PDA

View Full Version : على بوابة الوحي ( لقد رضي الله عن المؤمنين ) للشيخ عائض القر


فارس الفرسان
02-04-2001, 07:52 PM
({)
قال تعالى : ) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ
مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد …
فيقول الله عز وجل ) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ( فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا في هذه الآية مسائل :
أولها : تزكية وتعديل لأصحاب رسول الله r من رب العالمين فإن الله في هذه الآية زكاهم وأخبر الناس أنه رضي عنهم ومابعد الرضا غضباً ولا لوماً ولا عتاباً ولا تثريب ، وفيه رد على الطوائف المنحرفة التي وصفت الصحابة بالسلب والسبيب والشتم فإن الله عز وجل أخبر في هذه الآية أنه رضي عنهم سبحانه وتعالى لأفعالهم الجميلة ولأخلاقهم الحميدة ولذلك ورد في الحديث (( لن تمس النار أحداً بايع تحت الشجرة )) ويروى في أثر آخر (( كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر )) إي الذين بايعوا تحت الشجرة رسول الله r ومن هذا فعلم من سب الصحابة أو أنتقصهم أو شتمهم أو سبهم أو اغتابهم إنما هو خارج عن سبيل المؤمنين ناقض للأجماع عاصى لله سبحانه وتعالى محاد لموالاة ومكذباً للقرآن .
الثاني : اختار الله عز وجل لفظة الرضى هنا فقال : ) رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ( ولم يقل لقد تاب أو لقد غفر أو لقد عفى مع العلم أنه سبحانه وتعالى في مواضع من كتابه العظيم كثيرا ما ذكر العفو والغفران والتوبة .
فما هو سبب اختيار هذه الكلمة هنا ؟
إن الله سبحانه وتعالى يقول ) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ( وقال في موضع ثاني )لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ( وقال في ثالث من المواضع ) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ( أما هنا فقد قال :) رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ (.
والجواب أن الرضا اشرف المدائح وأجل المكاسب أما العفو فيسبقه لوم والغفران فيسبقه ذنب والتوبة هي أول المنازل وأخر المنازل فاختار الله هنا الرضا لأن الصحابة قاموا بعمل جليل استوجب رضى الله عز وجل لالوم فيه ولا نقص ولا تقصير .
الثالث : رضى الله على العبد هو أن يرضاه عبداً فيرضى أقواله وأفعاله وهذا نسبي هذا الرضا نسبي فإن الله سبحانه وتعالى يرضى عن بعض خلقه أكثر من بعض فرضاه سبحانه وتعالى عن انبيائة ورسله أعظم بكثير عن أوليائة على درجات عند ربهم .
الرابع : أما رضى العبد عن الله عز وجل فهو أن يرضى بأحكامه سبحانه وتعالى وأوامره ونواهيه ويرضى بقدره خيره وشره وحلوه ومره وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ((من قال رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً كان حقاً على الله أن يرضيه )) .
المسألة الخامسة : قال تعالى : ) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ ( وهنا اللام موطئة بقسم ومعناه توكيد هذا الرضى من الله سبحانه وتعالى وقد ورد في القرآن مضافاً وهو غاية ما يتمناه العبد وقال سبحانه وتعالى : ) عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ( ولم يقل المسلمين لان موضع المؤمنين أرفع درجة فعند غاية المدائح في القرآن يذكر الإيمان ولا يذكر الإسلام ولكن ربما يذكر الإسلام و الإيمان في موضع واحد فهذا يعني شيئا وهذا شيئاً آخر وكذلك إن ذكر الإسلام في موضع وحده فإنه يشمل الإيمان وبالعكس هنا لما كان الرضا درجة عالية ذكر الله المؤمنين بالإيمان تشريفاً وتعظيماً ثم قال سبحانه وتعالى وهي المسألة السادسة .
