PDA

View Full Version : هل الديموقراطية مستحيلة؟


أبو يحى
22-02-2006, 06:09 PM
هل الديموقراطية مستحيلة؟ - هاشم صالح


هل العالم العربي الاسلامي يستعصي حقاً على الديموقراطية والحداثة السياسية؟

يمكن ان أطرح السؤال بطريقة اخرى: هل العالم العربي محكوم عليه بالديكتاتورية والانظمة البوليسية الى أبد الدهر؟ أم ان هناك بصيص أمل في نهاية نفق مظلم لا ينتهي؟

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الشيوعية اعتقد فرنسيس فوكوياما ان التاريخ قد انتهى بعد انتصار النموذج الديموقراطي الليبيرالي على النموذج الشيوعي التوتاليتاري في ختام الحرب الباردة التي كانت في بعض اللحظات اكثر من ساخنة. وبالفعل فقد سقطت أنظمة الحزب الواحد والجريدة الواحدة في مناطق شتى من العالم بدءاً من اوروبا الوسطى والشرقية وانتهاء بأميركا اللاتينية مروراً بآسيا وحتى افريقيا السوداء. وحده العالم العربي الاسلامي ظل خارج حركة التاريخ هذه مع استثناءات بسيطة هنا او هناك. ولكن حتى هذه الاستثناءات تظل ديموقراطيتها ناقصة جداً ومشروطة الى حد كبير بل ومهددة في كل لحظة.

لذا راح بعض المفكرين في الغرب الاوروبي الاميركي يطرحون هذا السؤال: لماذا يمشي العالم كله في اتجاه الديموقراطية والليبيرالية السياسية والتناوب السلمي على السلطة ما عدا العالم العربي والاسلامي؟ فهل هناك خصوصية لهذا الفضاء التاريخي تمنعه من دخول العصر والتصالح مع القيم الاساسية للحداثة؟ وما هي هذه الخصوصية يا ترى؟

وكان رأي بعضهم ان الاسلام يتناقض مع فكرة الحرية والديموقراطية والعلمانية وحقوق الانسان. وهو جواب صحيح وغير صحيح في الوقت نفسه. صحيح اذا أخذنا في الاعتبار المفهوم السائد والشائع للاسلام حالياً. وهو فهم أصولي متزمت مضاد لأبسط مبادىء التعددية الفكرية والتسامح الديني والحقوق الفردية. لكنه غير صحيح اذا أخذنا في الاعتبار امكان ان يجدد الفكر الاسلامي نفسه ويتخلى عن فقه القرون الوسطى الذي يقسم البشرية الى الاسلام ودار حرب، او مؤمنين وكفاراً في اعتبار ان المسلم هو وحده المؤمن الصحيح على وجه الارض.

لكن قبل أن أدخل في تفاصيل هذا الموضوع الحساس سوف أتوقف لحظة عند مفهوم الديموقراطية في الغرب: اي في المجتمعات المتقدمة لاوروبا الغربية واميركا الشمالية بما فيها كندا. فهي المرجعية العليا بالنسبة الى العالم كله في ما يخص الديموقراطية وحقوق الانسان رغم انها قد لا تلتزمها على طول الخط.

على عكس ما نتوهم فإن الديموقراطية لا تؤدي الى الحرية بشكل أوتوماتيكي. وتجربة العالم المتقدم تثبت لنا ان النظام الليبيرالي الدستوري سبق النظام الديموقراطي الى الوجود بسنوات طويلة. ولم تصبح اوروبا الغربية ديموقراطية وليبيرالية دستورية الا بعد صراع مرير استغرق القرن التاسع عشر كله، بل وحتى منتصف القرن العشرين.

لنضرب على ذلك مثلا انكلترا، أعرق نظام ديموقراطي في العالم. فقد كانت دولة ليبيرالية دستورية، اي دولة حق وقانون، طوال القرن التاسع عشر. لكنها لن تصبح ديموقراطية بالكامل، اي تعطي حق التصويت لكل أبناء الشعب بمن فيهم النساء والفلاحون والعمال الا عام 1930.

