PDA

View Full Version : محاكم التفتيش


أبو يحى
19-01-2006, 01:25 AM
هذا الموضوع إهداء الى ميس الريم
التي لم تقرأ العقد الفريد أو ديوان أبي نواس

هي مجموعة من المقالات لا أحب أن أضع إسم الكاتب
إذا كان إسمه يثير الحساسية لدي البعض

عندما كانت أوروبا لا تزال أصولية متزمتة - هاشم صالح

كنت قد دعوت منذ أكثر من سنة، وعلى صفحات «الشرق الأوسط» بالذات، إلى تأسيس علم جديد هو: علم الأصوليات المقارن. وقد اكتشفت أني منخرط في دراسة هذا العلم أو ممارسته منذ أكثر من ربع قرن من دون أن أدري! أو قل إن الفكرة كانت موجودة في رأسي قبل أن تجد لها عنواناً أو اسماً. فما الذي فعلته منذ وصولي إلى فرنسا قبل أكثر من ربع قرن؟ دراسة الأصولية المسيحية وكيف اشتبكت في معاركَ طاحنة مع فلاسفة التنوير الأوروبي، والشيء الذي أدهشني هو أن هذا الصراع اخترق كل تاريخ الفكر الأوروبي منذ أربعة قرون وحتى أمد قريب. ويمكن القول بأن الحداثة ليست إلا الخلاص أو الزبدة التي تمخض عنها هذا الصراع الطويل، ويرى بعض المفكرين أن أوروبا هي المنطقة الوحيدة في العالم التي استطاعت أن تخرج من النظام الأصولي للفكر. صحيح أن هذا الخروج كان عسيراً ومريراً، ولكنها خرجت في نهاية المطاف. ولكن ألا يمكن لهذه التجربة أن تتكرر في مناطق أخرى من العالم؟ ألا توجد أوجه تشابه بين الأصوليات المختلفة والمنغلقة على ذاتها؟

عن هذا السؤال الأخير يجيب الكثيرون بالإيجاب. وعندما أقول الكثيرين فإني اقصد أشخاصاً من نوع رينيه ريمون المتخصص بدراسة الأصولية الكاثوليكية في فرنسا وعميد معهد العلوم السياسية في باريس سابقا،ً وهناك أيضا إميل بوسو، أحد كبار المختصين بظاهرة التزمت المسيحي في نسخته الكاثوليكية ايضاً، وهناك آخرون كثيرون لا داعي لتعداد كل أسمائهم هنا، جميعهم يقولون لك بأن العالم العربي ـ الإسلامي يشهد الآن نفس الأزمة التي شهدها العالم المسيحي الأوروبي قبل مائة أو مائتي سنة. وعوارض هذه الأزمة هي: انقسام الوعي على ذاته. فهو من جهة يريد أن يظل مخلصا للأفكار التقليدية الموروثة أباً عن جد والراسخة منذ مئات السنين، وهو من جهة ثانية لا يستطيع أن يظل مخلصاً لأن اكتشافات الحداثة من علمية وفلسفية تناقض بشكل صارخ تلك اليقينيات والرؤيا القديمة للعالم، فما العمل إذن؟ تطبيق القراءة التاريخية والعقلانية على النصوص من اجل التوصل إلى معادلة جديدة للتوفيق بين الدين والعلم. وهذا ما فعله ابن رشد في عصره من خلال الإمكانيات الفكرية المتوافرة في زمنه وبالأخص منطق أرسطو وفلسفته. ولكن إمكانيات زمننا العلمية أصبحت أكبر بكثير، ولذا فنحن بحاجة إلى بلورة معادلة جديدة ولم تعد تكفينا الصيغة التي توصل إليها على الرغم من أهميتها وضرورة التمعن فيها.

وهذا ما فعله أيضا القديس توما الأكويني في القرن الثالث عشر عندما وفق بين العقيدة المسيحية والفلسفة الأرسطوطاليسية بطريقة تذكرنا بما فعله ابن رشد قبله بقرن أو أقل. ولكن ما علاقة علم أرسطو والقرون الوسطى بعلمنا الحالي؟ لا شيء تقريباً، تفصل بينهما سنوات ضوئية.