المسألة السادسة : ) إِذْ يُبَايِعُونَكَ ( والبيعة هنا بيعة الرضوان سماها أهل العلم بيعة الرضوان لان الله رضي عن الصحابة وبيعة الشجرة وهي الشجرة التي بايع تحتها الصحابة الرسول r وكانت هذه البيعة عند بعض أهل العلم على الموت وقيل أن لا يفروا وقد بايع r كثيراً من الناس منهم من بايعة على إلاسلام والهجرة ومنهم من بايعه على الجهاد والنصرة ومنهم من بايعه على الشهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح بكل مسلم ومنهم من بايعه كما في حديث عباده (( بايعوني على أن لاتشركوا بالله وأن لا تسرقوا ولا تزنوا )) الحديث ، ومنها بيعة النساء فإنه بايعهن على أن لايشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين . الحديث وبايع نفر من أصحابة فيهم أبو بكر على أن لا يسألوا الناس شيئا فكان الواحد منهم يسقط سوطه فلا يقل لأحد ناوليني السوط .
المسألة السابعة : ) إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ( ولم يسمي هنا الشجرة وأنه لا فائدة تذكر من تسمية الشجرة قال بعضهم هي سلمة وقال بعضهم هي سمرة أنما جعلت الشجرة رمز لما حدث تحتها من طهر وقداسة وعملا صالحا فلا فائدة ولا مصلحة في تتبع الاسماء التي لم ترد في القرآن أو الأعداد أو الأماكن أو الأزمات فإنه إذا ذكر اللفظ مجرداً صار مثلا شروراً لا يقصد لذاته وكذلك أصحاب الفيل لم يذكر اسم الفيل وأصحاب الكهف ولم يذكر الكهف وأعداد أهل الكهف ولون الكلب وغير ذلك من القصص التي تكلف بعض المفسرين في إيراد الأسماء والأعدا والأمكنة والأزمنة مما لم ينزل الله به سلطاناً ولم يذكر له برهاناً وإنما المقصود هنا ماجرى تحت الشجر ة فحسب ليس إلا .
المسألة الثــامنة : قال سبحانه وتعالى ) فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ( وهنا مسألة وهو أن القرآن عمم وتكتم على الشئ وتهويله كقوله سبحانه وتعالى : ) الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ ( وكقوله : ) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ( وكقوله : ) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ( فهنا قال : ) فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ( ولم يخبرنا بما في قلوبهم ولم يفصل ولم يذكر الأفراد فلم يقل في الأخلاص والنعم والحب والشوق وإنما قال : ) فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ( ليدلنا على أن ما في قلوبهم شيئاً عظيم كالجبال الله أعلم به .
المسألة التاسعة : أن القلب كما قال بعض أهل العلم محل نظر الرب وأن مدار الأمور على القلب كما صح عنه عليه الصلاة والسلام (( إلا أنه في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد سائر الجسد كله )) وكما ورد ايضا (( التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاثاً )) وقد صح عند مسلم أنه قال r (( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأحوالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) .
المسألة العاشرة : ما هو الذي في القلوب ؟ والذي يمكن أن يتقرب به إلى الله عزوجل ؟
والجواب : على ذلك أن يقال أعظم اخلاصاً والصدق والحب لله ولرسوله واعمال القلوب تفوق أعمال الأبدان وقد يقرب العبد ويقطع المسافات إلى بالله عز وجل بقلبه أكثر مما يقطع بجوارحه وبعمله الظاهر .
المسألة الحادية عشرة : قوله سبحانه وتعالى ) فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ( هذا ثواب ما في قلوب الصحابة فلما علم الله ما في قلوبهم أنزل السكينة عليهم سبحانه وتعالى وقد ذكرت السكينة في كتابه تعالى ست مرات مرة نزلت على الرسول عليه الصلاة والتسليم ومرة عليه وعلى المؤمنين ومرة على المؤمنين كما في هذه الآية .