اما في عام 1832، اي قبل مئة سنة من ذلك التاريخ، فكان حق التصويت محصوراً بنسبة 2,7 في المئة من علية القوم في المجتمع الانكليزي. ثم زادت النسبة فأصبحت او 12,1 في المئة عام 1884، وهكذا دواليك. وتالياً فقد توصلت انكلترا الى الديموقراطية بالتدريج. لكنها في اثناء ذلك كانت ليبيرالية دستورية بالخالص: اي دولة حقوق تطبق القانون على الجميع من دون تمييز بين كبير وصغير، او غني وفقير، او ابن ست وابن جارية. كانت تعامل الجميع كمواطنين من الدرجة الاولى: اي متساوين في الحقوق والواجبات أياً تكن أصولهم الدينية او المذهبية. فلا فرق هنا بين شخص ينتمي الى مذهب الغالبية، وآخر ينتمي الى مذهب الأقلية، او ثالث لا ينتمي الى أي دين او مذهب (ملحد، او لا أدري). كلهم مواطنون بالمعنى الحديث للكلمة. وهذا يشكل تقدماً هائلا بالقياس الى العصور الوسطى... حتى بالقياس الى القرن السابع عشر حيث كان أبناء طائفة الغالبية الانغليكانية البروتستانتية هم وحدهم المواطنون الحقيقيون من الدرجة الاولى.

وأما ابناء الأقليات او الملاحدة فكانوا يعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية، تماماً كما هي عليه الحال الان في معظم انحاء العالم العربي او الاسلامي.

فالأساس هو دولة الحق والقانون، هو وجود الدولة الليبيرالية الدستورية التي تؤمن حق الملكية، وحق التفكير والتعبير والنشر، وحق التديّن او عدم التديّن، وحق تشكيل الجمعيات والروابط، وحق التنقل بحرية، وبقية الحقوق الفردية. كما تؤمن الفصل بين السلطات الثلاث طبقاً لنظرية مونتسكيو، اي السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية. ولولا ذلك لما استطاع القضاة محاكمة الوزراء والمسؤولين الذين يستغلون مناصبهم للإثراء غير المشروع ولممارسة الفساد والرشاوى والإفساد. كما تفصل الكنيسة عن الدولة ولا تعترف بوجود دين رسمي للدول او لرئيس الدولة وانما تحترم جميع الاديان وتعاملها على قدم المساواة.

هل نعلم ان فرنسا لم تصبح ديموقراطية بالكامل الا عام 1945، اي بعد مرور مئة وخمسين سنة على الثورة الفرنسية. لكنها كانت قد اصبحت دولة ليبيرالية دستورية تؤمن حق المواطنية للأقلية البروتستانتية التي كانت مضطهدة على مدار التاريخ. في هذا المعنى فإن العهد القديم الملكي قد سقط وحلّ محله الظام الجمهوري الجديد القائم على الاعلان الشهير لحقوق الانسان والمواطن لا على اللاهوت المسيحي القديم. ولهذا السبب استطاع شخص كميشال روكار او ليونيل جوسبان ان يحكما فرنسا رغم انهما ينتميان الى الاقلية البروتستانتية (2 في المئة من عدد السكان). ان الجنرال ديغول هو الذي جعل فرنسا ديموقراطية بالكامل عندما أعطى حق التصويت للنساء اي نصف المجتمع الفرنسي. قبل ذلك كان حق التصويت محصوراً فقط في الرجال او الذكور البالغين. وهذا شيء ننساه كثيراً ولا نكاد نصدقه الآن. فهل يعقل ان فرنسا، بلد التنوير والثورة الفرنسية وحقوق الانسان، كانت تمنع النساء من ممارسة حق التصويت حتى هذا الوقت المتأخر؟! وما هو السبب يا ترى؟

السبب هو ان فلسفة الديموقراطية في الحالتين الانكليزية والفرنسية كانت تعتقد انه ينبغي تثقيف الشعب وتعليمه ومحو الأمية فيه أولا قبل ان نعطيه حق التصويت: اي حق المساهمة في القرار السياسي.