وعندما تقرأ تصريحات بابوات روما في القرن التاسع عشر ضد الفلسفة الليبرالية، والعلمانية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان ومعظم أفكار الحداثة تكاد تسمع نفس أصوات الأصوليين عندنا وهم يدينون الديمقراطية ويعتبرونها كفراً ما بعده كفر! أنظر علي بلحاج مثلاً أو سواه عديدين. وبالتالي فرفض الحداثة السياسية أو الفلسفية أو الاجتماعية ليس حكراً علينا كما يزعم بعض الصحفيين المغرضين والسطحيين في وسائل الإعلام الأوروبية والأميركية. فالغرب ليس من جنس وبقية البشرية من جنس آخر. الغرب أيضا كان متخلفاً، أصوليا، متعصباً مثله في ذلك مثل غيره، وذلك قبل أن يتقدم ويستنير ويمشي على ضوء العقل والتذكير بهذه الحقيقة قد يشكل عزاء لنا نحن الذين نعيش ظروفاً صعبة الآن، نحن الذين نتخبط في غياهب الظلمات. وأكبر دليل على ذلك تلك «الفتوى» التي أصدرها البابا بيوس التاسع عام 1864، أي في عز القرن التاسع عشر، وأدان فيها الأخطاء الأساسية للعالم الحديث. وقد حدد منها ثمانين خطأ! ومن بينها حرية الوعي والضمير فيما يخص الاعتقاد الديني. ففي رأيه أن ذلك خطأ ما بعده خطأ.. كما أدان البابا العتيد فصل الدولة في أوروبا عن الكنيسة، وقد لزم على الكنيسة المسيحية بعده مائة سنة بالتمام والكمال لكي تتراجع عن ذلك الموقف وتعترف بالحرية الدينية أو التعددية العقائدية، أو حرية الضمير في ما يخص هذه المسائل الحساسة. وكان ذلك بعد انعقاد المجمع الكنسي الشهير باسم الفاتيكان الثاني عام 1965 وهذا يعني أن التطور يمكن أن يحصل حتى في مجال الفكر الديني. ولكن المتزمتين يرفضون هذا الموقف ويعتبرونه ميوعة أو بدعة من عمل الشيطان.. انه انحراف عن الخط المستقيم أو المذهب الصحيح، أي ما يدعى في اللغات الأجنبية بالأرثوذكسية. لقد صفق المتزمتون بقوة لفتاوى البابا بيوس التاسع، هذا في حين أن المسيحيين الليبراليين أو الحداثيين شعروا وكأنها ضربة خنجر في الظهر.. وأما بقية الناس فرأوا فيها برهاناً ساطعاً على عجز الكنيسة عن التصالح مع العالم الحديث. وكانوا مصيبين ومخطئين: مصيبين إذا ما نظرنا إلى عصرهم، ومخطئين إذا ما نظرنا إلى العصور اللاحقة حيث أصبح هذا التصالح ممكناً. ولم يعد المسيحي في أوروبا يشعر بأنه يخون دينه أو عقيدته اذا ما تبنى الكثير من مناهج الحداثة وقيمها التحررية أو التحريرية. فالفهم المتسامح والروحاني للدين تغلب على الفهم الشكلاني والظلامي الذي كان سائداً طيلة قرون وقرون هذه النقلة من الفهم الإكراهي للدين إلى الفهم المنفتح هي التي تشكل قطيعة الحداثة. ولكن قطيعة الحداثة هذه كلفت غالياً ولم تحصل بين عشية وضحاها كما نتوهم نحن الذين نعيش في أوروبا ولا نرى أي أثر للتعصب الديني فيها. فقد كنا محظوظين إذ جئناها بعد أن انطفأت نيران المعارك وحسمت لصالح الفهم العقلاني والمتسامح للدين.

