PDA

View Full Version : درس الظلمات


أبو يحى
19-01-2006, 01:54 AM
وعندما يُسدل الستار" لخوان غويتيسولو



كتاباً تلو كتاب، تفرض مؤلفات خوان غويتيسولو نفسها، بعيداً عن الضجيج الاعلامي، كواحدة من الأهمّ في زماننا. انها عصيّة على التصنيف ولو بسبب تعدّد الاهتمامات والانواع: الرواية، وله فيها تحف مثل "مشاهد بعد المعركة" (1992) و"حياة آل ماركس الطويلة" (1995) او "حالة حصار" (1990)؛ السير الذاتية ومنها "بطاقات الهوية" (1968)، الاستثنائي كعمل نقدي واسع النطاق يوقظ من خلاله كلّ ما كبتته الثقافة الاسبانية الرسمية، متسائلاً بشغف حول التفاعل الثقافي المغمور بين اوروبا والعالم العربي، اضافة الى شهادات سياسية "مُلتزمة" (حول الاراضي الفلسطينية المحتلة والعنف القاتل في الجزائر والحرب في البوسنة) ومداخلات صحافية هادفة (تتطرّق في كلّ مرة الى ما يغفله الفكر الأحادي المُعولم).

بعض الخيوط الحمراء في هذا كلّه: رفض الامتثالية على اشكالها و"التفكير القويم" والتقليد، الخروج عن الطاعة (السياسية كما الجنسية) كمبدأ للرؤية الشفافة، مقاومة الثقافة الاعلامية المزعومة وتوحيد الاذواق بفعل ديكتاتورية السوق، الحرب العنيدة ضدّ الانطواء على الهوية الجماعية ومنطق التطهير، والارادة في ربط تجربة الحداثة (لا سيّما ابتداع اشكال روائية غير مسبوقة، معقّدة ومثيرة للقلق) بإعادة نبش وتنشيط ما ورثناه من الماضي الاكثر حرارة (يقول غويستولو عن حقّ أنّ الكتّاب الحقيقيّين اليوم هم كالنبات في الصحراء، مضطرّون للنموّ في بيئة مُعادية وغرس جذورهم عميقاً في الارض كي تتغذّى).

نتج عن ذلك أعمال تحمل مفارقة بامتياز، حيث الابحاث الشكلية الاكثر جرأة (الضرورية من اجل فنّ الرواية ما أن تهدف هذه الاخيرة الى اكتشاف الحيّز المغمور بدل الامتثال لرؤية مُعدّة سلفاً للعالم) لا تتعارض في شيء مع همّ العالم والتصدّي للظلم والتمرّد ضدّ الوضع القائم (تمرّد يمرّ عبر اعادة النظر في اشكال التعبير عن هذا الوضع).

وها هو خوان غويتيسولو يصدر مؤخراً نصاً سردياً قصيراً، "وعندما يُسدل الستار" [1]، أكثر حميميّة في الظاهر، يبدأ بوفاة زوجته، مونيك لانج، والحداد الذي عاناه الكاتب من هذه الوفاة. هل ننظر اليه كعمل ثانوي، بالتالي نظراً للحجم التاريخي الواسع لغالبية مؤلفاته الاخرى؟ بالطبع لا. انه من السخف، مثلاً، اعتبار مقطوعات موسيقى الغرفة لبيتوهوفن (السونات والرباعيات الوترية) أقلّ أهمية من سمفونياته الكبيرة... ومع ذلك فإنّ غالبية ما كرّسته له الصحافة الفرنسية من نقد لم يعطِ الكتاب اهمّيته بأن وضعته ضمن حدود عاطفية شخصية وعادية.

انه لعمى غريب. فاذا كان "التفخيم" ملحوظاً (بلهجة مؤثرة ومؤلمة)، فلا معنى له هنا إلاّ بالمسافة التي يضعها مع الموضوع (النصّ مكتوب مثلاً بضمير الغائب، ممّا يمنعه من الغوص في سهولة الاعتراف الشخصي)، وخصوصاً بتوليد تفاصيل منقولة تجعل منه "تأمّلاً" عظيماً وفريداً يمكن أن يُعتبر الموازي الحديث (والمُلحد) لـ"دروس الظلمة" (في الفن الموسيقي) او اعمال "الغرور" (في فن الرسم) التي انتشرت في الحقبة الباروكية. يضع غياب الزوجة الشخص في مواجهة موته، فتصبح الذكريات هاربة متلاشية، الازمنة تتداخل، الاحلام تكتسب طابعاً مادياً على شأن الواقع، نزعة الهروب الى الصحراء يتمّ التغلب عليها والتاريخ يلحق في النهاية بالمأساة الخاصة. يتطابق مع الحزن الشخصي مشهد عالم يعاني العنف التاريخي المتكرّر (المجازر المُستعادة الى ما لا نهاية، "كوارث الحروب" التي تمحو اوهام التقدّم) الذي يشكّل على الأرجح الصدى الانساني لعنف كوني واساسي في دنيا كلّ ما يولد فيها يكون مصيره الفناء (وصولاً الى النجوم والمجرّات).

يصل ذلك كلّه الى الذروة في حوار غريب بين الشخصية والله غير الموجود (او بالأحرى الموجود فقط لأنّ البشر يؤمنون به) والذي يبدو هنا على انه مبدأ التدمير بذاته: الله ينظر الى المجاعة والإبادة وملايين الاجساد التي ينهشها العذاب والموت والقريب من "الكائن السامي الشرير" الذي تحدّث عنه الماركيز دو ساد...

لكن الكتاب خالٍ من العدميّة. الرجل العجوز يرى المشهد قاتماً والدين لا يطعمه اوهاماً او تعزية، لكن قدرته على التمرّد كاملة. تشاؤم عميق في الصنف البشري؟ رفض لأيّ إيمان ماورائي او بالغد الضاحك؟ لا يمنع ذلك خوان غويتيسولو بالضبط لانه يحسن الكتابة، من يكون ممانعاً نهائياً.