هذا منطق تربوي صحيح لان التجربة أثبتت ان الشعب غير الناضج حضارياً قد ينتخب أشخاصاً طائفيين او عنصريين باسم الديموقراطية نفسها! عندئذ، وفي هذه اللحظة بالذات، يحصل تناقض واضح بين الديموقراطية والليبيرالية الدستورية. بل وتُلغى مكاسب الحداثة السياسية كلها (اي دولة القانون وحقوق الانسان اساساً) على يد اللعبة الديموقراطية.

بعدما وصلت في الحديث الى هذه النقطة أستطيع ان اقيم مقارنة بين الوضع العربي الاسلامي والوضع الاوروبي لكي أعرف في أي لحظة من التاريخ نحن نقف في ما يخص مسألة الديموقراطية والحرية (اي الليبيرالية). وهنا أجد نفسي مضطراً للتمايز عن الكثيرين من المثقفين العرب والفضائيات الشعبوية التي تصفق لـ"النجاحات الباهرة" التي تحققها جماعة "الاخوان المسلمين" في مصر. يحصل ذلك كما لو ان هذه النجاحات تخدم قضية التقدم والتنوير واحترام حقوق الانسان في العالم العربي! يحصل ذلك كما لو انها تشكل تقدماً الى الأمام لا انتكاساً الى الخلف. انهم، أي المثقفين الذين يؤيدون هذا الخط، لا يقيمون أي وزن للحقيقة الآتية: وهي ان الشعب قد يرفع الى قمة السلطة غالبيات طائفية او مذهبية. وهذا ما حصل في اوروبا في بعض الفترات، ينبغي ألا ننسى ذلك. لكن المثقفين الاوروبيين بدلا من ان يصفقوا لهذا التيار دانوه ووقفوا في وجهه أو حذروا من اخطاره وعواقبه على الاقل.

أضرب على ذلك مثلا ما حصل في فيينا عام 1895 عندما انتخب الشعب كعمدة للمدينة شخصاً عنصرياً وطائفياً ينتمي الى اليمين المتطرف: هو كارل لوجير (Karl Lueger). وهكذا قُمعت الحرية وأفكار الحداثة السياسية باسم الديموقراطية، او الغالبية الديماغوجية للشعب. وعندئذ حصل شيء رائع لا مثيل له في التاريخ: فقد التقى المثقفون المستنيرون وفي مقدمهم سيغموند فرويد مع أعتى مؤسسة محافظة في ذلك الزمان إن لم نقل رجعية (أي الكنيسة الكاثوليكية) على ضرورة الوقوف في وجه هذا الرجل ومنعه من تسلم منصبه: أي منع تنفيذ التصويت الديموقراطي الحر للشعب! وشاركهم في هذا الموقف أعلى رجل في الدولة: أي الامبراطور فرنسوا جوزف الثاني الذي رفض التصديق على انتخاب زعيم اليمين المتطرف. وهكذا حالوا بينه وبين الوصول الى منصب عمدة المدينة وتطبيق أفكاره على ارض الواقع. ومعلوم ان فيينا كانت آنذاك منارة اوروبا، فكراً وعلماً وحضارة وإشعاعاً. لكن هناك دائماً فرق بين مستوى الشعب ومستوى النخب المثقفة.

