين في الساحة الإسلامية تجنب الأعمال التي توحي بالمواجهة، ولذلك كان من المنطقي أن يتخذ قرار إنتاج هذا الشريط بمعزل عن أي شخص تحفظ على إعداده، ولهذا السبب ائتمر الأفراد الذين تحمسوا للمشروع في مجموعة منفصلة دون أن يعلم عنه الآخرون، وشرعوا في تنفيذ الفكرة بشكل مستقل.

محاولة غير مكتملة
كانت فكرة الشريط ابتداءً موجهة لنفس مفهوم شرح الخطاب بشكل مباشر، ومن ثم حورت قليلاً إلى الحديث عن واقع البلاد الشرعي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي، وتم فعلاً كتابة مادة الشريط في نهاية شهر شوال 1411 وبداية شهر ذي القعدة، وفيما نحن نعد المادة تكفل أحد الإخوة بمهمة العثور على قارئ مستعد للتضحية فيما لو عرف صوته، وبعد بحث مضن عثر على من أبدى استعداده للقيام بالمهمة، وفي نفس الأثناء أعدت المادة وطبعت على الآلة الكاتبة لتسهيل مهمة القراءة، وكان كل ذلك محاطاً بالسرية التامة حتى عن الفريق الآخر من المجموعة التي اشتركت في إعداد الخطاب.

وقبيل الحج أنجزت مهمة تسجيل المادة على الشريط، وكنا حريصين على إدراك موسم الحج لنستثمر فرصة التجمع الإسلامي العظيم لتوزيع الشريط على أوسع نطاق، وكان الذي تكفل بمهمة التسجيل على غير اطلاع بتكنولوجيا التسجيل وتغيير الأصوات، وحاول تغيير الصوت بأساليب بدائية لم تحقق التغيير المطلوب، ومع ذلك فقد نسخ من الشريط مئات النسخ وعبئت السيارات المتجهة للحج من أجل توزيع الشريط في الحج، ولم تكد السيارات تنطلق متوجهة إلى مكة المكرمة حتى بدا لقارئ الخطاب أن تغيير الصوت لم يكن ناجحاً وأن كل من سيسمعه سيميّزه، وهنا سارع إلى اللحاق بالسيارات وإقناع أصحابها بتفريغ الحمولة وإتلافها، وبهذا جمدت الفكرة إلى أجلٍ.

ورغم تعاطفنا مع صاحب الصوت وإشفاقنا عليه فقد أسفنا على فوات فرصة الحج، حيث كان يمكن توزيع مئات بل آلاف النسخ من الشريط دون محاذير أمنية وبالسرعة المناسبة، لكننا عندما عدنا إلى مادة الشريط وراجعناها تبين لنا أن تراجع الأخ المذكور كان من توفيق الله، حيث دلت المراجعة الثانية أن المادة فيها محاذير كثيرة قد تضر بالهدف الذي أعدت من أجله، وبدا لنا أن المادة كتبت على عجل وبأنها تستحق من الوقت والجهد والمراجعة أكثر مما نالت، وعندها وقفنا قليلاً، وقررنا إعادة النظر في عدة أمور بما في ذلك محتوى الشريط، واختيار القارئ وطريقة التسجيل وتغيير الصوت.

المحاولة الثانية
حين ناقشنا فكرة المحتوى تبين لنا أن الاستعجال في شرح بنود خطاب المطالب قد يكون سابقاً لأوانه، خاصة، وأن توزيع ونشر خطاب المطالب قد كشف عدداً كبيراً من المفاهيم المغلوطة الملصقة بالشرع مثل مفهوم سرية النصيحة ومفهوم الخلط بين الفتنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واقتنع الجميع بعد حوار طويل أن الأولوية هي لتصحيح هذه المفاهيم حتى تصبح العقول مهيأة لسماع أي شرح لخطاب المطالب.

الشريط الأول
وعند ذلك شرعنا فوراً في إقصاء عدد من تلك المفاهيم الخاطئة والرد عليها من خلال تأصيل شرعي عميق، وتضمن الشريط كذلك تساؤلات عن حقيقة دعوى تطبيق النظام السعودي للشريعة، واختتم الشريط بأربع رسائل هامة منها واحدة للنظام الحاكم نفسه، وأخرى للعلماء، والثالثة للجيش، والرابعة للمباحث، وصيغت هذه الرسائل بعناية فائقة حتى تحقق أكبر درجة ممكنة من الحرج للجهات المخاطبة.

وسعياً لإنجاح فكرة الشريط، فقد حرصنا فيه على اللغة الشرعية الرصينة والبعد عن القضايا الفردية والهجوم الشخصي، بل حرصنا فيه على الاقتصار على القضايا التي هي محل إجماع وقبول، وحرصنا فيه كذلك على تجنب إجبار السامع على أي موقف، بل كانت المادة عرضاً للفكرة بالدليل والشواهد والقرائن، وتُرك الاستنتاج للسامع، وهـــو فيما ظنناه الأسلوب الأكثـــر تحبيبـــــاً للسامع وتحفيزاً له للــوصول إلى الاستنتاج بنفسه.

تم الانتهاء من إعادة صياغة المادة بنجاح وبسرعة مناسبة، وبينما كانت تجري طباعتها على الآلة الكاتبة كنا في الحين نفسه نبحث عن متطوع آخر ليسجلها بصوته على الشريط، وكنا أيضاً نبحث عن وسيلة فنية لتغيير الصوت، أما القارئ فوفقنا للحصول عليه بطريقة تشبه المعجزة، ولا تسمح الظروف ببسط تفاصيلها، وفي نفس الوقت عثرنا على جهاز تسجيل خاص يغير الصوت اشتريناه لهذا الغرض، وفي أواخر شهر المحرم من عام 1412هـ وأوائل شهر صفر أعد الشريط وغُيّر الصوت، وبعدها نسخت عشرون نسخة تقريباً، أرسلت كل واحدة منها إلى منطقة من المناطق ومن هناك انتشر الشريط انتشاراً واسعاً وبسرعة كبيرة.

اتسعت دائرة انتشار الشريط وتجاوزت حدود الشباب المتحمس والحركي إلى دائرة العلماء فالمثقفين، وأصبح الشريط حديث المجالس، وتسابق الناس لإطلاق الأسماء عليه، ولكن كان أكثر الأسماء شيوعاً هو "المدفع العملاق" تعظيماً لمحتواه.

شريط.. لغز
ورغم أن الشريط كان بصوت شخص غير معروف، فقد لاقى استحساناً وقبولاً لدى معظم شرائح المجتمع، وتبين أن السياسة التي اتبعناها في ضبط صياغة الشريط قد آتت أكلها، أما الهدف الأساسي منه وهو تصحيح المفاهيم فلم يكن ليتحقق بتلك السرعة، لكنه كان يكفينا أن نضع تلك المفاهيم التي غرسها النظام على مدى الأجيال موضع الشك، فاقتصار النصيحة على الأسلوب السري رغم علنية المنكرات لم يعد أمراً مسلماً، كما لم يعد لفظ "العالِم" اسماً محصوراً على العالِم الذي يعينه الحاكم، بل إن العالِمَ هو العامل بعلمه الداعي له والصابر على الأذى في ذلك، ولم تعد مهمة إنكار المنكر من تخصص فئة معينة من الناس، بل هي مهمة كل قادر من المسلمين عارف بفقه المنكر الذي ينكره، ولم يعد الصدع بالحق من إثارة الفتنة والبلبلة بين الناس، بل هو من الواجبات والفرائض العظيمة التي تأثم الأمة بتعطيلها، وهكذا كان كل واحد من هذه المفاهيم موضع تحقيق ومراجعة وإعادة إلى الأصول الشرعية التي كشفت الفرق بين إسلام محمد صلى الله عليه وسلم وإسلام آل سعود، وبين فهم الصحابة وفهم علماء السلطة.

كان صوت القارئ رخيماً دافئاً أضفى على الشريط رزانة وثقلاً، وساعد على قبوله وانتشاره، ولقد أبدى كثير من السامعين إعجابهم بعمق التأصيل الشرعي والخطاب المنضبط المسؤول، وجزم كثير ممن سمع الشريط بإمعان بأن القارئ طالب علم جيد، ولم يخطر ببالهم أنه يقف خلف ذلك الشريط مجموعة، وأن القارئ ليس إلا واحداً منهم.

أرق الملك
كان من الطبيعي أن يحدث انتشار الشريط إحراجاً للنظام الذي فوجئ به كعمل جديد وظاهرة لم يتعود عليها ولم يتهيأ لها، بل يقال إن الملك لم يتمكن من النوم ثلاث ليال متتالية بعد سماعه للشريط، ولقد كانت الاحتياطات الأمنية التي اتخذت في الإعداد قوية لدرجة أن أقرب القريبين لم يعرف بخبره، ولقد حرص الذين أعدوا الشريط على قطع الخيوط والحبال التي تؤدي له، فلم يسلم الشريط باليد لأي جهة توزيع، بل كان يوزع من تحت الأبواب، أو يرمى داخل السيارات، أو في صناديق البريد، ولذلك لم تفتح قناة واحدة يمكن من خلالها تتبع مصدر الشريط.

لم يشأ النظام أن يواجه أزمة الشريط علانية، حتى لا يمنح الشريط دعماً إعلامياً يرفعه من مستوى السرية إلى العلنية، بل حرص على تتبع الموزعين ومحاولة معرفة المصدر، وكان النظام يعتقد أن الموزعين يقتصرون على مكان أو مكانين، لكن تبين أن التوزيع شامل في جميع أنحاء البلد، وباءت كل محاولات النظام لتتبع مصدر الشريط بالفشل الذريع، فكل سلسلة تنتهي بشريط في السيارة أو من تحت الباب أو على طاولة الدراسة أو في المسجد، وبعد ذلك الفشل بثت سلطات المباحث إشاعة مفادها أن من يدل على مصدر الشريط فله ستة ملايين ريال، وانتشرت تلك الإشاعة بشكل كبير، وتعامل معها بعض الموتورين كعرض جاد، وسعوا فعلاً لمعرفة المصدر، لكن بلا جدوى.

انتشار ذاتي
كان من الطبيعي أن يستغرق انتشار الشريط أكبر بكثير من انتشار الخطاب، فالخطاب يصور بأي آلة تصوير وتنسخ منه عشرات النسخ في دقائق معدودة، أما الشريط فلا ينسخ إلا بأجهزة خاصة، ويستغرق النسخ زمناً طويلاً ويحتاج مالاً كثيراً، ومع ذلك فقد كان الانتشار أسرع من المتوقع، فلم تمض أسابيع حتى كان في جميع أنحاء البلد، ومن لم يسمعه سمع به، وبدأ يبحث عنه.

الشريط الثاني
حين سُلم الشريط الأول لمراكز التوزيع شرعنا فوراً بإعداد الشريط الثاني، وبدلاً من أن نجعل مادته مجرد شرح لبنود خطاب المطالب، فقد تحولت المادة إلى تقويم للنظام من الناحية الإسلامية، حيث أعدت المادة بحيث تقارن بين الشكل الذي يفترض أن تكون عليه الدولة الإسلامية، وبين واقع دولة آل سعود وممارساتها في مجال السياسة والقضاء والاقتصاد والاجتماع والجيش والإعلام، وغير ذلك من الأمور، وحرصنا مرة أخرى على أن يكون التأصيل الشرعي عميقاً، وحرصنا كذلك على أن لا نلزم السامع بأي استنتاج ونترك له استخلاص النتيجة بنفسه، وسجل الشريط ووزع بنفس الطريقة في نهاية ربيع الثاني وبداية جمادى الأولى من عام 1412هـ، أي بعد شهرين تقريباً من تاريخ توزيع الشريط الأول، واستمر توزيع الشريط يتنامى، واستمر الحديث عنه وعن مادته، وبقي سر الشريط طي الكتمان سنتين كاملتين.

مفيد ولكن
ورغم قوة مادة الشريط وسعة انتشاره إلا أنه لم يكن في الحقيقة عنصراً رئسياً في مسيرة الإصلاح، وإنما كان عامل دعم ومساعدة وتأييد، لقد أعان الشريط على تهيئة الأجواء من خلال دحض المفاهيم المغلوطة كما أعان على تثقيف الجمهور بحقيقة الفرق بين الشعار الذي ترفعه الدولة في تطبيق الإسلام وبين ممارساتها الحقيقية، ومع أن الشريط لم يكن في ذاته من ضمن وثائق التغيير، لكنه في الحقيقة وطّن للتغييرات الهامة التي لحقت، فلم تمض أشهر قليلة إلا وأنشئت لجنة الجامعة للإصلاح والمناصحة، وما كاد العام ينصرم، حتى قدمت الوثيقة الثانية من الوثائق الكبرى للصحوة وهي مذكرة النصيحة، لقد كان الشريط بمثابة تمهيد لتلك المذكرة وتهيئة لإخراجها إلى حيز الوجود، وفي اعتقادنا لم تكن مذكرة النصيحة إلا ترجمة معلنة لمحتوى ذلك الشريط.





مذكرة النصيحة
انتشر الشريط الأول من أشرطة المدفع العملاق في محرم من سنة 1412هـ، وانتشر الشريط الثاني بعده بأربعة أشهر، وكان الناس في تلك الفترة لا يزالون حديثي عهد بخطاب المطالب، بل وبتداعيات أزمة الخليج.

مناسبة نافعة
في رجب من العام نفسه حصلت حادثة هامة في جامعة الملك سعود ترتب عليها مجموعة من الأحداث تمخضت أخيراً عن الوثيقة المشهورة بمذكرة النصيحة.

كان حديث الناس في تلك الأيام عن مؤتمر مدريد للسلام وموقف الشرع منه، وكانت مجموعة من علماء الشباب يربو عددهم على العشرين قد قدموا رسالة للشيخ ابن باز ينصحونه بها بعدم التورط في دعم هذا المشروع الخطير، وتسرب للجمهور نسخة من هذه الرسالة التي احتوت على الدليل الشرعي والمنطقي على أن أي فتوى في ذلك الاتجاه إنما هي خيانة للدين وتقوّل على الله بغير علم وتضليل للأمة، وبالمناسبة فقد كانت تلك الرسالة من أحد الأسباب المهمة في تأخر فتوى الشيخ ابن باز في تأييد الصلح، حيث لم يعلن عن ذلك إلا بعد أن اعتقل معظم أولئك الموقعين على تلك الرسالة، وأودعوا السجون.



في مسجد الجامعة
حاول خطيب المسجد الجامع في مسكن أعضاء هيئة التدريس في جامعة الملك سعود الادلاء بدلوه في نقاش قضية السلام مع أن وزارة الأوقاف كانت قد أصدرت تعميماً بعدم التطرق لهذا الموضوع.

وكانت تلك الخطبة غير مركزة وغير واضحة، ولم يتبين من الخطيب إن كان يؤيد أو يعارض مشروع مدريد مما تسبب في تضايق وتململ المصلين، لم تكد الصلاة تنقضي حتى قام أحد أعضاء هيئة التدريس، وانتقد بقوة تلك الميوعة في طرح القضية وأكد بوضوح أن ما يجري في مدريد هو تقبيل لأقدام الصهاينة واضفاء للشرعية على الكيانات المغتصبة لبلاد المسلمين، ولقد تبين أن المصلين تجاوبوا مع هذا التعليق وأعجبهم تحديد ذلك الموقف.

استدعاء
غير أن السلطات لم يعجبها ذلك، فلم تمر أيام حتى استدعي الخطيب نفسه من قبل إمارة الرياض ومن قبل وزارة الأوقاف، واعتبر مسؤولاً عن إثارة القضية وعن السماح لغيره بالتعليق، وكان الاستدعاء مهيناً ومحرجاً حقيقة، فقام الخطيب بالرد بطريقته الخاصة، حيث جعل كل خطبته في الجمعة التالية عن جهاز المباحث، وكيف أن مهنة المباحث مهنة محرمة وأن حقيقتها هو التجسس والنميمة، ولاشك في ذلك.

وكان الخطيب قد اجتهد، وأعد مادة ممتازة في هذ ا الباب حركت عقول وعواطف ومشاعر المصلين ضد أجهزة التجسس والنميمة، حتى لقد أصاب المصلين من أعضاء هيئة التدريس نشوة بسماع مثل هذا الكلام من فوق المنابر، ذلك لأن الجميع يعلم أن المباحث مجرمون ممتهنون للتجسس والنميمة، لكن لا أحد يجرؤ على أن يقول ذلك من فوق المنبر.

الخطيب يفصل
لكن هل كانت السلطات لتسكت؟ هذالمرة لم تكتف باستدعاء الخطيب، بل صدر أمر من جهات عليا بفصله من الخطابة، ومنعه من ارتقاء المنبر، وانتشر خبر فصل الخطيب في منتصف الأسبوع حيث كان هناك ما يكفي من الوقت لإعداد رد فعل مناسب من قبل روّاد المسجد، لقد اجتمع عدد من الاساتذة اجتماعاً عاجلاً، وقرروا التعبير عن عدم الرضا علناً في المسجد نفسه إذا حضر أي خطيب آخر.

مهرجان ولجنة
جاء يوم الجمعة التالية، وحلّ وقت الصلاة فلم يظهر الخطيب السابق، بل صعد إلى المنبر شيخ آخر، وأقيمت الصلاة وعندما سلم الإمام، قام أحد الأساتذة وتساءل عن خطيب الجمعة ما الذي أصابه، وعندها قام الخطيب الراتب وكان من بين المصلين، وأخبر المصلين جميعاً أنه مفصول، ثم جلس فقام بعده سلسلة من المتكلمين يعبرون عن انزعاجهم من هذا التصرف واعتراضهم على معاملة أساتذة الجامعات كالحيوانات، بل إن أحد المتكلمين قرأ خطاب وزارة الأوقاف علناً، وعلق عليه بسخرية ونقد شديدين، وتحولت تلك الكلمات إلى ما يشبه المهرجان حيث تتابع على المايكروفون ما يقارب العشرة من الأساتذة، الذين طالبوا بضرورة تكوين وفد من المصلين يقابل المسؤولين ويعبر عن رفضه لتلك التصرفات، وبادر أحد المتكلمين، وطلب من المصلين تكوين لجنة لدراسة القضية ومناقشتها مع الجهات المختصة، وفعلاً تم ذلك في نفس الجلسة حيث انتخب من بين المصلين اثني عشر أستاذاً من أساتذة الجامعة، وأصبحوا أعضاء في لجنة المطالبة بعودة الخطيب، وكان الحماس لدى الجميع بادياً إذ باشرت اللجنة عملها فوراً، واجتمعت في نفس المسجد بعد ذلك المهرجان، وانتخبت مقرراً وأع


زلزال آل سعود

مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.

حظي تاريخ "المملكة العربية السعودية" الحديث باهتمام عدد من الكتاب والباحثين والمؤسسات الثقافية والأكاديمية، لكن جلّ هذا الاهتمام كان منصبا على الجوانب السياسية أو الاقتصادية العامة وكان متأثرا بهيمنة الحكم السعودي الذي يلزم برؤية واحدة.

ولذلك فإن المكتبة تفتقر إلى تدوين لتاريخ تطور الحركة الإسلامية في المملكة العربية السعودية ودخولها غمار السياسة ومن ثم مواجهتها للحكم السعودي.

نشاط "المعارضة" في لندن ليس بداية لما يعتبر الإسلام السياسي في المملكة، بل إنه في الحقيقة ثمرة عمل طويل لم يظهر للعيان إلا قليل منه، والمسيرة التي سبقت ذلك كانت مسيرة مضنية مليئة بالعمل خلف الكواليس والإجراءات المعقدة والطويلة والمفاوضات والاتصالات والتحديات والمجازفات، ونرى أن من حق الأمة وحق الدعاة العاملين على وجه الخصوص الاطلاع على أهم تفاصيل هذه المسيرة، والتعرف على خطواتها المتميزة.

في هذا الكتاب نفتح بعض ملفات هذا التاريخ الهام ونبسط تفاصيل بعض الحوادث من خلال مشاهدة ومعايشة شخصية، ونقدمها مع وصف ما أحاط بها من ظروف وتطورات.

ورغم أن هذه المذكرات رواية شخصية فإن حوادثها عامة وذات أثر شامل والجانب الشخصي محدود فيها. ومع ذلك فهي لا تمثل إلا بداية تدوين لتاريخ تلك الفترة، ولا يمكن استكمال هذا التدوين إلا بعد أن يزاح كابوس القمع والإرهاب الذي يمنع كثيرا ممن يمكن أن يساهموا في هذا التدوين من إضافة ما لديهم.

جاء ترتيب هذه المذكرات في هذا الكتيب زمنيا حسب تتابع الحوادث، وتركز الحديث فيها على الفترة التي أهملها المؤرخون وهي منذ قبيل أزمة الخليج سنة 1990م، إلى أن خرجت "المعارضة" إلى لندن سنة 1994م، ومن أجل إعانة القارئ على فهم الحوادث وتركيبة المجتمع فقد جاء في الفصلين الأولين استعراض لواقع المملكة سياسيا واجتماعيا وتربويا منذ الدولة السعودية الأولى إلى أزمة الخليج.

ونحن إذ نعرض هذا التاريخ أو نسجل تلك المذكرات فإننا لانسردها تاريخا مجردا، بل نحاول بسطها في وعاء فكري نقدي يعين على فهم مبررات كل خطوة وعلاقتها بالمسيرة الشاملة، ونسعى كذلك من خلال نقد ذاتي إلى تقويم تلك المسيرة والخطوات التي مرت بها، و إذ نبادر بنقد ذاتنا إنما نقدم تجربة لما نرى أن تكون عليه الحركة في بسط منهجها وقبول الرأي الآخر والنظر في عيوبها قبل أن يراها الآخرون.

نسأل الله أن يكشف الغمة ويعين الآخرين ممن شاركوا في هذه المسيرة على المساهمة في تدوين هذه الحقبة الهامة من تاريخ بلاد الحرمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.







آل سعود والإسلام

والحركة الإصلاحية

في هذا الفصل سنضع مقدمة عن حقبة لم نعايشها كلنا، وربما أدركها بعض المخضرمين من أبناء "وآباء" الحركة، لأن تلك الحقبة لم تكن مرسومة من قبل أي فئة، بل كانت تتابع أحداث ومواقف ومجموعة من الأفعال وردود الأفعال، إلى أن انتهت بالعمل السياسي المؤصل للحركة الإسلامية إلى ما هو عليه في الوقت الحاضر.

تعارف معظم المؤرخين على اعتبار الدولة السعودية الحالية امتدادا للدولتين السعوديتين الأولى (1750 - 1820م) والثانية، والدولة المهمة هي الأولى التي قامت على تحالف بين محمد بن سعود وبين محمد بن عبدالوهاب، وفرضت نفسها مدة من الزمن إلى أن قضى المصريون عليها بتوجيه من الآستانة، وكانت تلك الدولة واسعة الأرجاء استحوذت على كل شبه جزيرة العرب، وامتدت في أعماق العراق والأردن، ودامت حوالي ستين سنة، أما الدولة الثانية فلم تكن دولة بالمعنى المتعارف عليه، بل كانت إمارة استطاعت بسط نفوذها على عدد من القرى في أواسط نجد، ولم تدم إلا سنين معدودة.

وحينما نشأ عبدالعزيز مؤسس الدولة الحالية في الكويت حدّث نفسه باستعادة ملك الآباء، وعزم فعلا على ذلك، وغزا الرياض بهذا الشعار، ففشلت حملته تلك فشلا ذريعا، وبعدها غيّر الشعار، ورفع شعار تجديد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وبعث السفراء يهيئون الأرضية لذلك فنجح نجاحا باهرا، ولذا فإن نشأة هذه الدولة مربوطة تاريخا وانتسابا على الأقل بالدولة الأولى، وحينما كوّن عبدالعزيز قاعدة له في الرياض كانت راية الدين عاملا قويا في ترجيح كفته على ابن رشيد وعلى الشريف حسين.

حركة الإخوان
وبلغت الدوافع الدينية أوجها حينما نشأت وترعرعت حركة “الإخوان” من البادية، وتكونت هذه الجماعة إثر تأسيس مجموعة مما يسمى بالهُجر، وهي قرىً صغيرة يأوي إليها البادية يتعلمون القرآن والدين و"الجهاد"، واختطلت جلافة البادية باندفاع الجهاد وطلب الجنة، فأصبحت تلك المجموعات فرقا ضاربة تجتاح الخصم بكل سهولة لما لديها من شجاعة وإقدام.

وما أن استقر لعبدالعزيز المقام حتى أصبحت تلك المجموعات منافسة له، فعبدالعزيز لا يريد أي مزيد من الجهاد، ويريد أن يثبت مفهوم الدولة القطرية، وهذه المجموعة تريد استمرار الجهاد، وترفض الاعتراف بالحدود، وتلا ذلك التشكيك بولاء الدولة للإسلام، وتفاقمت مشكلة الإخوان إلى أن تحولت إلى معارضة مسلحة، انتهت بمواجهة مع جيش عبدالعزيز في معركة السبلة التي قضى فيها على الحركة، وألقى بقادتها في السجون إلى أن ماتوا وقيل قتلوا.

وقد تعرضت حركة الإخوان هذه لدراسات عدة عربية وغير عربية ولكن التاريخ غالبا يكتبه الطرف المنتصر وبالتالي لا ينال الطرف الآخر حظه من الإنصاف، وفي اعتقادنا فإن تلك الفترة تحتاج إلى إعادة كتابة ودراسة وتمحيص، ونحسب أن كل الدراسات التي أجريت، إما أن تكون موجهة من قبل جهات معنية أو أن تكون متأثرة بسياسات معينة. وتعتبر أكثر الدراسات عدلا في هذا الجانب “كتاب السعوديون والحل الإسلامي”، الطبعة الأولى للاستاذ محمد جلال كشك، وهناك رسائل ماجستير ودكتوراه لبعض الباحثين نشر فيها من الحقائق ما ليس في غيرها، ونعتقد أن من الضروري التعجيل باستنطاق من بقي على قيد الحياة من الإخوان لتدوين تاريخهم.

أما من ناحية التقويم التاريخي، فإنه لم يكن التمكين من نصيب تلك الحركة بالضرورة -رغم سلامة نياتها- لماذا؟ لأن الحركة تحمل عدة مشاكل جوهرية، الأولى: أنها حركة قامت على الرفض أكثر من قيامها على البناء، بمعنى أنها رفضت كل جديد، ورفضت الواقع، ولم تقدم بديلا واضحا لما رفضته، وثانيا: عاشت الحركة عزلة حقيقية عن غالبية المجتمع الحضري بسبب تشكيلتها البدوية، وعاشت عزلة عن العلماء كذلك، واكتفت بأنصاف طلبة العلم ممن كانوا فيها، وثالث مشاكل الحركة: أنها لم تمض بقيادة واضحة ولا برأي واحد ولا موقف محدد من القضايا المصيرية، وأهمها الموقف من السلطان، واضطربت الحركة فكريا بين مفهوم طاعة ولي الأمر أو “الإمام” كما كانوا يسمونه وبين رفض مواقفه السياسية، ولم يتضح لدى قادتها كيف يجب أن يكون الموقف، فانهارت معنويات الأفراد، وتلاشى الحماس الذي كان يدفعهم لمقاتلة أعداء عبدالعزيز بصفتهم مشركين أو على الأقل يستحقون القتال، وساد بينهم جدل شديد حول شرعية قتال جيش عبدالعزيز.

ونظرا للعجز الحضاري في تلك الحركة لم تترك أثرا اجتماعيا يذكر، وتلاشت آثارها، ولكنها أثرت بشكل غير مباشر حين قوّت مركز العلماء، حيث لم يستطع عبدالعزيز توجيه ضربة قاصمة لهم إلا بالاتكاء على العلماء، وهكذا قوّوا مركز العلماء بشكل غير مباشر، وأحس عبدالعزيز أنه لن يستطيع الاستغناء عن دعم العلماء في تثبيت أركان دولته.

الدولة القطرية
لقد كان الإخوان أكبر تحد يواجهه عبدالعزيز منذ أن أنشأ الدولة، ولا شك أنه تجاوزه بنجاح، ورغم أن ذلك النجاح أتى بالاستعانة بالعلماء كما ذكرنا، إلا أن حسم المعركة لصالح عبدالعزيز بهذه النهاية المحزنة أعطى لعبدالعزيز فرصة ترسيخ مفهوم الاستبداد، ومكنه من تأكيد مفهوم القطرية، ولذلك فقد تغيرت تصرفات عبدالعزيز وثقته بنفسه وقوة سطوته بعد انتصاره في هذه المعركة، ورغم الاحترام الذي استمر يلقاه العلماء بعد ذلك فقد ضعف اهتمامهم بقضايا السياسة، وساد منذئذ مفهوم “ولي الأمر أعرف بالمصلحة” وهي في اعتقادنا أسلوب مطور لمفهوم “ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، ولذلك لم يكلف العلماء أنفسهم - في تلك الفترة - النظر في تعاملات عبدالعزيز الدولية والأنظمة والقوانين التي سنها بطريقة تخالف الشريعة فضلا عن ترسيخ النظام الملكي الوراثي وولاية العهد.

ما بعد الاخوان
بعد حركة الأخوان التي انقرضت تقريبا لم يكن هناك أي شكل من أشكال العمل السياسي، فيما عدا محاولات فردية لانتقاد الحاكم كان أبرزها بعض مواقف الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالرحمن السعدي والشيخ بن عتيق، وكان معظمها يدور حول العلاقة بالكفار وبعض القضايا الداخلية، مثل سوء توزيع الأموال وإلخ..، وكان الملك عبدالعزيز ذكيا في التعامل مع هذه القضايا وكان لديه قدرة فائقة على امتصاص غضب العلماء دون أن يدخل معهم في صراع مكشوف، أو أن يضطر إلى سجنهم وعقابهم.

وكانت بعض تلك القصص والحوادث جميلة وطريفة في معناها وتدل في تفاصيلها على مدى عمق أثر الدين في المجتمع وقوته كعامل في بناء الدولة وسجل التاريخ حادثتين تضامنت فيهما الجماهير مع العلماء ضد عبد العزيز، الأولى للشيخ سعد بن عتيق مع أهل الرياض، والثانية للشيخ بن باز مع أهالي الخرج..، والمقام لايسع لذكر تفاصيل تلك الحوادث.

حركة جهيمان
استمر الحال دون تغيير طوال عهد الملك عبدالعزيز والملك سعود والملك فيصل وردحا من حياة الملك خالد، ورغم أن هذه الفترة كانت حافلة بالتغيرات السياسية الكبيرة ونشأة التيارات العلمانية من قومية وناصرية ويسارية، إلا أن النشاط الإسلامي السياسي في المملكة أثناءها كان غائبا، وفيما عدا التيار الديني الرسمي لم تقدم أي طروحات إسلامية سياسية، ولربما كان جمود أو هدوء التيار السياسي في تلك الفترة يُعزى إلى اسباب منها، عدم دخول الدولة في صراع مكشوف مع التيار الإسلامي و شعور كثير من الإسلاميين بأن من الأولى عدم تبني معارضة الدولة بسبب قيام الدولة حسب تصورهم بدور جيد في مقاومة التيارات العلمانية، ولاعتقادهم أن من مصلحة العمل للإسلام في تلك الفترة مهادنتها.

وأيا كان الأمر فلم تكن الحركة الإسلامية تشكل معارضة بالمفهوم السياسي حتى عام1980 م، حين وقعت الحادثة المشهورة، حادثة دخول الحرم والاعتصام فيه بقيادة جهيمان، وما ترتب عليها من مواجهة عسكرية مع القوات النظامية السعودية.

ورغم أن بواعث نشوء هذه الحركة كان مختلفا قليلا عن حركة الأخوان، إلا أنها تشابهت معها في طابعها العام، كحركة رفض أكثر من كونها حركة بناء، وفيما اتسمت به من غلو، لذلك كان حظها في النجاح محدودا جدا، بل إن القضاء عليها لم يستغرق أسابيع، ولم تحظ بتعاطف يذكر من قبل المسلمين سواء محليا أو على نطاق العالم الإسلامي، لأن دخول الحرم ورفع السلاح فيه أمر يستنكره عامة الناس مهما كانت دوافعه، ولكن من المهم الإشارة هنا إلى أن من بواعث نشأة هذه الحركة تبني الدولة عموما لمشروع إفساد الشعب من خلال الإعلام والتعليم والسماح بانتشار التحلل والتغريب في المجتمع، فقد أثار انتشار الفساد سخط هذه المجموعة، التي تبنت أسلوب المواجهة المباشرة مع الدولة لدرجة الاقتتال وسفك الدماء، ولكن كسابقتها حركة الإخوان كانت حركة جهيمان منقطعة، ما أن نشأت حتى اندثرت، إلا أنها أثرت كثيرا في النظام الذي شعر بحساسية المجتمع تجاه عملية التغريب، وما رافقها من قضايا الفساد الاجتماعي، وأيقن النظام بضرورة إبطاء هذه العملية على الرغم مما توفر لدى أركانه من نوايا لحقن كم هائل من البرامج عبر أجهزة الإعلام والتعليم، فجاءت حركة جهيمان لتشعر النظام بالرفض لمشروع الإقساد.

ولئن كانت هذه النتيجة ثمرة لحركة جهيمان العتيبي، فإنها سياسيا لم تترك أثرا ذا بال في ضمير المجتمع السعودي بعد ذلك.

حادثتان هامتان
قبل أزمة الخليج لم تشهد البلاد على المستوى السياسي تطورا مهما، فيما عدا حدثين لم يكونا في ذاتهما سياسيين، ولكن كانت لهما ظلال سياسية.

سعيد الغامدي والحداثة
أما أولهما فكان في بادئ الأمر حدثا بسيطا، لكن سرعان ما تحو ل إلى قضية وطنية كبيرة، بدأ ذلك بتبني أحد طلبة العلم الشاب سعيد الغامدي - وهو من منطقة أبها - دراسة حركة “الحداثة” في المملكة على مستوى الأدباء، ويقصد بالحداثة هنا ذلك التيار الجديد الذي يستهدف حرب النشاط الفكري لدى المثقفين من الإسلام بحجة التحديث، ولم يكن ذلك في حقيقته تحديثا، بل حقنا للعلمانية في أذهان المثقفين، وقد نجحت المجموعة المتزعمة لهذا التيار -وفيها الشعراء والكتاب والناقدين- في السيطرة شبه التامة على جميع الصفحات الأدبية في المجلات والجرائد في المملكة، واستطاع الدكتور سعيد الغامدي أن يتتبع نشاط هذه المجموعة وأن يوثق استنتاجاته في مادة مسجلة على شريطين، ما لبثت نسخ الشريطين أن انتشرت بسرعة فاقت التصور في جميع أنحاء المملكة، وغدا موضوعها قضية الشارع، فانهالت التقارير على وزارة الداخلية مفيدة بأن ملايين النسخ قد وزعت في كافة أنحاء المملكة، بل إن جامعة الملك سعود وحدها وز ع فيها ما لا يقل عن 60 ألف نسخة، وكان كثير من الناس يتبرعون بدفع تكاليف الاستنساخ والتوزيع في تظاهرة فريدة من نوعها لمقاومة العلمنة.

أثبتت هذه التجربة للنظام وللعلمانيين بأن مستوى الوعي لدى عامة الناس كان أعلى بكثير مما كانوا يتصورون، وبأن الغيرة المغروزة في أذهان الشعب على الإسلام قوية جدا، فلولا هذه الغيرة وذلك الحماس للدفاع عن الإسلام لما تبنى الشعب بنفسه توزيع هذا الشريط لمحاصرة الحداثيين فكريا، كانت هذه الحادثة دليلا قويا على مدى تعاطف عامة الناس مع الإسلام، ليس الإسلام بوصفه عادة أو شعيرة فحسب بل الإسلام بوصفه عقيدة ومنهجا لأن القضية المطروحة في ذلك الشريط لم تكن حول قدسية الحرم أو شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، أو أي من القضايا التي لا يختلف المسلمون في التعاطف معها، بل كانت قضايا فكرية متخصصة تحتاج إلى درجة عالية من النضج والتميز في النظر إلى القضايا الإسلامية.