السَّكِينَةَ : هي إطمئنان القلب لموعود الله عز وجل وثقة القلب بربه وتوكله عليه وأعتماده على مولاه وعلى نصره ووثوقه بالله تبارك وتعالى والسكينة تطفئ القلق والإضطراب ولواعج القلب ونوازع النفس وتجعله ساكناً مطمئناً محباً لربه واثقاً بموعوده ) فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ( والفتح القريب قيل فتح خيبر وقيل فتح مكه وقيل الفتح كله وهذا وإن كان كثير من المفسرين قال إن فتح خيبر اقرب ما يكون وفي الآية مسألة وهي أن الله سبحانه وتعالى جعل ثواب اصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ، ماوعدهم من الرضوان والمغفرة والقبول والثواب والأجر والحسنات وجنان عرضها السماوات والأرض ولم يجعل ثوابهم الدنيا الفانية والأعراض الزائلة ولم يعرضها رسول الله r على الصحابة فلم يمنيهم بالقصور في الدنيا ولا بدور ولا بذهب ولا بفضة ولا بالولايات ولا بالمناصب إنما مناهم بالمغفرة وذكر الله سبحانه وتعالى اصحاب الرسول r فقال : ) يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ( فإذا علم هذا فعلى العبد أن يسعى إلى رضوان الله عز وجل فأنه أجل المطالب وأحسن وأجل الأهداف السامية التي يسعى إليه هو أن أهل الحق وحملة المبادئ وأصحاب المثل العليا وحفظة الشريعة والحراس لحياض المله إذا فعلوا ذلك فازوا برضوان الله كما يقول أحدهم :
فليتـك تحلو والحيـاة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضـاب
وليت الذي بيني وبينك عامرا
وبيني وبين العالـمين خـراب
إذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذي فوق التـراب تـراب
ثم ليعلم أن الذين بايعوا الرسول r تحت الشجرة لم يكفر منهم أحد بالله العظيم بعد هذه البيعة وهذه من بركة البيعة إذ سددوا ووفقوا للعمل الصالح حتى ماتوا على يقين وإيمان وخله .
ثم ليعلم أيضا أن سبب البيعة أن رسول الله r قدم مكة فأعترضه المشركون فأرسل عثمان رضي الله عنه فتأخر عنه فشيع أنه قتل عثمان فبايع الرسول r الصحابة فلما أنتهت البيعة أخذ الرسول r بشماله ووضعها في يمينه وقال اللهم هذه عن عثمان وهذه منقبة لعثمان رضي الله عنه وهذه رد على من سبه وتنقصه وقد قال سبحانه وتعالى : ) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( وقد بايع r في هذه الجلسة سلمة ابن الأكوع مرتين لبلاءه وقوته وحزمه رضي الله عنه ومن الطريف أن أحد الناس تخلف عن هذه البيعة ممن اتهم ورمي بالنفاق وذهب يطارد جمله الأحمر فقيل له تعال وبايع رسول الله قال والله لحصولي على جملي خيراً من بيعتكم فقيل تعال يستغفر لك رسول الله r فلوا رأسه ومتنع من ذلك خوفا من أن يقول كلمة فيفضحه الوحي من السماء بهذه الكلمة فأنزل الله عز وجل ناقلاً الصوت والصورة ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ( .
وهنا مسألة : هل الرضى عن الله عز وجل في أقداره المؤلمة واجب أو مستحب ؟
والجواب : أن جمهور أهل السنة والذي ايده إبن تيمية رحمه الله وأبن القيم رحمه الله أنه مستحب وليس بواجب بل الواجب الصبر ولكن الرضى هنا مطلوب من المؤمن ومرغوب فيه أن يرضى عن الرب في أقداره المؤلمة على النفس ولا يتسخط فإن التسخط حرام ولكن يجب عليه أن يصبر أما ان يجب عليه الرضى فإن الناس كلهم لا يرضون بالاقدار ولكنها منـزلة للصفوة من عباد الله .