وبعده بفترة قصيرة وصل الى سدة السلطة في الرايخ الالماني شخص يدعى أدولف هتلر. نحن نتخيل انه وصل الى السلطة من طريق انقلاب عسكري. لا، وصل اليها عام 1933 من طريق انتخابات شعبية حرة. ثم كان ما كان، فالشعب قد يخطئ ايضاً. الشعب ليس إلهاً معصوماً. واذا كانت البلاد في حالة اقتصادية يرثى لها، واذا كانت مهانة سياسياً في معاهدة فرساي، واذا كان لديها قائد ديماغوجي وخطيب يعرف كيف يضرب على وتر الغرائز التحتية والعصبيات الشوفينية فانها تسلّم قيادها له.

وماذا فعلت يوغوسلافيا السابقة بعدما انهارت الشيوعية؟ لقد تفككت الى كياناتها الاساسية باسم الديموقراطية! والكثير من الدول العربية مهددة بالشيء نفسه، او قل بعضها على الاقل. فهي ايضاً قد تتفكك الى غالبيات طائفية او عرقية (مسيحية، اسلامية، شيعية، سنية، علوية، درزية، كردية، أمازيغ او بربر في المغرب الاقصى والجزائر...).

هذه هي النتيجة الاولى للديموقراطية. كل المكبوت التاريخي السحيق سوف ينفجر في وجهنا دفعة واحدة! يوغوسلافيا لم تنقسم فقط الى مسلمين ومسيحيين، وانما انقسمت ايضاً الى مسيحيين ومسيحيين، اي ارثوذكس في ناحية الصرب، وكاثوليك تابعين لبابا روما في جهة كرواتيا. وانتخب الشعب في كل مكان تقريباً شخصيات متطرفة قومياً وطائفياً ليس أقلها ميلوسيفيتش وحصلت المجازر المرعبة بين مختلف الفئات قبل أن تتدخل اوروبا وفي الاخص الولايات المتحدة لحسم الصراع ووقف نزيف الدم. ثم يتهمون بعد ذلك أميركا بأنها ضد المسلمين على طول الخط! نقول ذلك رغم انها قصفت الصرب المسيحيين لصالح مسلمي البوسنة أكثر مما قصفت افغانستان والعراق.

هل نعلم مثلاً أن يوغوسلافيا وأندونيسيا كانتا أكثر تسامحاً من الناحية الدينية وأكثر استنارة عندما كانتا محكومتين على يد شخصيتين قويتين، او حتى ديكتاتوريتين، هما تيتو وسوهارتو؟ الآن اصبحتا ديموقراطيتين، بمعنى ان الشعب هو الذي ينتخب الحكام. ولكنهما اصبحتا أكثر تعصباً لأن الشعب غير المستنير لا يمكن ان ينتخب الا الاصوليين او العنصريين. فالوعاء ينضح بما فيه. أنظر الفضائيات العنترية العربية وكيف صفقت لبن لادن عندما ضرب البرجين التوأمين وقتل ثلاثة آلاف شخص دفعة واحدة! هذا هو الشارع العربي الاسلامي. انه شارع "مستنير" من أعلى طراز. وينبغي لك كمثقف ان تتبعه، ان تنزل الى مستواه، والا فانك "خائن" للقضية القومية او الدينية على حد سواء. في هذا المعنى فان كل فلاسفة اوروبا كانوا خونة لشعوبهم لأنهم فضلوا هدايتها وتنويرها لا السير وراءها كالقطيع. هناك تشويش كثير في الحياة الثقافية العربية. هناك خلط واضطراب وعدم وضوح في الرؤيا. وكله ناتج من عدم توضيح المفاهيم والمصطلحات والافكار والنظريات الفلسفية او السياسية.