عايض القرني والأمير
وأما الحادثة الثانية فكانت محاولة الأمير خالد الفيصل الإساءة إلى سمعة الشيخ عايض القرني بتدبير مؤامرة لاتهامه باللواط، وذلك من خلال إغراء طفل في المنطقة بادعاء ذلك لتوريط الشيخ، سجن الشيخ ثم ما لبث أن برأ من قبل المحكمة، فانهالت الاتصالات والاحتجاجات من قبل الناس، وتوجه الآلاف منهم إلى أبها للتعبير عن تأييدهم للشيخ وتنديدهم بما حيك ضده، وغصت الشوارع المحيطة بمنزل الشيخ بالزائرين من جميع أنحاء المملكة، حتى أن الذين كانوا يحجزون للسفر إلى أبها في تلك الأيام كان يعجزهم الحصول على حجز قبل أسبوع من تاريخ السفر. بعد ذلك غادر عايض القرني أبها متوجها إلى الرياض وجدة والقصيم وغيرها في جولة كان يلقي خلالها المحاضرات والدروس فيتوافد الناس من كل حدب وصوب عليه من باب التأييد له والاهتمام به، وكانت أبرز هذه المحاضرات تلك التي ألقاها في جامع الملك خالد في منطقة أم الحمام في الرياض حيث قدر الحضور بعشرين ألف شخص.

كلا هاتين الحادثتين وقعتا قبل أزمة الخليج، وبينما كانت الأولى دليلا على الوعي العام والمقاومة الشعبية لما كان يسعى العلمانيون لتحقيقه من نزع الصبغة الإسلامية عن المجتمع، كانت الثانية دليلا على تعاطف الناس مع أهل العلم وزعماء التيار الإسلامي.

استمر الحال على ذلك إلى أن تفجرت أزمة الخليج، التي أحدثت انقلابا كبيرا في وضع العمل الإسلامي في المملكة الذي عبر منذ الأزمة بثلاث مراحل: الأولى بدأت بغزو العراق للكويت إلى أن أخرج منها تماما، الثانية بدأت بخطاب العلماء حتى إعلان إنشاء لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية، الثالثة بدأت منذ الإعلان عن لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية إلى هذا الوقت .













التغيرات الاجتماعية والتربوية والثقافية والانفجار السياسي
التطورات والأحداث السياسية ليست في الحقيقة إلا تجليات نهائية للواقع الاجتماعي والحضاري للمجتمعات، وفي الدول المتحضرة تظهر تلك التجليات بشكل منتظم وسهل، لأن القيادات السياسية في تلك البلاد تمثل المجتمع نفسه من خلال مؤسسات تعكس مباشرة واقع القواعد البشرية في تلك المجتمعات، أما في البلاد التي فقدت تلك المؤسسات وعاشت فصاما بين قيادتها السياسية وقواعدها البشرية، فإن حوادثها السياسية في كثير من الأحيان تبدو تصرفات فردية للحكام، ولا تظهر انعكاسا لتغير اجتماعي حقيقي إلا بعد تراكمات كبيرة أو بعد صدمات حضارية تربك التوازن القسري المفروض الذي منع ذلك الانعكاس فيظهر بعدها دفعة واحدة.

انفصام
وقد حصل ذلك في جزيرة العرب خلال أزمة الخليج تماما، فقد كان مسار القيادة السياسية منفصلا بشكل كبير عن خط التطور الاجتماعي والمسيرة الثقافية لسكان الجزيرة، ولقد تراكمت قبل أزمة الخليج تغيرات كثيرة كانت مستورة بالغطاء السياسي المنفصم عنها، وكانت تلك التغيرات تنتظر الصدمة التي تزيح ذلك الغطاء وتجلي تلك التراكمات المهمة، فجاءت الصدمة متمثلة في أزمة الخليج، فانكشف اللثام وطفت التغيرات على السطح، واكتشف الذين حسبوا حساباتهم على أساس الواقع السياسي قبل الأزمة أن تلك الحسابات خاطئة، وأنه لابد من إعادة دراسة الواقع الاجتماعي هناك، غير أن بعض المتابعين للتغيير الاجتماعي نفسه توقعوا شيئا من هذه التغيرات، ولم تفاجئهم تداعيات أزمة الخليج، لأن تناولهم للقضية جاء من العمق ولم يأت من السطح، ولعل هذا هو الذي يفسر الانفجار السياسي لنشاط الحركة الإسلامية في المملكة واستلامها لزمام المبادرة بعد أزمة الخليج الثانية.

نحاول الآن وصف التغيرات الاجتماعية والتربوية والثقافية التي هيأت لذلك الانفجار السياسي، وأثبتت أن الإسلاميين هم أصحاب لقضية الإصلاح وأصحاب مشروع التغيير، وأن لديهم نفسا طويلا في الصراع الفكري والمنازلة الحضارية، وسنتناول نفس الفترة التي تم تناولها في العدد الماضي سابقا، أي بين نشأة المملكة وأزمة الخليج الثانية، ولكن من وجه آخر وزاوية أخرى، والمبحثان ضروريان باعتبارهما مقدمة للحديث عن تداعيات أزمة الخليج والتطورات السياسية الداخلية التي تبعتها.

عزلة عن العالم
حينما نشأت المملكة في مطلع القرن العشرين كانت تركيبة المجتمع بسيطة جدا، بل بدائية بالتعريف المدني الحديث. ولقد كان غالب الجزيرة العربية معزولا عن العالم، فيما عدا مكة والمدينة اللتان اتصلتا بالعالم من خلال الحج، ورغم أن لهذه العزلة سببا كونيا قدريا هو الموقع الجغرافي والطبيعة القاسية لجزيرة العرب، إلا أن أسبابا أخرى ظرفية ساهمت في تلك العزلة، من أهمها أن غالب جزيرة العرب لم يتعرض للغزو الغربي الذي تعرضت له بلاد المسلمين، وبذلك لم يحصل احتكاك يذكر مع الحضارة الغربية التي دقت أبواب العالم الإسلامي منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، ومما ينبغي الاعتراف به أن الحضارة الغربية في ذلك الأثناء “وحتى الآن” كانت هي السائدة في العالم بل كانت هي العالم بنفسه، والعزلة عنها كانت عزلة عن العالم كله، ومما لا شك فيه أن سلامة جزيرة العرب من الغزو الغربي كانت له آثاره الفكرية والأخلاقية الحميدة في عدم تلوث أفكار وأخلاق سكان الجزيرة بالغرب، لكن غياب ذلك الاحتكاك ترتب عليه قضايا أخرى يغفل عنها كثير من المحللين، ولا يضعونها في الاعتبار حين يعدون مجتمع الجزيرة نسخة من المجتمعات العربية، ويعتبرون الدورة الحضارية متشابهة في تلك المجتمعات.

من القضايا التي ترتبت على غياب الاحتكاك عدم تنامي الحس العدائي للمستعمر الغربي والإحساس بضرورة إخراجه من بلاد المسلمين التي احتلها بسبب انعدام المعاناة المباشرة من ذلك، ولقد كان لهذا الشعور دور كبير في بعث الحركات الجهادية في أنحاء العالم الإسلامي لإخراج الغزاة من بلاد المسلمين، ومن ثم ما صاحب ذلك من تجارب عسكرية وسياسية وحركية مضت كمرحلة مهمة في تاريخ تلك المجتمعات، واختفت من تاريخ الجزيرة الحديث، وهذا لا ينفي بالطبع الموقف النظري لأبناء الجزيرة من الكفار الذي لم ينفعل كثيرا بواقع عملي.

و ترتب على سلامة الجزيرة من الاستعمار غياب التأثر بالجوانب التنظيمية والإدارية، والمفاهيم الدستورية واللغة السياسية، وغيرها من المفاهيم والتطبيقات التي استصحبها وجود المستعمرين، والتي كان في بعضها جوانب إيجابية ثبت نفعها على المستوى التنظيمي والإداري والثقافي العام، ونتج عن ذلك مجتمع لا يعرف ألف باء السياسة الحديثة، ويعتبر المفردات السياسية طلاسم ورموز غير مفهومة، وهذا بالتأكيد ليس ثناءا على الاستعمار لكنه وصف لبعض الحقائق باعتبار الواقع المجرد.

لم تكن الجزيرة معزولة عن الاستعمار والعالم الغربي فحسب، بل كانت معزولة حتى عن العالم الإسلامي، ولم يعايش سكان الجزيرة بسبب تلك العزلة المستجدات في واقع المجتمعات الإسلامية ونشوء حركات التجديد والإصلاح التي انتشرت في العالم الإسلامي.

في مقابل تلك العزلة لم توجد مصادر اكتفاء ذاتي للثقافة والتحضر من داخل المجتمع، بل كان المجتمع يعاني من الجهل والتخلف، سواء بالمعنى الثقافي العام، أو بالمعنى الشرعي الخاص، فبعض طلبة العلم والمشايخ كانوا يدرسون بنسق معين وحدود معينة تضيق كثيرا عن مفهوم شمولية الإسلام وعالميته وسعة الشريعة وقدرتها على استيعاب كل المستجدات العلمية المدنية الحديثة، وقد سعى الملك عبدالعزيز لترسيخ هذا الواقع من خلال تبطئة مسيرة التعليم، حيث كان يعتقد أن الاستعجال في توسيع دائرة التعليم يذكي روح المعارضة السياسية، ويشجع على الرغبة في الثورة والتمرد على الاستبداد، ويقال إن الملك عبدالعزيز جعل ذلك جزءا من وصيته لأولاده، ومن المفارقة أن ابنه سلطان يتندر على إخوانه بتلك الوصية، ويتهمهم بأنهم السبب في بروز المعارضة الإسلامية حين خالفوا وصية والدهم بتوسيع الجامعات والمدارس والمعاهد والمؤسسات التعليمية.

الملك عبد العزيز والمفاهيم غير الشرعية
استطاع الملك عبدالعزيز من جهة أخرى استثمار إنجازه في توحيد أجزاء كبيرة تحت ملكه، وإنجازه في ضبط الأمن، في إقناع الشعب أن تلك الإنجازات هي غاية المرام عرفا وشرعا من إنشاء الدولة، ونجح في إقناع الشعب اعتمادا على نفس المنطق، بأن نقد الحاكم سوف يؤدي إلى خسارة تلك الإنجازات، ونظرا لأن الشعب كان مهيئا حينذاك لقبول هذه المقولات بسبب ما عاناه من الفوضى والنهب والسلب وانعدام الأمن فقد تحولت شعارات الملك عبدالعزيز هذه إلى عقائد، وترسخت في أذهان الناس ولاتزال بقاياها إلى الآن، وقد تمكن الملك عبدالعزيز بعد أن حقن تلك الدعوى في عقول وقلوب الناس من فرض بعض المفاهيم غير الشرعية على التيار المشيخي والشرعي، ومن ثم على من يتبعهم من العامة.

نعم للقطرية
أول هذه المفاهيم هو أن المملكة ليست مسئولة إلا عما يقع داخل حدودها، وليس على عاتقها أي تبعة شرعية تجاه المسلمين في أنحاء العالم، وكانت تطبيقات الملك عبدالعزيز لهذا المفهوم في العلاقات والمواقف صارمة، إذ لم يكتف بالتطبيق، بل نص على ذلك صراحة في مؤتمر عالمي عقد في مكة في العشرينات الميلادية، وقد نشأ تبعا لذلك جيل كامل يؤمن بمفهوم القطرية في الإسلام، ويقبل بفكرة التابعية لآل سعود، وكاد مفهوم الإسلام للعالمية أن يندثر حتى في أذهان طلبة العلم والعلماء، ويحكي كثير ممن حضروا مجالس وحلقات بعض طلبة العلم عن طريقتهم التي تدل على اعتقاد القطرية ونبذ العالمية.

الشيوخ أبخص
أما المفهوم الثاني الذي استطاع الملك عبدالعزيز ترسيخه من خلال التباهي بإنجازاته فهو مفهوم “ولي الأمر أعرف بالمصلحة” أو بالعامية “الشيوخ أبخص”، وخطورة هذا المفهوم تربويا وفكريا تأتي من المرونة والمطاطية في تطبيقه واستعماله، حيث يتسع هذا المصطلح ليشمل قضايا شرعية ثابتة بالكتاب والسنة بحجة أنها من المصالح المتروكة للإمام، وهو أعرف بالمصلحة وأعرف بتقديرها، والإشكال هنا أنه بما أن طاعة ولي الأمر واجبة، فإن اجتهاده في هذه - المصلحة - ملزم للأمة، وتجب عليهم فيه الطاعة، ومع مرور الزمن وتتابع الأجيال تحول هذا المفهوم إلى عرف اجتماعي، بل اتسع المعنى ليتحول إلى ما يشبه العصمة للإمام باعتبار اجتهاداته دائما ملزمة بل ومصيبة.

في تلك الأثناء التي كان مجتمع الجزيرة يتربى فيها على تلك المفاهيم الخاطئة، كان العالم الإسلامي يعج بالحركات الجهادية المناهضة للاستعمار، وبالجماعات والحركات الإسلامية التي تدعو إلى شمولية الإسلام وعالميته، لكن المملكة بقيت معزولة عن تلك التطورات ولم تجد المفاهيم التي فرضها عبدالعزيز مفاهيم منافسة، وذلك بسبب إقفال الباب أمام كل فكر وافد حتى لو كان حقا، ومن الحكايات الطريفة في هذا السياق أن الشيخ حسن البنا رحمه الله مؤسس حركة الإخوان المسلمين في مصر التقى الملك عبدالعزيز في إحدى المناسبات، وعرض عليه فتح شعبة للإخوان في المملكة، فأجابه الملك عبدالعزيز بأن لا مانع أن تكون المملكة كلها شعبة، ويكون هو “الملك عبدالعزيز” رئيسها، ثم قطع الملك عبدالعزيز الاقتراح تماما، فقال: “كلنا إخوان مسلمون ولا حاجة لشعب”، مما يدل على أن الملك عبدالعزيز حرص جديا على عزل المجتمع عن الأفكار التي لا توافق آرائه.

تطورات نوعية
لقد تسببت العزلة والانغلاق والرتابة في حياة المجتمع في عدم بروز أي مظهر يدل على تطور نوعي، وكان العمل الإسلامي التربوي الوحيد في تلك الفترة - التي امتدت بين العشرينات والخمسينات الميلادية - هو نشاط بعض العلماء وطلبة العلم بالأسلوب التقليدي، وبقي الحال كذلك طيلة فترة الملك عبدالعزيز. وبعد وفاة الملك عبدالعزيز واعتلاء الملك سعود ومن بعده فيصل للعرش حصلت عوامل جديدة أدت إلى تطورات هامة على المستوى التربوي والثقافي.

العامل الأول تمثل في تعرض المملكة للهجمة الناصرية القومية وللمد اليساري الاشتراكي من خلال الإعلام ومن خلال تبني كثير من الأعيان، بل من أبناء الأسرة لهذه التيارات، ولا شك أن الصراع الذي تولد بين الحكم القائم وتلك الهجمة ولد حسّا سياسيا عند الناس، هذا رغم أن تلك الهجمة قضي عليها تماما .

العامل الثاني هو قيام الملك فيصل بفرض عدد كبير من الأنظمة المستمدة من غير الشريعة في مؤسسات الدولة، رغم معارضة عدد كبير من العلماء، بحجة أن هذه أمور تنظيمية إدارية وليست تشريعية، ولقد سبب ذلك على امتداد الزمن استمراءا من قبل الناس عموما والعلماء خصوصا لفكرة القوانين الوضعية، وكانت هذه بلا شك وسيلة من وسائل علمنة النظام وتعويد المجتمع على هذه العلمنة، ولا بد من الاعتراف هنا بأن ذلك قد تحقق فعلا، وأن حساسية بعض العلماء تجاه التشريعات غير الإسلامية بسبب تلك الحيلة قد تلاشت.

العامل الثالث وهو الأهم كان مرتبطا بإيواء المملكة للإسلاميين الذين فروا من نظام عبدالناصر وغيره من أنظمة العرب، وسواء كان احتضانهم نكاية بعبد الناصر أو إيواء للمسلمين فهذا ليس مهما هنا، والمهم هو أن تلك المجموعات اختلطت واحتكت بالمجتمع في المملكة وتبادلت معه المعرفة والتجربة، وكانت أول نموذج لتبادل التجربة والخبرة في العمل الإسلامي داخل المملكة في العصر الحديث، ويعتقد معظم المفكرين الذين عايشوا تلك الفترة أن التلاقح الذي تم بين أفكار التوحيد وسلامة المنهج التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، وأفكار العمل الإسلامي الحركي الذي جلبه القادمون إلى الجزيرة، نتج عنه نموذج فريد من نماذج العمل الإسلامي الناضج الذي عبر عن نفسه سياسيا خلال وبعد أزمة الخليج.

لقد امتزجت بساطة المجتمع وفطرية الناس والتدين العام مع الفكر التجديدي لشمولية الإسلام وعالميته ومفهوم ضرورة التعاون بشكل منظم لتحقيق الأهداف المشروعة، ساعد على تحقيق ذلك التطور النسبي في المجتمع مدنيا، حيث انتشرت المدارس والجامعات، وظهرت المؤسسات شبه الاجتماعية، وأصبحت تلك المحافل مظلات مناسبة لنشر الفكرة الإسلامية، وإخراجها عن دائرة المسجد والحلقة الشرعية، إلى المدرسة والجامعة والشارع والمنزل، وأيضا إلى الدائرة الرسمية.

عصر النفط
بعد أن دخلت المملكة عصر النفط في الستينات والسبعينات الميلادية، وتسهلت المواصلات، وكثرت الحاجة للعقول واليد الفنية من جميع أنحاء العالم بما في ذلك البلاد الإسلامية أصبح الاتصال الحضاري بالعالم حتمية لا يمكن الفرار منها، وبذلك استطاعت كل التيارات إيصال فكرتها إلى مجتمع المملكة من خلال تلك الحركة البشرية، ولم يقتصر ذلك على التيارات الإسلامية بل تعداه إلى التيارات اليسارية والليبرالية والقومية، ورغم ذلك فقد بقي الطابع العام للمجتمع طابعا إسلاميا، وبقيت تركيبة المجتمع والعائلة سليمة ومتماسكة، ولم يظهر عليها ما أصاب المجتمعات الأخرى من تفكك وخلافات داخل العائلة الواحدة فضلا عن المجتمع، غير أن أيا من هذه التيارات لم يستطع تجاوز النقل النظري لأفكاره، ولم يتمكن أيا منها بالخروج للسطح بناءا اجتماعيا ظاهرا أو كيانا أو حزبا سياسيا معلنا رغم اتساع تلك التيارات أفقيا.

ومن خلال هذا الاتصال بالعالم انعكست معظم التجارب في العمل الإسلامي على المجتمع في المملكة، وبرز فيه كل الطيف الفكري الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، بدءا بجماعة التبليغ ومرورا بالإخوان المسلمين والسلفيين وانتهاء بجماعات التكفير، وقد حظي تيار الفكر الإخواني والفكر السلفي بحظ أكبر بكثير من سواهما في هذا التمثيل، غير أن هذه التيارات لم تتجاوز كونها امتدادا فكريا وثقافيا لتلك الحركات، ولم يوجد ما يدل على ارتباط حركي أو عضوي بتلك الجماعات في الخارج بسبب شعور بعض أهل الجزيرة بأسبقيتهم في الإسلام ورفضهم للانقياد إسلاميا من قبل آخرين.

من جهة أخرى لم تتجاوز هذه التيارات - فيما عدا جهيمان العتيبي - النشاط التربوي، هذا رغم شمولية الطرح وعالمية الهدف، غير أن الإنجاز التربوي ذاته لم يكن هينا، فقد استطاعت تلك التيارات صياغة أعداد هائلة من الإسلاميين الواعين من كل شرائح المجتمع، بدءا برجل الشارع والعامل والفني وطالب الثانوية وانتهاء بالأستاذ الجامعي والقاضي ورجل الأعمال.

العلماء الشباب
أما النشاط التقليدي للدعوة المتمثل في دروس وحلقات المساجد فلم يتوقف بل اتسع وانتعش، وكان بينه وبين النشاط الجديد مواءمة وانسجام، وقد أصبح عدد كبير من علماء الشباب الذين تأثروا بالفكر التجديدي من أصحاب الحلقات الكبيرة في المساجد، وتجاوز عدد طلابهم ومريديهم الآلاف، وبدأت هذه الحلقات بالانتعاش منذ بداية الثمانينات الميلادية، وتحولت إلى منتديات ضخمة في نهاية ذلك العقد، وأصبحت المشاركة فيها من علامات الوجاهة بعد أن كان الأمر على خلاف ذلك في الماضي.

وخلال هذه الفترة أي فترة الثمانينات برز علماء الشباب كوجوه جديدة للمرجعية، وضمت حلقاتهم أعدادا كبيرة من الطلاب والمريدين، وممن برز في هذه الفترة من خلال تلك الحلقات الكبيرة الشيخ سلمان العودة والشيخ سفر الحوالي والشيخ عايض القرني والشيخ ناصر العمر والشيخ عوض القرني وغيرهم من علماء الصحوة، وقد تميز نشاط هؤلاء بميزة هامة هي قدرة أولئك الرموز على الجمع بين الحديث عن المستجدات والتعليق على الأحداث بوعي ومتابعة وبين التمكن من المواضيع الشرعية الأصيلة مثل الفقه والعقيدة والتفسير، وكانت دروس الشيخ سلمان في شرح كتاب بلوغ المرام التي بلغت عدة مئات من الدروس من أهم الأنشطة الفقهية في تلك الفترة، كما كانت دروس الشيخ سفر الحوالي في شرح كتاب العقيدة الطحاوية من الدروس العميقة في علم العقيدة، وكان سلمان وسفر وناصر العمر وعايض القرني وغيرهم من المشايخ يستفتون من قبل العامة في شؤونهم الحياتية، وشكل ذلك بلا شك تطورا مهما كونه حوّل أولئك العلماء إلى مراجع فقهية مقبولة من قبل الشارع، ولقد تحولت هذه الأسماء إلى رموز إسلامية حتى خارج المملكة، حين شاركت في التعليق على أحداث هامة، فقد اشتهر الشيخ سلمان بتعليقه على كتاب الشيخ محمد الغزالي “السنة النبوية” بمجموعة أشرطة وكتاب بعنوان “حوار هادئ مع الشيخ الغزالي”، ولقيت دروس الشيخ سلمان تلك قبولا عريضا في المملكة والعالم الإسلامي، كما اشتهر الشيخ سفر الحوالي باهتمامه بقضية العلمانية وبحثه في جذورها الفكرية والتاريخية، وكانت المؤتمرات الإسلامية في أوروبا وأمريكا تتسابق على دعوة هؤلاء المشايخ للمشاركة في أنشطتها في تلك الفترة.

ومن الظواهر التي تميز بها نشاط هؤلاء الرموز محافظتهم على درجة عالية من الاحترام والعلاقة الجيدة مع التيار المشيخي التقليدي رغم الاختلاف معه في قضايا كثيرة، ولذلك لم يبرز أي نوع من الشرخ أو الفجوة بين العلماء في المملكة، وكانت تلك العلاقة الوثيقة سبب في منع بعض الضربات لشيوخ الشباب، وهذه الخصائص التي اختلفت عن تركيبة العمل الإسلامي خارج المملكة يغفل عنها بعض الباحثين، ولذلك يستغربون بعض نتائج الأحداث بسبب قياسهم على تجربة البلاد الأخرى.

المؤسسات الإسلامية
تطورت مؤسسات الدولة التي تحمل الشعار الإسلامي خلال نفس الفترة وكثرت وتنوعت، ففي حين اقتصرت في البداية على دار الفتيا، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد تأسست بعد ذلك رابطة العالم الإسلامي والندوة العالمية للشباب الإسلامي، وتطورت كذلك المؤسسات الإسلامية التعليمية، فامتدت المعاهد العلمية في جميع أنحاء المملكة، وأنشئت جامعتان إسلاميتان الأولى الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة والثانية جامعة الإمام محمد بن سعود، ثم أنشئت أيضا جامعة أم القرى في مكة، وانتشرت كذلك جماعات ومدارس تحفيظ القرآن، وساعد هذا التكوين الجديد أيا كان الهدف من إنشائه في إنعاش العمل التربوي الإسلامي، ولكن لم تكد الثمانينات أن تنصرم حتى قضي على الدور التربوي “المحدود” لهذه المؤسسات بعد حشرها بالموظفين المنفذين لبرامج الدولة.

انتعاش تربوي
ولقد أدت هذه العوامل مجتمعة في نهاية الثمانينات إلى انتعاش الحركة الإسلامية تربويا رغم انحسارها السياسي، ونظرا لغياب الطرح السياسي لم تشعر الدولة بخطر مباشر يهدد الكيان، واعتبرت انتشار ظاهرة التدين انعكاسا طبيعيا لواقع الصحوة في العالم الإسلامي. ولم تتصرف الدولة قبل أزمة الخليج بما يدل على أي محاولة لاستئصال أي عمل إسلامي سوى ما حصل تجاه جماعة جهيمان وبعض ذيول القضية المتصلة بها، ولم تقف موقفا حادا تجاه أي من العلماء والمشايخ سوى أشخاص قليلين لم يكونوا بذلك الثقل الذي يمثله المشايخ المعتقلون الآن.

بين الوضع الاجتماعي والسياسي
وقد أدى ذلك الوضع إلى صياغة تركيبة غير متناسقة، فالتيار الإسلامي قوي ومتنام تربويا، والدولة تتخلى أكثر فأكثر عن رسالتها الإسلامية، وفي نفس الوقت تأخذ من هذا النشاط موقف المراقب الحذر ولا تواجهه.

لقد أوجد هذا الواقع شعورا عند معظم الإسلاميين بضرورة تجنب المواجهة، بل وتجنب أي نقد مباشر وصريح للنظام خوفا على ما كان يعتقد أنه مكتسبات تربوية كبيرة يمكن أن تنهار.

أضف إلى ذلك أن هيبة الدولة قبل أزمة الخليج كانت قوية، ولم يكن أحد يفكر بإمكانية ضعف النظام أو انهياره أو انكشافه، ثم إن الدولة كانت ناجحة تماما في إقناع الناس وطلبة العلم أنها نظام شرعي، وناجحة كذلك في فرض بعض المفاهيم التي تحاصر كل من يفكر بالإصلاح من خلال أساليب معينة أحدثت درجة عالية من الإرهاب الفكري الذي منع تلك المبادرات قبل الأزمة.

الفكر الإسلامي يسيطر .. ولكن..

ونستطيع القول أن الفكر الإسلامي سيطر بأطيافه المختلفة على الشرائح المهمة في المجتمع، وتحول إلى واقع ملموس متمثل في ظواهر إسلامية كثيرة في البيت والشارع والمدرسة وغيرها من المرافق الاجتماعية، ورغم أن ذلك لم ينجح في فرض أي تغيير سياسي ملموس إلا أنه فرض تغييرا اجتماعيا تمثل في رفع مستوى الذوق الإسلامي عند الناس، واستعادة هيبة الدين واحترام الرموز الدينية، والأهم من ذلك أن التيار الإسلامي أزاح عن الساحة الاجتماعية كل آثار التيار القومي والليبرالي واليساري، واعترف رموز تلك التيارات بهزيمتهم المنكرة على المستوى الاجتماعي على يد الإسلاميين، ويذكر أحد الذين كانوا في موقع رفيع في إحدى تلك التيارات أنهم قرروا منذ نهاية السبعينات وبداية الثمانينات الاستغناء عن البعد الاجتماعي في برنامجهم، والاعتماد كليا على اختراق النظام الحاكم والتأثير من خلال الإعلام.

ومما ينبغي الاعتراف به أن تلك التيارات حققت ذلك الهدف، واستطاعت من خلال عملية انبطاح جماعية اختراق النظام الحاكم وتحديدا الأسرة الحاكمة، ساعدهم في ذلك عوامل منها استعداد الأسرة وخاصة بعد حكم الملك فهد لتبني تلك التيارات في المناصب الحساسة، والثاني تخوف الإسلاميين من خوض غمار السياسة ودخول معترك المناصب، والثالث عدم استعداد آل سعود للسماح للشخصيات النزيهة الشريفة والمتدينة من الوصول إلى أي منصب حساس، بسبب تخوفهم من مشاركة هؤلاء بشكل مباشر أو غير مباشر في القرار السياسي أو مجرد إطلاعهم على مجريات السياسية.

لقد تولد عن تلك التركيبة المتمثلة في الاكتساح الإسلامي على مستوي المجتمع، والغياب الإسلامي على مستوى الإعلام والمناصب الحساسة، ذلك الانفصام الذي أشير إليه في بداية البحث بين القيادة السياسية والقاعدة البشرية، ويبدو أن الرفض الاجتماعي كان متشبعا إلى درجة الاحتقان ينتظر الفرصة التي يعبر فيها عن نفسه، وكانت أزمة الخليج هي الصدمة الحضارية والحدث التاريخي الذي دفع الواقع الاجتماعي لأن يتجلى سياسيا وبشكل صارخ فكان ما كان.





















مراحل تطور الصحوة

خلال أزمة وحرب الخليج الثانية

مع بداية أزمة الخليج الثانية بدخول الجيش العراقي للكويت، دخلت الصحوة في الجزيرة طورا جديدا، كانت سمته الأساسية وجود عدد كبير من المبادرات الفردية والجماعية الهامة، والتي تركت أثرا اجتماعيا وسياسيا كبيرا، واستمرت هذه المرحلة إلى ما بعد انتهاء المعركة البرية، حيث بدأ طور المبادرات المنهجية والتي كان في مقدمتها خطاب العلماء ومذكرة النصيحة، بعد ذلك جاءت بداية العمل المؤسسي والذي تجسد في إعلان تأسيس لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية، أعقبه الانتقال إلى طور "المعارضة" وذلك بعد خروج اللجنة إلى لندن، ثم أخيرا طور المواجهة الأمنية في الداخل بعد اعتقال كبار طلبة العلم وفي مقدمتهم الشيخين سلمان العودة وسفر الحوالي، ونتحدث في هذا البحث عن الفترة الواقعة فيما بين اجتياح الكويت وانتهاء المعركة البرية.

كنا قد ذكرنا سابقا كيف مهد التغيير الاجتماعي الذي حصل في السبعينات والثمانينات الميلادية للعمل السياسي الذي فجرته أزمة الخليج، ذلك العمل لم يفجره فقط دخول العراق للكويت، بل ما تبع ذلك من نتائج وتفاعلات حركت ضمير الأمة وأفرزت سلسلة التطورات التي نقف حاليا على قمتها، والتي كان من أهمها عجز النظام السعودي وانكشافه إعلاميا وسياسيا وعسكريا، ومن ثم إقدامه على الخطوة الخطيرة التي ظن ولايزال يظن أنها هي التي أنقذته من الخطر الماحق ألا وهي الاستعانة بالقوات الأمريكية على أرض الجزيرة العربية، وسواء كان الملك فهد هو الذي استدعى الأمريكان أو أن الأمريكان دخلوا محتلين وطلبوا منه مباركة وجودهم فالحصيلة واحدة.

لقد كان صمت النظام وعجزه عن مجرد نقل الحدث في وسائل الإعلام لعدة أيام دليلا صارخا على هشاشته وورقيته وارتباكه الشديد، فمن الممكن تصور قوة تأثير الصدمة، ومن الممكن أيضا تصور حدوث أخطاء في ردود الأفعال والمواقف المستعجلة، لكن الذي لا يمكن تصوره هو أن تتكلم وسائل إعلام العالم كلها عن الحدث الذي وقع في أطراف البلد، ثم لا تسمع عنه في وسائل الإعلام المحلية شيئا على الإطلاق.

الأهم من ذلك والأمر الذي صدم كثيرا من العقلاء والمفكرين هو قفزة الذعر التي قام بها النظام باتجاه الأمريكان، من دون أن يتخذ أي إجراء داخل البلد في حشد الجيش أو التعبئة العامة أو حتى الاستعانة بالعرب والمسلمين ، حيث تم تجاوز كل ذلك والارتماء في أحضان الأمريكان الذين ترك لهم كافة تفاصيل والإدارة والتحكم بكل الأزمة. أدت هذه القفزة الوقحة باتجاه الأمريكان إلى أن يتأكد الشعب من أمرين:

الأول: أن كل ما كان يتشدق به النظام من عقود السلاح وقوة الجيش والأواكس وطائرات (ف 15) وغيرها كلها سراب وضحك على الذقون، وأن كل تلك الأموال كان مصيرها جيوب المتنفذين والمرتشين.

الثاني: أن حكام البلاد ليسوا حكامها الفعليين، إذ ليس لديهم أي غيرة على بلادهم وحكمهم، وأنهم مستعجلون في الاتكاء على الأمريكان الحكام الفعليين للمملكة لحماية العرش السعودي، وقد تحدث الشارع عن كثير من مظاهر الهلع بين علية القوم، وكيف أن الأسرة الحاكمة لم يكن عندها أدنى تردد في التخلي عن البلد، “إذا وقع الفأس في الرأس”، حيث أعد ت ما يقارب أربعين طائرة مدنية لهروب أعضاء الأسرة المهمين فورا إلى الغرب فيما لو دخل الجيش العراقي للمملكة.

وقعت هذه الأحداث على الناس كالصواعق المتتالية، وهم ما بين مذهول لما يجري وبين غاضب على التلاعب بمصيرهم من قبل قلة غير أمينة، كان جلّ همها تأمين هروبها وتأمين حماية أبنائها.

على جانب آخر كان للصفوة من المفكرين والقيادات العلمية والشعبية شأن مختلف، ورغم أن مجموعة من هؤلاء “حمشتها” الأحداث، وانساقت عقولهم وراء وصف وزيف الإعلام ، وبنيت أفكارهم وفق ما يريد النظام، لكن العدد الأكبر من هؤلاء بدأ يتميز صفهم ويبرز فكرهم منذ بواكير الأزمة، فبالنسبة لهذه الفئة لم تكن دعوة الأمريكان والاستعانة بهم حدثا أهم من صدور فتوى هيئة كبار العلماء بشرعية هذه الخطوة، وكيف تم ذلك بلا دليل شرعي ولا استنارة بآية ولا حديث، وكيف اختزلت القضية الشرعية الضخمة التي يتوقف عندها جهابذة العلماء بكلمة واحدة “الضرورة”، ولربما كانت هذه الفتوى تطورا لا يقل أهمية عن دخول القوات الأمريكية ودخول العراق للكويت.

سفر الحوالي يقول الحق
لقد كانت تلك الفتوى بمثابة أول سقوط للمؤسسة الدينية الرسمية التي اتكأ عليها النظام في شرعيته، وكانت أول مرة يتحدث بها الناس عن الفتاوى التي تصدر لتبرير انحراف النظام واقترافه للجرائم الكبرى، لقد كان مجرد تقصير العلماء عن قول الحق أمرا محتملا عند الناس، اعتقادا منهم أن العلماء ربما يقومون بدورهم وراء الأسوار وخلف الكواليس، لكن لم يخطر ببال طلبة العلم أن يفتي العلماء الذين يعتبرون أعضاء في هيئة "كبار" العلماء فتوى يخالفون فيها الشرع ويراعون فيها الحاكم، لكن مع ذلك ومع أن هذه بحد ذاتها كافية لضرب الشرعية، فقد كان لابد من بديل يحمل الراية ويصدع بالحق الأبلج حتى يؤدي فرض الكفاية في التبليغ، وهنا قيض الله الشيخ المجاهد سفر بن عبدالرحمن الحوالي ليفضح المشروع الأمريكي في الخليج من ألفه إلى يائه، وهو-وفقه الله وفك أسره- لم يتحدث عن هيئة كبار العلماء، ولم يخطئهم مباشرة، لكن فحوى كلامه يشير إلى أن الهيئة تنفذ المشروع الأمريكي من حيث لا تعلم، أما قضية الاستعانة بالأمريكان فقد نسفها الشيخ نسفا من جذورها.