مسألة أخرى : ذكر بعض أهل السيرة والتواريخ أن الفضل ابن عباس لما مات ابنه علي ضحك على قبره بعد أن دفنه ليظهر لربه الرضى بأقداره سبحانه وتعالى بينما رسولنا محمد r هو أعظم منزلة واشرف درجة وأرفع مكانة لما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه عليه الصلاة والسلام وقال تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا مايرضي ربنا وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون، فكيف نجمع بين هذا وهذا ؟
والجواب : أن يقال حال رسولنا r أعظم وأكمل وأجل وأجمل فإنه r جمع بين الرضى والرحمة وأما الفضل فلم يستطع أن يجمع غير حالة واحده هي الرضى ولكن جمعه r وحزنه رحمة لهذا الابن الصغيرالذي وافته منيته فالرسول r ما أكمل حاله وما أحسن خصاله وما أجل أعماله وما أشرف أقواله r قالوا لبعض السلف كيف رضاك عن ربك : قال ما أصبحت إلا وأنا أتمتع بمنازل القضاء والقدر ومعنى ذلك يتمتع أنه يتلذذ بنـزول القضاء والقدر إن خيراً أو شراً بالنسبة إليه وقيل للأخر كيف أنت مع القضاء والقدر قال : والله ما ابالي أمركب الفقر ام مركب الغنى ركبت ، إن كان الفقر ففيه الصبر وإن كان الغتى ففيه الشكر. ولذلك على العبد أن يرضى عن ربه سبحانه وتعالى في أحكامه واقداره وأوامره ونواهيه سبحانه وتعالى فإنه لا يقدر إلا الخير لذلك فالله تعالى هو الذي قدر الخير والشر لكن لا ينسب الشر إليه أدباً . كما قال ) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ( ففية الشر هنا للمجهول تأدباً . وأظهر الرشد نسبة إلى الله عز وجل وكقول الخليل إبراهيم ) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ( فنسب المرض إلى نفسه تأدباً وإلا فالممرض حقيقة هو الله وكقوله r في صحيح مسلم (( والشر ليس اليك )) يقين لا ينسب إليك فالقضاء والقدر بالنسبة للمؤمن خير كله وهنا مسالة .
مسألة : وهي كل قضاء يقضيه الله على عبده المؤمن خير ؟
والجواب : أن يقال نعم هذا هو الصحيح فقد دل عليه حديث انس عند أحمد في المسند أنه r قال : (( لا يقضي الله قضاءاً لعبده المؤمن إلا كان خيراً له )) . قال ابن القيم في الفوائد: سئل شيخنا ابن تيمية حتى في المعاصي قال : نعم بشرطها من الندم والتوبة والاستغفار والانكسار فيقال أن من قدر مثلا عليه ذنب فتاب واستغفر وندم وأنكسر فأن هذا الذنب خير له في دنياه وأخراه فإنه يكون خيراً في نفي العجب عن نفسه وقصم ظهر الكبر ، وتقديمه لدرجات العبودية وعتبات التفرغ والإنابة والإنكسار، وملاحظة هذا الذنب دائماً . والإجتهاد في الطاعات وجميع القربات هذا بالنسبة لهذا الطائع التائب خير بلا شك . ولذلك قال بعض السلف (( رب عامل يعمل سيئة يدخل بها الجنة ورب عامل حسنة يدخل بها النار )) والمعنى رب عامل سئية يندم ويستغفر وتكسر لله عز وجل وتقرب بالقربات وعمل الصالحات وأكثر الطاعات فيدخل بها الجنة . وصاحب حسنة تعجبه ويتكبر بها ويتفاخر بها على عباد الله . فيدخل بها النار والعياذ بالله . فليلاحظ العبد هذا الملحظ العظيم .
وهنا مسألة : أن العبد إذا رضى عن ربه تلذذ المصاعب في سبيله واستعذب العذاب في الطريق إليه . كما قال أحدهم :
جزى الله المسيـر إليـك خيراً
وإن ترك المطـايا كالمجـازي
وقال آخر:
إن كان سركم ما قال حاسدنا
فمالجرح إذا رضــاكم الـم
وخير من ذلك قوله r وقد دميت اصبعه قال هل انت إلا اصبع دميتي وفي سبيل الله مالقيت ولذلك سئل أحد مشايخ الإسلام : لماذا ذكر الله عز وجل ذكره وقت الازمات والكربات في الحرب فقال: ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( .
فأجاب هذا العالم : بان المحسنين يذكرون محبوبيهم وقت الازمات أما سمعت عنترة يقول :
ولقد ذكـرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهنـد تقطر من دمي
فوددت تقبيـل السيـوف لأنها
لمعت كبـارق تغرك المتبســم
فأرشد الله اولياءه أن يذكروه ذكراً كثيراً . ذلك كما كانت العرب تلهج باسمائها في المجالس وفي الأسواق العامة . كعكاظ . وذي المجاز والمجنة فيقول أحدهم كان أبي وكان ابي يكرم الضيف يبارز ويدافع ويناضل قال سبحانه وتعالى : ) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا (
وهنا مسألة : إن من أعظم مايثبت اليقين في القلب والإطمئنان هو الرضا بأقدار الله عز وجل المؤلمة .