ومن الأخطاء التي أدانها البابا عام 1864 الفلسفة الطبيعية، والفلسفة العقلانية سواء أكانت مطلقة أم معتدلة. وكذلك أدان انصراف الناس في أوروبا عن أداء الطقوس والشعائر المسيحية، وعدم ترددهم على الكنائس، هذا بالإضافة إلى الاشتراكية والشيوعية بعد الليبرالية (أي فلسفة الحرية الناتجة عن عصر التنوير والثورات الانجليزية، فالاميركية، فالفرنسية).

وأما البابا الذي جاء بعده بمائة سنة فقد اتخذ موقفاً مضاداً لهذا الموقف من خلال المقررات اللاهوتية الجريئة والتنويرية التي اتخذها المجمع الكنسي المشهور باسم الفاتيكان الثاني. يقول التصريح بالحرف الواحد: إن الشخص البشري له الحق في الحرية الدينية. ولا يمكن إجبار الناس على الإيمان بديننا غصباً عنهم».

هذا التطور النوعي الذي حصل في أوروبا على مدار مائة سنة لا يمكن تقدير أهميته أو حجمه. انه ثورة لا تقل أهمية عن الثورات العلمية والفيزيائية الكبرى من كوبرنيكوس، إلى غاليليو، إلى نيوتن، وآينشتاين..انه يعني تصالح الوعي الأوروبي مع نفسه ومع العالم في آن معاً. فعلى مدار أكثر من ألف وخمسمائة سنة كانت الكنيسة الكاثوليكية تفرض نفسها على الآخرين عن طريق القوة وأحيانا عن طريق محاكم التفتيش وحرق الناس...

وفجأة تتخلى عن هذا الموقف المتصلب والمتعصب وتعترف بصحة ومشروعية الأديان والمذاهب الأخرى باعتبار أنها كلها طرق توصل إلى الله. وهذا هو معنى التسامح بالضبط: أن تقبل بأن الآخر يمكن أيضا أن يكون على حق حتى ولو كان مختلفاً عنك في الاعتقاد أو المذهب أو الدين. فلو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكنه لم يشأ.

لم يكن المذهب الكاثوليكي بقادر طيلة كل تلك العصور على أن يقبل بوجود أي دين آخر أو مذهب آخر غيره. وكانت فكرة التسامح ذاتها تدخل في دائرة اللا مفكر فيه أو المستحيل. كانوا ينقسمون إلى بروتستانتيين وكاثوليكيين ويكرهون بعضهم بعضاً كرهاً شديداً. وحول هذه الصفحات المرعبة من تاريخ فرنسا وأوروبا سوف تدور مقالاتنا القادمة.

أبو يحى
19-01-2006, 01:28 AM
محمود طه.. تعاقبت الأزمنة و«الحملات» واحدة - رشيد الخيون

شهد صباح مثل هذا اليوم، الثامن عشر من يناير (كانون الثاني) 1985، إعدام الشيخ السوداني محمود محمد طه، وهو ابن السادسة والسبعين، بتهمة الردة عن الإسلام، ونقل جثمانه بالطائرة إلى مكان مجهول. لم يتردد مستشار جعفر نميري الشيخ حسن الترابي في الاعتراف لإحدى الفضائيات، وهو في موقع السلطة، بدوره في الاتهام والإعدام. لكن مَنْ يقرأ كتاب الترابي «السياسة والحكم»، ويستمع لأحاديثه وتصريحاته، بعد الانقلاب عليه وسجنه، يلاحظ تغير الشيخ وتراجعه، ولم يبق ذلك الإخواني المتشدد، المتعطش للسلطة وهلاك الخصماء. وهو يعلم، قبل غيره، أن إعدام خصمه كان إجراءً سياسياً أُلبس ثوب الدين، لا يتعدى ما كان بين الإخوان المسلمين برئاسته وما بين الإخوان الجمهوريين برئاسة القتيل. وبطبيعة الحال، لا يؤخذ بتغير الترابي وانفتاحه الجديد من دون دفع دية المسؤولية، مهما كان حجمها، ولا أراها تتعدى نطق مفردة «أعتذر»!