وهنا قد ينفجر احدهم غاضباً: لكنك بهذا الكلام تريد أن تقطع الطريق على الديموقراطية! انك تريد منع الشعوب العربية من ممارسة حق التصويت وتغيير الانظمة الشمولية او الاستبدادية الحاكمة! وأجيبه بـ"لا" قاطعة. فقط أردت ان أوضح الفرق بين الديموقراطية غير الليبيرالية (أي التي لا تؤدي الى الحرية في الضرورة) والليبيرالية غير الديموقراطية. فقط أردت ان أقول ان المسألة أكثر تعقيداً مما نظن، وأنه لا يكفي ان نردد كالببغاوات: الديموقراطية، الديموقراطية، نحن نريد الديموقراطية... الديموقراطية هي عصا سحرية سوف تحل كل مشكلاتنا بضربة واحدة. كما لا يكفي ان نردد: الاسلام هو الحل، لان الاسلام في المعنى الذي يقصدونه هو المشكلة وليس الحل.

وأردت ايضاً ان اقول ما يأتي: نحن نقع اليوم بين فكي كماشة. والخيار المطروح علينا ليس بين الاستبداد والديموقراطية، او بين الاستبداد والحرية، وانما بين الاستبداد والاستبداد. فإما استبداد الانظمة الشمولية الحاكمة، وإما استبداد معارضاتها الاصولية التي تتأهب للوثوب على السلطة معتقدة ان لحظتها قد حانت. لكن الغرب الذي يعرف من هي بالضبط بعد ضربات نيويورك، ومدريد، ولندن، وشرم الشيخ، وعمان، الخ، لا يمكن ان يثق بها بسهولة حتى ولو وضعت طبقات كثيفة من المساحيق التجميلية على وجهها. اكبر دليل على ذلك ما حصل في تونس اخيراً. فرغم ان نظام الرئيس زين العابدين بن علي متهم بأنه من أكثر الانظمة استبدادية في المنطقة، الا ان ذلك لم يمنع الجماعة الدولية من الاجتماع عنده في القمة العالمية لمجتمع المعلوماتية والتواصلات الحديثة لمدة ثلاثة أيام متواصلة. وكان في مقدمهم الامين العام للامم المتحدة كوفي أنان.

ولم يتجرأ شخص على انتقاد النظام في خصوص الحريات الا رئيس الاتحاد السويسري صموئيل شميد. وقد لزم ان يحصل اعتداء جسدي بالضرب على مراسل صحيفة "ليبيراسيون" كريستوف بولتانسكي في احد شوارع العاصمة التونسية لكي ترفع الحكومة الفرنسية صوتها قليلاً ضد النظام التونسي. ثم سرعان ما سكتت بعدما هدأت الضجة.

لماذا كل هذه المحاباة من العواصم الاوروبية؟ لانها ترى في الرئيس بن علي سداً منيعاً ضد وصول الاصوليين الى السلطة. هذا كل ما في الامر لا اكثر ولا أقل. فالرئيس بن علي على الاقل لا يقسم الناس، مؤمنين وكفاراً ولا يعتبر ان المسلم هو وحده المؤمن وبقية خلق الله في النار. ولا يدعو الى تطبيق الحدود: اي قطع الأيدي والأرجل من خلاف ورجم المرأة الزانية وجلد من يشرب كأس بيرة في احد مقاهي شارع الحبيب بورقيبة، او على احدى الشرفات ذات الاطلالة الرائعة في سيدي بو سعيد والحمامات.

يضاف الى ذلك ان تجربة "طالبان" في افغانستان او تجربة الاصولية في السودان وايران التي انتخبت اخيراً هذا "العبقري" محمود أحمدي نجاد بدلاً من ذلك الداهية المجرب الذي يفهم لغة المجتمع الدولي هاشمي رفسنجاني، اقول ان هذه التجارب وسواها كانت كافية لقطع كل أمل في الاصولية والاصوليين حتى ولو كانت تمثل نصف الشعب.