وقال بعض الحكماء : " لا يستلذ بالعيش من لا يرضى بالقضاء والقدر" وإنما ركزت على هذه المسألة لأنها أعظم مايتكلم فيه في هذه الجزئية . فإن الناس يرضون عن النعم بل يحبونها ويرغبون وعن ما يأتيهم من خير . أما القضاء المؤلم المر لموت حبيب أو حفي أو مرض أو مصيبة أو كارثة أو شئ فاجع ، فإنهم يسخطون إلا من رحم الله فكان حقاً على المؤمن أن يسلم وأن يرضى وأن يحتسب ويقبل ما صار وفي قصص الماضين عبرة لمن كان له قلب أو ألقاء السمع هو شهيد .
وعند ذكر الصحابة في هذه الآية وبيعتهم تحت الشجرة أحب أن أنبه على عدة مسائل:
واجب الصحابة علينا :
1- الترضي عنهم رضوان الله عليهم والكف عما شجر بينهم فإن الله مدح أولياءه فقال : ) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاَّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( .
2- ألا نتعرض لهم رضوان الله عليهم بالسب أو الشتم أو التنقص فإن هذا قد يوصل صاحبه إلى الكفر والعياذ بالله أو إلى كبائر الذنوب . بل يستغفر العبد لهم ، ويترضى عليهم ويعلم أنهم ليسوا معصومين وأنهم خير أمة عملاً وأبرها قلوباً وأخلصها توحيداً وأعمقها فقهاً وأنفعها لدين الله عز وجل ، وهم الذين قام على أكتافهم دين الله و انتشر على سواعدهم شرع الله ، فهم الذين ذادوا عن الملة وحموها وأسسوها في الأرض .
3- ومنها ألا ننشر في الناس ما ورد من فتن حصلت بين الصحابة رضوان الله عليهم كما حصل في الجمل . فإنه يشوش على أذهانهم بل نذكر أموراً مجملة في هذا الباب ونترحم عليهم جميعا كما قال بعض علماء السلف تلك دماء صان الله فيها سيوفنا فلماذا لا نصون فيها السنتنا أو نطهر منها السنتنا أو كما قال .
4- ومنها أن ننشر فضائل الصحابة بين الناس ونخبرهم بمكارمهم رضوان الله عليهم ومالهم من مناقب من إيمان وجهاد وهجرة ونصرة لله ولرسوله وعمل صالحاً متقبل مبروراً وأنفاق في سبيل الله .
5- ومنها أن نعلن أهل الفضل منهم فنجعل افضلها كما قال سبحانه وتعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وهو ابوبكر الصديق ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم بقية العشرة ثم أهل بدر ثم أهل بيعة الرضوان ثم الذين أسلموا قبل الفتح وهكذا ...
6- ومنها أن نرد على من كذب على الصحابة أو شتمهم أو تعرض لهم بتنقيص ونهجره حتى يرتدع ونبين له الحق ونطالبه بالتوبة والاستغفار ومن كتب في ذلك كتاب رددنا عليه وأرغمناه وبدعناه حتى يتوب إلى رشده فإن على المؤمن وأجب أن يذب عن أقوال المؤمنين فكيف عن الصحابة وقد ورد في حديث صحيح (( من ذب عن عرض أخيه المؤمن ذب الله عن وجهه النار يوم القيامة )) .
7- ومنها أن نعلم أن قرن الصحابة خير القرون كما صح عنه عليه الصلاة والسلام (( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )) وإنه لم يمر في التاريخ قرن أحسن من قرنهم رضوان الله عليهم عملا وجهاداً ونصرة وتضحية وإنفاقا ونعلم أن قرنهم منذو أن بعث عليه الصلاة والسلام أفضل قرن في الإسلام وأن من ظن أنه سوف يأتي خيراً منهم أو مثلهم فقد ضل سواء السبيل وقد اخطأ خطاء بيناً وغلط غلطاً فاحشاً بل مجموع القرن وما حصل فيه من خير عظيم لم يحصل قبله منذ أن بعث الرسول r إلى قيام الساعة فهو خير القرون وأزكاها وأطهرها وأنقاها وأرفعها رضوان الله عليهم وراضاءهم .