كان رفض الشيخ المقتول قوانين الشريعة، التي أُعلنت في سبتمبر 1983، رحمة بالشريعة والأتباع من التفريط، ومن المغامرة بالدين وتطبيق حدوده، كقانون نافذ على الناس، وسط تراكم من الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ظل الشيخ، قبل إعدامه بعشرين عاماً، يعارض محاولات تطبيق قوانين «الإيمان» بالقتل، وقطع اليد، وسلب حرية الناس. وهو يرى أن الرق ليس أصلاً في الإسلام، وتغييب النساء عن الحياة ليس من الإسلام، والإسلام جاء متدرجاً في الأديان الكتابية، كي يتعاصر مع مدارك البشر (رسالة الإسلام الثانية). أفكار وآراء قابلة للجدل والحوار، لا تستدعي تهمة الردة وعقوبة الموت، والحرمان حتى من مراسم الجنازة. وهو بمعارضته القديمة لقيام دولة دينية، حكم الردة فيها مادة من مواد الدستور، ظل هدفاً للإخوان المسلمين، فاستصدروا ضده حكماً غيابياً بالإعدام (1968) عن طريق محكمة للأحوال الشخصية، لا شأن لها بمثل هذا الحكم، مع طلاق زوجته.

لم تجد المحكمة طريقاً لتنفيذ حكمها آنذاك، فانتظر المتربصون حتى سبتمبر (أيلول) السنة 1983، عندما أُعلن تطبيق قوانين الشريعة، مع إضافة «قانون الشروع بالزنى». ويعلم الشيخ كم يتجاوز مثل هذا القانون على حكم الشريعة، الذي جاء يحمي النساء والرجال من الأفاكين. شكلت لهذه المهمة محاكم عرفت بمحاكم «العدالة الناجزة»، أو «محاكم الطوارئ». يومها عارض الشيخ علانية، ومن موقعه في الحزب الجمهوري، تلك القوانين، واعتبرها مخالفة لروح الإسلام.

قال أمام هيئة المحكمة، وهي تلوح بحكم الموت ضده: «أنا أعلنت رأيي مراراً في قوانين سبتمبر 1983 من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام. أكثر من ذلك فإنها شوهت الشريعة، وشوهت الإسلام»، (تقرير منظمة حقوق الإنسان). وبما أن حكم الردة على الشيخ كان حكماً سياسياً لا دينياً، فقد أُلغي الحكم حال سقوط النظام، وقررت المحكمة الدستورية العليا بطلان محاكمته «واعتبار كل ما ترتب عليها لاغياً».

على غرار قوانين سبتمبر 1983 السودانية أعلن نظام شباط 1963 في العراق تطبيق الشريعة بالمعتقلين السياسيين، وحتى يبرروا إعدام الآلاف من البشر سعوا إلى استصدار فتاوى قتل من الفقهاء، الشيعة والسُنَّة. غير أن مطبقي الشريعة في الخصماء السياسيين أعدموا، في جولتهم الثانية 1968، الشيخ عبد العزيز البدري، وآية الله محمد باقر الصدر ونعتوه بالمجرم (المجوسي)، وآية الله قاسم شبر وقد بلغ «من الكبر عتيا»، وغيرهم الكثير. وباسم قوانين الشريعة قطعت رؤوس نساء، وثبت قانون «غسل العار» العشائري، وهو مخالف للشريعة.

هناك تاريخ للحملات الإيمانية، ومطاردة الآمنين باسم الدين، ففي قروننا الوسطى، حكم على الفقيه الحنبلي ابن عقيل (ت513هـ) بالموت لأنه طالع كتب المعتزلة، وترحم على بعض المتصوفة. اضطر، وهو في زعامة مذهبه، إلى إعلان توبته من مطالعة أو كتابة نص أو اعتقاد بفكر مخالف: «أنا تائب إلى الله سبحانه وتعالى من كتابته وقراءته، وإنه لا يحلُ لي كتابته ولا قراءته ولا اعتقاده»، (ابن قدامة، تحريم النظر في كتب الكلام). وقبلها قاد الخليفة عبد الله المأمون، رغم شفافية زمنه، حملة ضد مَنْ اعتقد خلافاً لعقيدة المعتزلة في خلق القرآن ونفي الصفات. كان أبرز المعذَبين الإمام أحمد بن حنبل (ت247هـ). ومن المقتولين كان أحمد بن نصر الخزاعي (231هـ) (تاريخ اليعقوبي).