كان ذلك في محاضرتين إحداهما في جدة بعنوان “فستذكرن ما أقول لكم” والأخرى في الرياض بعنوان "ففروا إلى الله" وذلك بعد شهرين تقريبا من الأحداث أي في بداية سبتمبر (1990)، وقد كانت المحاضرتان مثل الغوث لأصحاب الفكر السليم والعقيدة الصحيحة، وأحسب أن الله تعالى سخر الشيخ سفر حتى لا يضيع الحق وينطلي الباطل على الناس، فقد تكلم الشيخ سفر بالآية وبالحديث وبأقوال العلماء وبالتاريخ وبالوثيقة وبالنقول عن كتابات الأمريكان أنفسهم، وبيّن للعامي من الناس ولطالب العلم حقيقة ما جرى ويجري، دون أن يسيء الأدب مع العلماء ودون أن يستفز أحدا.

الشيخ سفر مقابل من؟
ولم تمض أيام على إلقاء المحاضرتين حتى بلغ عدد نسخها من الأشرطة عدة ملايين في كل أنحاء المملكة، بل العالم، وأذكر شخصيا أننا عشنا غربة حقيقية، وضاقت علينا الدنيا بما رحبت في الفترة ما بين فتوى هيئة كبار العلماء بجواز الاستعانة بالأمريكان وبين شريط سفر الحوالي هذا، وقد جاءنا هذا الشريط كالفرج الذي انتعشنا به، وأحسب أن ما قام به الشيخ سفر من دور أهم بكثيرمن مجرد الصدع بالحق في وجه حاكم، لقد صدع الشيخ سفر بالحق في وجه كل المؤسسة الدينية وكل أعضائها مجتمعين، وكانت مواجهة المؤسسة الدينية أصعب بكثيرمن مجرد مواجهة النظام.

وأصبحت أشرطة محاضرات الشيخ سفر المادة الوحيدة المواجهة للحملة الإعلامية والدينية الرسمية للدولة متمثلة في هيئة كبار العلماء وأحاد العلماء من أعضاء الهيئة وغيرهم، وكذلك من الأزهر ومن غيره من المؤسسات الدينية الرسمية في العالم الإسلامي، ولقد شهد كاتب هذه السطور ذات ليلة خلال تلك الأيام مأدبة عشاء لأحد الأعيان حضرها أحد الأمراء الكبار، وكان واضحا على ذلك الأمير المسؤول الشعور بالحصار جر اء ما طرح في ذلك الشريط اليتيم من تفنيد لفتوى استقدام الأمريكان.

الحصيلة التي نريد أن ننتهي إليها هنا هي أن موقف الشيخ سفر كان نقلة نوعية في إفهام المجتمع أن التوقيع عن الله وإبلاغ رسالة العلماء ووراثة النبوة ليست بالضرورة منوطة بالعالم الرسمي أو المفتي أو القاضي، وشتان بين كلام مؤصل قوي ومتضمن لتفاصيل كيد الأعداء ومعرفة الذات، وبين اختزال الدين كله في كلمة واحدة هي “الضرورة”!!.



دور سلمان العودة
في الوقت الذي تصدى الشيخ سفر لتلك المسؤولية وقام بها خير قيام، كان الشيخ سلمان العودة يقوم بدور آخر، حيث ألقى في نفس الفترة محاضرة هامة كانت بمثابة رسالة جامعة، تصف بشكل غير مباشر حال البلد وإلى أين تؤول، اشتهرت تلك المحاضرة بعنوان “أسباب سقوط الدول” ولقد بهر الشيخ السامعين بغزارة علمه وسعة أفقه وكان فحوى المحاضرة إنباء واستشراف غير مباشر لمستقبل جزيرة العرب في كلام مقنع رصين.

ورغم أن الشيخ سلمان لم يتطرق إلى قضية استقدام الأمريكان، إلا أن هذا الشريط انتشر هو الآخر، وارتفعت أسهم الشيخ سلمان أضعافا مضاعفة عند الناس، وكان نموذجا آخر للعالم المستقل الذي يحق له أن يكون مرجعا، بدل أولئك الذين يعينهم الحاكم فيفتون بما يريد.

العمل الشعبي
في تلك الفترة التي لمع فيها نجم الشيخين سلمان وسفر، كانت هناك نجوم أخرى يسطع ضوؤها بين الحين والآخر، لكن مما ينبغي الاعتراف به مادمنا في مقام نقد الذات، هو الإشارة إلى أن الأنشطة العامة في تلك الفترة لم تكن عملا متكاملا يشكل مشروعا واحد، بل كانت أعمالا متفرقة منها الخيري ومنها الدعوي ومنها السياسي شابها شيء من الفوضوية والسطحية، ولقد انتدبت فئة نفسها لإغاثة لاجئي الكويت، وعرّض كثير من الشباب أنفسهم للخطر في سبيل إنقاذ الكويتيين وتأمين سلامتهم، ولاشك أن ذلك ترك أثرا طيبا لدى أولئك اللاجئين، وتحرك عدد كبير من الشباب في مجال الدعوة والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان لذلك النشاط دور بارز في حماية المجتمع من هجمة الفساد التي جلبها انفتاح الحرب، غير أن التطور الأهم من ذلك هو الاتجاه نحو العمل الجماعي الشعبي الذي تصدى له بعض الرموز وعلى رأسهم الشيخ عبدالمحسن العبيكان، وكانت بداية هذا العمل متواضعة بسيطة، ثم تطور إلى عمل ذي أهمية قصوى، لكن ضعف الخبرة بشؤون السياسة ومراوغات الحكام ساعدت على إجهاض ذلك المشروع الطموح في بداياته.

عمل جماعي منتظم
كان الباعث لتلك الفكرة عدد من الشباب المتحمس أقنعوا الشيخ عبدالمحسن العبيكان والشيخ عبدالله بن جبرين والشيخ عبدالرحمن البراك والشيخ سعيد بن زعير بالذهاب معهم إلى بعض الأماكن الحساسة في البلد، وذلك بعد شهرين تقريبا من اجتياح الكويت، حيث أروهم بأنفسهم بعض مظاهر الفساد المستشري وضرورة العمل بشكل جماعي منظم لمنع استشراء ذلك الفساد، وحينما اطلع هذا النفر من العلماء على الواقع صدموا وقرروا الدعوة إلى اجتماع جماهيري مفتوح في أحد الجوامع الكبيرة في الرياض وهو جامع الجوهرة، وتم الاجتماع بالفعل وحضره بضع آلاف من الشباب، وتحدث الخطيب تلو الآخر، وقيل لأول مرة بشكل علني في تاريخ المملكة “لابد من عمل جماعي منظم”، وكان بعض الشباب قد أعد استمارات تسجيل في جماعة خيرية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونجح ذلك الاجتماع بشكل كبير، وشكل بحق اجتماعا ناجحا وحالة حضارية تبشر بالخير، وكان الشيخ عبدالمحسن العبيكان هو الشخصية الرئيسية في الاجتماع، واتخذ المجتمعون قرارا بالالتقاء مرة أخرى ودعوة آخرين لحضور اللقاء وترتيب عملية الجماعة الخيرية هذه، وانفض الاجتماع بعد الاتفاق على تفويض الشيخ عبدالمحسن العبيكان مسؤولية متابعة اللقاء الثاني.

الأمير سلمان يتدخل
وهنا سارع الأمير سلمان إلى استدعاء الشيخ عبدالمحسن واحتد النقاش بينهما، وهدد الأمير سلمان وتوعد وأرغد وأزبد من أجل أن يثني الشيخ عن فكرته، لكن الشيخ أصر وقرر المضي قدما في ذلك الاجتماع، وهنا تدخل طرف آخر هو الشيخ عبدالعزيز بن باز، وبحيلة خبيثة من الأمير سلمان استطاع إقناع الشيخ بعقد الاجتماع بدار الإفتاء بدلا من جامع الجوهرة، واستطاع إقناعه كذلك بضرورة حضوره هو أي الأمير سلمان شخصيا، واستطاع إقناعه كذلك أن يكون الحضور مقتصرا على عدد من طلبة العلم وبعض الشخصيات، ولعل موافقة الشيخ العبيكان على تلك الشروط هي التي وأدت المشروع في وقت مبكر.

المظاهرة جرعة منشطة
وفيما بين الاجتماعين حصلت حادثة هامة جدا وهي المظاهرة النسائية في الرياض والتي طالبت بحق النساء في قيادة السيارات، ولن نتحدث الآن عن تلك المظاهرة، لكن نذكر هنا أن قيامها بين الاجتماع الأول الثاني أعطى فكرة الإعداد للاجتماع الثاني دفعة هائلة بسبب الغضبة التي اجتاحت الشارع بعد تلك المظاهرة، ثم عقد الاجتماع فعلا في نهايات شهر أكتوبر بالشروط التي وضعها الأمير سلمان حيث تم الاجتماع في دار الإفتاء، وبحضور الأمير سلمان شخصيا، وبعدد محدود لم يتجاوز المئة، وكان كاتب هذه السطور بين الحاضرين، وحوصرت دار الإفتاء بما يناهز العشرة آلاف متظاهر جاءوا مؤيدين للشيخ العبيكان، غير أن الشيخ العبيكان استطاع إقناع هؤلاء بالانصراف، وتم الاجتماع في داخل الدار بذلك العدد المحدود، واستطاع الأمير سلمان باتكائه على الشيخ بن باز إجهاض المشروع من خلال جر لسان الشيخ لأن يقول: "إن كل عمل لابد له من إذن ولي الأمر"، ومادام ولي الأمر حاضرا وهو أمير الرياض فالأمر متروك له، وحينها أجهض المشروع وأسقط في يد الشيخ عبدالمحسن العبيكان.

فشل ودرس
لكن رغم فشل هذه التجربة فقد كانت ثرية وتعلم الدعاة والحركيون منها الكثير، فقد كانت أول محاولة لربط طلبة العلم المتفرغين للقضايا الشرعية بأساتذة الجامعات وغيرهم من ناشطي المثقفين بشكل أكبر من مجرد التأييد والمحبة والتقدير والاحترام، وكأنما شيد بعد ذلك جسر متين بين عدد من المشايخ وبين ما يسمى "بالتكنوقراط" الإسلاميين، وامتزجت هناك ميزة العلم الشرعي والثقل الجماهيري للعلماء والقدرة على التخطيط والترتيب والمنزلة الاجتماعية لأساتذة الجامعات، ولقد كان خطاب العلماء ومذكرة النصيحة ولجنة الدفاع حصيلة هذا التعاون المبارك، وكان الأمير سلمان هو أول من فطن إلى خطورة هذا التعاون، فكان يحاول في وقت مبكر دق إسفين بين الفريقين، ومن شدة حرصه على ذلك فلتت منه عبارة كاملة في يوم من الأيام بعد أن نفد صبره في إقناع أحد طلبة العلم "إن أساتذة الجامعات هم حفنة من العلمانيين"، وكان في تلك العبارة تصريح برغبته الداخلية في ضرب ذلك التعاون.

على صعيد التفاعلات الداخلية في صف الصفوة كانت تلك الأحداث هي الأهم في تلك الفترة، أي الفترة فيما بين دخول الجيش العراقي للكويت وما بين بداية حرب الخليج الثانية، واستثنينا في حديثنا قصة مظاهرة النساء في السيارات لأهميتها كحادثة مستقلة تدرس كظاهرة كاملة مع خلفياتها وملابساتها ونتائجها وآثارها.

وعندما قاربت الحرب على البداية لم يحصل أي حادث ذي بال على المستوي الاجتماعي، فربما حرصت كل الجهات على عدم فتح الباب حتى لا يقال فلان يضعف الجبهة الداخلية، واستمر الحال كذلك إلى أن انتهت الحرب، حيث بدأت حقبة جديدة هي حقبة المبادرات والتي كان أولها خطاب العلماء.

























حقيقة المظاهرة النسائية الشهيرة المطالبة بقيادة السيارات
في غمرة أحداث الخليج وبينما كانت الآليات الأمريكية تطوف الجزيرة العربية، وحيث كانت الأذهان مشدودة تجاه تلك القضية الشرعية الحساسة، وقعت حادثة ما عرف بمظاهرة قيادة المرأة للسيارة، وما كادت الحادثة تقع حتى تناقلتها وسائل الإعلام الغربية الأوروبية والأمريكية.

انفجار
تفجرت هذه القضية كالقنبلة، واستحوذت على اهتمام الإعلام وأحدثت زوبعة في المجتمع، وشدت أذهان الجماهير عن كل أمر آخر، وبقيت ثورة جماهيرية مشتعلة أياما بل أسابيع، وهو الأمر الذي قد يعجب له من ليس له صلة وثيقة أو اطلاع كاف على الواقع المجتمعي لشعب الجزيرة إذ ارتبط هذا الأمر ارتباطا وثيقا بجملة من الأعراف والخصوصيات التي تعارف عليها المجتمع، والتي تفرض على من يريد استيعاب التحولات الاجتماعية الداخلية فهم تلك الخصوصيات والأ عراف، وذلك من أجل إحسان الحكم والتقويم وتفادي الانصراف إلى إطلاق الأحكام والتعميمات الخاطئة ودون استناد إلى مرجعية ذات صلة بالأحداث والخصوصية التي ميزت مجتمع الجزيرة.

في هذا المبحث نعرض لملابسات هذه الحادثة من خلال رؤية داخلية عاصرت الحدث نفسه وعاصرت رد الفعل تجاهه:

الرواية
انصرفنا من صلاة العشاء يوم الثلاثاء السابع من نوفمبر/تشرين ثاني 1990 وجلسنا نتحدث أمام مسجد السكن الجامعي، وإذ بأحد الزملاء من الأساتذة يأتينا بخبر غريب: هذا المساء فوجئ سكان السليمانية في الرياض بقاطرة من السيارات تقودها مجموعة من النساء في مسيرة راكبة تتوجه إلى أحد المواقف في نفس المنطقة، ثم تنزل السائقات وينظمن مهرجانا خطابيا تتعاقب عليه بعض النساء، وتبادر إحداهن بإلقاء حجابها ودوسه برجلها مع إطلاق الصيحات المعبرة عن هذا التصرف، بعضنا لم يصدق وبعضنا اعتبر الأمر طبيعيا، ولم نعلم في تلك اللحظة عن مدى انتشار الخبر بين الناس، وما هي ردود الفعل عليه، غير أن الوقت كان مبكرا، وكان من المتوقع من قبل الجمهور الذي يعتمد كليا على النقل الشفوي للأخبار وتبادل المنشورات والأوراق المصورة كان من المتوقع أن لا يتابع الأمر إلا متأخرا، غير أنه لم تكد شمس اليوم التالي تشرق حتى كان الأمر مختلفا، فقد نقل الخبر في إذاعات العالم، وأصبح بعدها حديث الشارع ثم بدأت فورا الضجة وردود الأفعال، حيث تحدث الخطباء معترضين بقوة على ذلك، وألقيت المحاضرات، وعبّر الناس عن غضبهم الشديد تجاه الأمر بوسائل كثيرة منها إرسال أعداد هائلة من البرقيات للملك ولوزير الداخلية ولأمراء المناطق، ومنها توزيع أسماء النساء اللواتي قدن السيارات، ونجح بعضهم في تسريب محاضر الشرطة ومحاضر الهيئات التي تضمنت تفاصيل العملية، وأخيرا تجسد التعبير عن ذلك الغضب في الحضور الضخم لأعداد هائلة من المتظاهرين أمام دار الإفتاء للمشاركة في الاجتماع الذي دعا إليه الشيخ عبدالمحسن العبيكان، وكان واضحا من خلال الصيحات التي أطلقها هؤلاء أن دافع الحضور كان ذلك الحدث أكثر منه المشاركة في اجتماع الإفتاء، ولم يخفف الحملة اجتماع الهيئة الدائمة للإفتاء وإصدارها بيانا بتهدئة الأمر، ولم يخففها كذلك إصدار وزارة الداخلية قرارا يؤكد على منع النساء من قيادة السيارات.

مصطلحات جديدة
واستمرت حالة الرفض والتعبير عن الغضب حيال هذا التصرف إلى أن هدأت الحملة بشكل تدريجي مع الزمن، وانتشر مع تلك الحملة استعمال بعض المصطلحات التي لم يتعود عليها الناس مثل “العلمانية والليبرالية”، وسمى الناس بعض الرموز التي وصفت برؤوس العلمانية، بعدها بدأت الصحافة الغربية تتحدث عن الموضوع، وحاول عدد منها ربطه بمستجدات أزمة الخليج، وأصبح الوضع الاجتماعي في المملكة لأول مرة موضع اهتمام من قبل تلك الصحافة.

المكاسب والخسائر
كان ذلك التتابع المجرد للأحداث كما جرت، فما الذي كان خلف الكواليس وما الذي أغضب الناس حقيقة وما هي مكاسب وخسائر الحدث؟ ومن كان حقيقة وراء تلك المظاهرة؟.

تفسير
في اعتقادنا فإن الحدث لم يكن على ظاهره، ولم تكن ردة الفعل كذلك على ظاهرها، والقضية في حقيقتها ذات بعدين اجتماعي وسياسي، أما البعد الشرعي أو الديني فمحدود جدا في نظرنا، وعلى قدر من سبرنا غوره من العدد الكبير من المشاركين في رد الفعل الضخم لم تكن المطالبة بالقيادة لذاتها أمرا كبيرا، ونحسب أن هذه الجموع حركها عاملان قويان الأول: الغضب الدفين في نفوس كثير من الشباب المتحمس تجاه الوجود الأمريكي في الوقت الذي لا يستطيع الشباب أن يعمل شيئا بسبب فتوى كبار العلماء، وكان التعبير عن الغضب من خلال رد الفعل تجاه المظاهرة النسائية متنفسا لذلك الغضب المكتوم، والعامل الثاني: أن المجموعة التي شاركت في تلك المسيرة لم تقصر مطالبها على مجرد القيادة بل تصرفت بما فهم منه تسفيه القيم الدينية وإهانة تعاليم الإسلام والثورة على الالتزام الشرعي، وحينما ردد الخطباء أن إحدى النساء خلعت الحجاب، ووضعته تحت قدمها ثارت ثائرة الجمهور واعتبروا ذلك تمردا على الدين نفسه، ولذلك لم تكن الضجة في رد الفعل موجهة إلى قضية قيادة المرأة للسيارة، بل كانت موجهة إلى ذلك التمرد وتلك الثورة.

المشروع العلماني
وهذا يفسر كيف أن حديث الشارع الغاضب تلك الأيام تجاوز كثيرا قضية قيادة المرأة إلى قضية المشروع العلماني والتغلغل العلماني في الدولة، وتداول الناس أسماء المتهمين بالعلمانية على شكل قوائم ومنشورات مصورة، وحتى حديث المثقفين والخطباء كان يدور حول ذلك، وتحدث في تلك الأيام كثير من العلماء حول الموضوع كان أبرزهم الشيخ سفر الحوالي الذي راجع في محاضرته مشروع إفساد الأسرة والمجتمع من خلال ما يسمى بتحرير المرأة، وكذلك الشيخ سلمان العودة الذي ألقى محاضرة بعنوان “لسنا أغبياء بدرجة كافية” شرح فيها أسلوب المستغربين في إفساد المجتمع، وبيّن أن تلك الحيل لا تنطلي على الأذهان، وأشار عدد كبير من المتحدثين من طرف خفي إلى تورط بعض الشخصيات العامة في ذلك المشروع.

الظاهر والباطن
لقد كان الحدث من التجارب التاريخية التي يمكن تعلم الكثير منها حيث أنه لا يعقل أن تكون تلك المسيرة عملا ارتجاليا، دفع إليه حماس بعض النساء بعد رؤيتهن المجندات الأمريكيات يقدن السيارات، ونحن هنا لا نكتفي بمجرد التحليل للاستنتاج بأن هناك تورط لجهات مسؤولة من داخل الأسرة بالحدث، بل نشير إلى ثبوت ذلك من خلال معلومات تؤكد بأن أكثر من شخصية من كبار رجال الأسرة تورطوا في هذا العمل، وتعهدوا للمشاركين بالدعم والحماية، وتفيد المعلومات التي تم جمعها في تلك الفترة أن الهدف حقيقة لم يكن مجرد فرض مسألة قيادة المرأة للسيارة، بل كان الهدف هو التحضير للقيام بانقلاب اجتماعي ينسف القيم الدينية كأساس للنظام الاجتماعي، والشروع في ذلك من خلال المطالبة بقضية مقنعة وبسيطة مثل قيادة المرأة للسيارة.

واعتقدت الجهات التي أعدت المشروع أن نسف نظام القيم سيقضي على البقية الباقية من قوة الإسلام في جزيرة العرب، ويفسح المجال لإكمال المشروع التغريبي في الجزيرة، وكانت حسابات الذين أعدوا المشروع أن الفرصة جد مواتية، وأن انشغال الناس بالحرب والخطر القادم من العراق، وتعودهم على رؤية المجندات الأمريكيات وبعض الكويتيات قائدات للسيارات جعل الأرضية مناسبة لإتمام الفكرة، فإذا لم تنجح الفكرة فعلى الأقل يكون رد الفعل مشغلا للشباب المتحمس عن قضية دخول القوات الأمريكية للجزيرة الذي أصبح يتنامى فعلا بعد محاضرات الشيخ سفر الحوالي .

وتؤكد مصادر المعلومات أن الذين شاركوا في الإعداد لذلك المشروع يمثلون قوى غربية تعاونت مع الأطراف العلمانية في المملكة ومع عدد من رجالات الأسرة الكبار وفي مقدمة المتهمين سلمان بن عبدالعزيز وفيصل بن فهد!!، ويعتقد كثير من المطلعين أن معظم النساء اللواتي شاركن في المسيرة مغرر بهن لا يعلمن إلا قضية القيادة.

المظاهرة والجيش الأمريكي
على كل حال مضت المسيرة وحصل رد الفعل، ولذلك فلم يتحقق المطلب الأول في نسف النظام الاجتماعي في الجزيرة، فهل تحقق المطلب الثاني؟ بعبارة أخرى هل تم فعلا تحويل انتباه الشباب المتحمس عن قضية الوجود الأمريكي في الجزيرة؟ الجواب نعم ولا في نفس الوقت، نعم إذا قصدنا تحويل الانتباه المجرد، وهنا يجب أن نعترف أن وعي الشعب والشباب المسلم ليس بالدرجة التي تقد م مسألة الوجود الأمريكي على تلك القضية!، ومن المشاكل التي تعاني منها الشعوب المسلمة استعدادها للغضب للقضايا المتعلقة بالعرض والأخلاق والأحوال الشخصية أكثر من غضبها لقضايا الدين الكبرى، ورغم الثقافة الشرعية المنتشرة في الجزيرة فقد تجسدت هذه الحقيقة في تلك الحادثة بصورة واضحة، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الهدف الثاني تحقق وهو تحويل انتباه الشباب عن الغزو الأمريكي.

من الكاسب؟
ولعل ردة الفعل القوية هذه وما صاحبها من رفض للمشروع العلماني ورفض للرموز العلمانية حققت عدة نتائج تتعارض مع ما كان يتمناه راسمو المشروع، ومن هذه النتائج الكشف العريض لتلك التوجهات ورفع مستوى الحساسية عند الناس لقضية العلمانية التي لم يتعرفوا عليها من قبل، النتيجة الثانية إعادة الثقة بالكيان الاجتماعي الإسلامي، وتوجيه رسالة قوية إلى من أرادوا ضرب هذا الكيان عن مدى تماسكه وقوته، النتيجة الثالثة ضرب هيبة الدولة من خلال تتابع الأعمال الجريئة في التعبير عن الرفض والاستنكار، والتي تمثلت في المظاهرات وإرسال البرقيات، ومن الطريف أن مكاتب البرقيات تحولت إلى مراكز تجمعات ضخمة واضطر موظفو “البرقيات” لإعداد صيغ جاهزة للتعجيل بعملية الإرسال، والنتيجة الأخيرة هي إجبار الدولة من خلال الضغط على إعادة التأكيد على المنع، والمهم هنا ليس تأكيد المنع نفسه، ولكن إذعان الدولة للضغط وإصدارها بيانا من وزارة الداخلية لتأكيد ذلك، وكانت هذه تجربة فهم منها أن الضغط الشعبي يجبر الدولة على الإذعان لمطلب شعبي.

التكتيك يتغير
لقد كانت تلك النتائج درسا قويا لأولئك الذين سعوا في المشروع فقرروا بعدها التوقف عن استعمال الأساليب "الانفجارية"، وخاصة عند التعامل مع القضايا الاجتماعية، ومنذ ذلك الحين تغيرت السياسة، وتنازل هؤلاء عن الهدف الفرعي الذي هو قيادة المرأة للسيارة، وركزوا على الهدف الرئيسي وهو مسخ الفرد المسلم، وسعوا من خلال برامج التغريب والإفساد الخلقي إلى محاولة تحقيق أهدافهم.

وتم الاستغناء عن أسلوب التمرد على المجتمع والثورة على الأخلاق، واستعيض عنه بالاستفادة من طبيعة تركيبة الدولة والمجتمع التي تتمتع فيها الأسرة الحاكمة بالنفوذ والصلاحية والحصانة المطلقة، وتم استثمار هذا النفوذ في نشر الفساد الخلقي كجسر فعال لمشروع التغريب هذا، ويبدو أن هذا الأسلوب البطيء الهادئ فعال حقا، خاصة حينما واكبته حرب شعواء ضد جميع أشكال الدعوة والإصلاح، ولو كان هذا الأسلوب هو الوحيد لكان الزمن في صالح أصحاب هذا المشروع فعلا، لكن الحقيقة أنه بقدر ما يظن أولئك أنهم يستثمرون الزمن بالتخطيط والصبر، فإن أهل الإصلاح استثمروه كذلك بمشاريعهم، وإذا كان الفريق الأول يملك الإعلام وقوة السلطة والمال، فإن الفريق الثاني يملك قلوب الناس، ويتسلح بالدين، ويعتمد على الفطرة السليمة وعلى حصيلة السنين التي هي نتيجة هذا الصراع المتواصل .

لقد دامت تلك الضجة في رد الفعل قرابة الشهرين، وتركت بعدها آثارا مهمة على المستوى الاجتماعي والسياسي، ومن الضرورة بمكان إعادة التأكيد على أن القضية لم تكن مجرد مطالبة بقيادة المرأة للسيارة، فتلك القضية ليست أشد خطورة بحال من الأحوال من حرب الله ورسوله بالربا المستعر في البلاد، وبالتأكيد ليست أشد خطورة من القوانين الكفرية التي انتشرت في أنظمة وأجهزة الدولة، بل إن الذين رأوا منع قيادة المرأة للسيارة شرعا قالوا إن التحريم ليس لذات العمل وإنما هو لما يفضي إليه، ولذلك فالتحريم كما رأوه هو من باب درء المفاسد، وكان يمكن للمطالبين برفع المنع أن يجادلوا في الأمر بنقاش شرعي منضبط مدعوم بالدليل، كما هي عادة علماء المسلمين وفقهائهم عبر التاريخ ولكن مرادهم شيء آخر تماما.

كيف واجه الإسلاميون الصخب الإعلامي الأمريكي والسعودي المرافق لحرب الخليج


تحدثنا في الصفحات الماضية عن التفاعلات الاجتماعية التي حدثت استجابة للتطورات الكبرى التي شهدتها المنطقة، وأشرنا بشكل تفصيلي إلى تداعيات فتوى العلماء بشرعية نزول القوات وآثار مظاهرة قيادة المرأة للسيارة، ونتحدث هنا عن ظروف الحرب نفسها والتفاعلات النفسية والاجتماعية التي حصلت قبل وخلال وبعد المعركة الجوية والبرية، وماهية النقلة التي ساهمت تلك الحرب في تحقيقها.

معركة إعلامية
يرى كثير من المراقبين أن معركة ضرب العراق كانت معركة إعلامية سياسية قبل أن تكون عسكرية، إذ سعى الأمريكان من خلال آلتهم الإعلامية الضخمة والخبرة الهائلة التي يمتلكونها في مجال الحرب الإعلامية، وعبر الاستعانة بكل الإدارات ذات العلاقة كالمخابرات ومراكز البحوث غيرها، سعوا إلى تهيئة الجو نفسيا واجتماعيا لتحقيق ضربة قاصمة للجيش العراقي، وبالفعل فقد استعد الناس نفسيا لتلك الضربة، وأصبح الكثير منهم ينتظر بتلهف إنتهاء المهلة التي حددها الأمريكان لانسحاب العراق من الكويت، حتى يروا كيف تكون الضربة.

وتشكلت نفسيات الناس بطريقة جعلت معظمهم يتطلعون إلى لحظة الضربة انتقاما من العراق الذي فعل الأفاعيل في الكويت كما صورته أجهزة الإعلام، من جهة أخرى ضخمت أجهزة الإعلام قدرات الجيش العراقي، والقت في روع الناس أن هذه القوة الجبارة لا يستطيع مواجهتها وهزيمتها إلا الأمريكان، وتحدث الناس كثيرا عن المليون جندي وعن تطور العراق في الحرب الإلكترونية والجرثومية، واهتم الناس بشكل خاص بخطر الغازات السامة، وأصبح خطر تلك الغازات ماثلا أمام الأعين، ولم تتوقف وسائل الإعلام عن عرض وإعادة عرض آثار الغازات السامة على الأكراد، وأن الجزيرة ستتعرض قريبا لمثل ما تعرض له الأكراد.

ونجحت وسائل الإعلام بشكل خاص في أشغال عامة الناس عن السؤال الأهم، وهو كيف صنع العراق هذه القوة الجبارة كما صورها الإعلام، في حين أن صرفه على الجيش لا يجاوز خمس صرف آل سعود المعلن على تسليح الجيش السعودي؟، أعقل جواب يرد به علينا، ونحن نلح على هذا التساؤل أننا أبناء ساعتنا، وأن ما حصل قد حصل، ونحن الآن أمام الكارثة!، ولابد أن نقبل باستلام الأمريكان لهذه المهمة التي لا يتقنها إلا هم.

نجاح سياسي
في موازاة هذا النجاح الإعلامي، كان هناك نجاح سياسي مرافق, حيث نجح الأمريكان في استثمار الضعف السياسي الروسي، وبالتالي عزل العراق سياسيا، وصناعة ما يسمى بالإجماع العالمي والرأي العام الدولي وغيرها من المصطلحات التي أنست الناس كل قضايا الظلم والقهر في العالم وفي مقدمتها قضية فلسطين، وأبقت قضية واحدة منتصبة أمام الأذهان، احتلال العراق للكويت، وقد بلغ الحال ببعض سكان الجزيرة والخليج آنئذ أن يعلنوا استعدادهم لإدخال الكيان اليهودي في الحلف ضد العراق، وردد كثير من الجهلة الشرط الأمريكي بانسحاب العراق برجاله وبدون أسلحته بعنفوان ونشوة، وأضفوا على ذلك الشرط اصطلاح الإرادة الدولية، وغضوا الطرف في نفس الوقت عن اعتراف الإرادة الدولية بالكيان الصهيوني، واستخدام الأمريكان حق الفيتو ضد مجرد شجب ممارسات اليهود ضد الفلسطينيين، وباختصار فأن الحملة السياسية والإعلامية الأمريكية لعبت بعقول ونفوس الجماهير في الجزيرة والخليج وهيأتها لتمجيد أي عمل يقوم به الأمريكان ضد العراق، واعتبار ما تقرره أمريكا هو الخيار الأصلح.

الضعيف يقلّد
إلى جانب النجاح الأمريكي إعلاميا وسياسيا في التأثير على عقليات الناس كانت هناك محاولة النظام السعودي نفسه للتضليل واستغفال الجماهير، فقد حاول النظام إظهار ما يسمى بالقوات المشتركة، وهي القوات العربية والمسلمة بمظهر قوى حقيقية موازية ومكافئة للقوة الأمريكية، وحاول النظام كذلك إظهار خالد بن سلطان الذي عين قائدا لتلك القوات “كزعيم عظيم”، وحاول النظام في آخر أيام الاستعداد للحرب إظهار درجة من الجدية والاهتمام بموضوع الحرب، لكن الجمهور كان مدركا أن الأمر والنهي بيد الأمريكان وأن المعركة حقيقة هي بين أمريكا والعراق، وأن المحاولات السعودية الإضافية لا تعدو أن تكون وسائل تجميلية، ولذلك لم تحقق تلك المحاولات نجاحا يذكر.

لم يدرك النظام ذلك الفشل، وسعى لأمر أكثر غرابة محاولا تقليد الأمريكان في الحشد الإعلامي والسياسي، وشط النظام شططا كبيرا في هذا السياق حين حاول تصوير الحرب المقبلة بمظهر “الجهاد المقدس”، وتولت تلك المهمة جامعة الإمام محمد بن سعود التي نظمت مؤتمرا يحمل هذا الاسم، وحضر عدد من العلماء الرسميين وبعض المخدوعين من داخل وخارج المملكة للمشاركة في المؤتمر الذي حظي بتغطية إعلامية ضخمة وموسعة، ولكن كانت النتيجة فشلا ذريعا، ولم ينفع رفع الشيخ ابن باز وغيره فوق منصة المؤتمر، ولا إخراج النشرات والكتيبات، وفرّق الناس بشكل واضح بين مبدأ القول بضرب الظالمين بالظالمين، وبين اعتبار معركة يقودها الأمريكان جهادا! وإن كان فعلا قد تحقق نجاح المشروع الأمريكي الإعلامي بشأن المعركة فقد فشل المشروع السعودي الموازي فشلا واضحا.

الضربة
جاء السابع عشر من يناير 1990والناس يترقبون الحرب وينتظرون الضربة، وما أن انتصفت ليلة الثامن عشر من الشهر ذاته حتى تحولت أنظار العالم كله إلى الخليج، وتسابقت الإذاعات ومحطات التلفاز في نشر تفاصيل الحرب: صواريخ كروز، طائرات إف 15، إف 16، طائرات الشبح، ودخلت وسائل الإعلام الأمريكية للمنطقة وقامت القناة الثانية في التلفاز السعودي بعرض CNN حية، وتفنن الأمريكان في إظهار الأهداف العراقية وهي تُضرب كما لو كانت في لعبة "الأتاري"، وبدأت حرب الصواريخ وانطلق "الباتريوت" ليحطم "سكود" في الجو وكأنه عمل السحرة، وامتلأت سماء الخليج بآلاف الطائرات، وألقيت على العراق أطنان هائلة من القذائف الضخمة، وشلّ الأمريكان الطيران العراقي من الضربة الأولى، وقضوا على كل وسائل دفاعه الجوية، وحطموا عددا كبيرا من منصات الصواريخ خلال وقت قصير، وماذا بعد؟، الأمريكان "الحضاريون" لم يضربوا إلا الأهداف العسكرية بطريقتهم التي تسمى بالضرب "الجراحي"، أي ضرب الأهداف فقط دون ما حولها بكل دقة وقوة تهديف، حقا لقد كانت فتنة، والشواهد للعامة من الناس تقول بكل وضوح أن قرار الاحتماء بالأمريكان كان قمة الصواب والحكمة!!، ألا تراهم كيف قضوا على قوة العراق بكل سهولة، ألا تراهم كيف يرأفون بالمدنيين، ويتجنبون الأهداف المدنية، وشاشات التلفاز تؤكد كل ذلك، بل لقد صور المصورون صاروخ "الباتريوت" وهو يفجر صاروخ "سكود"، في منظر أخاذ فاتن لا يصمد له إلا من لديه ثوابت خارجة عن التأثر بالإعلام وشاشات التلفاز.