8- ومنها أيضا أنه إذا نقل لنا عن صاحبي انه أذنب ذنباً أو أخطأ خطاء فنعلم أن له من الحسنات الماضية أو المصائب المكفرة أو قدم الإسلام أو سابقية إلى الهجرة أو كثرة الجهاد ما يمكن أن يكفر عنه هذا الذنب وأنه إلى رب رحيم سبحانه ويغفر الذنب سبحانه وتعالى ويعفو عن السيئة .
9- ومنها أن نعلم أن الصحابي هو من رأى النبي r مؤمناً به ومات على ذلك فكل منافق عاش مع الرسول r ليس بصحابي ولو رأه وسافر معه وعاش معه وأقام معه وكذلك الكافر من المشركين أو اليهود أو النصارى بل الصحابة هم الذين آمنوا به r واتبعوا النور الذي انزل معه ونصروه وماتوا على الدين الخالص منهم أصحابه عليه الصلاة والسلام هم صفوت الخلق بعد الأنبياء والرسل ، وعلينا أن نحفظ لرسول الله وصيتة فإنه قال الله الله في أصحابي لا تتخذوهم عرضا فمن احبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي ابغضهم وقال r الله الله في أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه .
10- وعلينا أن نعلم حق المهاجرين وأنهم افاضل الصحابة رضوان الله عليهم وأن لهم منزلة الهجرة وأنهم مقدمون وفي قريش منهم الخلافة رضوان الله عليهم فهم الذين تركوا الأهل والمال والأوطان وهاجروا في سبيل الله وصبروا على المتاعب على جلها ومن المشاق ومن المكاره في سبيل نصرة دين الله عز وجل ثم الأنصار رضوان الله عليهم نعلم حقهم الأنصار كما قال r (( لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق )) فلا نتنقضهم ولا نتعرض لما ورد بينهم مثل ما ورد من بعض السفهاء الأشقياء . بل نذكر المدائح التي وردت عنهم رضوان الله عليهم ونسأل الله أن يحشرنا في زمرتهم أجمعين .
وفي الآية السابقة دليل على الأعمال وعلى أن العبد يحصل على ماعند الله عز وجل بعمله الصالح وببيعة الكريم كما قال r : (( من بطى عمله لم يسرع به نسبه )) . وقال في حديث آخر : (( يا بني هاشم لا ياتوني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم )) فإن في الآية قوله سبحانه وتعالى : ) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ ( فلما بايعوه وعملوا عملا صالحا وقصدوا به وجهة الله استحقوا الرضى منه سبحانه وتعالى فعلى العبد أن يعلم أنه لن ينال ما عند الله إلا بتقواه وبالعمل الصالح ويتقرب إليه بما يحب ويرضاه وباتباع رسول الله r والعمل الصالح يستوجب من العبد أموراً منها :
1- الإخلاص : وهو أن يقصد به ما عند الله وثواب الله ووجه الله عز وجل ولا يشرك في عمله مع الله غيره فإن من أشرك مع الله تركه غيره وشركه .
2- الصدق في العمل : هو أن يوقعه على أحسن ما يكون في هذا العمل فيحاول أن يجتهد في حضور قلبه وفي اجتماع شروط هذا العمل وفي تحري إيصاله إلى مولاه عز وجل على أجل الوجوه وأكمل الطرق .
3- السنة : وهي أن يتبع بعمله الرسول r فيجعله أمامه وقدوته في هذا العمل فما من عملا صالح إلا ويجب أن يتبع فيه رسول الله r فيتحرى ما فعله الرسول r هو قدوت الأولين والآخرين (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )) .
4- أن ينقي عن هذا العمل ما يشوبه : من الرياء والسمعة والمنة وتكديره بالسيئات وإحباطه والعياذ بالله بالرده وغيرها من الأمور التي تكدر العمل وتنقصه وتحبطه بالكلية .