وشهدت مثل هذه الحملات الإيمانية، وبقسوة مشددة، أوروبا القرون الوسطى، فبحجة الحفاظ على إيمان المجتمع، وتطبيق الشريعة أخذت الإعدامات مأخذها من الناس: بسبب قراءة كتاب، أو بتهمة إهانة الكتاب المقدس، أو بسبب التخلف عن مواعيد الكنيسة. فحسب ول ديورانت في «قصة الحضارة»، كان أبرز رجال الدين عنفاً القس توماس توركيمادا، قتل طبيبه الخاص حرقاً بتهمة تنجيس الصليب، وأصدر أمراً بتعذيب المتهمين، بانتزاع لحم أجسادهم بآلة الكلابة. وتقرر حرق المتهمين بالبروتستانية، ومحاكمة أي راهب لا يعظ ضدها.

قال مؤرخ كاثوليكي: «كان رجال محكمة التفتيش الذين لم يفتر البابا عن حضهم يشمون الهرطقة في حالات كثيرة. ما كان المراقب الهادئ الحذر ليكشف فيها أثراً لهرطقة... وحرض الحاسدون والمفترون على بذل الجهد في تسقيط الكلمات المريبة من شفاه رجال كانوا عمداً راسخة للكنيسة ضد المبتدعين، وعلى تلفيق تهم الهرطقة لهم... وبدأ عصر إرهاب فعلي ملأ روما كلها بالخوف».

أخذ البابوات يتدخلون في أدق تفاصيل حياة الناس الشخصية، فإضافة إلى التدخل في شؤون العبادة، من الذهاب إلى الكنيسة والامتناع عن محرماتها، حُرمت قراءة أي كتاب لم يحصل على إذن بالنشر من الكنيسة. ولثقل تشدد أحد الباباوات على الأتباع هرعوا بعد وفاته إلى تحطيم تمثاله، ورميه في نهر تيير، «وأحرقوا مباني محكمة التفتيش، وأطلقوا سجناءها، وأتلفوا وثائقها»(قصة الحضارة).

أكلت قوانين الحملات الإيمانية، لغايات سياسية مصحوبة بتعصب ديني أو مذهبي، الكثير من البشر، ومن علماء الدين وشيوخه أكثر من العوام، وما الشيخ محمود محمد طه، إلا واحدا من الألوف عبر التاريخ.

أبو يحى
19-01-2006, 01:30 AM
فلاسفة الغرب والحركات الأصولية المتطرفة - هاشم صالح

كل المفكرين الكبار في الغرب يحاولون ان يفهموا ما حصل لاميركا صبيحة 11 سبتمبر ولماذا حصل ما حصل. وقد لفت انتباهي من بين هؤلاء صوت فوكوياما. ومعلوم ان الرجل كان قد اشتهر قبل بضع سنوات عندما اصدر كتابه «نهاية التاريخ» واحدث ضجة كبيرة لا تقل اهمية عن تلك الضجة التي احدثها كتاب صموئيل هانتنغتون عن «صراع الحضارات»، ولم يكن فوكوياما يقصد بأن احداث التاريخ سوف تتوقف بعد انتصار الغرب في الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي كما توهم بعض السذج فهذا عبث ومحال. وانما كان يقصد ان النظام الليبرالي الديمقراطي الغربي هو انضج الانظمة السياسية وآخرها، واليه انتهت كل تجربة البشرية ونضجها بعد مسيرة آلاف السنين.