واستمر الحال كذلك وعظمة أمريكا تزداد في أذهان الناس، ثم حلت المعركة البرية، وانهار الجيش العراقي في لحظات، وقدم تنازلات المهزوم، ومرة أخرى نجح الإعلام في تصوير الأمريكان كمنقذين للكويت بالوسائل الحضارية والإنسانية، وكان منظر الجندي العراقي وهو يقبل قدم الأمريكي مستسلما له مؤلما حقا، لا يتمنى المرء أن يكون قد رآه أو سمع به.

فتنة
خلال الحرب تحدث الناس كثيرا عن صواريخ صدام، وضخمت وسائل الإعلام خطورة تلك الصواريخ، وفي نفس الوقت طبلت لقدرات "باتريوت"، وكان الحديث عن الصواريخ والغازات السامة طاغيا على المجالس، وسمع الناس صفارات الإنذار التي لم يتعودوا سماعها من قبل، وشعر شعب الجزيرة بأنهم ليسوا طرفا في تلك الحرب، ولذا فقد انتقل كثير منهم إلى خارج المدن خوفا من الغازات السامة، ورغم تفوق الأمريكان فقد خيم الرعب على بعض القلوب، أما النظام وطوال مراحل الحرب، فإنه لم يتوقف عن استمراره في وصف المعركة بالجهاد، ووصل الحال ببعض البسطاء للحديث عن رائحة المسك في شهداء معركة الخفجي بوصفها دليلا قاطعا على أن الحرب جهاد مشروع!!.

تنحُّّّ عن العاصفة
أمام تلك الحملة الإعلامية والسياسية الضخمة وتشكل نفسيات الناس وعقولهم طبقا لتلك الحملة، وسيادة مظاهر المعركة والقتال وانخداع الناس بأن دور الأمريكان هو مجرد طرد العراق من الكويت، أمام كل ذلك كان لابد لمفكري الصحوة وقيادييها أن يطأطأوا رؤوسهم للعاصفة الفكرية العاتية ويتنحوا قليلا عن موجة الحرب النفسية، وكان لا مناص من تخفيف الظهور الجماهيري وتأجيل النظر في القضايا السياسية.

من جهة أخرى لم يرغب قياديو الصحوة ومفكروها بالظهور بمظهر المفرّق للكلمة المخلخل للجبهة الداخلية، حتى لا يستغله خصومهم في تشويه صورتهم، ولم يكن مقبولا على كل حال والناس في أجواء حرب ومواجهة مع "المعتدي" أن تثار قضايا داخلية حساسة، وأحسب أن هذا الهدوء المؤقت كان ضروريا خاصة أنه لم يكن هدوءا مطلقا، فقد دلف الدعاة والمربون إلى استثمار تلك الفترة في التربية الروحية والسلوكية والفكرية العامة والتركيز على جوانب الإصلاح الفردي بشكل أعمق.

وضعت الحرب أوزارها وانهار الجيش العراقي تحت مطارق الأمريكان، واستسلم النظام العراقي بذلة أمام العنجهية الأمريكية، ونجح الإعلام في تصوير النصر الأمريكي كنجاح لحكمة حكام الجزيرة, وبدا جليا أن العراق طرد من الكويت دون دماء "سعودية" وعاد أهل الكويت لبلدهم "معززين مكرمين"، يشعرون بكل الفضل والامتنان لأمريكا العطوفة الحريصة على استقلال الشعوب وعدم السماح للقوي بأخذ حق الضعيف!!.

نجح الإعلام أيضا في تصوير الدور الأمريكي أجيرا أخذ أجرته وأدى مهمته ورحل، ولا أسف على المال إذا ما صرف على إنقاذ البلاد والعباد، وطفق كثير من الناس يردد أننا طردنا العراق بأموالنا، وأن الله سخر الأمريكان لنا، وانزج بعض المثقفين في هذا السياق، وكانت فعلا فتنة.

أمام هذا الإنجاز الإعلامي ظن النظام أن المعادلة الاجتماعية قد تغيرت لصالحه، واعتقد النظام والمدافعون عنه أن الجدل حول استقدام الأمريكان حسم على أرض الواقع، وأن الهدف من استدعاء الأمريكان تحقق بكل معانيه المطلوبة، وشحن في أذهان الناس أنه لو تردد الحكام ومالوا إلى رأي سفر الحوالي وبعض “المتشددين” لربما سقطت كل الجزيرة بيد الجيش العراقي، ولعانى شعب الجزيرة من جرائم العراقيين كما عانى الكويتيون، فالحمد لله الذي ألهم الحكام الصواب!!.

من جهة أخرى نجح الإعلام في إقناع الناس أن الأمريكان لم يأتوا ليبقوا، فهاهم بدأوا يرحلون فور انتهاء مهمتهم، وبذلك فإن دعاوى الغزو الفكري والأخلاقي والحضاري كلها إسقاطات تاريخية ونفسية يعاني منها بعض المعقدين من الشيوخ المتخلفين، ثم من هم هؤلاء المتخلفون؟ هم ليسوا إلا حفنة من الذين عجزوا عن مواكبة العصر، وقلبوا الدنيا رأسا على عقب لمجرد بضع نسوة قدن السيارات في شوارع الرياض!، وتثبيتا لتلك الصورة حاول النظام من خلال جهاز الإعلام ومن خلال جهاز الإشاعات بالمباحث ربط التيار الإسلامي كله بتجاوزات أعضاء هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي كان في بعضها شدة في غير محلها أو تصرف غير شرعي، وللحقيقة نقول أن شيئا من ذلك قد تحقق فعلا، ونجح النظام في تشويه صورة التيار الإسلامي في تلك الفترة.

نشوة ملكية
الأخطر من ذلك أن النظام ذهب بعيدا في نشوته بسحق العراق وحكمة القرار "الملكي"!، ومشاركات القوات المشتركة وبطولات الجيش السعودي في الخفجي ومهارة القائد "الفذ" خالد بن سلطان، واستغرق النظام بهذا الشعور إلى أن ظن أنه هو الذي هزم العراق، وانتصر هذا الانتصار "المذهل"، واستنتج النظام أن "نصره العسكري" هذا!، وما صاحبه من حملة إعلامية وسياسية عالمية طبلت له هو في الحقيقة نصر ساحق على المشاغبين من المشايخ والعلماء وبعض المتعالمين من الذين شككوا في حكمة قرار استدعاء القوات!!.

لقد أدت هذه الأجواء إلى اعتقاد النظام أن الشعب قد جدد ولاءه لآل سعود، وأن الشعب سيلفظ كل هؤلاء المشاغبين، ولذلك لم يمض شهر على انتهاء الحرب حتى بدأت كواليس الأسرة تتحدث عما ينبغي عمله للانتقام من سفر وسلمان وغيرهم من أصحاب الأصوات المرتفعة، واستقر الرأي في الأسرة الحاكمة على بداية حملة قمعية يتخلص بها النظام من كل هؤلاء المزعجين، فلماذا لم يمض هذا المشروع قدما؟ وكيف تعامل رموز الصحوة معه؟، هذا ما سنراه في المباحث القادمة إن شاء الله.



















القصة الكاملة لخطاب المطالب
وضعت الحرب أوزارها وبدا كأن الناس مطمئنون، وأن الظروف التي اضطرت رموز الإصلاح للصمت قليلا أيام المعركة ذاتها قد زالت، انتهت المعركة في أواخر شتاء ذلك العام 1991 ميلادية 1411 هجرية، واستقبل الناس الربيع بشعور هو مزيج من البهجة بانقشاع الأزمة، والغضب من انكشاف النظام، والقلق من المستقبل وخاصة مستقبل قوات الأمريكان في الخليج، لقد كان هناك إجماع بين عقلاء المثقفين والعلماء في تلك الفترة أن المرحلة مرحلة محاسبة وأن التفريط في المحاسبة في ذلك الوقت بالذات ترك لواجب شرعي وتخل عن المسؤولية، لكن الأمة لم يكن لديها من قنوات التعبير ولا وسائل الإعلام ولا الطرق النظامية المسموح بها وما تعبر به عن رفضها لذلك الانكشاف المخجل في الأزمة والذي عكس واقعا خطرا لوضع النظام ووضع المجتمع.

لماذا الخطاب
كان لابد في ظل غياب هذه القنوات من إيجاد وسيلة فعالة لتحقيق ذلك الهدف، كان النظام يصر على أسلوب السادة والعبيد، كان النظام يريد من الناس أن يتركوا السياسة لأصحابها من أهل الدم الأزرق لأن "الشيوخ أبخص"، وإذا كان ولابد فلا يحق لهؤلاء العبيد أن يتجاوزوا مجرد كتابة برقية أو رسالة فردية خاصة توجه إلى أحد أبناء الأسرة "الشريفة" أو تبلغ من خلال الشيخ ابن باز، وهذا مع أنه يقبل على مضض وبامتعاض فإنه أقصى ما يمكن أن يقبل به آل سعود، والمشكلة أن ذلك التقليد لم يقتصر على كونه مطلبا لآل سعود تحقق من خلال الإرهاب والكبت بل تحول إلى عرف شعبي وعقيدة دينية في ظنهم مفادها أن الحاكم لا ينقد ولا ينصح ولا يوجه إلا سرا، وخلف جدران أربعة، وأن مجرد إخبار الشيخ ابن باز كاف للقيام بواجب إنكار المنكر، ولا يهم بعد ذلك هل أزيل المنكر أم لم يزل، ولذلك فلم تكن مهمة مشروع الصحوة مجرد إحراج الحاكم بإيجاد القناة المفروضة عليه، بل كان الهدف أعمق من ذلك، وهو كسر هذا العرف المخالف للشريعة، ومع ذلك فقد لُبس لباس الشريعة واستقر في أذهان الناس وضمائرهم، كان لابد من القضاء على تلك العلمانية المستترة و "المؤصلة" التي جعلت ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وهذا هو مقتضى عبارة "الشيوخ أبخص"، وكان لابد من نسف تلك العقيدة من أذهان الناس قبل فرضها على النظام.

مشروع التويجري
في بداية الأمر وحتى قبل نهاية الأزمة حاول أحد رموز الصحوة وهو الشيخ عبدالله التويجري تجاوز الجانب الأقل حرجا من هذا التقليد والعرف الخاطئ، فأعد رسالة على هيئة نصيحة شخصية، وطاف بها على مجموعة من العلماء وأساتذة الجامعات والقضاة والأعيان، واستطاع إقناع ما يربو على المئتين منهم بالتوقيع عليها وسلمها للحكام.

وهو بعمله هذا تجاوز الخط الأحمر في قصر الرسالة على شخص واحد، فجمع هذا العدد الكبير من التوقيعات، ولكنه لم يتجاوز الخط الآخر الأكثر خطورة، وهو نشر تلك الورقة باعتبار أن من حق الأمة معرفة الواقع، ومن حقها التحاور حول القضايا التي تهمها بشكل مفتوح من أجل إصلاح الأوضاع، ولقد شارك كثير ممن وقّع تلك الرسالة بمن فيهم كاتب هذه السطور من باب إقامة الحجة مع علم الجميع أن آل سعود سيجعلون مصير هذه الرسالة الحفظ ومصير الشيخ عبدالله التويجري التوجس والشك ومصير الموقعين وضعهم جميعا تحت عين المخابرات، وهذا ما حصل فعلا.

فيما عدا تجربة الشيخ عبدالله التويجري لم يكن واضحا لدى كثير من رموز الإصلاح ورواد التغيير الطريقة المثلى للعمل والخطوة المناسبة، بعضهم كان يرى المحاضرات العامة وسيلة، بينما كان البعض الآخر يرى توجيه وفود لمقابلة العلماء والحكام، وكان فريق ثالث يرى الاستمرار في الإكثار من الرسائل المغلقة والسرية، وكانت مشكلة تلك الوسائل أنها تجمع بين محدودية الهدف وترسيخ بعض الأوضاع القائمة من جهة أخرى، وحتى لو تسببت في إصلاح محدود، فلن تأتي بأي نقلة حضارية تطور آلية عمل المجتمع وتقربه إلى المجتمع الصحي الذي يعيش على هدى الإسلام.

مشروع مختلف
فكرت مجموعة قليلة من بينهم -كاتب هذه السطور- تفكيرا مختلفا، لقد بدا الأمر لتلك المجموعة أكثر صعوبة من ظاهره، وأن الحل لابد له من دراسة عميقة ولابد من تحليل المشكلة تحليلا دقيقا، ومعرفة الظروف المحلية قبل المضي قدما بأي حل، وتطلب الأمر لقاءات طويلة ربت على العشرين لقاءا، دارت كلها حول فلسفة الفكرة وكيفية تحقيق الهدف بأكبر نتيجة وبأقل خسائر، وبالطبع مع بقاء الطابع الإصلاحي للمشروع.

غير أن النقاش المستفيض والحوار الواسع أدى إلى نتيجة هامة وخطيرة مفادها أن المطلب ليس مجرد إصلاح الجيش أو إصلاح الاقتصاد أو إصلاح التعليم والصحة والخدمات بتفضل من الحاكم، بل إن المطلب هو إصلاح شامل للدولة عموما وتعديل شكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأولى خطوات ذلك هي بعث روح المسؤولية والإيجابية في المجتمع كله وتربية الأمة على ضرورة المشاركة المباشرة في تسيير شؤون الدولة وتحمل المسؤولية التاريخية في إنقاذ البلد من الكوارث القادمة، ومما بدا لهذه المجموعة أن من المطالب الهامة إثبات دور العلماء والرموز الشرعية في قيادة المجتمع وتوجيهه واستعادة هذه الراية بعد أن نجح المشروع الإعلامي في تحويل مفهوم الرموز الدينية إلى رجال دين مختصين بشؤون الطهارة وتزكية النفس، وإذا تجاوزوا ذلك فإلى تأمين قدسية الحاكم وطاعته المطلقة، بل كان لابد من إثبات أن العلماء المصلحين والرموز الدينية هي التي تشفق على الشعب وتضحي من أجل حصول الأمة على حقوقها.

مطلب آخر مهم كذلك كان تصحيح الصورة المشوهة لتلك الرموز في أذهان الناس من أنهم قصيرو النظر محدودو الفكر لا يهتمون إلا بمطاردة النساء والشباب في الأسواق ينهالون عليهم بالعصي والشتائم، هذه الصورة التي صاحبت اسم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان لابد من تغييرها تماما وإثبات أن مطالب الإسلاميين عالية، وآراؤهم سامية، فهم يطالبون بإصلاح السياسة وإصلاح الاقتصاد وإصلاح القضاء وإصلاح الإعلام.

وكان من الضرورة بمكان إظهار الإسلاميين بمظهر النماذج الراقية الطاهرة التي تستحق أن تكون قدوة للمجتمع.

وظهر لتلك المجموعة كذلك ضرورة إثبات اتفاق الأمة على مطلب الإصلاح، اتفاقا أجمع عليه الشمال والجنوب، الشرق والغرب، الأستاذ الجامعي وطالب العلم، الجيل القديم والجيل الجديد، ابن المدينة وابن القرية وابن البادية، المحسوبون على التيار المتشدد والمحسوبون على التيار المتساهل، وكان لابد لمن يمثل كل هذه التيارات والمناطق والأجناس أن يكون عدده كبيرا.

غير أن كثرة العدد يجب أن لا تؤثر في النوعية فلابد من إثبات أن الذين تصدوا للإصلاح هم وجوه الأمة وقادتها وأعيانها، وأن تلك الأسماء ليست مجرد قائمة طويلة، وأنه ليس فيهم من يقدح في دينه وخلقه.

فكرة الخطاب
بحثت المجموعة عن وسيلة فعالة تناسب الظروف والمعطيات وتحقق الأهداف المذكورة، واستعرضت كل تجارب حركات التغيير من المحاضرة إلى الشريط إلى التجمعات والمسيرات، واستقر الرأي في النهاية على الخطاب المكتوب الموقع من قبل شريحة كبيرة من وجوه الصحوة ورموز الإصلاح.

ثم بدا النقاش حول تفاصيل الخطاب وأسلوب كتابته وإعداده وجمع التوقيعات وكيفية تسليمه لمن يسلم إليه, وكان لابد لهذه التفاصيل أن تحقق الأهداف المذكورة، ولذلك اتفق الجميع على أن يكون الخطاب قصيرا ومركزا وشاملا وأن لا يتجاوز صفحة واحدة، واتفقوا على أن تكون لغته مفهومة للعامي وفي نفس الوقت لغة شرعية جزلة واتفقوا على أن تكون في صفحة الخطاب مساحة كافية لكبار الموقعين، وبعد هذا الاتفاق كان هناك خلاف حول السبيل الأمثل لإيصال فحوى الخطاب للناس لأن فلسفة المشروع تقوم على أن الخطاب موجه إلى الأمة أكثر مما هو موجه إلى الحكام، فبعضهم رأى تسليم الخطاب والتريث والتصرف تبعا لموقف النظام، والآخر رأى حمل الخطاب في مسيرة حاشدة وتسليمه للملك بشكل معلن، وآخر رأى عدم تسليمه بل قراءته في المساجد بعد صلاة الجمعة وربما جمع الناس من أجله، وأخيرا ترجحت فكرة التوزيع المباشر وإن لم تحظ بنفس إجماع الأفكار الأخرى، ولذا أضمر المتحمسون لها مشروعهم، وتحمل كاتب هذه السطور مسؤولية ذلك بنفسه.

الصياغة
كانت العقبة الأولى هي كيفية إخراج العصارة من نصيحة شاملة ومطالب متكاملة في صفحة واحدة، بل في ثلثي صفحة، وهذه لاشك مهمة صعبة فالاختصار دائما أصعب من الإسهاب، ثم إن هذا الاختصار يجب أن يحقق الأهداف الأخرى التي هي سهولة العبارة والقوة والشرعية والشمول، ولذا فقد استغرقت الصياغة زمنا ليس بالهين ولقاءات كثيرة حتى ظهر الخطاب بصورته الأخيرة.

كانت السرية في التنفيذ هي التحدي الثاني لأن أي تسرب للمشروع معناه إجهاض له، والسرية هنا لم تكن إخفاءا لخبر الخطاب وأهدافه عن النظام بل كانت إخفاءا له حتى عن كثير من رموز الصحوة الذين قد لا يفهمون أبعاد المشروع، وقد يتسببون في إجهاضه دون علم منهم، بل ربما كانت قدرتهم على الإجهاض أكبر من قدرة الدولة، وبحمد الله فقد تحققت تلك السرية بشكل جيد.

الخطة
أعد الخطاب صياغة قبيل رمضان من نفس العام 1411هـ، وبدأ النقاش عن كيفية تسيير عملية التوقيع، وذلك لأن طلب التوقيع من الناس هو كشف للمشروع، ومن جهة أخرى فقد ترجح لدى المجموعة ضرورة وجود موقعين أكبر بكثير من الأسماء الموجودة في الصفحة الرئىسية كدعم وتعضيد لهم، وهذه العملية فيها مخاطرة كبيرة، وهنا ظهرت لنا حيلة، وهي إجراء عملية التوقيع على مرحلتين، الأولى للصفحة الرئيسية فقط يحرص فيها على السرية التامة، ويجمع خلالها عدد يملأ ثلث الصفحة الأسفل، والذي وصل حقيقة إلى اثنين وخمسين اسما، والمرحلة الثانية هي السريعة وتجمع فيها التوقيعات على التوازي حيث تصور الصفحة الأولى بتوقيعات، ويمكن لكل من عرض عليه الخطاب للتوقيع الاطلاع عليه، ومعنى التوازي هو قيام أكثر من شخص في أكثر من مدينة أو مؤسسة بجمع التوقيعات على أوراق مختلفة، ولكن لنفس الخطاب وهذه الأسماء حتى لو لم تظهر في الصفحة الأولى فستشكل دعما معنويا وحماية اجتماعية للمجموعة التي وقعت على الصفحة الأولى.

وفيما نحن نتناقش حول طريقة التوقيعات بدت لنا فكرة هامة، وهي الحصول على دعم خاص من كبار العلماء الرسميين وفي مقدمتهم الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين، واختلفنا مرة أخرى حول الأمثل هل هو وضع تواقيعهم إلى جانب التوقيعات الأخرى، أم الأمثل الحصول على تزكية مستقلة للخطاب منهما، وترجح الرأي الثاني على أن ينفذ بعد اجتماع عدد جيد من أسماء الموقعين.

بعد استكمال الاستعدادات ووضوح الخطة وضع جدول زمني، وزع فيه الوقت المناسب للمرحلة الأولى والمرحلة الثانية من التوقيع، وتعين أن تكون لحظة التسليم للملك في شوال من نفس العام، وأما النشر والتوزيع فقد تم ترتيب جدول إضافي للنشر في الداخل ومن ثم في الخارج.

كانت عملية جمع التوقيعات والحصول على تزكية الشيخين عبدالعزيز بن باز ومحمد ابن عثمين، ومن ثم تفاصيل تسليم الخطاب أعمالا درامية طريفة، نراها في الفصل القادم.





















كيف سُلم خطاب المطالب وكيف ترددت أصداؤه


تحدثنا سابقا عن الظروف التي مهدت لمشروع خطاب المطالب، وعما بذل من جهد لإعداده، وتحدثنا كذلك عن فلسفة الخطاب وعن أهدافه, وانتهينا في سردنا التاريخي إلي بداية مرحلة جمع التوقيعات، وسوف نتحدث في هذا المبحث عن الكيفية التي تم بها جمع التوقيعات وعن تسليم الخطاب وانتشاره، وعما تمخض عنه من آثار اجتماعية وسياسية، وما أفرزه من ردود أفعال شعبية ورسمية.

التوقيع

كان أول الموقعين على الخطاب بعد الانتهاء من إعداده هو الشيخ العلامة حمود بن عبدالله التويجري رحمه الله الذي وضع ختمه الشهير في رأس الخطاب، ثم وقع بعده الشيخ عبدالله بن جبرين والشيخ عبدالمحسن العبيكان وعدد من مشايخ الرياض، ثم سافر أحد الإخوة بالخطاب إلى مكة حيث وقع عليه الشيخ سفر الحوالي والشيخ محمد بن سعيد القحطاني، وبعد ذلك إلى القصيم حيث وقع عليه الشيخ سلمان العودة والشيخ عبدالله الجلالي ومشايخ القصيم، ثم إلى المنطقة الشرقية حيث وقع عليه الشيخ محمد الشيحة وعدد من القضاة والعلماء في المنطقة الشرقية، ثم إلى المدينة المنورة وإلى المنطقة الجنوبية حيث وقع عليه العلماء والقضاة هناك، بعد ذلك عاد الخطاب إلى الرياض حيث استكمل التوقيع في الصفحة الأولى من قبل عدد من العلماء وأساتذة الجامعات والشخصيات الإسلامية الشهيرة.

بعد ذلك صورت عدة نسخ من الصفحة الممتلئة بالتوقيعات، وأرفقت مع كل نسخة صفحة من الخطاب خالية من التوقيعات، ووزعت تلك النسخ بالتوازي على مناطق المملكة مرة أخرى وجمعت على الصفحة الثانية المرفقة توقيعات أعداد من طلبة العلم وأساتذة الجامعات والقضاة، وبلغ المجموع الكلي للتوقيعات حوالي أربعمائة توقيع.

بعد استكمال التوقيعات نجحت المجموعة المشرفة على الخطاب في الحصول على تزكية تفصيلية من الشيخ ابن باز للخطاب في مقدار صفحة ونصف، يؤيد فيها الشيخ المطالب وينصح "ولاة الأمر" بإحالتها إلى هيئة كبار العلماء لدراستها وتحديد طريقة تنفيذها، فشجع ذلك الشيخ ابن عثيمين على كتابة خطاب تأييدي حذر، ذكر فيه أنه يؤكد ما قاله الشيخ ابن باز.

الفكرة محترقة!!
وفيما نحن مشغولون بجمع التوقيعات نشرت مجلة الجزيرة العربية التي كانت تصدر في لندن نص خطاب موجه للملك فيه بعض الشبه من الصيغة الواردة في خطابنا يحمل توقيعات حوالي أربعين شخصا من المثقفين والكتاب وعدد من الشخصيات الرسمية السابقة، فاتصل بي أحد الإخوة وقال: ماذا نعمل لقد حرقت الفكرة، قلت: لا تقلق! الفكرة لم تحرق، فمشروع خطابنا مختلف تماما سواء من حيث صياغة نصه أو من حيث نوعية الموقعين وعددهم، أو من حيث أسلوب تقديمه للجمهور، وكنت أضمر في نفسي خطة النشر الداخلية التي رتب لها ترتيبا جيدا، وكنت أعلم أن تداول الخطاب بين أيدي الناس في الداخل سيكون أثره أعظم بكثير من خروج الخطاب في مطبوعة تصدر في لندن لا يعلم الناس في الداخل عنها شيئا، هذا مع قناعتنا بضرورة النشر في الخارج لا لمجرد وروده في مطبوعة من المطبوعات، بل الغاية من ذلك أن يكون لنشره في الخارج أثر على الساحة المحلية، ولم نجد أنسب لذلك من السعي لإيراد خبر صدور الخطاب في إذاعة لندن نظرا لما لهذه الإذاعة من شعبية في المنطقة العربية بشكل عام، هذا بالإضافة إلى أن إيراد الخبر في إذاعة لندن يحقق أكثر من مجرد هدف النشر لما يتركه من انطباع لدى الناس من أن الأمر ينطوي على أهمية سياسية عالمية، فليس الحاكم وحده القادر على أن يصنع حدثا تتحدث عنه وسائل الإعلام العالمية، كما أن نشر الخبر يوفر نوعا من الحماية للقائمين على المشروع، لأن البطش بهم لن يكون سهلا.

التسليم
صار المشروع جاهزا في منتصف شوال من نفس العام 1411هـ، وكان لابد من التعجيل بتسليم الخطاب قبل أن ينكشف أمره ويجهض مشروعه، وتقرر أن يسلم الخطاب فورا قبل نهاية شوال وأن ترسل النسخة الأصلية للملك، وترسل نسخ من الخطاب للشيخ ابن باز بصفته المفتي والشيخ صالح اللحيدان بصفته رئيس الهيئة الدائمة للقضاء, وللأمراء عبدالله وسلطان وسلمان ونايف، أعدت النسخ بالتوقيعات الأربعمائة، وألحقت بكل واحدة منها نسخة من رسالة توجيهية في مقدمتها تعريف بالمحتوى، وكانت المشكلة التي اعترضتنا هي من يسلم الخطاب للملك وكيف؟؟

بعد المداولات ترجحت فكرة التسليم للديوان الملكي وأخذ إيصال بذلك, وعدم انتظار فرصة مقابلة الملك شخصيا لأن تلك الفرصة قد لا تسنح إطلاقا، شكل وفد لهذا الغرض من كل من الشيخ عبدالمحسن العبيكان والشيخ عبدالله التويجري والشيخ عبدالله بن جبرين والشيخ سعيد بن زعير على أن يسافر الوفد إلى جدة لتسليم الخطاب في الديوان، وفي صباح اليوم المحدد في حوالي العشرين من شوال حضر الجميع للمطار فيما عدا الشيخ عبدالله بن جبرين الذي تأخر عليه السائق، ففاتته الرحلة فلم تكتب له مشاركة وكتب له الأجر إن شاء الله، وصل المسافرون إلى جدة وسلموا الخطاب فعلا لمدير الديوان محمد النويصر، وسلمت بعد ذلك النسخ الأخرى للأشخاص المحددين، وبذلك انتهت المرحلة الأهم ـ مرحلة إيصال الخطاب إلى الملك ـ من مشروع هذه الوثيقة التاريخية التي عرفت بـ "وثيقة شوال".

استراحة
بعد التسليم تنفسنا الصعداء، وفضلنا الهدوء لعدة أيام، ثم استأنفنا النقاش حول الخطوة التالية، خطوة التوزيع والنشر في الداخل والخارج، في تلك الأثناء كان كاتب هذه السطور قد اتفق مع مجموعات أنيطت بها مهمة التوزيع في كافة أنحاء المملكة على أن تبدأ التوزيع بعد أسبوعين من تسلم الملك للخطاب في وقت واحد، وكنا ننتظر انقضاء الأسبوعين بفارغ الصبر حتى نشرع في التوزيع، وفي نفس الوقت كنا ننتظر رد فعل الدولة على الخطاب وعلى ذلك العدد الكبير من التوقيعات.

صدمة آل سعود
حين رأى الملك الخطاب أصيب بصدمة كبيرة، لم يصدم بصيغة الخطاب ولا بمحتواه ولكن صدم لأن التوقيعات التي عليه جمعت من حفر الباطن إلى جيزان ومن الدمام إلى جدة ومن المدينة إلى الإحساء دون علم المباحث ولا المخابرات، أين كان نايف؟ وماذا كانت تفعل وزارته؟ استدعى الملك نايف فورا ووبخه توبيخا شديدا، فماذا كان رد فعل نايف؟ لقد استدعى بدوره طه الخصيفان رئيس المباحث العامة ووبخه بشدة دل عليها ما أسر به الخصيفان لأحد رجال الصحوة من أن وقع خطاب المطالب على آل سعود كان أشد من وقع اجتياح العراق للكويت.

أما سلمان بن عبدالعزيز فاستشاط غضبا، ورفع الهاتف يتحدث لأحد إخوانه مستغربا كيف نجح معدو الخطاب في تحريك الشيخ الكبير حمود التويجري وكيف نجحوا في استصدار تزكية من ابن باز وكيف نجحوا في جمع ذلك العدد الكبير من التوقيعات.

التوزيع
بعد ذلك استعاد آل سعود توازنهم قليلا، وكلفوا سلطان بمقابلة عدد من الشخصيات الواردة أسماؤها في الصفحة الأولى اعتقادا منهم أنهم وراء مشروع الخطاب، اتصل سلطان بالدكتور أحمد التويجري وبالدكتور توفيق القصير وبالشيخ عبدالمحسن العبيكان وبالشيخ سعيد بن زعير وطلبهم للمقابلة، وبينما كانوا على وشك مقابلته بناء على موعد تم ترتيبه، اتصل مدير مكتب سلطان يخبرهم بإلغاء المقابلة، ذهب الظن ابتداء إلى أن سبب الإلغاء هو الحاجة إلى جمع مزيد من المعلومات، ولكن تبين فيما بعد أن السبب كان ورود تقارير من جميع أنحاء المملكة عن نشر الخطاب على نطاق واسع، مما وجه صفعة أخرى لآل سعود الذين كانوا لا يزالون في دوار من جراء الصفعة الأولى.

أصدر آل سعود بعد نشر الخطاب قرارا بمنع كل الذين وقعوا على الخطاب من السفر إلى الخارج، كان القرار غريبا، فلماذا يحظر السفر على الموقعين؟، تبين بعد التحليل والتدقيق أن عبقرية آل سعود توصلت إلى هذا القرار كوسيلة لمنع تسريب الخطاب ومن ثم الحيلولة دون نشره في الخارج، وفاتهم أن العالم أصبح قرية كونية لا مجال فيه لحجز المعلومات، وفاتهم أن الذي أتقن إعداد الخطاب وأتقن جمع التوقيعات وأتقن عملية النشر في الداخل ما كان ليصعب عليه نشره في الخارج، والحقيقة التي لم يعرفوها أن الخطاب كان قد سرب إلى الخارج قبل أن ينشر في الداخل، وجاء منع الموقعين من السفر ليكون دليلا آخر على الحماقة التي أضحت سمة من سمات النظام.

كان النشر في الداخل كثيفا فعلا، وتفنن الناس في طريقة النشر، فمنهم من وزعه يدويا، ومنهم من ألقى به داخل السيارات، ومنهم من أدخله إلى البيوت من تحت الأبواب ومنهم من وزعه في فتحات صناديق البريد، أو شبابيك البريد الداخلي للإدارات الحكومية، ومنهم من وزعه بالبريد الداخلي نفسه، إذ وصل الخطاب إلى عدد كبير من الناس عبر عناوينهم البريدية، وكان التوزيع في البداية عملا مشوبا بالخوف والتردد، ثم شجع توفره في أيادي الناس بشكل مكثف على توزيعه بشكل شبه علني، وصار من المشاهد الطبيعية أن تدخل أحد محلات البقالة أو القرطاسية وترى نسخ الخطاب مصفوفة أمامك لتستلم منها نسخة، وشوهد البعض يطوف بسياراته يوزع الخطاب علانية على الناس.

في بداية الأمر كلف رجال المباحث بتتبع الموزعين، وقد قبض على مجموعة منهم، لكن السلطات سرعان ما أدركت أن الخرق قد اتسع على الراقع.

في إذاعة لندن
وأخيرا، صدعت إذاعة لندن بالخبر، وتتابعت الإذاعات والصحف العالمية في التعليق على الحدث، واهتمت مراكز البحوث في الغرب والشرق بتحليل تلك الخطوة، وكان من أظرف التعليقات ما جاء في صحيفة الحزب الشيوعي الصيني في بكين من: أن هذا الخطاب كسر مقولة ماركس “الدين أفيون الشعوب”، فها هو الدين محرك للشعوب وهاهم “رجال الدين” قد أصبحوا روادا للثورة الفكرية والنهضة الثقافية.

تحول الخطاب إلي قضية المجتمع الرئيسية، وصار حديث الناس صباح مساء، واعتبر الموقعون أبطالا وقيادات اجتماعية تستحق التقدير، لقد كان النشر من أنجج الوسائل لوضع الأمة والعلماء والشخصيات البارزة أمام الأمر الواقع، وكان زخم الخطاب وقوته باعثا للموقعين على الافتخار بوجود أسمائهم في تلك الوثيقة، حتى أن الذين ترددوا في التوقيع في أول الأمر رفعوا بعد ذلك رؤوسهم عاليا معتزين بمشاركتهم في المشروع.

محاولة متأخرة
خلال تلك الفترة حاول النظام إقناع كبار الموقعين بالتراجع وجمع سلمان بن عبدالعزيز قضاة الرياض وجادلهم، ثم حاول تخويفهم فلم يفلح، وحاول آخرون من الأسرة مع علماء آخرين فلم ينجحوا إلا مع شخصين أو ثلاثة من بين أربعمائة اسم، كتب المتراجعون اعتذارات سرية، ورفضوا الإعلان عن تراجعهم خجلا من مواجهة الجمهور.

الهيئة... أدركونا
لم يجد آل سعود حلا سوى اللجوء إلى المشيخة الرسمية ليخاطبوا من خلالها عامة الجمهور علهم يفندوا ما جاء في الخطاب، كلفت هيئة كبار العلماء بدراسة الموضوع وإصدار بيان بشأنه، وأوعز الملك وسلمان إلى صالح اللحيدان وعبدالعزيز بن صالح رحمه الله وهما من أعضاء الهيئة بعمل شيء ما لتقبيح الخطاب في أعين الناس، وتسرب خبر اجتماع الهيئة فتحرك الجمهور للتأثير عليها, وتوجهت الوفود الكبيرة لتوعية أعضاء الهيئة وتذكيرهم بالله وبالمسؤولية الشرعية الملقاة على كواهلهم، وكان عجبا أن يكون عامة الناس هم الناصحين والمذكرين للعلماء، مع أن الأصل أن يكون ذلك هو دور العلماء الذين يفترض فيهم التجرد وإنكار المنكر أيا كان مصدره وإقرار المعروف أيا كان فاعله.

كان تجاوب أعضاء الهيئة متفاوتا فبعضهم كان يبدي تعاطفا مع مشروع الخطاب، بينما أبدى البعض اعتراضا شديدا واحتج بحجج واهية ليست من الدين في شيء، قال أحدهم "ماذا أبقيتم للأسرة الحاكمة"، وقال آخر "النصيحة لا ينبغي أن تقدم إلا من العلماء"، وهو يقصد بذلك أعضاء الهيئة.