المشكلة الرهيبة التي نتخبط فيها الآن هي انه لا يوجد اي شيء تقريباً بين الاصوليين والانظمة الحاكمة التي لا يستطيع أحد اتهامها بالديموقراطية ولا بالليبيرالية الدستورية. بلى توجد مجموعات ضائعة من المثقفين المتبعثرين في الاوطان والمنافي. وهؤلاء لا يعتدّ بهم لانه لا قواعد شعبية لديهم. القواعد الشعبية اصبحت كلها تقريباً في جهة زعماء الطوائف والعشائر في وقت تدلهم الامور وتلوح الاخطار العظمى على الأفق. ولهذا السبب أقولها بالفم الملآن: نعم، اني قلق على المستقبل، قلق اذا تغيرت الامور، وقلق اذا لم تتغير!

استدراك

أثبتت التجارب الاخيرة في تركيا والمغرب ومصر ان هناك قطاعاً واسعا من الرأي العام يصوّت للتيار الاسلامي المعتدل تحت اسم حزب العدالة والتنمية او "الاخوان المسلمين" الكلاسيكيين، او غير ذلك من التسميات. ولا يمكننا بعد الآن ان نتجاهل هذه الشريحة الواسعة من المجتمع. وحسنا فعلت مصر اذ ادخلتها في دائرة الشرعية السياسية تحت قبة البرلمان. فهذا افضل من ان تظل في الخارج حيث قد تتحول الى قوة تخريب وعصيان واغتيالات كما حصل في السابق ايام الرئيس عبد الناصر. وعندئذ يدفع المجتمع كله ثمن المواجهة بين "الاخوان المسلمين" وبقية الاحزاب السياسية. لقد آن الاوان لكي يرتفع كلا الطرفين الى مستوى المسؤولية. والا فان الخارج سيتدخل كما حصل في العراق ويدفع الجميع الثمن.

يضاف الى ذلك ان ادخال الاسلاميين في اللعبة السياسية يجبرهم على تحمل المسؤولية ويضعهم وجها لوجه امام اكراهات الواقع وضروراته. وربما اجبرهم ذلك على تطوير فهمهم للاسلام والخروج ولو قليلا من فقه القرون الوسطى الى فقه العصور الحديثة. وهذا ما حصل في اوروبا عندما انفصل التيار الليبيرالي المسيحي عن التيار الاصولي المتزمت ووقع في صراع معه. وادى ذلك في نهاية المطاف الى تقليص القاعدة الشعبية للأصوليين المتطرفين الذين لا يتوانون عن اللجوء الى العنف والارهاب من اجل فرض تصوراتهم الظلامية وفتاواهم التكفيرية على الناس. لكن ينبغي للتيار الاسلامي المعتدل ان يعلن صراحة رفضه لهذا الاتجاه التكفيري الموروث عن العصور الوسطى الانحطاطية. لقد تراجع الاسلاميون الاتراك بعدما وصلوا الى سدة السلطة بقيادة طيب رجب اردوغان وعبدالله غول عن الكثير من التشريعات المدعوة اسلامية. بل وسحبوا قانون الزنا من البرلمان. وهو القانون الذي كان سيتيح رجم المرأة المخطئة عن بعد بالحجارة حتى تموت! وطوروا القوانين التركية الى اقصى حد ممكن لكي تتقارب مع القوانين الوضعية او العلمانية الحديثة. وهذا شيء ما كان احد يصدقه قبل الوصول الى السلطة. وقد يقول قائل: لكنهم فعلوا ذلك لكي تقبل بهم اوروبا! وهذا صحيح لكنه يظل خطوة ايجابية جدا رغم كل شيء ونتمنى على الاصوليين المعتدلين في مصر او سوريا او لبنان او المغرب الخ ان يمشوا في هذا الاتجاه، فاذا فعلوا ذلك فانهم يزيلون عن انفسهم هالة الرعب السوداء التي تحيط بهم والتي تخيف الآخرين كثيرا. وهي التي ادت في السابق الى صدامات مروعة تشبه الحرب الاهلية. اذا فعلوا ذلك فانهم يبرهنون على ان الاعتدال ليس وسيلة تكتيكية يتبعونها من اجل الوصول الى السلطة وبعدئذ يفعلون ما يشاؤون! ينبغي ان يثبتوا انهم قادرون على التصالح مع الديموقراطية كفلسفة متكاملة وليس فقط كصناديق اقتراع! ينبغي ان يبرهنوا للداخل والخارج انهم لا يحتقرون الفلسفة السياسية الحديثة بحجة انها وضعية، بشرية، من صنع الغرب والاستعمار! بمعنى آخر: ينبغي ان يطمئنوا الآخرين على حسن نياتهم لكي تنزاح عنهم هالة الرعب ويتحولوا الى حزب اسلامي ديموقراطي كالاحزاب الديموقراطية المسيحية في اوروبا. ولكن هذه الاحزاب تعترف كليا بحرية الضمير والمعتقد (اي حرية ان يؤمن المرء ولا يؤمن، ان يتدين او لا يتدين ومع ذلك يظل مواطنا). وتعترف بفصل الكنيسة عن الدولة واعتبار كل الناس في المجتمع مواطنين من الدرجة الاولى اياً تكن مذاهبهم واديانهم. فهل يستطيع "الاخوان المسلمون" ان يعترفوا بكل ذلك يا ترى؟ لا اعتقد على الرغم من كل التصريحات الجيدة والمطمئنة لعصام العريان وعبد المنعم ابو الفتوح لأنها تصريحات موجهة الى الخارج والى الصحافة الاجنبية بالذات. فالاعتراف بالحداثة السياسية يتطلب حصول تطورات اجتماعية واقتصادية وفكرية ضخمة كشرط مسبق.