وبالمناسبة تأتي النية على خطر طائفتين من الطوائف الضالة المبتدعة والتي وقعت في أعراض الصحابة رضوان الله عليهم أولها طائفة الرافضة : فإنهم سبوا الصحابة ومنهم من لعنهم وتبرأ من الشيخين الجليلين وهذا والعياذ بالله من أعظم الذنوب ومن أجل الخطايا فعلى العبد أن يبتعد عنهم وأن يحذر شرهم وأن يبين للناس خطرهم على الملّة والدين . طائفة النواصب : الذين ناصبوا لأهل البيت العداء وسلموا اعراض أهل البيت وتنقصوهم وهؤلاء ضلالاً أيضا مبتدعون منهكون والوسط في ذلك هم أهل السنة والجماعة الذين ساروا على منهج السلف الصالح وعرفوا للصحابة حقهم لأهل البيت قدرهم فإن الله يقول ) قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ( وقال رسول r (( الله الله في أهل بيتي )) فأهل بيته r لهم حق علينا من الحب وأهل بيته الذين اتبعوا الرسول r واتقوا ربهم وعملوا بكتابه وبسنت رسوله r .
فـائـدة : قال بعض علماء الإسلام ليس للرافضة حظ في الفي فإن الله لما ذكر الفي ذكر الأصناف الذين يستحقونه ومنهم) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاَّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (.
والرافضة لم يقولوا هذا بل في قلوبهم غل على أصحاب رسول الله r يكرهونهم ويسبونهم ويشتمونهم ويلعنونهم وينددون بهم في محافلهم ومواسمهم ومنا سباتهم فإنهم أخسر الطوائف وأظل الفرق على الإطلاق ولذلك حتى قال بعض العلماء أن اليهود قيل لهم من خيرهم قالوا اصحاب موسى . وقيل للنصارى من خيركم قالوا اصحاب عيسى . وقيل للرافضة من شركم قالوا أصحاب محمد r وفي المقابل فأنني احذر من الغلو في اصحاب الرسول r حتى أن الرسول r لم يقبل الغلو بل طلب من أمته أن يدعوه بعبد الله ورسوله فقال (( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله )) . فكيف بغيره r من أصحابه و غيره من المسلمين . فلا يعطون اكثر من قدرهم وهو قدر عظيم أنزلهم الله فيه فهم رضوان الله عليهم على خيرهم وبرهم ونصحهم وصدقهم وإخلاصهم . قد يقع من واحد منهم الذنب فيتوب إلى الله منه . وقد يخطي فيستغفر وليس معصوم ولا يعلم الغيب إلا ما اطلع الله سبحانه وتعالى رسوله عليه و أخبرهم به رضوان الله عليهم ، ولكنهم في اجتماعهم وفي جملتهم معصومون رضوان الله عليهم مسددون موفقون وهنا مسألة عظيمة في قوله تعالى ) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ( وهي عدالة الصحابة وتزكيتهم . ولكن في علم الحديث وعلم المصطلح أنه لا يحتاج الصحابة إلى ادخالهم في مسالة والجرح والتعديل بل هم عدول مزكون فلا يحق لعالم من علماء الحديث الجرح والتعديل أو علماء الرجال وغيرهم من علماء السير والتاريخ أن يدخل إلى الصحابة فيجرح هذا ويعدل هذا ويوثق هذا ويضعف هذا فهذا لا يجوز فكل من ثبت صحبته فهو عدل ثقة مرضي . ولذلك ما تبقى أن يأتي أغلاط أولين في حديثه بل حديث كل صحابي مقبول وعلى العين وعلى الرأس فما بعد تزكية الله سبحانه وتعالى تزكية فإن الله سبحانه وتعالى زكاهم مع رسول الله r وأخبر أنه رضي الله عنهم واخبر وأخبر انه تاب عليهم رضوان الله عليهم وشكر مسعاهم ورفع درجتهم ولكنه قد يقع الوهم من بعض الصحابة وهذا الوهم ما قصده الصحابي وما أراده ولكنه إما نسى أو اخطأ فيه أو أما أنهم يتعمدون الكذب رضوان الله عليهم في الرواية فصانهم الله وشرفهم ونزههم عن ذلك ولا يحق للمجرح أو معدل أن يصل إلى درجة الصحابة بل طبقة الصحابة معدلون رضوان الله عليهم مزكون نأخذ الأحاديث منهم دون التعرض لأشخاصهم جرحا وتعديلا فليعلم هذا . وعليه جمهور أهل السنة والسائر عليه في علم الحديث والحمد لله رب العالمين .