النشر حرام!!
اجتمعت الهيئة وتحرك لوبي اللحيدان وابن صالح، فلم يستطع إقناع الآخرين بتقبيح الخطاب نفسه، ولكن نجح في استصدار بيان ينتقد نشر الخطاب باعتبار أن الخطاب نصيحة والنصيحة لا تجوز إلا سرا، وقُرئ بيان الهيئة في الإذاعة والتلفاز ونشر في الجرائد الرسمية في أواخر ذي القعدة من نفس العام.

كان صدور بيان هيئة كبار العلماء أول اعتراف رسمي من قبل الدولة بوجود كيان مستقل قدم عملا فكريا موجها للنظام الذي أجبر على الرد عليه من خلال جهازه “الشرعي”، إلا أن البيان كانت له آثار إيجابية على مشروع الخطاب بما أعطاه من زخم إعلامي، وبما تمخض عنه من تحويل فكرة “المعارضة” إلى حقيقة واعدة.

كان بيان الهيئة هو الحلقة الأخيرة من سلسلة ردود الأفعال التي رافقت نشر الخطاب، واستمرت موجة الحديث عن الخطاب والبيان ردحا من الزمن، وبطبيعة الحال لم يقدم آل سعود أي بادرة يثبتون بها أنهم مستعدون لقبول ما ورد في الخطاب من نقد واقتراح.

لقد حقق الخطاب ما أريد له أن يحقق من أهداف اجتماعية وحضارية ونفذ مشروعه بطريقة متقنة حتى قال أحد كبار المشايخ في وصف نجاحه: "كأني بهذا الخطاب يحمله ملك من الملائكة"، لقد سلم الخطاب قبل أن ينكشف أمره، ونشر في الداخل في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة، ونشر في الخارج عبر أفضل القنوات الإعلامية، وتحقق المطلوب من نشره من التوعية الجماعية لعامة الناس ولشباب الدعوة، وتحققت النقلة المتوقعة في تحويل اهتمام الشباب المتدين من القضايا الجانبية إلى القضايا الكبرى، وتحقق إقناع الأمة بأن الذي يتكلم باسمها ويطالب بحقوقها هم العلماء العاملون ومثقفوا الإسلاميين، وتبين من خلال الأسماء الواردة إجماع القيادات العلمية والثقافية على مطالب الخطاب.

درس من المشروع
وبالنسبة لنا، ولّد نجاح المشروع لدينا قناعة بأن المرء بإمكانه أن يصنع حدثا إن أراد، وأن بإمكانه أن يخاطب الأمة وينبه فكرها لو عزم على ذلك، لقد ولّد ذلك أيضا إحساسا بالإيجابية، وبأننا كأعضاء فاعلين في هذا المجتمع لدينا القدرة على تغيير الأحداث، وهذا بدوره أزال الشعور بالعجز والإمعية والقطيعية الذي سيطر على عقول وقلوب قطاع واسع من الإسلاميين في زماننا، ظنا منهم - مع الأسف الشديد - أن ذلك العجز هو قدرنا، لقد دفعنا هذا الشعور بالإيجابية والعطاء والانتاج للتصميم على مزيد من صناعة الأحداث سعيا لتغيير وجه المجتمع واتجاه التاريخ.

من النتائج الهامة للخطاب كذلك أنه كان عبارة عن تجربة حية للتعامل مع الواقع من خلال قضايا حساسة، والتعامل مع هذا الواقع وأطرافه المتعددة المتمثلة في الدولة والقيادات الاجتماعية والظروف المحلية والعالمية والشعب نفسه يعين على تعلم كثير من الحقائق الهامة من أجل المضي قدما في أي مشروع، ولقد تبين من هذا المشروع الذي يبدو سهلا وهو حقيقة مليء بالصعوبات وجود كثير من عوامل الضعف والقوة لدى التيار الإسلامي وتبين كذلك مدى استعداد القيادات للإيجابية والعطاء واستعداد الشعب للتعاطف مع قضايا الإصلاح، كانت هذه النتائج الحقيقية رصيدا غنيا يحتاجه المرء وهو ينتقل للمرحلة الثانية من مراحل العمل الجماهيري الاستراتيجي.



















نص خطاب المطالب
خادم الحرمين الشريفين وفقه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، فقد تميزت هذه الدولة بإعلانها تبني الشريعة الإسلامية، وما زال العلماء وأهل النصح يسدون لولاتهم ما فرضه الله عليهم من النصيحة، وإننا في هذه الفترة العصيبة التي أدرك فيها الجميع الحاجة إلى التغيير نجد أن أوجب ما تتوجه إليه العزائم هو إصلاح ما نحن فيه مما جلب علينا هذه المحن، ومن أجل ذلك فإننا نطالب ولي الأمر بتدارك الأوضاع التي تحتاج إلى الإصلاح في النواحي التالية:

* إنشاء مجلس للشورى للبت في الشؤون الداخلية والخارجية يكون أعضاؤه من أهل الاختصاصات المتنوعة المشهود لهم بالاستقامة والإخلاص مع الاستقلال التام دون أي ضغط يؤثر على مسؤولية المجلس الفعلية .

* عرض وصياغة كل اللوائح والأنظمة السياسية والاقتصادية والإدارية وغيرها على أحكام الشريعة الإسلامية، ومن ثم إلغاء كل ما يتعارض معها، ويتم ذلك من خلال لجان شرعية موثوقة ذات صلاحية.

* أن تتوافر في مسؤولي الدولة وممثليها في الداخل والخارج استقامة السلوك مع الخبرة والتخصص، والإخلاص والنزاهة، وأن الإخلال بأي شرط من هذه الشروط لأي اعتبار كان تضييع للأمانة، وسبب جوهري للإضرار بمصالح البلد وسمعته.

* تحقيق العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع في أخذ الحقوق وأداء الواجبات كاملة دون محاباة للشريف أو منة على الضعيف، وأن استغلال النفوذ أيا كان مصدره في التملص من الواجبات أو الاعتداء على حقوق الآخرين سبب لتمز ق المجتمع والهلاك الذي أنذر به النبي صلى الله عليه وسلم .

* الجدية في متابعة ومحاسبة كل المسؤولين بلا استثناء، لاسيما أصحاب المناصب الفعالة، وتطهير أجهزة الدولة من كل من تثبت إدانته بفساد أو تقصير بصرف النظر عن أي اعتبار.

* إقامة العدل في توزيع المال العام بين جميع طبقات المجتمع وفئاته، وإلغاء الضرائب وتخفيف الرسوم التي أثقلت كواهل الناس وحفظ موارد الدولة من التضييع والاستغلال,، ومراعاة الأولوية في الصرف على الاحتياجات الملحة، وإزالة كافة أشكال الاحتكار والتملك غير المشروع، ورفع الحظر عن البنوك الإسلامية وتطهير المؤسسات المصرفية العامة والخاصة من الربا الذي هو محاربة لله ورسوله وسبب لمحق البركة.

* بناء جيش قوي متكامل مزود بأنواع الأسلحة من مصادر شتى مع الاهتمام بصناعة السلاح وتطويره، ويكون هدف الجيش حماية البلد ومقدساته.

* إعادة بناء الإعلام بكافة وسائله وفق السياسة الإعلامية المعتمدة للمملكة ليخدم الإسلام، ويعبر عن أخلاقيات المجتمع ويرفع من ثقافته، وتنقيته من كل ما يتعارض مع هذه الأهداف، مع ضمان حريته في نشر الوعي من خلال الخبر الصادق والنقد البناء بالضوابط الشرعية.

* بناء السياسة الخارجية لحفظ مصالح الأمة بعيدا عن التحالفات المخالفة للشرع، وتبني قضايا المسلمين مع تصحيح وضع السفارات لتنقل الصبغة الإسلامية لهذا البلد.

* تطوير المؤسسات الدينية والدعوية في البلاد، ودعمها بكل الإمكانات المادية والبشرية، وإزالة جميع العقليات التي تحول دون قيامها بمقاصدها على الوجه الأكمل.

* توحيد المؤسسات القضائية، ومنحها الاستقلال الفعلي والتام، وبسط سلطة القضاء على الجميع، وتكوين هيئة مستقلة مهمتها متابعة تنفيذ الأحكام القضائية.

* كفالة حقوق الفرد والمجتمع وإزالة كل أثر من آثار التضييق على إرادات الناس وحقوقهم بما يضمن الكرامة الإنسانية حسب الضوابط الشرعية المعتبرة.











المدفع العملاق في الرياض


يقفز بعض المتابعين لمسيرة التغيير في الجزيرة العربية من الحديث عن خطاب العلماء إلى الحديث عن مذكرة النصيحة متجاوزين أحداثاً هامة في تلك الفترة الزمنية الحرجة، ترتبت عليها آثار وطّأت الأرضية، وهيّأت الأجواء لمذكرة النصيحة، وربما لم تكن تلك الأحداث أقل شأناً من خطاب المطالب ولا مذكرة النصيحة، رغم أنها لم تحظ بنفس الشهرة والانتشار، فما هي هذه الأحداث وكيف نشأت وتعاقبت؟ هذا ما سنتطرق له في هذا المبحث من مذكرات الصحوة.

الخطاب بداية فقط
كان مشروع خطاب العلماء بداية لتنفيذ الركن الأهم من استراتيجية التغيير، وهو إيصال رسالة الإصلاح للجمهور، وكان لدى المجموعة العاملة قناعة بأن من ضرورات التغيير الشامل والراسخ أن تعيش معك الأمة قضية الإصلاح، وأن تطلع على تلك الرسالة بتفاصيلها، وكان الخطاب هو الذي كسر الحاجز بين الأمة ومسيرة التغيير.

رغم أهمية الخطاب بوصفه قفزة حضارية ونقلة نوعية للمجتمع، فإنه لم يكن إلا بداية وكان لابد من إكمال مهمة إيصال تلك الرسالة، وإبقاء الأمة دائماً على علم بحقيقة حالها، وما يجب أن تكون عليه، وفي مثل الظروف التي تلت مشروع خطاب العلماء توجب أن يبدأ أي مشروع من حيث انتهى الخطاب ليبني على مكتسباته.

شرح الخطاب
وتطبيقا لتلك الفكرة اتفقت المجموعة المعدة للخطاب على إنجاز ذلك الأمر من خلال شرح مادة الخطاب، إلا أنها اختلفت حول أسلوب الشرح ونوعية الجمهور المخاطب به إلى فئتين: أما الفئة الأولى فهي الفئة التي أخذت بنجاح مشروع الخطاب، وعاشت في أصدائه واهتمت بردود أفعاله، وتأثرت بهاجس المراعاة لوضع الحكام والعلماء معتبرة ذلك أهم من الاستمرار في الخطاب المفتوح الواسع، وأما الفئة الثانية فهي الفئة التي رأت استكمال نفس الفكرة بالنظر إلى الهدف البعيد رغبة في تغيير الواقع والتأثير في المحيط بدلاً من التأثر به، واعتبار واقع الحكام والعلماء من القضايا المؤقتة التي تغير المبادرات الاستراتيجية كل معطياتها، ورأت الفئة الثانية أن ذلك لا يتحقق إلا من خلال استمرار أسلوب الخطاب الصريح الموجه إلى عامة الأمة، ولقد أظهرت الممارسة العملية أنه لم يكن ثمة تعارض بين الفكرتين، وسعى كل فريق لتنفيذ فكرته دون إبطال لفكرة الفريق الآخر.

الشرح الكتابي
أما الفريق الأول فسعى لتحقيق فكرته من خلال إعداد وثيقة تفصيلية تشرح المطالب وتدعمها بالدليل والتأصيل الشرعي، ومن ثم تقديمها لأعضاء هيئة كبار العلماء وبعض المسؤولين دون توزيعها على العامة، وكان أصحاب هذا الرأي حريصين على كسب رأي العلماء واسترضائهم أكثر من حرصهم على استكمال مشروع الخطاب العريض، ونظراً لأن هذه المهمة سهلة التنفيذ سواء من ناحية إعداد الوثيقة أو من ناحية توزيعها المحدود، فقد نفذت بسرعة من خلال إعداد بضعة صفحات من النصوص الشارحة للخطاب سلمت للأشخاص المعنيين.

ولا يُعرف إن كان الهدف الذي أعدت من أجله هذه الوثيقة تحقق أم لا؟، فهو هدف غير قابل للقياس إذ من الصعوبة بمكان معرفة وجهة نظر العلماء الرسميين إلى أن يختبروا في أزمة أخرى، أما من حيث الآثار الاجتماعية فمن الطبيعي أن لا تترك هذه الوثيقة التي أعدت وسلمت للعلماء في نهاية شوال من عام 1411هـ أثراً يذكر.

الشرح الصوتي
وأما الفريق الثاني فقد سلك طريقاً تعثر في بدايته، ثم ما لبث أن غير مساره فحقق نجاحاً جيدا، وكانت الخطة المطروحة لتحقيق فكرة هذا الفريق هي إقناع أحد العلماء أو الدعاة أو عدد منهم بالتصدي لمهمة شرح خطاب المطالب من فوق المنبر، والمقصود هنا ليس مجرد شرح الخطاب والتعريف ببنوده وتقديم التأصيل الشرعي له، وإنما المقصود هو تعويد الشارع وتدريب الجمهور على نقاش القضايا الحساسة مع قياداته الشرعية ورموزه الاجتماعية دون خوف أو تردد، واعتبار الحوار في قضايا السياسة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم حقاً شرعياً للأمة وأمراً طبيعياً ينبغي أن يحدث بشكل روتيني منتظم، وسعياً لتنفيذ تلك الفكرة فقد فوتح عدد من الدعاة بها، لكن النتيجة جاءت مخيبة للأمل، حيث اعتذر كل الذين فوتحوا لعدم استعدادهم لتلك المهمة بطبيعة الحال ليس تهرباً ولا نكوصاً، ولكن لعدم القناعة بأن الأمة مهيأة لهذه الخطوة "الخطيرة"، وفي تقديري كان ذلك الاعتذار نكسة، وكان عذر هؤلاء غير مقبول في نواميس التغيير، فكيف يراد للأمة أن تتهيأ إذا لم يسع لتهيئتها روادها، ولماذا تضيع هذه الفرصة الذهبية وأصداء الخطاب لاتزال تتردد في أرجاء البلاد، وكأني بثمرة يانعة تبحث عمن يقطفها، فعافها من هو أحق بها وتركها.

ولربما كانت الرموز في تلك المرحلة أبطأ من حركة الجمهور واستعداد الأمة أكبر من عطاء الرموز، ولذلك فقد كانت التطلعات أكثر من قدرات وإمكانيات الحركة الإسلامية.

أمام هذا الاعتذار من قبل القيادات، لم يكن التراجع مقبولاً، وكان لابد من وسيلة أخرى يتم بها تجاوز تلك الصعوبة، وهنا لاحت لنا طريقة تنفذ بها الوسيلة، شريط مسجل بصوت شخص غير معروف تتضمن الشرح الكامل للخطاب.

مشروع جاد
قفزت الفكرة إلى الذهن كما لو كانت طرفة أو خيالا، ثم ما لبثت أن تحولت إلى مشروع جاد، وحرص الذين تبنوا تلك الفكرة علي أن يبقوها داخل إطارهم منعاً لإحراج الفريق الآخر الذي تحفظ على أصل الفكرة، وهكذا تقرر أن نشرع في تنفيذ الفكرة التي تحولت في النهاية إلى إنتاج شريط من جزئين غاية في الخطورة، بل بلغت خطورته أن سمّاه بالمدفع العملاق، تشبيهاً له بالمدفع الذي كان يصنعه العراق بزعم ضرب إسرائيل، والذي كان حديث الصحافة والإعلام في تلـك الأيام.

لقد جاء الشريط ليملأ فراغاً هاماً في ساحة العمل السياسي في الفترة ما بين خطاب العلماء ومذكرة النصيحة، فكيف أعد هذا الشريط وما هي ملابساته وآثاره؟

يعتبر إنتاج شريط بصوت سري عملاً حساساً من الناحية الأمنية، وكان من طبيعة العاملين في الساحة الإسلامية تجنب الأعمال التي توحي بالمواجهة، ولذلك كان من المنطقي أن يتخذ قرار إنتاج هذا الشريط بمعزل عن أي شخص تحفظ على إعداده، ولهذا السبب ائتمر الأفراد الذين تحمسوا للمشروع في مجموعة منفصلة دون أن يعلم عنه الآخرون، وشرعوا في تنفيذ الفكرة بشكل مستقل.

محاولة غير مكتملة
كانت فكرة الشريط ابتداءً موجهة لنفس مفهوم شرح الخطاب بشكل مباشر، ومن ثم حورت قليلاً إلى الحديث عن واقع البلاد الشرعي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي، وتم فعلاً كتابة مادة الشريط في نهاية شهر شوال 1411 وبداية شهر ذي القعدة، وفيما نحن نعد المادة تكفل أحد الإخوة بمهمة العثور على قارئ مستعد للتضحية فيما لو عرف صوته، وبعد بحث مضن عثر على من أبدى استعداده للقيام بالمهمة، وفي نفس الأثناء أعدت المادة وطبعت على الآلة الكاتبة لتسهيل مهمة القراءة، وكان كل ذلك محاطاً بالسرية التامة حتى عن الفريق الآخر من المجموعة التي اشتركت في إعداد الخطاب.

وقبيل الحج أنجزت مهمة تسجيل المادة على الشريط، وكنا حريصين على إدراك موسم الحج لنستثمر فرصة التجمع الإسلامي العظيم لتوزيع الشريط على أوسع نطاق، وكان الذي تكفل بمهمة التسجيل على غير اطلاع بتكنولوجيا التسجيل وتغيير الأصوات، وحاول تغيير الصوت بأساليب بدائية لم تحقق التغيير المطلوب، ومع ذلك فقد نسخ من الشريط مئات النسخ وعبئت السيارات المتجهة للحج من أجل توزيع الشريط في الحج، ولم تكد السيارات تنطلق متوجهة إلى مكة المكرمة حتى بدا لقارئ الخطاب أن تغيير الصوت لم يكن ناجحاً وأن كل من سيسمعه سيميّزه، وهنا سارع إلى اللحاق بالسيارات وإقناع أصحابها بتفريغ الحمولة وإتلافها، وبهذا جمدت الفكرة إلى أجلٍ.

ورغم تعاطفنا مع صاحب الصوت وإشفاقنا عليه فقد أسفنا على فوات فرصة الحج، حيث كان يمكن توزيع مئات بل آلاف النسخ من الشريط دون محاذير أمنية وبالسرعة المناسبة، لكننا عندما عدنا إلى مادة الشريط وراجعناها تبين لنا أن تراجع الأخ المذكور كان من توفيق الله، حيث دلت المراجعة الثانية أن المادة فيها محاذير كثيرة قد تضر بالهدف الذي أعدت من أجله، وبدا لنا أن المادة كتبت على عجل وبأنها تستحق من الوقت والجهد والمراجعة أكثر مما نالت، وعندها وقفنا قليلاً، وقررنا إعادة النظر في عدة أمور بما في ذلك محتوى الشريط، واختيار القارئ وطريقة التسجيل وتغيير الصوت.

المحاولة الثانية
حين ناقشنا فكرة المحتوى تبين لنا أن الاستعجال في شرح بنود خطاب المطالب قد يكون سابقاً لأوانه، خاصة، وأن توزيع ونشر خطاب المطالب قد كشف عدداً كبيراً من المفاهيم المغلوطة الملصقة بالشرع مثل مفهوم سرية النصيحة ومفهوم الخلط بين الفتنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واقتنع الجميع بعد حوار طويل أن الأولوية هي لتصحيح هذه المفاهيم حتى تصبح العقول مهيأة لسماع أي شرح لخطاب المطالب.

الشريط الأول
وعند ذلك شرعنا فوراً في إقصاء عدد من تلك المفاهيم الخاطئة والرد عليها من خلال تأصيل شرعي عميق، وتضمن الشريط كذلك تساؤلات عن حقيقة دعوى تطبيق النظام السعودي للشريعة، واختتم الشريط بأربع رسائل هامة منها واحدة للنظام الحاكم نفسه، وأخرى للعلماء، والثالثة للجيش، والرابعة للمباحث، وصيغت هذه الرسائل بعناية فائقة حتى تحقق أكبر درجة ممكنة من الحرج للجهات المخاطبة.

وسعياً لإنجاح فكرة الشريط، فقد حرصنا فيه على اللغة الشرعية الرصينة والبعد عن القضايا الفردية والهجوم الشخصي، بل حرصنا فيه على الاقتصار على القضايا التي هي محل إجماع وقبول، وحرصنا فيه كذلك على تجنب إجبار السامع على أي موقف، بل كانت المادة عرضاً للفكرة بالدليل والشواهد والقرائن، وتُرك الاستنتاج للسامع، وهـــو فيما ظنناه الأسلوب الأكثـــر تحبيبـــــاً للسامع وتحفيزاً له للــوصول إلى الاستنتاج بنفسه.

تم الانتهاء من إعادة صياغة المادة بنجاح وبسرعة مناسبة، وبينما كانت تجري طباعتها على الآلة الكاتبة كنا في الحين نفسه نبحث عن متطوع آخر ليسجلها بصوته على الشريط، وكنا أيضاً نبحث عن وسيلة فنية لتغيير الصوت، أما القارئ فوفقنا للحصول عليه بطريقة تشبه المعجزة، ولا تسمح الظروف ببسط تفاصيلها، وفي نفس الوقت عثرنا على جهاز تسجيل خاص يغير الصوت اشتريناه لهذا الغرض، وفي أواخر شهر المحرم من عام 1412هـ وأوائل شهر صفر أعد الشريط وغُيّر الصوت، وبعدها نسخت عشرون نسخة تقريباً، أرسلت كل واحدة منها إلى منطقة من المناطق ومن هناك انتشر الشريط انتشاراً واسعاً وبسرعة كبيرة.

اتسعت دائرة انتشار الشريط وتجاوزت حدود الشباب المتحمس والحركي إلى دائرة العلماء فالمثقفين، وأصبح الشريط حديث المجالس، وتسابق الناس لإطلاق الأسماء عليه، ولكن كان أكثر الأسماء شيوعاً هو "المدفع العملاق" تعظيماً لمحتواه.

شريط.. لغز
ورغم أن الشريط كان بصوت شخص غير معروف، فقد لاقى استحساناً وقبولاً لدى معظم شرائح المجتمع، وتبين أن السياسة التي اتبعناها في ضبط صياغة الشريط قد آتت أكلها، أما الهدف الأساسي منه وهو تصحيح المفاهيم فلم يكن ليتحقق بتلك السرعة، لكنه كان يكفينا أن نضع تلك المفاهيم التي غرسها النظام على مدى الأجيال موضع الشك، فاقتصار النصيحة على الأسلوب السري رغم علنية المنكرات لم يعد أمراً مسلماً، كما لم يعد لفظ "العالِم" اسماً محصوراً على العالِم الذي يعينه الحاكم، بل إن العالِمَ هو العامل بعلمه الداعي له والصابر على الأذى في ذلك، ولم تعد مهمة إنكار المنكر من تخصص فئة معينة من الناس، بل هي مهمة كل قادر من المسلمين عارف بفقه المنكر الذي ينكره، ولم يعد الصدع بالحق من إثارة الفتنة والبلبلة بين الناس، بل هو من الواجبات والفرائض العظيمة التي تأثم الأمة بتعطيلها، وهكذا كان كل واحد من هذه المفاهيم موضع تحقيق ومراجعة وإعادة إلى الأصول الشرعية التي كشفت الفرق بين إسلام محمد صلى الله عليه وسلم وإسلام آل سعود، وبين فهم الصحابة وفهم علماء السلطة.

كان صوت القارئ رخيماً دافئاً أضفى على الشريط رزانة وثقلاً، وساعد على قبوله وانتشاره، ولقد أبدى كثير من السامعين إعجابهم بعمق التأصيل الشرعي والخطاب المنضبط المسؤول، وجزم كثير ممن سمع الشريط بإمعان بأن القارئ طالب علم جيد، ولم يخطر ببالهم أنه يقف خلف ذلك الشريط مجموعة، وأن القارئ ليس إلا واحداً منهم.

أرق الملك
كان من الطبيعي أن يحدث انتشار الشريط إحراجاً للنظام الذي فوجئ به كعمل جديد وظاهرة لم يتعود عليها ولم يتهيأ لها، بل يقال إن الملك لم يتمكن من النوم ثلاث ليال متتالية بعد سماعه للشريط، ولقد كانت الاحتياطات الأمنية التي اتخذت في الإعداد قوية لدرجة أن أقرب القريبين لم يعرف بخبره، ولقد حرص الذين أعدوا الشريط على قطع الخيوط والحبال التي تؤدي له، فلم يسلم الشريط باليد لأي جهة توزيع، بل كان يوزع من تحت الأبواب، أو يرمى داخل السيارات، أو في صناديق البريد، ولذلك لم تفتح قناة واحدة يمكن من خلالها تتبع مصدر الشريط.

لم يشأ النظام أن يواجه أزمة الشريط علانية، حتى لا يمنح الشريط دعماً إعلامياً يرفعه من مستوى السرية إلى العلنية، بل حرص على تتبع الموزعين ومحاولة معرفة المصدر، وكان النظام يعتقد أن الموزعين يقتصرون على مكان أو مكانين، لكن تبين أن التوزيع شامل في جميع أنحاء البلد، وباءت كل محاولات النظام لتتبع مصدر الشريط بالفشل الذريع، فكل سلسلة تنتهي بشريط في السيارة أو من تحت الباب أو على طاولة الدراسة أو في المسجد، وبعد ذلك الفشل بثت سلطات المباحث إشاعة مفادها أن من يدل على مصدر الشريط فله ستة ملايين ريال، وانتشرت تلك الإشاعة بشكل كبير، وتعامل معها بعض الموتورين كعرض جاد، وسعوا فعلاً لمعرفة المصدر، لكن بلا جدوى.

انتشار ذاتي
كان من الطبيعي أن يستغرق انتشار الشريط أكبر بكثير من انتشار الخطاب، فالخطاب يصور بأي آلة تصوير وتنسخ منه عشرات النسخ في دقائق معدودة، أما الشريط فلا ينسخ إلا بأجهزة خاصة، ويستغرق النسخ زمناً طويلاً ويحتاج مالاً كثيراً، ومع ذلك فقد كان الانتشار أسرع من المتوقع، فلم تمض أسابيع حتى كان في جميع أنحاء البلد، ومن لم يسمعه سمع به، وبدأ يبحث عنه.

الشريط الثاني
حين سُلم الشريط الأول لمراكز التوزيع شرعنا فوراً بإعداد الشريط الثاني، وبدلاً من أن نجعل مادته مجرد شرح لبنود خطاب المطالب، فقد تحولت المادة إلى تقويم للنظام من الناحية الإسلامية، حيث أعدت المادة بحيث تقارن بين الشكل الذي يفترض أن تكون عليه الدولة الإسلامية، وبين واقع دولة آل سعود وممارساتها في مجال السياسة والقضاء والاقتصاد والاجتماع والجيش والإعلام، وغير ذلك من الأمور، وحرصنا مرة أخرى على أن يكون التأصيل الشرعي عميقاً، وحرصنا كذلك على أن لا نلزم السامع بأي استنتاج ونترك له استخلاص النتيجة بنفسه، وسجل الشريط ووزع بنفس الطريقة في نهاية ربيع الثاني وبداية جمادى الأولى من عام 1412هـ، أي بعد شهرين تقريباً من تاريخ توزيع الشريط الأول، واستمر توزيع الشريط يتنامى، واستمر الحديث عنه وعن مادته، وبقي سر الشريط طي الكتمان سنتين كاملتين.

مفيد ولكن
ورغم قوة مادة الشريط وسعة انتشاره إلا أنه لم يكن في الحقيقة عنصراً رئسياً في مسيرة الإصلاح، وإنما كان عامل دعم ومساعدة وتأييد، لقد أعان الشريط على تهيئة الأجواء من خلال دحض المفاهيم المغلوطة كما أعان على تثقيف الجمهور بحقيقة الفرق بين الشعار الذي ترفعه الدولة في تطبيق الإسلام وبين ممارساتها الحقيقية، ومع أن الشريط لم يكن في ذاته من ضمن وثائق التغيير، لكنه في الحقيقة وطّن للتغييرات الهامة التي لحقت، فلم تمض أشهر قليلة إلا وأنشئت لجنة الجامعة للإصلاح والمناصحة، وما كاد العام ينصرم، حتى قدمت الوثيقة الثانية من الوثائق الكبرى للصحوة وهي مذكرة النصيحة، لقد كان الشريط بمثابة تمهيد لتلك المذكرة وتهيئة لإخراجها إلى حيز الوجود، وفي اعتقادنا لم تكن مذكرة النصيحة إلا ترجمة معلنة لمحتوى ذلك الشريط.





مذكرة النصيحة
انتشر الشريط الأول من أشرطة المدفع العملاق في محرم من سنة 1412هـ، وانتشر الشريط الثاني بعده بأربعة أشهر، وكان الناس في تلك الفترة لا يزالون حديثي عهد بخطاب المطالب، بل وبتداعيات أزمة الخليج.

مناسبة نافعة
في رجب من العام نفسه حصلت حادثة هامة في جامعة الملك سعود ترتب عليها مجموعة من الأحداث تمخضت أخيراً عن الوثيقة المشهورة بمذكرة النصيحة.

كان حديث الناس في تلك الأيام عن مؤتمر مدريد للسلام وموقف الشرع منه، وكانت مجموعة من علماء الشباب يربو عددهم على العشرين قد قدموا رسالة للشيخ ابن باز ينصحونه بها بعدم التورط في دعم هذا المشروع الخطير، وتسرب للجمهور نسخة من هذه الرسالة التي احتوت على الدليل الشرعي والمنطقي على أن أي فتوى في ذلك الاتجاه إنما هي خيانة للدين وتقوّل على الله بغير علم وتضليل للأمة، وبالمناسبة فقد كانت تلك الرسالة من أحد الأسباب المهمة في تأخر فتوى الشيخ ابن باز في تأييد الصلح، حيث لم يعلن عن ذلك إلا بعد أن اعتقل معظم أولئك الموقعين على تلك الرسالة، وأودعوا السجون.



في مسجد الجامعة
حاول خطيب المسجد الجامع في مسكن أعضاء هيئة التدريس في جامعة الملك سعود الادلاء بدلوه في نقاش قضية السلام مع أن وزارة الأوقاف كانت قد أصدرت تعميماً بعدم التطرق لهذا الموضوع.

وكانت تلك الخطبة غير مركزة وغير واضحة، ولم يتبين من الخطيب إن كان يؤيد أو يعارض مشروع مدريد مما تسبب في تضايق وتململ المصلين، لم تكد الصلاة تنقضي حتى قام أحد أعضاء هيئة التدريس، وانتقد بقوة تلك الميوعة في طرح القضية وأكد بوضوح أن ما يجري في مدريد هو تقبيل لأقدام الصهاينة واضفاء للشرعية على الكيانات المغتصبة لبلاد المسلمين، ولقد تبين أن المصلين تجاوبوا مع هذا التعليق وأعجبهم تحديد ذلك الموقف.

استدعاء
غير أن السلطات لم يعجبها ذلك، فلم تمر أيام حتى استدعي الخطيب نفسه من قبل إمارة الرياض ومن قبل وزارة الأوقاف، واعتبر مسؤولاً عن إثارة القضية وعن السماح لغيره بالتعليق، وكان الاستدعاء مهيناً ومحرجاً حقيقة، فقام الخطيب بالرد بطريقته الخاصة، حيث جعل كل خطبته في الجمعة التالية عن جهاز المباحث، وكيف أن مهنة المباحث مهنة محرمة وأن حقيقتها هو التجسس والنميمة، ولاشك في ذلك.

وكان الخطيب قد اجتهد، وأعد مادة ممتازة في هذ ا الباب حركت عقول وعواطف ومشاعر المصلين ضد أجهزة التجسس والنميمة، حتى لقد أصاب المصلين من أعضاء هيئة التدريس نشوة بسماع مثل هذا الكلام من فوق المنابر، ذلك لأن الجميع يعلم أن المباحث مجرمون ممتهنون للتجسس والنميمة، لكن لا أحد يجرؤ على أن يقول ذلك من فوق المنبر.

الخطيب يفصل
لكن هل كانت السلطات لتسكت؟ هذالمرة لم تكتف باستدعاء الخطيب، بل صدر أمر من جهات عليا بفصله من الخطابة، ومنعه من ارتقاء المنبر، وانتشر خبر فصل الخطيب في منتصف الأسبوع حيث كان هناك ما يكفي من الوقت لإعداد رد فعل مناسب من قبل روّاد المسجد، لقد اجتمع عدد من الاساتذة اجتماعاً عاجلاً، وقرروا التعبير عن عدم الرضا علناً في المسجد نفسه إذا حضر أي خطيب آخر.

مهرجان ولجنة
جاء يوم الجمعة التالية، وحلّ وقت الصلاة فلم يظهر الخطيب السابق، بل صعد إلى المنبر شيخ آخر، وأقيمت الصلاة وعندما سلم الإمام، قام أحد الأساتذة وتساءل عن خطيب الجمعة ما الذي أصابه، وعندها قام الخطيب الراتب وكان من بين المصلين، وأخبر المصلين جميعاً أنه مفصول، ثم جلس فقام بعده سلسلة من المتكلمين يعبرون عن انزعاجهم من هذا التصرف واعتراضهم على معاملة أساتذة الجامعات كالحيوانات، بل إن أحد المتكلمين قرأ خطاب وزارة الأوقاف علناً، وعلق عليه بسخرية ونقد شديدين، وتحولت تلك الكلمات إلى ما يشبه المهرجان حيث تتابع على المايكروفون ما يقارب العشرة من الأساتذة، الذين طالبوا بضرورة تكوين وفد من المصلين يقابل المسؤولين ويعبر عن رفضه لتلك التصرفات، وبادر أحد المتكلمين، وطلب من المصلين تكوين لجنة لدراسة القضية ومناقشتها مع الجهات المختصة، وفعلاً تم ذلك في نفس الجلسة حيث انتخب من بين المصلين اثني عشر أستاذاً من أساتذة الجامعة، وأصبحوا أعضاء في لجنة المطالبة بعودة الخطيب، وكان الحماس لدى الجميع بادياً إذ باشرت اللجنة عملها فوراً، واجتمعت في نفس المسجد بعد ذلك المهرجان، وانتخبت مقرراً وأعدت جدول أعمال لمتابعة القضية، وكلفت أعضاءها بمهمات للقاء القادم.

وشريط آخر
كانت أحداث تلك الجمعتين قد سجلت على شريط كاسيت كاملة، حيث كان عدد من الشباب قد تهيأ بأجهزة التسجيل استعدادا ً لتسجيلها ومن ثم نشرها، وما إن انتهى المهرجان حتى دمج تسجيل الخطبة التي تحدثت عن المباحث والمهرجان كاملاً في شريط واحد، ونسخت منه نسخ عديدة، حيث انتشر بعد ذلك بشكل سريع وكثيف يوازي انتشار المدفع العملاق، وسمي بعد ذلك عدة أسماء منها شريط مهرجان الجامعة، شريط حكم المباحث، وقد ساعد انتشار هذا الشريط على إيصال الرسالة إلى دائرة أكبر بكثير من دائرة الجامعة، وهي خطوة مهمة جداً حتى تثبت للجميع أن هناك من رواد الإصلاح من لا يرضى بالضيم والظلم، وهو مستعد على الأقل بمحاولة تغيير المنكر بلسانه وإبراء ذمته علناً، ومستعد للتخطيط للعملية وترتيبها ومتابعتها متابعة منظمة، وكان لذلك أثر جيد في تحقيق مشروع التوعية والاستنهاض العام.