وهذه التطورات التي حصلت في اوروبا على مدار القرنين الثامن عشر والتاسع عشر هي التي اجبرت المسيحية على التصالح مع الحداثة وتقديم تنازلات جوهرية لفلسفة التنوير. وبما ان هذه التطورات او بالاحرى الطفرات الكبرى لم تحصل حتى الآن في العالم العربي او الاسلامي فان الاحزاب الاصولية حتى ولو كانت معتدلة لن تستطيع القبول بفصل الجامع عن الدولة، او بفصل اللاهوت القديم عن السياسة. فهذا يشكل اللامفكَّر فيه او المستحيل التفكير فيه بالنسبة اليها الآن. ولكن حتى لو لم تقر بذلك كما تفعل الاحزاب الديموقراطية المسيحية في الغرب فان في امكانها ان تمشي خطوة اولى في هذا الاتجاه من طريق وضعها امام مسؤولياتها وادخالها في اللعبة السياسية. فمسيرة الالف كيلومتر قد تبتدىء بخطوة واحدة.

على هذا النحو يمكننا ان نفصلها عن التيار التكفيري والظلامي المرعب لبن لادن والزرقاوي والظواهري وسواهم. وعلى هذا النحو يمكننا ان نجنب المجتمع خطر الانزلاق الى الحرب الاهلية التي يخيم شبحه عليها. وعلى هذا النحو يمكننا ان نحقق المصالحة او على الاقل التعايش بين التيار الديني المعتدل والمسؤول من جهة، والتيارات العلمانية والدنيوية التحديثية من جهة اخرى. اتمنى ان يحصل ذلك، اتمنى ان يكون ممكنا قبل الحرب الاهلية وليس بعدها. ولكن بما ان التاريخ تراجيدي وقد علّمنا انه لا يتحقق اي شيء ايجابي فيه بدون دفع الثمن فأخشى ان يكون تفاؤلي في غير محله.

مهما يكن من امر فان توسيع القاعدة الشعبية للحكم في الدول العربية الشمولية قد اصبح ضرورة ملحة لا ينكرها الا كل مكابر. وهذا التوسيع يمكن ان يحصل بشكل تدريجي واستيعابي كما حصل في مصر اخيرا. فرغم نواقص التجربة الا انها افضل من اللاشيء او من موقف الجمود الحالي الذي لم يعد يحتمل .