فهل غيرت كارثة 11 سبتمبر من فكر فوكوياما واطروحته؟ لا، يجيب هذا الرجل الذي يعتبر من اهم المثقفين في اميركا واكثرهم نفوذا. فهو يعتقد ان الحداثة كما هي متمثلة في الولايات المتحدة والانظمة الديمقراطية المتقدمة في اوروبا الغربية وسواها، سوف تظل القوة السياسية المهيمنة في العالم، وأما مؤسساتها التي تجسد قيم الحرية والمساواة فسوف تنتشر اكثر فأكثر في شتى انحاء الكرة الارضية. وبالتالي فالمستقبل هو للنموذج الديمقراطي الغربي على الرغم من 11 سبتمبر، والقوى التي ارتكبت الجريمة ليست الا قوى انتكاسية او ارتجاعية يائسة عجزت عن ركوب قطار الحداثة السريع جدا. انها قوى معادية للعالم الحديث بكل بساطة، وبالتالي فسوف تندحر عاجلا او آجلا.

لكن فوكوياما يعترف بأن المسألة ليست سهلة ولن تحسم في وقت قصير. فالتحدي الاصولي اشد خطورة من التحدي الشيوعي الذي شغل الغرب طيلة خمسين سنة اثناء الحرب الباردة. هذا لا يعني بالطبع ان الصراع مع بن لادن وجماعته سوف يستمر خمسين سنة! ولكن المسألة عميقة الجذور اكثر مما نتصور للوهلة الاولى. فالمسألة بحسب رأيه لا تخص فقط المجموعات المسلحة التي تمارس الاعمال الارهابية والتفجيرات بشكل مباشر، وانما حجم التيار العريض الذي يحتضنها او يتعاطف معها، وهو التيار الذي يدعوه فوكوياما باسم الراديكالية الاسلامية. وتبلغ نسبته %10، او حتى %15 من عدد سكان العالم الاسلامي ككل.

هذا يعني انه اذا كان في العالم الاسلامي مليار نسمة او اكثر فان عدد المتعاطفين مع التيار الراديكالي يصل الى مائة مليون او مائة وخمسين مليون شخص. وهو عدد ليس بالقليل ويستطيع ان يغذي الشبكات المتطرفة بعناصر جديدة باستمرار ولفترة طويلة من الزمن. بهذا المعنى فإن المسألة ليست سهلة على الغرب ولن يستطيع حسمها بسهولة كما كان يتوقع.

وبالتالي فالصراع الجاري حاليا ليس فقط ضد الارهاب بالمعنى الحصري للكلمة، ولكنه ليس ضد الاسلام كدين روحاني وكحضارة عريقة، وانما هو ضد التيار الاصولي المتعصب الذي يرفض التعليم الحديث والعقلاني للدين ويعتبر غير المسلمين بمثابة كفار ينبغي نبذهم، بل حتى قتلهم! كما يرفض القيم المؤسسة للحضارة الغربية والعالم الحديث: اي الديمقراطية، وحقوق الانسان، وحكم القانون، والازدهار المادي الناتج عن اقتصاد السوق الحرة. وفي رأي فوكوياما ان هذه القيم كونية ولم تعد تخص الغرب فقط. فجميع الامم اصبحت تتبناها اكثر فأكثر بما فيها الامم التي كانت شيوعية سابقا والتي كانت ترفضها رفضا قاطعا بحجة انها رأسمالية استغلالية، امبريالية، واهم مثال على ذلك روسيا والصين وبقية دول اوروبا الوسطى والشرقية هذا ناهيك من دول اميركا اللاتينية والارجنتين والبرازيل.. العالم كله يمشي نحو الديمقراطية بشكل او بآخر وبايقاعات متفاوتة.

وحده العالم الاسلامي باستثناء تركيا الى حد ما، لا يزال يستعصي على هذه القيم الكونية. والسؤال المطروح هو: لماذا؟ في رأي فوكوياما فإن السبب واضح وضوح الشمس. فما دامت السياسة غير منفصلة عن اللاهوت التقليدي القروسطي ورجال الدين، فإن السلام المدني لا يمكن ان يستتب في المجتمع. فهناك بالضرورة اديان عديدة او مذاهب عديدة داخل كل مجتمع، وبالتالي فلا يمكن للمساواة السياسية بين المواطنين ان تحصل الا اذا تم تحييد هذه العقائد المختلفة واعتبار ان الدين لله والوطن للجميع. والدليل على ذلك تجربة اوروبا التي خاضت حروبا اهلية وطائفية طاحنة في القرنين السادس عشر والسابع عشر قبل ان تفهم ان الحل يكمن في الفصل بين الكنيسة والدولة. وعندئذ تفرغ رجال الدين للشؤون الروحية والدينية، وتفرغ رجال السياسة للشؤون السياسية والدنيوية، وربح الجميع بذلك. وبالتالي فإن الدولة العلمانية والديمقراطية الحديثة انبثقت من خضم ذلك الصراع الدموي الهائج الذي جرى بين المذهبين الاساسيين السائدين في اوروبا الغربية: اي المذهب الكاثوليكي، والمذهب البروتستانتي، نعم ان الدولة الحديثة قامت على انقاض الدولة المذهبية والطائفية القديمة. ورافق ذلك صعود فلسفة انسانية جديدة وانتصار التنوير الفكري والتسامح الديني وعدم قتل الناس لبعضهم البعض على الهوية!