احتجاج
بعد أن تفرق الناس من المسجد لم يفتر حماس أعضاء اللجنة، واجتمعوا مرة أخرى في نفس الليلة، وشرعوا في إعداد خطاب موجه للملك حول تلك الحادثة، وكُلف أحد الأعضاء بالاتصال بإمارة الرياض لتحديد موعد لمقابلة أمير الرياض، وعندما اتصل الشخص المكلف بالأمارة طلبه الأمير شخصياً للمقابلة ورفض مقابلة المجموعة كاملة، وعندما حضر في الإمارة حاول الأمير سلمان إيصال رسالة تهديد وغضب من قبله ومن قبل آل سعود للمجموعة التي رتبت ذلك المهرجان، ورفض مرة أخرى فكرة مقابلة اللجنة، ومن طرائف ما قاله سلمان معبراً عن غضبه: “ إنكم لن تخيفونا بمهرجانكم ولا بشريط المدفع العملاق”، وأشار إلى شريط كاسيت موضوع على طاولته في مكتبه في الأمارة، وكان يقصد شريط المدفع العملاق نفسه الذي سبق الحديث عنه، ومن الطرائف أن الشخص الذي قابل سلمان لم يكن يعلم شيئاً عن المدفع العملاق، فأثارت عنده تلك التسمية شيئاً من الدهشة والاستغراب ولسان حاله يقول عمّاذا يتحدث الأمير، وقام الأمير سلمان بتوجيه تهديد للجنة بأن أعضاءها يعرضون أنفسهم للاعتقال إذا ما قاموا مرة أخرى بالحديث في المسجد.

اللجنة تعمل
بعد أن رفض الأميرسلمان المقابلة اجتمعت اللجنة، وقررت السعي للالتقاء بالملك شخصياً، وتقديم الخطاب له يداً بيد، وقررت اللجنة إحاطة المصلين علماً بالتطورات لأنهم هم الذين انتخبوها واختاروها، وتصدى لتلك المهمة مقرر اللجنة الذي قام بعد صلاة الجمعة في الاسبوع التالي، وأفاد المصلين بالتطورات، وقرأ عليهم صيغة الخطاب الموجه للملك طالباً منهم ابداء ملاحظاتهم أو تعليقاتهم، وأجيز الخطاب من قبل المصلين.

بعد ذلك التقت اللجنة من أجل ترتيب عملية مقابلة الملك، وكلف أحد الأعضاء بالاتصال بالديوان الملكي الذي رفض إعطاء موعد للجنة، وبعد أن أيست اللجنة من احتمال مقابلة الملك قررت التوجه بطريقين الأول مقابلة ولي العهد، والثاني مقابلة الشيخ ابن باز، أما مقابلة الشيخ ابن باز فكانت سهلة جداً حيث رحب الشيخ بالفكرة، ووافق علي إجراء المقابلة فوراً، وكانت مقابلة الشيخ هي القناة التي تأسس من خلالها لجنة الجامعة للاصلاح والمناصحة، وأعد من خلالها مذكرة النصيحة.

ولي العهد وابن باز
وأما مقابلة ولي العهد فقد لاقت بعض الصعوبات، وأخيراً تمت لعدد محدود، وكانت عديمة الفائدة لأن ولي العهد عبر بشكل غير مباشر عن عدم متابعته للأحداث ورغبته في عدم التدخل.

أما لقاء الشيخ ابن باز فكان جيداً حيث رحب الشيخ باللجنة، وتكفل من جهته بإيصال خطاب الاحتجاج إلى الملك، وكان أهم ما حصل مع الشيخ بالإضافة إلى تعارفنا معه وتعريفه بما يجري هو الاتفاق معه على لقاء شهري لمتابعة قضايا تخص الجامعة والمجتمع ووافق الشيخ بحماس على تلك الفكرة.

خطيب الحكومة
التطور الآخر جاء في الجمعة الثالثة بعد جمعة المهرجان، حيث فوجئنا في الجامعة بخطيب يرفع سيف الهجوم علينا في الجامعة، ويتهمنا بسوء النية لأننا قمنا بالنصح علناً، ويغدق في مدح آل سعود حتى جعلهم "غرّة في جبين التاريخ"، ورغم تهديد سلمان واتفاق أعضاء اللجنة على تجنب الإثارة وتفادي المواجهة لم يتحمل أحد أعضاء اللجنة الموقف، وقام بعد الصلاة معبراً عن امتعاضه من كلام الخطيب، ثم قام بعده أستاذان آخران من الجامعة تحدثا بما يشفي الغليل حيث بين المتحدثون للمصلين أن الخطيب مغالط وجاهل، وعندما انتهى المتحدثون قام المصلون إلى الخطيب يعاتبونه ويؤنبونه علي كلامه.

رغم تهديد سلمان لم يتعرض أحد من المتحدثين لأي استجواب بعد قيامهم في المسجد وانتقادهم الخطيب، ولقد أعطت تلك الحادثة دفعة جديدة لأعضاء اللجنة وأنصارهم بالمضي قدماً في مشروعهم وتطويره.

عاد أعضاء اللجنة من الشيخ ابن باز شاعرين بأن هناك شيئا من الإنجاز، ورغم شعورهم بعجز الشيخ فقد اعتبروا الاجتماع معه خطوة نافعة ومفيدة لكف شر النظام عنهم، خاصة وأنه وافق على تحويل هذا الاجتماع إلى لقاء دوري.

اللجنة ومشروع متكامل
بعد لقاء الشيخ اجتمعت اللجنة وقررت توسيع مهمتها من مجرد المطالبة بعودة الخطيب إلى مجموعة مطالب شاملة للإصلاح، وتقرر أن ترتب وتناقش مع الشيخ بطريقة شمولية.

تم اللقاءالثاني مع الشيخ قبيل رمضان، وكان اللقاء بمثابة استعراض لأوضاع البلد أمام الشيخ من أجل تعريفه حقيقة بما يجري ولإبراء الذمة من قبلنا، ولإقامة الحجة على الشيخ نفسه، ولقد تبين أن الشيخ لم يتعود على عرض بمثل ذلك التفصيل والشمول.

فكان كلما تجاوزنا قضية طلب منا أن نكتب له فيها حتى يتبنى الأمر، وأن يوصله إلى الملك أو المسؤولين، وبعد أن كرر الشيخ طلبه ذلك اقترحنا عليه أن نجعل الكتابة واحدة وشاملة، وأن نحيط فيها بكل تلك القضايا المطروحة، وتحمس الشيخ للفكرة وأيدها، وطلب منا الشروع فيها.

المسودة الأولى
اجتمعت اللجنة بعد ذلك، وتناقشت في طلب الشيخ حيث تحمس للفكرة عدد من أعضاء اللجنة، وأبدوا استعدادهم لإعداد مسوّدة كاملة عن أ وضاع البلد وعرضها على اللجنة خلال أسبوع، وكان ذلك الاستعداد بمثابة التحدي من قبل الآخرين من أعضاء اللجنة، ومضى أسبوع كامل، واجتمعت اللجنة، وكانت تلك المجموعة المتحمسة عند وعدها، إذ وجد أعضاء اللجنة المسوّدة جاهزة، وكان لكل عضو من أعضاءها نسخة، عند ذلك اقتنعت اللجنة بتطوير الفكرة وتحويل تلك المسوّدة إلى مذكرة جامعة عن أحوال البلد، وكلفت من أعضاءها مجموعات فرعية للكتابة التفصيلية في الأبواب التي تطرقت إليها المسوّدة، وشرع المكلفون فعلاً بإعداد الأبواب التي كلفوا بها، وحل علينا رمضان في ذلك العام ونحن نعد تلك المذكرة، وتقرر أن يكون كل لقاء من لقاءات اللجنة التي أصبحت لقاءات منتظمة في كل أسبوع مخصصاً لمراجعة أحد الأبواب، وفي أحد الاجتماعات في منتصف رمضان قرر الأعضاء مراجعة دور اللجنة التي تجاوزت عملياً دورها للمطالبة بإعادة الخطيب المفصول، وقررت اللجنة تحديد إطار لعملها وبرنامجها، وفي لقاء اللجنة التالي تقرر أن تهتم اللجنة بشؤون الإصلاح على مستوى الجامعة والمجتمع، وتهتم كذلك بمناصحة الجهات المتنفذة في الدولة، وسميت بناءاً على هذا الأساس بـ "لجنة الجامعة للإصلاح والمناصحة"، واختصرت الاسم بعد ذلك بعبارة "لجام"، التي تتكون من حروف الابتداء للكلمات التي يتألف منها الاسم، وأصبحت اجتماعات.

المسودة الثانية
استمرت لقاءات "لجام" بعد ذلك مجتهدة في مراجهة ما تم إعداده من مادة المذكرة إلى نهاية شوال، حيث أعدت من خلال تلك المراجعة المسوّدة الثانية للمذكرة التي تشبه إلى حد كبير الشكل النهائي للمذكرة.

بعد أن أعدت المسوّدة تقرر توزيعها علي عدد مختار من طلبة العلم لمراجعتها وتقريظها، وكان من أبرزهم الشيخ سلمان العودة والشيخ سفر الحوالي والشيخ عبد الله الجلالي والشيخ عبدالله الجبرين الذين أيدوا ما كتب فيها، وكتبوا لها تقريظاً جيداً، وتبين من خلال تلك المراجعة أن المذكرة جاهزة لعرضها للتوقيع.

وتقرر أن يطلب ممن تعرض عليهم المذكرة للتوقيع إبداء ملاحظاتهم من أجل أخذها في الإعتبار عند إعداد المذكرة بشكلها النهائي.

محاولة اجهاض
في ذلك الوقت والذي كان قبيل الحج بأيام تسرب خبر المذكرة إلى الأمير سلمان الذي طلب مقابلة بعض المشايخ من بينهم الشيخ عبدالله التويجري والشيخ سعير بن زعير والشيخ عبدالمحسن العبيكان، وكانوا ممن عرضت عليهم المذكرة، وحاول الأمير سلمان الضغط عليهم بهدف احتواءالمشروع أو إلغاءه، وحاول التلويح بعصا "العلماء" للتخويف من مغبة المضي قدماً فيها، وبلغت تلك الرسالة إلى مجموعة "لجام" وحصلت مقابلة مع الشيخ التويجري والشيخ العبيكان، وكاد سلمان أن ينجح في تجميد المشروع، حيث ثار جدل طويل استغرق عدة أسابيع حول المضي قدماً في مشروع المذكرة، واضطر بعض الموقعين أن يسحبوا أسماءهم، ويطمسوا توقيعاتهم إلا أن أعدادهم كانت قليلة، وكانت حجة الذين يريدون التجميد أنهم لا يريدون أن يواجهوا العلماء الرسميين، وأنهم يخشون أن تكون هناك عبارات غير دقيقة قد تجد هيئة كبار العلماء فيها مدخلاً لإيذاء الذين أعدوا المذكرة.

إنقاذ
وبينما كان الجدل محتدماً، طرح حل وسط للخروج من تلك الأزمة، وهو توجيه المذكرة للشيخ ابن باز بطلب مراجعتها، ورفع ما يقره منها للملك وبذلك يكون الذين أعدوا المذكرة غير مسؤولين عما لم يقر، ما داموا قد تركوا المسؤولية عند الشيخ ابن باز، إضافة إلى هذا الاقتراح الذي لقي تأييداً ونجح في حل الخلاف، كان هناك اقتراح آخر بإجراء مراجعة أخيرة من قبل اثنين من أكثر العلماء دقة وحذراً هما الشيخ عبدالله التويجري والشيخ عبدالرحمن البراك، ونجح ذلك المشروع فعلاً، حيث عاد الانسجام والحماس للمذكرة، وأعدت بشكلها النهائي بعد أن جمع لها أكثر من مئة توقيع من العلماء وأساتذة الجامعات والأعيان.

التسليم
بعدها تم إخراجها بجهاز الكمبيوتر، وجلّدت تجليداً فاخراً، وكتب على الغلاف عنوانها وهو "مذكرة النصيحة"، وحملها وفد مكلف من ثلاثة من المشايخ وأساتذة الجامعات إلى الطائف حيث مقر الشيخ ابن باز الصيفي، وهنا تنفسنا الصعداء وظننا أن المهمة أنجزت، وقررنا التوقف والانتظار.

















مذكرة النصيحة

مفاجآت وردود فعل

الأحداث سارت على غير ما توقعنا، حيث فوجئنا بعد ثلاثة أسابيع تقريباً بالمذكرة كاملة، وقد نشرت في جريدة المحرر الباريسية، وبعد ذلك بأيام فوجئنا بهيئة كبار العلماء تصدر بياناً عنيفاً تنتقد فيه المذكرة، وتتهم الذين أعدوها بسوء النية وقصد التشهير وكشف العيوب، وليس هكذا تكون النصيحة.

ولم يكن المستغرب هنا هو صدور بيان من الهيئة ضد المذكرة، فهذا ليس غريباً على الهيئة، لكن المستغرب هو كيف يقع العلماء في خطأ لا يقع فيه صغار طلبة العلم، بل كل مسلم عارف بدينه، وهو اتهام النيات والمقاصد التي يعلم المسلمون جميعاً أنها من شأن الله وحده، وليست من شأن البشر.

رغم قسوة البيان وشدته فقد كان نافعاً لمشروعنا، ذلك لأن إعلان البيان دعا جميع الناس للسؤال عن هذه المذكرة، ولم يكن معظمهم عرف عنها شيئاً من قبل وبصراحة كان بيان الهيئة فرصة تاريخية لنا لنشر المذكرة بشجاعة وبدون تردد حيث نشرناها علناً حتى تتعرف الأمة على حقيقة المذكرة، وتقارن ما فيها من علم وتأصيل شرعي وعلمي وواقعي عميق مع بيان الهيئة الذي لم يكن ليختلف عن البيانات الأمنية الصادرة في الدول البوليسية.

كان توزيع المذكرة ونشرها على نطاق واسع هو الخطوة الأولى في الرد على ذلك البيان،ولقد كان ترتيب المذكرة على الشكل التالي.

رسالة في مقدمة المذكرة للشيخ عبدالعزيز بن باز يطلب منه فيها دراسة المذكرة ومراجعتها، ورفع ما يقره منها للملك، وبعدها خطاب تقديم للملك نفسه كتبت بأسلوب أدبي رائع ولطيف دفعاً للتهم بالإثارة والتحدي والتحريض، ثم بعد ذلك مقدمة عامة للمذكرة حول وجوب النصيحة وضرورة انتداب أمة من الناس لها، وقيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها كذلك تعريف عام بالمذكرة ومنهجها وطريقتها، بعد ذلك احتوت المذكرة على عشرة أبواب كل باب ينقسم إلى ثلاث أجزاء الأول مقدمة تأصيلية شرعية حول القضية أوالباب أوالموضوع المطروح، والثاني عرض للواقع الحالي ومواقع الخلل فيه، والثالث اقتراح لطريقة الإصلاح بشكل تفصيلي.

ولقد تضمنت الأبواب العناوين التالية.

الباب الأول: تحدث عن العلماء ودورهم في الحياة العامة، تحدثت فيه المذكرة عن ضرورة استقلالية العلماء وتشجيعهم على قول الحق ونقاشه في حوارات معلنة، وضرورة إيجاد ترتيب مناسب لتفعيل دور العلماء جميعاً وليس المعنيين منهم فقط.

الباب الثاني: تحدث عن أنظمة الدولة ولوائحها وكشف بالتفصيل والأمثلة العملية أن منهجية الأنظمة واللوائح نفسها قائمة على أساس علماني، وليس على أساس شرعي، فضلاً عن وجود عدد هائل من الأنظمة واللوائح المخالفة والتي تعتبر في حقيقة الأمر من علامات الخروج عن الشريعة.

الباب الثالث: تحدث عن القضاء بإسهاب وعرض الوضع المخجل والمؤسف للقضاء وكونه مجرد فرع من فروع وزارة الداخلية وطرح في هذا الباب اقتراحات تفصيلية لحل مشكلة القضاء وضرورة استقلاليته وتقوية دوره في الحياة العامة.

الباب الرابع: تحدث عن حقوق العباد، وطرح تأصيلاً شرعياً دقيقاً لمفهوم حقوق الإنسان في الإسلام ، ثم استعرض الانتهاكات الضخمة لهذه الحقوق، وعرض بعد ذلك الطريقة المثلى لتحقيق العدل وإيصال الحقوق، وكان من بين الاقتراحات انشاء مؤسسة مستقلة من العلماء والقضاة والأعيان تحتسب على الدولة في قضية حقوق الانسان.

الباب الخامس: حول الوضع الاقتصادي عرض فيه وضع الاقتصاد في المملكة، والأخطاء الكبيرة التي تمارس في طريقة جمع المال وحفظه وصرفه واستثماره، والتفريط الهائل في مقدرات الأمة وإجبارالناس على الوسائل الحرام، ومنعهم من الوسائل الحلال، وعرض في الباب برنامج تفصيلي للحل يتضمن حل مشاكل الاقتصاد على مستوى الدولة والميزانية وعلى مستوى الصرف التفصيلي على أفراد الأمة.

الباب السادس: حول الوضع الاجتماعي عرض فيه مظاهر الظلم الاجتماعي والتفرقة العنصرية وانهيار الأمن الاجتماعي، وطرح فيه برنامج لحل كل تلك المشاكل.

الباب السابع: حول وضع الجيش والقوات المسلحة، وكيف أن استراتيجية الدفاع في بلادنا مبنية على الاعتماد على الكافر، وكيف خسرت الدولة مليارات الدولارات على عقود وهمية، وكيف ورط بعض المسؤولين في وزارة الدفاع الدولة وجعلوها مكشوفة في الأزمات، وطالبت المذكرة في هذا الباب بإعداد جيش قوي لا يقل تعداده عن نصف مليون، وضرورة تربية الشعب تربية عسكرية، كما طالبت المذكرة بمحاسبة كل المسؤولين عن انكشاف الجيش في الأزمة ومساءلتهم عن عشرات ومئات المليارات المصروفة عليه، وكان ذلك من أشد ما أغاظ النظام.

الباب الثامن: حول الوضع الإداري وانتشار المحسوبية والواسطية والفساد الإداري وضياع حقوق الناس بسبب النظام المتخلف والروتين، وطرح في الباب برنامج تفصيلي عن كيفية التخلص من هذه الأساليب المتخلفة والغش والرشوة والمحسوبية.

الباب التاسع: حول الأعلام جاء فيه استعراض طويل لأوضاع الإعلام المنحطة والتي تتوجه لخدمة أفراد معدودين، وتساهم في تخريب الأخلاق والمثل والقيم، وتحرم الأمة من الكلمة الصادقة والعلم النافع والخبر الصحيح، وطرح في الباب كذلك مشروع تفصيلي لمراجعة وضع الإعلام وإعادة تأسيسه على أساس إسلامي وبطريقة حضارية.

الباب العاشر: حول السياسة الخارجية والتي وصفت بأنها سياسة تخدم أعداء الإسلام، وتعمل ضد الدعاة والمؤسسات والحركات الإسلامية، وتدعم كل قوى الشر والطغيان، وتراعي الحكام على حساب الشعوب، وتتعامل مع الأحداث على أساس مؤقت دون استراتيجية واضحة، كما تحدث الباب عن الأوضاع المنحطة والمخجلة للسفارات السعودية والتي تحولت إلى مظاهر عار وشنار لأبناء المملكة، وطرح في الباب برنامج كامل لإصلاح السياسة الخارجية وإعادة تأسيسها ووضعها على أسس استراتيجية واضحة.

المذكرة الوثيقة
لقد كان الحديث عن كل قضية في تلك المذكرة حديث المختصين، وكان كل باب بمثابة كتاب مستقل في التأصيل الشرعي للقضية المطروحة، ولقد شهد كثير من المفكرين والعلماء المسلمين بأنه لم يكتب مثل هذا التأصيل العميق والراقي من قبل، بل لقد كانت المذكرة بمثابة برنامج سياسي تفصيلي للإصلاح الشامل، وهذه في الحقيقة هي القضية الهامة، والتي كنا بحاجة لها بإلحاح، ذلك لأن كثيراً من أعداء الدعوة والمتربصين بالعلماء والرموز الإسلامية لا يفتأون يرددون أن الإسلاميين لا يحسنون إلا إطلاق الشعارات، والمناداة بالتغيير دون برنامج أو مشروع مكتوب.

وجاءت المذكرة لتؤكد عدة حقائق في الرد علي تلك الدعاوى تقضي عليها، لقد قدمت المذكرة بشكل جرئ وصريح لأعلى جهة في الدولة وهي الملك، وهذا ما لا يمكن أن يقوم به العلمانيون والليبراليون، ولقد تصدى للقضية، وتبناها كبار قيادات الصحوة من العلماء والمفكرين وأساتذة الجامعات، ولقد كان محتوى المذكرة عرضاً عملياً وواقعياً لطريقة الإصلاح على أساس إسلامي رصين، وتأكيداً لذلك فقد تقدم كل باب ذلك التأصيل الشرعي الراسخ، وسعياً لإتمام الجانب الخارجي والمظهري، فقد قدمت المذكرة مطبوعة طباعة جيدة ومرتبة ومخرجة إخراجاً ممتازاً، حتى يكاد المرء ألا يجد عليها مدخلاً.

الرد الثلاثي
نعم لقد كان مجرد توزيع المذكرة ونشرها كافياً للرد على بيان الهيئة، لكننا أردنا أن يكون هناك رد خاص على هيئة كبار العلماء نفسها وموجه لها بشكل مباشر، ولأجل ذلك فقد أعد كبار طلبة العلم الذين ساهموا في كتابة المذكرة رداً خاصاً من صفحتين، وصيغ بعناية وكتب بشكل مركز، ثم وقع عليه ثلاثة من كبار المشايخ هم الشيخ حمود العقلا والشيخ عبدالله المسعري والشيخ عبدالله بن جبرين، وسلم الخطاب لأعضاء هيئة كبارالعلماء وانتشر بعد ذلك بين أيدي الناس وكان له أثر قوي خاصة بين صفوف المثقفين .

المذكرة الحجة
لم تكن المذكرة مجرد نصيحة تفصيلية تقدم للحكام، بل كانت في الحقيقة حجة بكل معنى الكلمة حجة على الحكام وحجة على العلماء وحجة على كل سدنة النظام وحاشيته وبطانته، ولم يعد لأحد فرصة للإعتذار بأنه لا يعرف الواقع، ولا يعرف أين الخلل، وكيف يكون الحل، ولهذا السبب كانت المذكرة محرجة للعلماء الرسميين، ذلك لأنها بتأصيلها الشرعي وعرضها الصادق والتفصيلي للواقع وطرحها العملي الواقعي للإصلاح بطريقة شرعية وضعتهم في خانة ضيقة فعلاً، ذلك لأن المذكرة جعلتهم إما جهلة بالشرع نفسه أو أنهم في معزل عن الواقع أو أنهم عالمون بالشرع وعالمون بالواقع، لكنهم راضون به ومدافعون عنه وقابلون لأن يكونوا جزءاً منه، كل تلك الاحتمالات تجعلهم غير أهل لأن يكونوا قيادات شرعية تتصدى للفتوى والإرشاد والتوجيه في المجتمع، فكيف تتحقق القيادة الشرعية في الجاهل بالشرع نفسه، وكيف تتحقق القيادة الشرعية في الغائب عن الواقع الذي لا يعلم شيئاً عن الأحداث والناس والمجتمع والدولة، بل كيف تتحقق القيادة فيمن لا يؤتمن على تلك المسؤولية، وهو على علم بالواقع السيئ والمنكرات العظيمة، ويرضى أن يكون مع ذلك جزءاً من النظام ولبنة في الكيان غير الشرعي، بل الكيان المحارب للشرع كما هو مضمون المذكرة غير المباشر.

المشروع الأهم
لقد كان مشروع المذكرة حقيقة من أهم مشاريع الصحوة وحق لمسيرة الصحوة في جزيرة العرب أن تفتخر به، ونحسب أن إعداد المذكرة وتقديمها، ثم نشرها أراح روّاد العمل الإسلامي في المملكة من أزمة عاشوها زمناً، وهي رميهم بتهمة التخلف والجمود ورفض التطور، بل لقد أغلقت المذكرة الباب أمام أولئك الذين يحاولون الربط بين ممارسات الحكام وحلفاءهم من علماءالسلاطين وبين الإسلام نفسه، واعتبار الإسلام سببا للفساد الإداري والمالي وانتشار الظلم والتسلط وعموم بلوى الرشوة والواسطة والمحسوبية.

ونستطيع القول من منظار فئة الصفوة المثقفة والفاعلة في المجتمع أن هذا الجدل قد حسم، خاصة حين كشفت المذكرة الفرق بين علماءالسلطان الذين يزينون له الشر، ويبررون له الجريمة ويلبسونها لباس الشرع، ويصدرون من أجله البيان تلو البيان بالصيغة التي يريد، وبين علماء الأمة الذين أعملوا ذهنهم وفكرهم واجتهدوا حتى أعدوا تلك النصيحة الراقية، وقدموها بأسمائهم وإمضاءاتهم بكل جرأة وإقدام.

مرة أخرى نقول ما قلناه بعد خطاب العلماء أو خطاب المطالب الذي لم ينفذ منه النظام مطلباً واحداً، إن النظام لم يكن ليأخذ المذكرة مأخذ النصيحة ويشرع بتنفيذ ما جاء فيها كونه هو المطابق للشرع الذي يدعي الالتزام به، ذلك لأننا نعلم أن أساطين النظام والمتنفذين فيه أبعد ما يكونون عن الرغبة في تحكيم الشرع، وكل همهم أن يزدادوا سلطة وجبروتاً، ويزيلوا كل من يزعجهم ويؤرق مضاجعهم عن طريقهم، ولقد أثبتت المذكرة أن النظام كذاب، بما تعنيه هذه الكلمة، نظام غاش لرعيته، فلو كان النظام صادقاً فهذا هو الشرع بين يديه يصلح من خلاله، ونحسب أن تبيان كذب النظام مكسب استراتيجي كبير وإحراج كامل له ولأساطينه.



















لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية
هدأت زوبعة مذكرة النصيحة، وقل الحديث عنها في أوساط الناس العاديين، ولكن استمر الاهتمام بها في أوساط المثقفين والسياسيين، وخاصة خارج المملكة وتحولت بعد ذلك إلى وثيقة سياسية تاريخية هامة.

التوطئة
كان أهم حدث بعد المذكرة هو إنشاء لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية، وفي حين أعلنت اللجنة في ذو القعدة من عام 1413هـ مايو 1993م، فقد بدأت الأحداث التي وطأت لها منذ رجب في ذلك العام ديسمبر 1992، ورغم أن الإعلان عن لجنة الدفاع جاء استجابة لتطورات معينة إلا أن الإعداد الفكري والفلسفي لها بدأ قبل ذلك بكثير.

كان رواد الإصلاح يفكرون منذ بداية المشروع الإصلاحي بقضيتين رئيسيتين اعتبروهما وعاءً لبقية القضايا:

الأولى: هي إيصال رسالة الإصلاح بتفاصيلها إلى الأمة وبالطريقة الفعالة.

الثانية: هي إنشاء المؤسسات التي تحتسب على الشعب والحكام من أجل تنفيذ تلك الرسالة.

ولقد تحقق تنفيذ القضية الأولى بصورة مرضية من خلال خطاب العلماء ومذكرة النصيحة وشريط المدفع العملاق، وكان لابد من الانتقال إلى القضية الأخرى ذات الطبيعة العملية والمعقدة، لكن رواد الإصلاح كانوا على دراية بخطورة مثل هذه الخطوة، ليس بسبب رفض النظام الحاكم لها، ولكن لأن التركيبة العقلية والنفسية للناس والعلماء والقيادات الاجتماعية لا تقبل مفهوم أي مؤسسة مستقلة عن النظام، ومع الأسف الشديد فهي مهيئة نفسيا لأن تعتبر أي تجمع من هذا القبيل بمثابة فئة من الخوارج، أو حزب من دعاة الفرقة وتشتت المجتمع، ولقد نجحت سياسة آل سعود في تحويل هذه الأفكار إلى مشاعر وعقائد في أذهان الناس وعواطفهم ونفوسهم.

لقد أدى إدراك رواد الإصلاح لهذه الحقيقة، حقيقة عدم تهيؤ المجتمع لعمل جماعي شامل إلى أمرين، الأول: تأجيل طرح مثل هذه القضية إلى ما بعد التوعية الفكرية اللازمة، وهو ما حصل بعد خطاب العلماء ومذكرة النصيحة، والثاني: اختيار المظلة المناسبة لهذا المفهوم، وتقديمها للناس بإطار مقبول لا يجد عليه أي “متعالم” مدخلا من المداخل الشرعية.

وعاء مناسب
كان أنسب وعاء تنفذ فيه تلك الفكرة هو التعاون هو من أجل نصرة المظلوم، ذلك لأن هذا النوع من التعاون بالذات قد تميز بإذن شرعي “ديني” مفتوح لا يمكن الاعتراض عليه، وذلك في نصوص شرعية ثابتة دلت على أنه لا يفتقر إلى استئذان أو ترخيص من الحاكم، ولذلك لا يملك العلماء الرسميون والقضاة وغيرهم من أعضاء المؤسسة الدينية الرسمية، لا يملكون أن يعترضوا على مثل هذا الأمر لوضوح النصوص الشرعية فيه.

من جهة أخرى فإن التعاون لرفع الظلم مطلب شعبي كبير، ذلك لأن معظم أبناء الشعب في المملكة يتعرضون لأشكال مختلفة من الظلم، سواء من الحكام أو من المتنفذين المستفيدين من سلطة الدولة، وأبناء الشعب هؤلاء عاجزون عن أن ينتصفوا ممن يظلمهم أو يستعيدوا حقوقهم بسبب سيطرة المتنفذين على القضاء.

شعار عالمي
من العوامل الأخرى التي شجعت على هذا المنبر أن العالَم كله، وخاصة العالم الغربي، كان يرفع راية الدفاع عن حقوق الإنسان، بل لقد اعتبرت أمريكا عام 1993 ميلادية عام حقوق الانسان، وفي اختيار هذه الراية من قبل الحركة إحراج قوي للعالم الغربي، لأن الغرب مستعد أن يلصق تهمة التطرف والإرهاب بأي تجمع إسلامي، ويعتبر ذلك مبرراً لدعم الأنظمة سياسيا وإعلاميا ضد هذه التجمعات بشكل علني، لكنه سيُحرج إذا كانت المظلة حول حقوق الإنسان، ولذلك فقد كانت فكرة رفع المظالم والدفاع عن الحقوق فكرة رائدة في تحييد الغرب بآلته السياسية والإعلامية الجبارة.

كان ذلك هو التاصيل العلمي والشرعي الذي انبثقت من خلاله لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية، ورغم وضوح الفكرة في أذهان عدد كبير من رواد الإصلاح، فقد كان الجميع في انتظار الظروف المواتية لتنفيذ تلك الفكرة.

اعتقال الدبيان
كان أول باعث مباشر على السعي جديا وبشكل عملي لتأسيس اللجنة هو في رجب /شعبان من عام 1413هـ ديسمبر 1992، أي بعد تسليم مذكرة النصيحة بسبعة أشهر، وذلك حين اعتقل الشيخ ابراهيم الدبيان بطريقة همجية غير مألوفة لدى أهل الجزيرة، فلقد كان من التقاليد التي استمر آل سعود يراعونها تجنب مواجهة العلماء حتى لو كانوا من غير العلماء الرسميين، وكان مجرد خبر اعتقال عالم حدث غريب فكيف باعتقال خشن توضع فيه أيدي المعتقل وسيقانه "بالكلبشات" على مرأى من الناس وفي وسط النهار، ثم يداهم المنزل ويفتش دون استئذان أو أدب أو تلطف، كل هذه الممارسات لم تكن معهودة مع العلماء في المملكة قبل ذلك، ولقد انتشر خبر اعتقال الشيخ الدبيان بسرعة فائقة في جميع أنحاء المملكة، ووصلنا الخبر نحن في الرياض بعد أن انصرفنا من صلاة الجمعة، وكنّا قد جلسنا لتجاذب أطراف الحديث في منزل لأحد الأخوة من لجنة الجامعة طيبة الذكر.

وفور سماعنا للنبأ حّولنا اللقاء الذي كان حول الشاي إلى اجتماع رسمي للجنة لمناقشة هذا الحدث الهام، وتم من خلال هذا اللقاء الإعداد للقاء موسع في منزل أحد المشائخ بين عدد من العلماء وأساتذة الجامعة، ووافق المدعوون لحضور ذلك اللقاء الموسع في منزل الشيخ حمد الصليفيح، حيث حضر هناك ما يقارب الأربعين من العلماء والدعاة وأساتذة الجامعة.-وكان ذلك في حدود رجب 1413هـ 1992م.

رد فعل كلاسيكي
في ذلك اللقاء طرحت قضية اعتقال الدبيان، وكان هناك وجهتي نظر وجهة النظر الأولى تحبذ التعامل مع اعتقال الدبيان باعتبارها حادثة منعزلة، والسعي لإخراج الشيخ وإقفال القضية، وأعد المتحمسون لهذا الرأي خطابا يطالبون فيه بإخراج الشيخ فورا ورد اعتباره، أما وجهة النظر الأخرى فكانت لأولئك الذين اعتبروا اعتقال الشيخ فرصة مواتية لطرح قضية التجمع الساعي لرفع الظلم والدفاع عن المظلومين، واقترح هؤلاء تكليف شخص أو مجموعة بإعداد ورقة عمل عن كيفية إنشاء هذه المجموعة، وتكفل أحد الحاضرين فعلا بتلك المهمة، وكان هذا الرأي هو الغالب مع أن وجهتي النظر ليستا متناقضتين.

خط آخر
وفيما تم هذا اللقاء بذلك الأسلوب الجماعي وشبه المعلن، فلقد كان هناك خط آخر اتخذ طابعا أكثر بساطة وسهولة، لكنه أضمن أثرا وأكثر فرصة في النجاح، وتبنى ذلك الخط عدد قليل من الأفراد، هم حقيقةً نفس المجموعة الصغيرة التي نفذت مشروع خطاب المطالب ومذكرة النصيحة.

كانت الطريقة التي اختارتها هذه المجموعة تسهيل إنجاح المشروع في تحمل عبء جانب الاعداد والكتابة والترتيب ومواجهة الجميع بالأمر الواقع بطريقة مشابهة للتجربتين السابقتين، وتبين لدى تلك المجموعة أن محور القضية هو في كيفية صياغة وثيقة تكون معبرة عن مهمة ذلك التجمع الساعي لرفع الظلم، فإذا ما وفقت في صياغة تلك الوثيقة بالمعنى الشرعي والسياسي، فإنه يمكن إقناع عدد من الرموز الهامة والمؤثرة في تبني تلك الوثيقة واعتبار أنفسهم من الداعين إليها والمتكفلين بمسؤولية ما جاء فيها. ورأت تلك المجموعة أن هذا الأسلوب أكثر واقعية وأدعى للنجاح من أسلوب الاجتماعات المتتالية لأعداد كبيرة وطرح أوراق عمل، هذا مع أن كلا المسارين لا يتعارض مع الآخر.

وثيقة التأسيس
أُعدت الوثيقة بعناية فائقة واستعين حال إعدادها بعدد من الأخوة المختصين، ولم يكن لتلك الوثيقة في البداية عنوان ولا هوامش، بل اكتُفي فيها بالنص المجرد، وكانت الوثيقة التي أصبحت فيما بعد البيان التأسيسي للجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية مجرد تأكيد لوجوب رفع الظلم بالطرق الشرعية، وجاء فيها حث من يريد لمظلمته أن ترفع أن يكتب أو يتصل أو يقابل الموقعين على تلك الوثيقة، وحين تم الانتهاء من الصياغة وقع الاختيار على ستة أشخاص يفاتحون بهذا المشروع وطبعت تلك الأسماء مع الوثيقة، وبدأت فورا عملية إقناع أولئك الستة بالتوقيع.

وافق أربعة من الستة على التوقيع دون تردد هم الشيخ عبدالله المسعري والشيخ عبدالله التويجري والشيخ عبدالله بن جبرين والشيخ سليمان الرشودي، وبقي اثنان لم يمكن مقابلتهما لأنهما من خارج الرياض، وأجل مشروع مفاتحتهما إلى حين مقابلتهما في مكة حيث يقضون معظم رمضان هناك.

الدبيان حر طليق
وفيما كان الجميع متحمسا لاستمرار العمل في كلا المسارين، المسار العام المفتوح من خلال لقاء الشيخ الصليفيح، والخاص السري من خلال الوثيقة المذكورة، أطلق سراح الشيخ الدبيان وتناقل الجميع خبر إطلاق سراحه.

حين علم الذين تنادوا للاجتماع الثاني بإطلاق سراح الشيخ قل حماسهم للفكرة، وتحول الاجتماع الذي كان يجب أن يكون نقطة انطلاق في مشروع حقوق الانسان إلى مجرد لقاء عابر لم يتمكن المتحمسون له من السعي لاستمراره، وتأثر المسار الثاني كذلك حيث تردد الشيخان الذين عرضت عليهما الوثيقة في القبول بتوقيعها فجمدت الفكرة مؤقتا.

الدبيان مرة أخرى
مضى رمضان من ذلك العام 1413 دون حوادث هامة، ولكن لم ينتصف شوال إلا واعتقل الشيخ الدبيان مرة أخرى فكان ذلك داعيا قويا لتجديد كلا المسارين في المسار العام، ثم ترتيب لقاء آخر في منزل الاستاذ عبدالله الحامد شارك فيه معظم الذين شاركوا في اللقاء الأول، وكان ذلك في أواخر شوال من نفس العام أبريل 1992، وفي ذلك اللقاء تم الاتفاق على إنشاء مجموعة باسم "لجنة النصرة والحقوق"، وكلف اثنان من الحاضرين بإعداد لائحة تفصيلية لتلك اللجنة واقتراح الشكل المناسب لتبني مجموعة معينة لهذا العمل، وانفض الاجتماع على هذا الأساس من أجل اللقاء خلال أسبوع.

ستة توقيعات
في المسار الخاص أعيد النظر في الاسمين الذين تردد أصحابهما في المشاركة واستبدلا باسمين آخرين هما الشيخ حمد الصليفيح والاستاذ عبدالله الحامد، الذين لم يترددا في التوقيع فور عرض الوثيقة عليهما، فاجتمع في تلك الوثيقة ستة توقيعات كاملة، وتم ذلك بعد الاجتماع الأخير الذي تقرر فيه إعداد لائحة "للجنة النصرة والحقوق".

المساران يجتمعان
حضر الجميع إلى اللقاء الثاني في منزل الاستاذ عبدالله الحامد في مطلع ذي القعدة 1413 مايو 1993 على أمل مناقشة لائحة “لجنة النصرة والحقوق”، وحضرت معهم المجموعة التي أعدت وثيقة الأسماء الستة، وبعد أن عرضت اللائحة المقترحة للجنة النصرة والحقوق، وبدأ نقاش كيفية تبنيها في مجموعة بأسماء معلنة كانت الفرصة مواتية لعرض الوثيقة الثانية كإثبات بأن هناك ستة من القياديين قد وقعوا فعلا على تبني هذا المشروع علنا، ولم يكن هناك خيار للمتجتمعين إلا تأكيد تلك الخطوة والاعجاب بشجاعة أولئك الستة، واعتبار ذلك الاجتماع رفداً ودعما لمشروع تلك الوثيقة، وانفض الاجتماع على أساس تأييد نشر تلك الوثيقة.

العنوان
لم تكن الوثيقة صالحة للنشر دون اختيار اسم لتلك المؤسسة أو المجموعة ووضعه في رأس الوثيقة، كما لم يكن ممكنا طرح مفهوم رفع المظالم دون كتابة عناوين أو هواتف الذين تبنوا المشروع، ووافق عدد من الموقعين على وضع هواتفهم وعناوينهم، وبعد استشارات عريضة وتفكير ملي وقع الاختيار على عبارة “لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية” وكان اختيار كل كلمة في هذه العبارة مقصودا، ولعله كان اختيارا موفقا.

الإعلان
تم التنسيق مع إحدى المنظمات الحقوقية في لندن من أجل توزيع البيان على وكالات الأنباء ووسائل الإعلام، وأرسل لها البيان، وقد أضيف له اسم اللجنة والهواتف والعناوين، ووزع البيان فعلا بعد ذلك على وسائل الإعلام، حيث انفجرت التغطية إعلاميا في قصتها المعروفة.

هذه المرة لم يعتمد إعلان اللجنة على الجهد البشري الفردي من خلال نسخ البيان وتصويره وتوزيعه، بل جاء الإعلان بطريقة غاية في الفعالية، وهي الإعلام العالمي نفسه وفي مقدمته هيئة الإذاعة البريطانية، حيث بادرت تلك الإذاعة بعد استلامها الخبر بالإتصال بالهاتف الوارد في البيان، هاتف أمين اللجنة الشيخ عبدالله المسعري، وتأكد لدى هيئة الإذاعة البريطانية أن هذا البيان حقيقة واقعة، وأن الذي رد على الهاتف هو أمين اللجنة، وعندها انتقلت الإذاعة للخطوة التالية، وهي إجراء مقابلة حقيقية مع الشيخ بصوته هو، ولكن الشيخ لم يكن ممن يتقن الإنجليزية، فإحالهم إلى ابنه الدكتور محمد المسعري حيث تمت المقابلة مع الدكتور محمد بصفته متحدثا باسم والده في ذلك اليوم، وكانت المقابلة باللغة الإنجليزية وترجمت إلى اللغة العربية في إذاعة لندن العربية.

اجتماع رسمي
بعد ذلك دعا الشيخ عبدالله المسعري إلى اجتماع لأعضاء اللجنة الستة، وشرح لهم قصة مشاركة الدكتور محمد في اللقاء، ووافق الجميع على اقتراح بتعيينه ناطقا رسميا للجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية.

بعد حديث إذاعة لندن تتابعت الأخبار بكثافة في كافة الإذاعات، وخاصة الإذاعات التي يتابعها أهل الجزيرة والخليج مثل مونتي كارلو وصوت أمريكا، وأصبحت القضية حديث الشارع في المملكة والخليج بل والعالم العربي كله، وانهالت بعد ذلك رسائل التأييد شفويا وكتابيا من المؤيدين وخاصة من داخل المملكة.

آل سعود.. صدمة
صدم آل سعود من جهتهم بالحدث، ولم يخطر ببالهم أن يقفز الإسلاميون هذه القفزة، ويقتحموا السياسة من خلال الإعلام العالمي بتلك الفعالية، كانت ردود الفعل الأولى من قبل النظام هي استدعاء أعضاء اللجنة الستة والناطق الرسمي معهم إلى مكتب الأمير سلمان أمير الرياض، وفي البداية حاول الأمير سلمان إرهابهم وتخويفهم وإشعارهم أن عملهم هذا يترتب عليه أمور خطيرة فلم يتغير موقفهم، وعندها قال الأمير سلمان: “إنه لم يستدعهم للحوار ولا للنقاش، بل استدعاهم من أجل أن يوقعوا على محضر بأنهم قد أسسوا تلك اللجنة فعلا، وأن نسبة ما أذيع في وسائل الإعلام وما نشر في الأوراق لهم صحيحة وليست تزويرا أو تقولا عليهم”، ووقع الجميع على محضر بذلك بمن فيهم الشيخ عبدالله الجبرين، وبعد التوقيع على المحضر طلب منهم الأمير سلمان الانصراف.

بعد مرور عدة أيام أعيد إحياء المسار العام، فاجتمعت المجموعة الكبيرة وأعلن المجتمعون تأييدهم التام لمشروع اللجنة، وأعدوا برنامجا لشرح مشروع اللجنة للعلماء ورموز المجتمع منعا لسوء الفهم الذي حاول النظام بثه بما يستطيع.



رد الفعل الرسمي

على لجنة الدفاع

كانت أول عملية رد فعل معلنة من قبل النظام ضد حدث اللجنة هي تكليف هيئة كبار العلماء بإصدار بيان تجاه القضية، ويبدو أن النظام ما إن أفاق من صدمته بعد هذا الحدث الهام حتى قرر جمع العلماء وإلزامهم بإصدار موقف يعطي الشرعية لما ستتخذه الدولة من إجراءات ضد اللجنة وضد أعضاءها وداعميها، كان الجميع في انتظار الخطوة حيث توقع كل من ساهم في إعداد مشروع اللجنة ذلك، لأن اللجوء إلى هيئة كبار العلماء أصبح من ردود الفعل الروتينية لدى النظام، فلم يمض وقت طويل على لجوء النظام مرتين إلى الهيئة أولهما بعد خطاب المطالب وثانيهما بعد مذكرة النصيحة، وهذا التصرف من قبل النظام لم يكن مجرد تكرار لتصرفه السابق، بل كان بمثابة تأمين غطاء شرعي أو ديني لاتخاذ إجراءات قمعية ضد اللجنة وضد مؤسسيها، وهذا ما أثبتته الأحداث بعد ذلك حيث شكل ذلك البيان إعلاناً لمرحلة جديدة سادها البطش والقمع والتنكيل بعد هذا الغطاء الشرعي.

بيان الهيئة
إرهاصات إصدار البيان لم تكن مجرد استقراء لرد فعل النظام، بل لقد تسربت أخبار استدعاء العلماء لاجتماع عاجل منذ الأسبوع الأول لإعلان خبر اللجنة، بل تأكد لدى المجموعة المؤسسة والمتابعة أن العلماء قد اجتمعوا فعلاً في الطائف، وأنهم على وشك أن يصدروا بياناً في قضية اللجنة، وحاول الأخوة في تلك الفترة تصور كيف سيصدر ذلك البيان، ووجدوا صعوبة في أن يتخيلوا بياناً شرعياً يمكنه أن يقابل بيان اللجنة الذي أحكمت صياغته شرعياً، وأطلق كل لنفسه العنان في تصور صيغة موقف الهيئة.

وفي صبيحة يوم الاثنين العشرين من ذي القعدة 1413هـ الموافق الحادي عشر من مايو 1993م أذاعت وسائل الإعلام السعودية ذلك البيان المنتظر، وبالطبع فقد احتوى البيان على العبارات التي أرادها النظام، وجاء خالياً من أي صياغة شرعية، لقد ادعى البيان أن انشاء اللجنة غير مشروع، ولا يجوز قيام أي كيان مهما كان إلا بإذن ولي الأمر، وأن الذين أقدموا على ذلك يستحقون العقاب، وكالعادة فقد صدر البيان بالإجماع أي بإجماع أعضاء هيئة كبار العلماء، ولم يتخلف عن التوقيع أحد، بعض من الإخوة استغربوا صدور البيان بالإجماع، وذلك لأن الهيئة كانت قد طُعّمت بشخصيات كان يُظنُّ أنها على درجة من الاستقلالية لكن الظن خاب فيهم.

اضطراب
بعد بيان الهيئة تتابعت الأحداث بشكل دراماتيكي فيه نَفَس المواجهة والإثارة، وكان أول إجراء تعسفي يتخذ بعد هذا الضوء الأخضر ضد أعضاء اللجنة هو إصدار أمر ملكي بفصل كل من د. محمد المسعري ود. حمد الصليفيح ود. عبد الله التويجري ود. عبد الله الحامد من وظائفهم وإقفال مكاتب المحاماة لكل من الشيخ عبد الله المسعري والشيخ سليمان الرشودي.

وبطبيعة الحال لم تكن هذه القرارات ذات قيمة تذكر عند الذين اتُخِذ بحقهم الإجراء من الناحية المالية أو الناحية الحياتية، رغم أن النظام اعتقد أن ذلك سيؤلمهم، لكن القرار كان له قيمة معنوية حيث ارتفع رصيد هذه المجموعة شعبياً وازداد التأييد لها، ونظراً لأن هذا الأمر الملكي وقبله بيان هيئة كبار العلماء نُشر باستفاضة في وسائل الإعلام الرسمية، فقد كان بمثابة تسخير لتلك الوسائل لصالح مشروع اللجنة.

اجتماعات اللجنة والمؤيدين لها لم تتوقف حيث ناقش المجتمعون قرار هيئة كبار العلماء، وقرروا التريث في اتخاذ موقف معلن منه، وساد اعتقاد لدى معظم المجتمعين أن صياغة بيان الهيئة من الركاكة والهشاشة بحيث لم يكن لينطلي على الفرد العادي، ولا يدعو للاستعجال بالرد عليه، ومن الطرائف أن بعض الشباب زاروا الشيخ ابن عثيمين بعد صدور بيان الهيئة، واستحلفوه بالله إن كان على بيان تأسيس اللجنة أي مدخل شرعي، فأقر بأنه لم يستطع الوقوع على أي إشكال شرعي فيه، ومع ذلك فقد برّر مشاركته في التوقيع على بيان هيئة كبار العلماء!، تناقض غير مقبول.

السفارة الأمريكية
خلال فورة الحدث وبعد أقل من يومين من صدور بيان الهيئة حصل ما يمكن اعتباره صباً للنفط على النار، وهو قيام شخصيتين من السفارة الأمريكية بزيارة الشيخ عبد الله المسعري في منزله ومقابلة بعض مؤيدي اللجنة هناك، لقد كان هذا الحدث مؤلماً جداً للنظام الذي يشعر بالغيرة العظيمة والخوف والهلع إن اكتشفت أمريكا أن هناك قوى اجتماعية قد يكون لها شأن في المستقبل، لقد انتشر خبر هذا اللقاء وأعلن الخبر في الإذاعات الغربية فجن جنون آل سعود، من الذي عمل ذلك وكيف؟، وقبل أن نبسط تفاصيل رد فعل النظام على ذلك لا بد من بيان حقيقة هذه المقابلة التي شوهت بعض الجهات خبرها، ورويت وكأنها زيارة من اللجنة وأعضاء اللجنة للسفارة الأمريكية.

الرواية
القصة في حقيقتها كالتالي: اتصل اثنان من العاملين في السفارة الأمريكية بالرياض بالشيخ عبد الله المسعري، وعرفا نفسيهما بأنهما يمثلان لجنة حقوق الإنسان في الكونجرس الأمريكي، وأنه ليس لهما علاقة بالحكومة الأمريكية نفسها، وطلبا منه السماح لهما بزيارته والوقوف على حقيقة الأمر، وكان رد الشيخ مؤدباً، أن أي ضيف يصل إلى المنزل فلا يمكن رده، ففهما أن الزيارة مقبولة، وحين حضرا إلى منزل الشيخ عبد الله المسعري بادر واتصل بمجموعة من الذين يحسنون الحديث بالانجليزية، وتم في منزل الشيخ لقاء دار معظمه حول انتقاد أمريكا وازدواجيتها في تفسير مفهوم حقوق الإنسان، وانصرف هذان الشخصان بعد ذلك دون أي اتفاق أو تفاهم.

لم يصل خبر ذلك اللقاء إلى السلطات السعودية فوراً، بل تأخر عدة أيام، وخلال تلك الفترة استمرت اتصالات الإذاعات ووكالات الأنباء بالدكتور المسعري، وتتابعت التحليلات والمواقف في وسائل الإعلام، وعندها قامت السلطات باستدعاء محمد المسعري بعد يومين تقريباً من بيان هيئة كبار العلماء، وتم استجوابه من قبل رئيس المباحث العامة لمدة خمس ساعات طلب منه فيها أن يتوقف عن الحديث لوسائل الإعلام وإلا فسيعرض نفسه للعقاب، ورجع الدكتور محمد المسعري إلى منزله متأخراً تلك الليلة لا يدري ما الذي ينتظره بعد يومين.

اقتحام
وفي فجر يوم السبت الرابع والعشرين من ذي القعدة 1413هـ الموافق الخامس عشر من مايو 1993م داهمت قوات المباحث منزل الدكتور المسعري في عملية أشبه ما تكون باقتحام الكوماندوز، حيث فصلت خطوط الهاتف عن المنزل، وحوصر المنزل بعدة سيارات، وهجم عدد من المقتحمين على السائق وعلى أحد أبناء المسعري، ثم دخلوا على الدكتور المسعري في غرفة نومه، واقتادوه معصوب العينين إلى السجن.

تناقل الإخوة في جامعة الملك سعود خبر مداهمة منزل المسعري واعتقاله في صبيحة ذلك اليوم، وكانت المشاعر خليطاً من الغضب والترقب والخوف. ولم يكن معروفاً إن كان الباعث على اعتقال المسعري ورود الأخبار عن مقابلة الأمريكان أم هو خرقه للالتزام بعدم الحديث لوسائل الإعلام العالمية.

توتر
كان اليوم الذي اعتقل فيه المسعري مليئاً بالتوتر، حيث استدعي كل الذين حضروا اللقاء مع الأمريكان إلى وزارة الداخلية بمن فيهم الشيخ عبد الله المسعري، واستجوب الجميع حول ذلك اللقاء، ولكن لم يُعتقل سوى المسعري.

في نفس اليوم توجه وفد من ثلاثين استاذا جامعيا إلى إمارة الرياض لمقابلة سلمان بن عبد العزيز أمير الرياض، ودخلوا على الأمير بعد صلاة الظهر، وكانت مواجهة مشهورة، حيث هدد سلمان وأرغى وأزبد وتوعد مع أنه كان يخاطب مجموعة كلهم من حملة الدكتوراة وأساتذة الجامعة، وانفض لقاء سلمان معهم بالتهديد.

خلال هذه الفترة العاصفة كان قد زار الرياض وفد من علماء القصيم يزهو على خمس وعشرين من علماء القصيم، في مقدمتهم الشيخ حمود العقلا، ووصل الوفد للرياض قبيل بيان هيئة كبار العلماء، وشهد تلك التطورات الدراماتيكية بما فيها اعتقال المسعري، وحاول الوفد المشاركة في التعبير عن عدم الرضا بما يحصل، وطالب بمقابلة الملك، وكالعادة الملك لم يوافق على إعطاء أي موعد، فاكتفى الوفد بمقابلة الشيخ ابن باز وولي العهد، وقابلوا كذلك علماء ووجوه أهل الرياض معبرين عن غضبهم على النظام وعلى إجراءاته.

لم تقف الدراما بعد اعتقال المسعري، بل حصلت عدة تطورات ساهمت في إبقاء القضية ساخنة جداً، وأعطتها وقوداً إعلامياً فاعلاً.

نكسة
كان أهم تطور بعد اعتقال المسعري مما اعتبرناه أول نكسة يصاب بها المشروع، هو إعلان الشيخ عبدالله بن جبرين الانسحاب من اللجنة، وإصداره بياناً مربكاً يعبّر فيه عن أنه لا يذكر أنه وقّع على بيان اللجنة، وكان الشيخ سامحه الله قد تعرض للضغط الشديد فور صدور بيان هيئة كبار العلماء، حيث فُصل من منصبه في الإفتاء، وأخبر بأنه ممنوع من التدريس في حلقات العلم، وعليه أن يلزم بيته، وهُدد بأنه إن باشر التدريس فسيُعتقل فوراً، ثم قام سلمان بن عبد العزيز بإرسال عدد من الوفود من المتعاطفين مع النظام ومن المحسوبين على طلبة العلم إلى الشيخ لإقناعه بالانسحاب، وفي البداية كان قد رفض كلياً فكرة الانسحاب، ولكن التخويف وغسيل الدماغ لم يتوقف وتتابع زوار الشيخ من جنود سلمان محاولين إقناعه أنه إن انسحب، فسيعاد إلى دروسه ونشاطه العلمي والدعوي، ومازال به أحدهم وهو ابن عم له حتى أقنعه، وكان هذا الشخص يتنقل بينه وبين الأمير سلمان في رحلات مكوكية في كل رحلة يرفض سلمان صيغة الانسحاب، ويطالب بتعديلها حتى تكون أكثر إهانة وإرباكاً وإرجافاً وتشكيكاً باللجنة، ونجح سلمان فعلاً، ووقّع الشيخ الجبرين في نهاية المطاف على تلك الصيغة المهينة، ونشرت في وسائل الإعلام في بداية ذي الحجة من نفس العام أي في الثالث والعشرين من مايو 1993م.

وكان خبر الضغط الذي تعرض له الشيخ قد تسرب إلينا قبل أن يعلن الانسحاب فقمنا بزيارته، وحاولنا ثنيه عن ذلك لكننا وجدناه في وضع لا يمكن به مواجهة ضغط أمثال آل سعود، ورغم أن الشيخ كتب في بيان الانسحاب أنه لا يذكر أنه قد وقّع، وأنه لا يعرف بعض الموقعين فإننا نشهد أننا حضرنا بشكل شخصي توقيعه، ولربما لم تسعفه ذاكرته حتى يتذكر ما حصل. وفي اعتقادنا أن الشيخ أخطأ من جهتين، كونه أولاً تخلى عن حق كان يجب أن يصبر ويتحمل من أجله، وكذلك كونه كتب تلك الصيغة المهينة المخجلة والمرجفة بالآخرين، رغم ذلك فقد رأينا أنه كان من الأصلح أن لايزج بالشيخ بن جبرين في هذا المشروع، الذي يحتاج إلى شخصية تختلف في طبيعتها وتماسكها عن شخصية مثل الشيخ ابن جبرين.

مداهمات
في تلك الأثناء وفيما كانت الرياض مشغولة باعتقال المسعري وبانسحاب ابن جبرين، تنامت إلينا أخبار قيام النظام بمداهمة مركز الشيخ سفر الحوالي في جدة وكذلك خبر تجميد الحسابات الخيرية للشيخ سلمان العودة، لعل النظام اعتقد أن اللجنة ونشاط الشيخ سلمان ونشاط الشيخ سفر نسيج واحد، فأصبح يخاف من كل شيئ فبادر بتلك العملية.

البيان الثاني
رغم سخونة الموقف وارتفاع شحنة التوتر وسريان موجة من الرعب في قلوب بعض الناس فإن الأخوة لم يتوقفوا عن الاجتماعات والاتصالات والحركة، حيث اجتمع الجميع مرة أخرى في بدايات شهر ذي الحجة، واتفقوا على كتابة بيان باسم اللجنة يرد على بيان هيئة كبار العلماء وينتقد إجراء اعتقال المسعري وابتزاز آخرين والضغط عليهم، وصدر البيان فعلاً بتوقيع خمسة من أعضاء اللجنة، حيث صدر بعد انسحاب الشيخ الجبرين وأرسل إلى لندن، ومنها إلى كل وسائل الإعلام، وبالمناسبة فلم يتوقف تدفق المعلومات عمّا يجري عن وسائل الإعلام، واستمر الإخوة في إيصال المعلومات إلى مؤسسة ليبرتي في لندن لبثها على وكالات الأنباء، وكانت كل تلك الأخبار ترد تباعاً في نشرات الأخبار العالمية.

تتابعت الاعتقالات بعد ذلك، واستمر التصعيد والمواجهة، حتى اجتمع في السجن عشرون أستاذاً جامعياً.



تداعيات تأسيس اللجنة
صدر البيان الثاني للجنة في الرابع من ذي الحجة الثالث من يونيو من نفس العام، وأرسل إلى الخارج، ووزع البيان من خلال مؤسسة ليبرتي على وكالات الأنباء ووسائل الإعلام.

شعور بالمواجهة
لكن الزخم العام لمسيرة العمل تحول من شعور بالوقوف خلف جهة شعبية مستقلة إلى شعور بالمواجهة بعد اعتقال المسعري ومداهمة مركز الشيخ سفر وتجميد حسابات الشيخ سلمان الخيرية، وزاد من هذا الشعور إقدام السلطات على مجموعة من الاعتقالات لبعض الشباب المتعاطف مع اللجنة من أنحاء مختلفة من المملكة، هذا التحول كان كفيلا بتغيير نوعية الدعم الذي حظي به مشروع اللجنة في أيامه الأولى، وتمثل ذلك في برقيات التأييد والرسائل والاتصالات الهاتفية، بل والزيارات والوفود من كل أنحاء المملكة إلى أعضاء اللجنة والمؤسسين، لكن ما إن بدأت موجة الاعتقالات وصدر بيان هيئة كبار العلماء، وأعلن انسحاب الشيخ ابن جبرين حتى تغيرت نوعية هذا الدعم إلى الأسلوب الحذر، وضاقت دائرة الداعمين إلى دائرة نوعية أقرب إلى تجمع الصفوة والشباب المتحمس منه إلى عامة الشعب وتياراته، وفي حين كنا نستطيع جمع أكبر عدد من الداعمين في المراحل الأولى لمشروع اللجنة بجرأة وسهولة وحماس، فقد أصبح جمع هؤلاء ينطوي على صعوبة ويستدعي حذرا أكثر بعد تحول الجو إلى جو المواجهة، ولقد اضطررنا مرة أخرى إلى التركيز على العمل الداخلي بالمجموعة الصغيرة الفاعلة حتى لا يرتبط نجاح العمل بأعداد كبيرة غير مضمونة التأييد ولا سهلة الاجتماع والتفاهم.

رغم هذا التحول في زخم التأييد والتغيير في أسلوب العمل فقد استمرت دراما المواجهة والتغطية الإعلامية للقضية لعدة أشهر وصلت إلى قمتها عند اعتقال عدد كبير من أساتذة جامعة الملك سعود وعدد من أعضاء اللجنة وإيداعهم سجن الحائر المشهور، قبل أن يختفي هؤلاء الأساتذة في السجون حصلت عدة تطورات هامة لابد من التعريج عليها.

مؤتمر فيينا
من المصادفات التي أعطت المشروع دفعة إعلامية أن مؤتمرا دوليا لحقوق الإنسان قد عقد في فيينا بعد إعلان اللجنة بشهر تقريبا، وتبنت ليبرتي في لندن طرح قضية المملكة في المؤتمر، ولم تكن لدى مؤسسة ليبرتي معلومات كافية عن واقع حقوق الإنسان في المملكة فكان لابد من تزويدها بتقرير شامل عن ذلك، وفعلا عكفنا على إعداد تقرير طويل عن هذا الموضوع، وكتب التقرير بطريقة منهجية علمية، تناولت وضع حقوق الأفراد والجماعات، والتقييد على حرية التعبير والنقد وحرية التجمعات والسلطة المطلقة للنظام في ممارسة كل أشكال القمع والبطش وتركيز السلطات كلها في يد الأسرة الحاكمة، وأسهب التقرير في شرح واقع القضاء وتفنيد أكذوبة استقلاليته، وأكذوبة أنه يحكم بالشريعة.

ولم نكتف من قبلنا بنشر هذا التقرير باللغة العربية والإنجليزية في حينها، بل رتبنا عملية تسجيل صوتي للتقرير قام بها أحد الأخوة المقيمين بالخارج، ثم أرسل للداخل، ونسخ منه كميات كبيرة، ووزع في جميع أنحاء المملكة.

مملكة الصمت
كما صادفت تلك الفترة إصدار مؤسسة حقوقية أخرى هي منظمة الفقرة 19 ـ وهي منظمة تعنى بحرية التعبير ويرمز الرقم 19 إلى نص في ميثاق الأمم المتحدة حول حرية التعبير ـ تقريرا آخر عن الحريات في المملكة، أسمته مملكة الصمت، انتقدت فيه المنع الكامل لجميع أشكال حرية التعبير في المملكة، وحظي التقريران بتغطية إعلامية عالمية جيدة.

الاعتقال الثاني
في نهاية شهر ذي الحجة 1413هـ يونيو 1993 اعتقل الأستاذ عبدالله الحامد في عملية اقتحام وتفتيش شبيهة باعتقال المسعري، حيث أحيط المنزل بعدة سيارات من سيارات المباحث بينهم امرأة لتفتيش النساء، واعتقل بينهم الأستاذ عبدالله الحامد، وصودرت كل ممتلكاته الكتابية والصوتية كما صودر جهاز الفاكس من منزله.

لا تتدخلوا فيما لا يعنيكم
أحس الإخوة في جامعة الملك سعود أن الوضع يتجه إلى مزيد من التوتر والمواجهة، وأنه لابد من التعبير عن عدم الرضى عما يجري بأسلوب أكثر صراحة وتأثيرا، وفعلا بادر مجموعة من الدكاترة من نفس مجموعة لجنة الجامعة للإصلاح والمناصحة التي أعدت مذكرة النصيحة، بادرت لطلب مقابلة مع الملك للتناقش فيما يجري، وكانت الإجابة بأن الملك ليس على استعداد لأن يعطي موعدا مخصصا، وعليهم أن يأتوا إلى الديوان الملكي كما يأتي الناس، ورغم أن هؤلاء الأساتذة يعلمون أن الذين يُسمح لهم بمقابلة الملك مجموعة مختارة، وأن معظم الآخرين يسرحون شبه مطرودين إلا أنهم أصروا على المحاولة، وذلك من أجل تسجيل موقف وإثبات أنهم سعوا للتعبير عما في أنفسهم بالطرق التي يدعي النظام أنها مقبولة، وفعلا توجه عدد كبير من أساتذة الجامعة إلى جدة في نهاية محرم 1414 يوليو 1993م، اجتمعوا في إحدى صالات الديوان الملكي بأمل مقابلة الملك، ولكن فوجئوا بحركة مضحكة من الأمير نايف فاجأت الجميع، حيث فتح الأمير نايف باب الصالة، وأطل عليهم بنصف وجهة قائلا: “أن الملك يأمركم بان تعودوا من حيث أتيتم، وأن لا تتدخلوا فيما لا يعنيكم وإلا...!!”. حاول الإخوة الرد على الأمير نايف، فبادر بإغلاق الباب والانصراف.

الصفوة في السجن
بعد هذا الاجتماع تتابعت الاعتقالات، حيث دوهم منزل الدكتور خالد الحميضي في غرة صفر 1414هـ أغسطس 1993م، واعتقل الدكتور وأودع في سجن الحائر، وفي التاسع من نفس الشهر اعتقل الشيخ سليمان الرشودي العضو المؤسس في لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية، وفي السابع عشر من نفس الشهر اعتقل الدكتور محسن العواجي أستاذ مشارك في كلية الزراعة قسم التربة، وبعده بيوم اعتقل الدكتور سعد الفقيه الرئيس الحالي للحركة الإسلامية للإصلاح، وفي الإسبوعين التاليين اعتقل كل من الدكتور صالح الدباسي أستاذ علم النفس بكلية التربية والأستاذ الدكتور عبدالله النافع رئيس علم النفس بروفيسور علم النفس ورئيس القسم والدكتور أحمد التويجري العميد السابق بكلية التربية والمحامي، والدكتور سامي الوكيل أستاذ مشارك في كلية الهندسة قسم الإلكترونيات، ثم الشيخ عبدالعزيز القاسم والاستاذ عبدالعزيز الوهيبي المحاضر في جامعة الملك سعود قسم الفيزياء وهو أحد المفكرين الإسلاميين ويعمل قاضيا في الرياض وأبها، كما اعتقل آخرون من خارج الجامعة من الناشطين الإسلاميين في المملكة.

وبذلك اجتمع في السجن ثلاثة من حملة الأستاذية وستة من حملة الدكتوراة ومحاميان وواحد من القضاة وعدد من المحاضرين وحملة الشهادات العليا الأخرى.

إعلام ناجح
أخبار هذه الاعتقالات لم تكن خافية، حيث كانت تصل بانتظام إلى مؤسسة ليبرتي ومن ثم إلى الإعلام العالمي، بل لقد صدرت تقارير خاصة من هيئات حقوق الإنسان حول هذه الاعتقالات ومطالبات بإطلاق سراح سجناء الرأي وخاصة عندما اعتقل الدكتور أحمد التويجري الذي كان له حضور جيد في البيئات الفكرية الإسلامية العالمية.

ملفات قديمة تفتح
بطبيعة الحال كان الباعث وراء حملة الاعتقال ابتداء هو إنشاء لجنة الدفاع عن الحقوق الشريعة، واستمر الحال كذلك إلى ما بعد اعتقال الشيخ سليمان الرشودي، ولكن مسار التحقيق الذي تعرضنا له دل على أن القضية تطورت إلى أبعد من مجرد مواجهة مشكلة اللجنة، لقد فتحت في السجن ملفات كل شيء خطاب العلماء، شريط المدفع العملاق، مذكرة النصيحة، لجنة الجامعة للأصلاح والمناصحة، وأخيرا لجنة الدفاع.

وكانت أهم قضية لدى وزارة الداخلية من بين هذه القضايا هي شريط المدفع العملاق، حيث استحوذت تلك القضية على معظم ملفات التحقيق، ولقد علمنا فيما بعد أن هذه الملفات لم تفتح إلا بعد أن وجدت المباحث بين الأوراق والوثائق التي صادروها من منازل بعض الأخوة ما يدل على علاقته بتلك القضايا، لقد كانت الاعتقالات في زنازين فردية في سجن الحائر، وبقي الجميع في سجن انفرادي إلى أن أطلق سراحهم.

نعم مسؤولون
ولكن رغم هذه الظروف وعدم تمكن الأخوة من الاتصال فيما بينهم وتنسيق الموقف تجاه قضية التحقيق، فقد كان هناك توجه واحد تقريبا هو الإقرار بالمشاركة بتلك الأعمال باعتبارها أعمالا مشروعة، وبواعثها بواعث خير ولا مجال لتجريم الذي ساهم فيها، وكانت كل التفاصيل في التحقيق تدل على أن المجموعة لم تخطط في يوم من الأيام لرفع سلاح أو لإحداث فتنة أو السعي لأي مطالب ومصالح شخصية.

هذا الموقف خفف حدة المواجهة، وسهل إقفال ملفات التحقيق، وعجل بإطلاق سراح الجميع، وأطلق سراح الجميع فعلا حيث لم يبق في السجن بعد شهر سبتمبر 1993 الموافق بداية جمادى الأولى 1417 إلا الدكتور المسعري في السجن الذي أطلق سراحه بعد ذلك بأشهر معدودة.

مرحلة ضرورية
كانت تجربة السجن تجربة هامة جدا ومرحلة ضرورية للمشروع الكبير، لقد كان إقدام السلطة على اعتقال هذه المجموعة من أساتذة الجامعة دليل على أن النظام غير مستعد لتحمل أي نوع من أنواع النقد، وخاصة إذا كان هذا النقد قد صدر من جهة لها كيان محدد، ولم يتردد النظام في علاج القضية بأسلوب البطش والسجن حتى لوكان المستهدفون من صفوة المجتمع ومن أساتذة الجامعة، وحتى لو اقتصروا في أساليبهم على ما يمكن اعتباره في حدود المباح في عرف السلطة نفسها، بل وحتى لو استخدمت فيه نفس شعارات السلطة.

كان ذلك أول دليل على كذب النظام في فتح أبوابه وحسن صلته بالمجمتع وقيادات المجتمع، ولقد تحقق هدف تكذيب النظام في ذلك من خلال التغطية الإعلامية الناجحة لإخبار تلك الاعتقالات، ولم يستطع النظام في مواجهة معرفة الناس بتلك التفاصيل إلباس أي جريمة لتلك المجموعة لتبرير اعتقاله لهم.

الأهمية الثانية لتجربة السجن أن المجموعة المعتقلة تعرفت عن قرب على تركيبة المخابرات ونظام الأمن من الداخل ونظام السجن وقناعة النظام بنفسه وبجنوده وحقيقة مشاعر وطريقة تفكير المنتسبين لجهاز الأمن، ولقد فسرت هذه المعرفة كثيرا من تصرفات النظام وشعوره بالثقة بالنفس رغم الهلهلة والانكشاف في تركيبته الشرعية والسياسية.

توطئة للمعارضة
وكذلك كانت مرحلة السجن مرحلة ضرورية في التوطئة للعمل من الخارج، وذلك حين ثبت أن النظام لن يسمح بأي هامش من حرية التعبير ولا أي شكل من أشكال التجمع مهما كان واضح الشرعية، ولذلك فقد شكلت مرحلة السجن ضرورة لتبرير إنشاء مكتب للعمل في الخارج، ولم يعد بمقدور أحد أن يعترض بعد هذه الحملة وبعد السجن أن يلوم الذين بادروا لاستئناف العمل من الخارج، ولو قدر أن انتقل العمل إلى الخارج قبل تجربة السحن، وقبل أن تقام هذه الحجة لقيل أن هؤلاء لم يستفرغوا الوسع، واستعجلوا المواجهة وأنه لابركة في عمل يقاد من خارج البلد.

تفسير مختلف
النظام من طرفة لم يستوعب هذه القضية، وفسر اعتراف الأخوة المعتقلين بالمساهمة في تلك الأعمال بأنه نتيجة رعبهم وخوفهم من قوة النظام وبطشه، وقرر النظام أن يعيد النظر في بعض الهوامش الصغيرة جدا، فيقفلها، ويقفل الباب إلى الأبد على كل من تحدثه نفسه بأي شكل من النقد أو رفع الصوت.

ولذلك فقد فوجئــنا بعد ما خرجنا من السجن أن النظام أوقف العمل بأحد التقاليد العريقة لآل سعود، وهو الســماح لأي فرد في البلد أن يكتب إلى أي مسؤول مايشاء، مادام في رسالة خاصة وفردية، وهذان الشرطان لا تلاعب فيهما، خاصة بمعنى سرية وفردية بمعنى أن لايشارك فيها أحد إلا كاتبها، لكن هذا التقليد توقف العمل به فجأة، حين استدعي عدد ممن أرسلوا رسائل وبرقيات خاصة وفردية إلى الملك وبعض المسؤولين، يعترضون فيها على إجراءات الفصل والاعتقالات والسجن، وبعد استدعاءهم تعرضوا للتوبيخ، وطلب منهم كتابة اعتذار عما بدر منهم، وتعهد بعدم كتابة مثل هذه البرقيات والرسائل مرة أخرى وإلا فسيعرضوا أنفسهم للعقاب.

إلى سفر وسلمان
ولعل هذا الشعور بالثقة بالنفس عند النظام واعتقاده بجدوى القمع المطلق هو الذي دفعه لأن يتخذ قرارا بإيقاف الشيخين سلمان العودة وسفر الحوالي عن الدعوة والتدريس، والتي حصلت في أواخر مرحلة السجن، وتتابعت فيها فصول هامة من فصول تاريخ الحركة الإصلاحية في المملكة والتي ستطرق في حلقات قادمة.

أهداف اللجنة
لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية لم تحقق هدفها البسيط المعلن، وهو المساهمة في رفع الظلم من خلال الوسائل المتاحة، فهل كانت اللجنة مشروعا فاشلا؟.

في الحقيقة لم يدر بخلدنا حين سعينا لإنشاء اللجنة أن تتمكن اللجنة من ذلك، فلقد كنا نعلم أن عقلية آل سعود ليست من النوع الذي يستوعب هذه الكيانات، مهما كانت لطيفة أو هينة، حيث لا يسمح آل سعود حتى بإنشاء الجمعيات العلمية التقنية فضلا عن أن يسمحوا أويسكتوا عن مثل هذه المجموعة ذات الطابع السياسي والتوجه الذي يوحي بشيء من المعارضة الخفية، ولم يكن رد فعل النظام بالمستغرب علينا، ولم نتوقع أن نستطيع الرد على تصرف النظام بأكثر مما قمنا به، وهو استثمار القضية إعلاميا، وكنا على قناعة تامة بأن المجتمع لم يصل إلى مرحلة الدفاع عن اللجنة بالمظاهرات أو بالإضرابات أو بالاعتصامات، لقد كنا على قناعة بكل ذلك، وحصل ما توقعناه، إذا فكيف نعتقد أن مشروع اللجنة قد نجح؟.



الخطاب، المذكرة، اللجنة
إن الجواب على هذا السؤال هو ذات الجواب عن نجاح مشروع خطاب العلماء ومذكرة النصيحة، ففي حين لم ينفذ النظام أيا من مطالب الخطاب والمذكرة، فقد كان الخطاب نقطة تحول جوهرية في وعي الأمة تجاه قضية العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وإدراك دور الإسلاميين واعتبارهم صفوة في مقدمة المصلحين، وكانت المذكرة حجة دامغة في أن لدى أولئك الدعاة برنامج تفصيلي واقعي وعملي للإصلاح، وأن النظام هو الذي لايريد الإصلاح.

لقد كان أهم هدف حققه مشروع اللجنة هو القيام عمليا ومن خلال حركة سياسية إعلامية فعالة، بنفس المفهوم الذي طالما رسخه آل سعود في أذهان الناس، وهو تحريم أي شكل من أشكال التعاون أو قيام أي كيان مهما كان مشروعا، وفي نظرنا فإن الجدل الذي طرحته اللجنة من خلال بياناتها وتصريحاتها لم يقف له جدل النظام ولا بيانات هيئة كبار العلماء، ولقد كانت عملية الصراع السياسي هذه وتقديم التضحيات من أجل ذلك دليلا على أن الإسلاميين رائدون في ذلك، وأنهم مستعدون لإزالة التحريف الذي يمارسه آل سعود وأعوانهم من العلماء في نصوص الشريعة حتى توفر لهم السلطة والدكتاتورية المطلقة بمعنى الكلمة. هذا الشعور بحق الأمة في أن تحصل على المنابر المناسبة للنقد والمحاسبة، وتقف خلف قيادات مستعدة للتضحية والإيثار، أصبح ظاهرا جليا بعد مرحلة اللجنة، بل لقد ارتفع مستوى ثقة الفرد العادي بنفسه، وتحطمت قدسية آل سعود وحقهم المطلق من عقله وقلبه، وهذا لاشك مكسب استراتيجي كبير.

إضافة لذلك لقد وفرت تجربة اللجنة المنصة المناسبة لإثارة قضايا هامة جدا سوى شرعية هذا الكيان، فلقد فشا في الناس الحديث عن الظلم وتسلط المتنفذين وفوضى القضاء، وارتفع مستوى الوعي بتغطية الحقوق الشرعية وضرورة الدفاع عنها، وقضايا التعاون عموما لتحقيق أي هدف شرعي.

اللجنة لا تُحتمل
لقد كان مشروع اللجنة مٍفصلا في مسيرة الصحوة وخاصة في قضية العلاقة بالنظام، وذلك لأن فكرة الخطاب والمذكرة رغم ما فيها من محتوى يؤذي النظام إلا أن عقلية آل سعود تستطيع امتصاصها واستيعابها، لكن مشروع اللجنة احتوى على المكون الأساسي في قضية التحدي المباشر لذات النظام، وهو كون اللجنة في تعريفها الحقيقي كيانا إنسانيا مستقلا، وهذا الكيان مهما كان بسيطا، ولا يشكل مواجهة للدولة فالقبول به يعني من حيث المبدأ القبول بكيانات أخرى تؤدي في النهاية إلى خلخلة سيطرة آل سعود على البلد والمجتمع والفكر والثقافة والدين وهذا ما جعل مشروع اللجنة نقطة تحول في تاريخ الحركة الإصلاحية أدت إلى انطلاق المواجهة.



الحديث يتوقف
ماذا عملنا بعد السجن؟ وكيف أطلق سراح المسعري؟ ومن الذي سعى لترتيب إخراج اللجنة إلى لندن؟ وكيف هُرّب المسعري إلى اليمن ومن ثم إلى لندن؟ وكيف خرج الفقيه إلى لندن؟ ومن الذي دعم هذا المشروع ماديا ومعنويا؟ وكيف كانت انطلاقة المكتب في لندن؟ وكيف تتابعت ردود الأفعال؟ وكيف تصاعدت المواجهة إلى حوادث بريدة واعتقال الشيخين سلمان وسفر وماذا حصل بعد ذلك؟ كل هذه القضايا لا يمكن الكتابة عنها في الوقت الحاضر لأن أناسا كثيرين سيكونون في خطر أمني واضح، ولذا فإننا نجد أنفسنا مضطرين للوقوف عند هذه المرحلة، عسى أن تنكشف الغمة قريبا ونتمكن بإذن الله من إتمام نشر ما بقي من تاريخ هذه الحقبة الهامة.




وأخير
عل ما ذكرة
يزيل الغيمة عن عينيك
أيها ال ................................








أحبها 18-03-2001 10:38 PM

أخي ( سعد السعودي ) .. لايكون حبك لوطنك .. كحب الدب لصاحبه ..
 
أخي الكريم ( سعد السعودي ) .. لي رأي أسمعك إياه دون لوم

منك .. كم أتمنى منك أن تكثر من القراءة المتنوعة .. حتى

تدعم ردودك بحجج مقنعة .. تسطيع من خلالها إيصال ماتريده ..

بقوة المعرفة .. فالعاطفة وحدها لاتكفي ..

أخي الكريم ..( سعد السعودي ) أنا ربما أوافقك الرأي أنك لست

بكاتب متمرس .. ربما .. وفي نفس الوقت لست مطالب بالدفاع ..

عما تظنه أنه أهل لذلك .. والسبب بسيط إذا كنت تؤمن بأن

المملكة .. ليس عليها شائبة ولا نقيصة تذكر في حقها .. فدع

أعمالها تتحدث عنها نيابة وأصالة ..

ولا تضع نفسك في موضع محرج مع الآخرين ..

فلا يكن حبك لوطنك كحب الدب لصاحبه .. وهي قصة مشهورة ..

أخي ( سعد السعودي ) ماعمر التغيير أدى إلى الهاوية والشقاق ..

فإن حدث .. فهو سنة الله بخلقه .. لكل شيء ثمن .. ودوام الحال

محال .. فالتغيير إما للأفضل أوللأسواء .. يكون بحسب من يقوم

بهذه العملية .. مافكره .. ونهجه .. وسائله ..ألخ ..

ونحن مأمورين بأخذ أحسن الأشياء وهذا ماعلمنا إياه القرآن

بإتباع أحسن القول ..

أخي ( سعد ) ردودك تعجبني من وجوه .. ولا تعجبني من وجوه أخرى ..
يعجبني فيها حبك لوطنك .. وصراحتك ..

ولا يعجبني فيها تهميش الآخرين ووصفهم بالمندسين وتسفيه

أراءهم .. وسلب المواطنة والوطنية عن كاهلهم ..

أخي ( سعد السعودي ) جعلتني ممن وصفتهم ( سأحاربكم من

كتاباتكم وسرقاتكم وتخفيكم وراء الدين والوطنية لأظهر حقيقتكم

الزائفة ) .. فهل تعلم من أكون ومن أي قوم أنا ..

فلا ترجم بالغيب وإياك والظن فهو أكذب الحديث وإثم ..


أخي ( سعد السعودي ) أنا معك في مسألة أن النقاشات أحياناً

تكون هوجاء من بعض الأعضاء ولا هدف لها ولا غاية واضحة غير الردح

و( تعب الدماغ ) .. وتخرج أحايين كثيرة عن الموضوع الأساسي ..

إلى مواضيع متشعبة .. فأنا أعاني من ذلك أيضاً ..

لكن ياأخي ( سعد السعودي ) .. يبقى فيها ناحية إيجابية وهي (

النقد ) وليس النقد كما يتبادر إلى ذهنك وما صرحت أنت به ..

أن فيه تشهير وتشويه سمعة المملكة .. بل النقد ظاهرة صحية إذا

مورست بإصولها وقواعدها السليمة ..التي أرساها الإسلام .. دون

المساس بكرامة الآخرين .. وكانت النيات نبيلة وسامية المقصد ..

فرسول الله صلى الله عليه وسلم .. أنتقد قريش على عقائدهم

الفاسدة .. وأنتقد المظالم بالمجتمع المكي .. وكان ينتقد

أصحابه دون المساس بالأشخاص بقوله ( مابال أقوام ... )

وخطب الجمعة .. أقوى الوسائل وأبلغها تأثيراً في نفوس المجتمع

من الصحافة والإنترنت .. فالمستمعون لها قاعدة عريضة من الكبير

إلى الصغير .. إلى الصحيح والمريض والرجل والمرأة والغني

والفقير والعالم والجاهل .. ألخ .. فشرعها الإسلام وأعتنى بها

وفيها وعلى يديها يكون نقد أوضاع المجتمع وفيها دروس وعضة

وتصحيح .. ألخ ..


إذاً أخي ( سعد السعودي ) .. لايساورك الشكوك من ناحية النقد ..

ولا تبتأس من التغيير .. فلكل شيء عمر وأوان .. ولكل شيء ..

زمان .. وأسباب .. والمجتمع الذي لا ينقد ولا ينتقد على ماأظن

أنه مجتمع أهل القبور لا الأحياء .. ويكفي لنا بقول رسول الله صلى

الله عليه وسلم ( الدين النصيحة ) ..

وتقبل تحياتي أخي ( سعد السعودي )
ودمت ودام وطني العزيز دون تزلف ولا نفاق المنافقين ..

مع تحيات ( أحبها )

فلاش99 18-03-2001 11:10 PM


الأخ أحبها

لا لي بهذا الموضوع من تعليق
ولكن لتسمح لي أخي
لي فترة وانا متابع لبعض الاقلام
وأحب يا أخي أني اعلمك
بأعجابي الشديد بقلمك وطريقة تفكيريك
أزادك الله من علمه وفضله

!!! فلاش تعجبه الافكار النيره !!!

أحبها 19-03-2001 03:01 AM

لقد وضعت وساماً .. على صدري .. بثناء يراعك يا ( فلاش 99 )..
 
أخي .. ( فلاش 99 ) .. أعزك الإله بعزه .. وزاد غلاك غلا ..

عزيزي .. ( فلاش 99 ) ..

أنساب يراعك .. ثناءاً .. أنا دونه .. وأنزلتني منزلة الراهب

بصومعته.. فحنانيك فما أنا إلا شاب من العرب .. يلتمس
الفضيلة .. وينشد قلماً ألمعي ..

عزيزي .. ( فلاش 99 ) .. ما أنا إلا فتى السعودية .. يبحث في

ثنايا قلمه عن الوسطية .. في كل شيء .. وينظر للأشياء بمنظار

أنها تحمل بين طياتها .. ألوان الطيف كلها .. ويمعن النظر

بمكنونها .. يلتمس الخير فيها .. فيعمل به .. ويلتمس الشر

فيها فيمجه .. لاأحمل في قلبي لأي كان غير مايحمله صاحب الأثر في

جنانه .. ( رب اغفر لقومي إنهم لايعلمون ) ..

أحببت في إنتسابي لهذا المنتدى الموقر .. أن أخلق ذاك النموذج

الذي نتطلع له .. من الشباب .. في الإستفادة المثلى لهذه

النافذة المفتوحة لنا ( الإنترنت ) وما جلبته لنا من مساحة ..

حرة نزيهة .. في إبداء الرأي .. والقول الصادق في مستجدات

العصر .. دون مشرط الرقيب .. ولا تشوهات المداد الأحمر ..

فالرقيب .. بيننا ثقتنا بأنفسنابمبتغى الحق .. والشرطي فينا

ثقافتنا الأصيلة .. ونبل أخلاقنا العربية ..

أحببت أن أضرب لولاة الأمر في بلادي .. ولمن بيده صناعة

القرار .. أن شباب وطني لديهم من الدراية .. الشيء الكثير ..

والإدراك بمجرى الإحداث .. مالا يخطر على بالهم .. وهم على قدر

كبير من التفكير .. والفهم .. والمسؤلية في تحمل أعباء الأمانة

متى ما أعطوا الفرصة الكافية .. فما نحن إلا أبناءهم وماهم لنا إلا أباء ..

وأحببت أن أضرب مثلا .. لشباب وطني بأن التفكير السليم

الرصين .. هو الأبقى .. وصاحبه الأصلح في إدارة دفة الأشياء ..

فبمقدار تقبلنا للآخر .. وإحتوائه .. يكون رقينا .. وثقتنا

بخطواتنا .. فلا الصراخ .. يجلب خيراً .. ولا التهميش

والإستخفاف .. يجدي نفعاً .. فكما تدين تدان .. وعند الله يأوي العباد ..

وأن ننظر للب الأشياء وجوهرها .. لا إلى سطحها وقشورها..

وقدوتي في ذلك نبي محمد صلى الله عليه وسلم ..

وحكماء العرب من أكثم بن صيفي .. إلى خال المؤمنين وكاتب وحي

رسول الله صلى الله عليه وسلم .. معاوية بن أبي سفيان ..

فلك مني ياالغالي ( فلاش 99 ) الشكر ..

ولمن قرأ لي شيئاً ..العرفان ..

ودمت ودام وطني العزيز ..دون تزلف .. ولا نفاق المنافقين ..

مع تحيات ( أحبها )

أحبها 19-03-2001 03:05 AM

لقد وضعت وساماً .. على صدري .. بثناء يراعك يا ( فلاش 99 )..
 
أخي .. ( فلاش 99 ) .. أعزك الإله بعزه .. وزاد غلاك غلا ..

عزيزي .. ( فلاش 99 ) ..

أنساب يراعك .. ثناءاً .. أنا دونه .. وأنزلتني منزلة الراهب

بصومعته.. فحنانيك فما أنا إلا شاب من العرب .. يلتمس
الفضيلة .. وينشد قلماً ألمعي ..

عزيزي .. ( فلاش 99 ) .. ما أنا إلا فتى السعودية .. يبحث في

ثنايا قلمه عن الوسطية .. في كل شيء .. وينظر للأشياء بمنظار

أنها تحمل بين طياتها .. ألوان الطيف كلها .. ويمعن النظر

بمكنونها .. يلتمس الخير فيها .. فيعمل به .. ويلتمس الشر

فيها فيمجه .. لاأحمل في قلبي لأي كان غير مايحمله صاحب الأثر في

جنانه .. ( رب اغفر لقومي إنهم لايعلمون ) ..

أحببت في إنتسابي لهذا المنتدى الموقر .. أن أخلق ذاك النموذج

الذي نتطلع له .. من الشباب .. في الإستفادة المثلى لهذه

النافذة المفتوحة لنا ( الإنترنت ) وما جلبته لنا من مساحة ..

حرة نزيهة .. في إبداء الرأي .. والقول الصادق في مستجدات

العصر .. دون مشرط الرقيب .. ولا تشوهات المداد الأحمر ..

فالرقيب .. بيننا ثقتنا بأنفسنابمبتغى الحق .. والشرطي فينا

ثقافتنا الأصيلة .. ونبل أخلاقنا العربية ..

أحببت أن أضرب لولاة الأمر في بلادي .. ولمن بيده صناعة

القرار .. أن شباب وطني لديهم من الدراية .. الشيء الكثير ..

والإدراك بمجرى الإحداث .. مالا يخطر على بالهم .. وهم على قدر

كبير من التفكير .. والفهم .. والمسؤلية في تحمل أعباء الأمانة

متى ما أعطوا الفرصة الكافية .. فما نحن إلا أبناءهم وماهم لنا إلا أباء ..

وأحببت أن أضرب مثلا .. لشباب وطني بأن التفكير السليم

الرصين .. هو الأبقى .. وصاحبه الأصلح في إدارة دفة الأشياء ..

فبمقدار تقبلنا للآخر .. وإحتوائه .. يكون رقينا .. وثقتنا

بخطواتنا .. فلا الصراخ .. يجلب خيراً .. ولا التهميش

والإستخفاف .. يجدي نفعاً .. فكما تدين تدان .. وعند الله يأوي العباد ..

وأن ننظر للب الأشياء وجوهرها .. لا إلى سطحها وقشورها..

وقدوتي في ذلك نبي محمد صلى الله عليه وسلم ..

وحكماء العرب من أكثم بن صيفي .. إلى خال المؤمنين وكاتب وحي

رسول الله صلى الله عليه وسلم .. معاوية بن أبي سفيان ..

فلك الغالي ( فلاش 99 ) الشكر .. ولمن قرأ لي شيئاً ..

ودمت ودام وطني العزيز ..دون تزلف .. ولا نفاق المنافقين ..

مع تحيات ( أحبها )

أحبها 19-03-2001 03:19 AM

لقد وضعت وساماً .. على صدري .. بثناء يراعك يا ( فلاش 99 )..
 
أخي .. ( فلاش 99 ) .. أعزك الإله بعزه .. وزاد غلاك غلا ..

عزيزي .. ( فلاش 99 ) ..

أنساب يراعك .. ثناءاً .. أنا دونه .. وأنزلتني منزلة الراهب

بصومعته.. فحنانيك فما أنا إلا شاب من العرب .. يلتمس
الفضيلة .. وينشد قلماً ألمعي ..

عزيزي .. ( فلاش 99 ) .. ما أنا إلا فتى سعودي ..يصيب ويخطيء ..
يبحث في ثنايا قلمه عن الوسطية .. في كل شيء ..

وينظر للأشياء بمنظار أنها تحمل بين طياتها .. ألوان الطيف كلها ..

ويمعن النظر بمكنونها .. يلتمس الخير فيها .. فيعمل به .. ويلتمس الشر فيها فيمجه ..

لاأحمل في قلبي لأي كان غير مايحمله صاحب الأثر في جنانه .. ( رب اغفر لقومي إنهم لايعلمون ) ..

أحببت في إنتسابي لهذا المنتدى الموقر .. أن أخلق ذاك النموذج

الذي نتطلع له .. من الشباب .. في الإستفادة المثلى لهذه

النافذة المفتوحة لنا ( الإنترنت ) وما جلبته لنا من مساحة ..

حرة نزيهة .. في إبداء الرأي .. والقول الصادق في مستجدات

العصر .. دون مشرط الرقيب .. ولا تشوهات المداد الأحمر ..

فالرقيب .. بيننا ثقتنا بأنفسنابمبتغى الحق .. والشرطي فينا

ثقافتنا الأصيلة .. ونبل أخلاقنا العربية ..

أحببت أن أضرب لولاة الأمر في بلادي .. ولمن بيده صناعة

القرار .. أن شباب وطني لديهم من الدراية .. الشيء الكثير ..

والإدراك بمجرى الإحداث .. مالا يخطر على بالهم .. وهم على قدر

كبير من التفكير .. والفهم .. والمسؤلية في تحمل أعباء الأمانة

متى ما أعطوا الفرصة الكافية .. فما نحن إلا أبناءهم وماهم لنا إلا أباء ..

وأحببت أن أضرب مثلا .. لشباب وطني بأن التفكير السليم

الرصين .. هو الأبقى .. وصاحبه الأصلح في إدارة دفة الأشياء ..

فبمقدار تقبلنا للآخر .. وإحتوائه .. يكون رقينا .. وثقتنا

بخطواتنا .. فلا الصراخ .. يجلب خيراً .. ولا التهميش

والإستخفاف .. يجدي نفعاً .. فكما تدين تدان .. وعند الله يأوي العباد ..

وأن ننظر للب الأشياء وجوهرها .. لا إلى سطحها وقشورها..

وقدوتي في ذلك نبي محمد صلى الله عليه وسلم ..

وحكماء العرب من أكثم بن صيفي .. إلى خال المؤمنين وكاتب وحي

رسول الله صلى الله عليه وسلم .. معاوية بن أبي سفيان ..

فلك مني ياالغالي ( فلاش 99 ) الشكر ..

ولمن قرأ لي شيئاً ..العرفان

ودمت ودام وطني العزيز ..دون تزلف .. ولا نفاق المنافقين ..

مع تحيات ( أحبها )

أحبها 19-03-2001 03:29 AM

لقد وضعت وساماً .. على صدري .. بثناء يراعك يا ( فلاش 99 )..
 
أخي .. ( فلاش 99 ) .. أعزك الإله بعزه .. وزاد غلاك غلا ..

عزيزي .. ( فلاش 99 ) ..

أنساب يراعك .. ثناءاً .. أنا دونه .. وأنزلتني منزلة الراهب

بصومعته.. فحنانيك فما أنا إلا شاب من العرب .. يلتمس
الفضيلة .. وينشد قلماً ألمعي ..

عزيزي .. ( فلاش 99 ) .. ما أنا إلا فتى سعودي ..يصيب ويخطيء ..
يبحث في ثنايا قلمه عن الوسطية .. في كل شيء ..

وينظر للأشياء بمنظار أنها تحمل بين طياتها .. ألوان الطيف كلها ..

ويمعن النظر بمكنونها .. يلتمس الخير فيها .. فيعمل به .. ويلتمس الشر فيها فيمجه ..

لاأحمل في قلبي لأي كان غير مايحمله صاحب الأثر في جنانه .. ( رب اغفر لقومي إنهم لايعلمون ) ..

أحببت في إنتسابي لهذا المنتدى الموقر .. أن أخلق ذاك النموذج

الذي نتطلع له .. من الشباب .. في الإستفادة المثلى لهذه

النافذة المفتوحة لنا ( الإنترنت ) وما جلبته لنا من مساحة ..

حرة نزيهة .. في إبداء الرأي .. والقول الصادق في مستجدات

العصر .. دون مشرط الرقيب .. ولا تشوهات المداد الأحمر ..

فالرقيب .. بيننا ثقتنا بأنفسنابمبتغى الحق .. والشرطي فينا

ثقافتنا الأصيلة .. ونبل أخلاقنا العربية ..

أحببت أن أضرب لولاة الأمر في بلادي .. ولمن بيده صناعة

القرار .. أن شباب وطني لديهم من الدراية .. الشيء الكثير ..

والإدراك بمجرى الإحداث .. مالا يخطر على بالهم .. وهم على قدر

كبير من التفكير .. والفهم .. والمسؤلية في تحمل أعباء الأمانة

متى ما أعطوا الفرصة الكافية .. فما نحن إلا أبناءهم وماهم لنا إلا أباء ..

وأحببت أن أضرب مثلا .. لشباب وطني بأن التفكير السليم

الرصين .. هو الأبقى .. وصاحبه الأصلح في إدارة دفة الأشياء ..

فبمقدار تقبلنا للآخر .. وإحتوائه .. يكون رقينا .. وثقتنا

بخطواتنا .. فلا الصراخ .. يجلب خيراً .. ولا التهميش

والإستخفاف .. يجدي نفعاً .. فكما تدين تدان .. وعند الله يأوي العباد ..

وأن ننظر للب الأشياء وجوهرها .. لا إلى سطحها وقشورها..

وقدوتي في ذلك نبي محمد صلى الله عليه وسلم ..

وحكماء العرب من أكثم بن صيفي .. إلى خال المؤمنين وكاتب وحي

رسول الله صلى الله عليه وسلم .. معاوية بن أبي سفيان ..

فلك مني ياالغالي ( فلاش 99 ) الشكر ..

ولمن قرأ لي شيئاً ..العرفان

ودمت ودام وطني العزيز ..دون تزلف .. ولا نفاق المنافقين ..

مع تحيات ( أحبها )

سعد السعودي 19-03-2001 02:04 PM



لا ينقص الي انت يا (احبها) لكي تعلمني ما هو الاثم0 وتحاول ان

تظهر ان النقد اللذي تقول عنه نقدا هو ما كتبه (نو00حي000 )0

وهذا اللذي انتم تقولون عنه نقدا صحيحا00 اليس كذلك؟

ونقدكم بناء بالشتم والسب (ظاهرة صحية اليس كذلك ايضا)فاحتفظ

بهذا النقد لنفسك ولمن يكون معك 0 وبما ان اوسمتك ذادت وساما

انزلت ردك 4 مرات من فرحتك (ستقول انه خطاء في الارسال)000000

نقدك هذا هو اللذي دعا صاحبك ينقل المواضيع وياتي بمعلقاته

لينشرها هنا ولعلمك كنت اتوقع ذلك منه لانه لن سيقدر علي الرد

لانه يعرف بانه يكذب وليست لديه الحجة الكافية ليرد ولذالك

يلجؤن دئما الي انزال صحفهم الطويلة ليمل القاري ويبتعد عن

عن الرد والمقصد هنا هو اضاعة الموضوع الاساسي 00

عليك بقراة موضوعي جيدا والرد اللذي قبل هذا لتعرف من منا هو

المتملق لتصبح المصلح وتدس السم باسم حبيبتك000000




باقي علي شهر محرم 6 ايام للعلم فقط000

أحبها 19-03-2001 05:45 PM

ياكثر تجنيك علي .. وياشدت تعسفك .. وتكبرك على قبول الحق ..
 
أخي .. ( سعد السعودي )وستبقى أخي .. إلى أن يهدي الله جنانك ..

أخي ( سعد السعودي ) .. والله لوكنت أعلم أن كل ماتقوله في حقي صحيح لما كتبت لك وعقبت عليك ..

جانبك الصواب في جنابي .. مرات ومرات .. وأنت لاتريد أن تسمع

وإذا سمعت لاتريد أن تعي .. وإذا وعيت لاتريد أن تعترف بخطاءك .. وأن العود دائماً أحمد ..

أولاً: لم أقراء ردك هذا إلا في الساعة الثالثة من يوم 25/12/21
____

ثانياً: قولك ( لاينقص إلا أنت يا ( أحبها ) لكي تعلمني ماهو
_______
الإثم ).. فأين أنت من تواضع المؤمن .. وأين أنت من قول ابن عباس العلم لايؤتى لمستكبر ..

وأين أنت من فعل ابن عباس رضي الله عنهما حينما كان يجلس عند

باب أبي هريرة في ظهيرة يوم حار ينتظر خروج أبو هرية لصلاة

العصر .. ملتمساً ما عند أبي هريرة من علم عن رسول الله .. فهل

مقامك أرفع من مقام ابن عباس .. وهل مقامي كمقام أبي هريرة ..

فإن كان بالنفي .. فلما لانجلس لكلمة سواء .. وننظر فيما

أختلفنا فيه .. فلعلك تصلح ما أعوج عندي .. ولعلي أصلح ما

أعوج عندك .. وإلا إن كنت ترى أنك فوق النقد .. معصوم من

الزلة .. والسهوة .. فإن كنت كذلك .. فأنا .. لا .. فما أنا إلا

إبن أدم .. تجري في صفات أبي أدم ..أخطيء وأنوب .. ثم أخطيء

وأنوب .. ثم أخطيء وأنوب إلى أن يغفر الله لي سيئاتي كلها ويقول لي ( قد غفرت لكم )

واعلم أن الإثم هو في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ماحاك في
نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس )

رابعاً : بالنسبة للأخت نوال .. فنقدها تجاوز معقول الشرع
______
والعرف وأدب الحوار .. حينما كفرت .. ووصمت من نقدت بالنفاق ..

واقرأ مقالي المعنون ب( مابين الأخت نوال .. وجماهة التكفير ..

شعرة ).. ففيه وجهة نظري . في طريقة نقدها

خامساً: ليس لي صاحب بالمنتدى مخصوص .. فالجميع أصحابي ..
_______
فكيف ..لا .. وأنتم إخواني في الدين .. وقد أعلنت هذا تكراراً

ومراراً .. فلا تنسب لي .. أي كان إلا قلمي وحبي الكبير ..

سادساً: قرأت ما كتبته .. وأعدته مراراً على حسب طلبك ..
_____
فلك عذرك بما رميتني به .. ولي عذري فيما خالفتك به .. وستبقى أخي وسأبقى لك أخاً ..
ودمت
ودام وطني العزيز ..دون تزلف ولا نفاق المنافقين ..
مع تحيات ( أحبها )

بويك ون 19-03-2001 10:21 PM

نوال
 
يوجد هناك بعض الملاحظات يجب علي تبيانها لك و للجميع , وهي :-

1- يوجد الكثير من الفراغات , فانا لا أعلم هي صور او كتب وغير ذلك , على أي حال , فهي لم تظهر لي ...

2- انا لست سعودي , ولكن خليجي ولي أهتمام بالتاريخ وحاصل على شهادات عليا ,,,

وعلى ضوء ذلك سوف يكون ردي ( من رؤية تحليلية فقط )

ثانيا :

من الواضح من ردك انك لم تقم يكتابته ولكنك قمت بعملية قص ولصق

لا يحتوي موضوعك على شيء ثابت وانما اقوال , وهي قد تكون صحيحة وقد تكون غير ذلك خصوصا انها تأتي من غير مصدر محدد وموثق ...

ولقد اشرت بكلام يخالف الحقيقة ولا أعلم حقيقة الدافع له وما هي انطباعاتك عنه , لأنه كلام غريب ولا يمكن لأي شخص أن يصدقه حتى مهما كان مستواه الثقافي ....

وهو ( ، وذلك من خلال تسمية البلاد باسم الأسرة الحاكمة، أي "المملكة العربية السعودية"، والاسم لا يحمل أي دلالة وطنية أو قومية، فضلا عن أن يكون له أي بعد إسلامي. )

كيف لا يحمل أي دلالة وطنية او قومية وليس له أي بعد إسلامي

فالأسم مكون من ثلاث كلمات وهي :-

الأول :-

المملكة : وتبين نظام الحكم ملكي , مثلها ومثل باقي الممالك الأخرى بالعالم أجمع

ولك هذه الأمثلة . المملكة الأردنية الهاشمية . أين القومية .
المملكة المتحدة . أين القومية
مملكة تايلند . أين القومية . وغيرهم الكثير .

الثاني :-
العربية : وهو ما يميزها ويبين قوميتها وهي القومية العربية .

وانت ذكرت انه ليس له أي بعد قومي ( إذا فما معنى هذه الكلمة )
بعكس الدول الأخرى التي لم تذكر القومية او ذكرتها كأخر كلمة لجمال المنظر وليس إلا :
مثال ذلك ....
الجمهورية العراقية ؟ لم تذكر القومية وهي التي تدعي القومية

جمهورية مصر العربية , أنظر أخر كلمة ..

الثالثة :-

السعودية :-
للتحديد والتمييز , أنظر أخر كلمة

إذا أعتقد كلامك أن الأسم ليس أي بعد قومي خطأ

وإلا لأنتقدنا باقي الدول ولك مثال أخر وهو في عالمنا العربي :

المملكة الأردنية الهاشمية . الكلمة الأخيرة نسبة للعائلة المالكة ...

وهل تعني أن هذه التسمية بها ظلم أيضا , لا أعتقد

وأما البعد الإسلامي :-
أظنك لم ترى العلم السعودي وهو رمز السعودية

ولم ترى كلمة التوحيد ...

ولم تعلم أنها تطبق الشرع الإسلامي
ولعلك تقول يوجد خلل بالتطبيق , ولكن لا يغير من حقيقة أن الحكم إسلامي ..

وأما عن توارث السلطة :-

أعتقد انك لم تقرأ التاريخ الإسلامي جيدا إن لو تكن قرأته أصلا ..

وهو بعد وفاة الرسول صلى الله علية وسلم ووفاة الخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم وأرضاهم .

:
ظهرت الدولة الأموية . وهي وراثية ...

ومن ثم :-
الدولة العباسية :- وهي وراثية أيضا ... ولك أن تسأل كيف وصلت للحكم وعن الإنقلاب الذي قامت به ضد أبناء أمية كما كانوا يسمونهم ...

ومن ثم :-
الدولة العثمانية : وهي وراثية أيضا وأخر دولة إسلامية ...

وكذلك الحكومات التي ظهرت من وقت لأخر , مثل :-

الدولة الفاطمية ,
الدولة الأيوبية ..
دولة المماليك ...

وجميعها وراثية ...

والباقي تأتي بعد ردك , ولكن يكون بأقل الكلمات والأكثر بالأدلة.


ملاحظة :-

من شروط التحاور

أن يتفق الطرفان على نقطة واحده يكون التحاور بشأنها

وإن كان هناك أكثر من نقطة فيتم تحديد النقط حسب الأوليه

وتناقش نقطة تلو الأخرى

حتى يستفيد الطرفان ويكون الحوار موضوعي


وحتى لم أتيت بمجلدات فلن نغض الطرف عنك

ولا تكن كما قال المثل المصري

خذوهم بالصياح لا يغلبكوا

بأنتظار الرد






الساعة الآن » 06:31 PM.
صفحة 1 من 2 1 2 >

Powered by: vBulletin Version 3.0.16
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.