وبعدئذ عاد السلام المدني الى المجتمع واصبح التعايش ممكنا بين ابناء الوطن الواحد على الرغم من اختلافهم في المذهب، او الدين، او العقيدة. فالمانيا التي تنقسم الى قسمين متعادلين تقريبا، قسم بروتستانتي وقسم كاثوليكي مع ارجحية نسبية للبروتستانتيين بعد التوحيد، لم تستطع تجاوز ازمتها وصراعاتها الطائفية المدمرة الا بعد عقلنة الدين او توليد تفسير عقلاني له والفصل بين المواطنية السياسية والانتماء المذهبي او الطائفي.

وقس على ذلك بقية الدول المتقدمة او المتطورة. وهذا لا يعني القضاء على الدين كما يتوهم معظم الناس في العالم الاسلامي بسبب الفهم الخاطئ للنظام العلماني الحديث والخلط بينه وبين الالحاد او الكفر!! وهذا خطأ ما بعده خطأ. فحرية التدين وممارسة الطقوس والشعائر ليست مضمونة في اي بلد في العالم مثلما هي مضمونة في البلدان العلمانية المتقدمة. ولكنها مضمونة لجميع الاديان لا لدين واحد، ولجميع المذاهب لا لمذهب واحد. يضاف الى ذلك بالطبع ضمان الامان والحرية لأولئك الذين لا يمارسون اية طقوس او شعائر كانت ما كانت ولا يؤمنون الا بمذهب العقل والفلسفة. فهم ايضا مواطنون تنطبق عليهم نفس القوانين، ولهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. نقول ذلك وبخاصة انهم الاكثر عددا في جميع انحاء اوروبا.

هذا الفهم الحديث والمتحرر للدين هو الذي يعاديه الاصوليون المتطرفون ويرفضونه بشكل جذري. وهو أحد الاسباب الاساسية لاعلانهم الحرب على الحضارة الحديثة. وبالتالي فإن المعركة طيلة السنوات القادمة داخل العالم الاسلامي وخارجه سوف تدور على هذه الارضية بالذات.

هذا يعني ان الرهان الاكبر لما يحصل حاليا هو التالي: هل سينشأ في العالم الاسلامي، وفي العقود المقبلة من السنين، تيار ليبرالي يفهم الدين بشكل جديد، تيار قادر على التصالح مع الحداثة الكونية بدلا من الصدام المباشر والدموي؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه فوكوياما. وهو يرى ان ايران ربما كانت اول بلد مرشح لتوليد مثل هذا التيار بسبب رد الفعل العنيف الموجود حاليا لدى الشبيبة الايرانية ضد الاصولية والتعصب الديني. وقد سمعنا مؤخرا بأن الطلاب المتظاهرين في جامعة طهران استطاعوا ان يجبروا الجناح المحافظ على التراجع عن الحكم بالاعدام على المثقف الايراني والاستاذ الجامعي هاشم اغاجاري. وكان المتطرفون الظلاميون قد اتهموه سابقا بالتجديف والكفر. وهي تهمة خطرة عقوبتها القتل وطالما ذهب ضحيتها المفكرون الاوروبيون اثناء محاكم التفتيش عندما كانت اوروبا لا تزال اصولية متعصبة، جاهلة.

وبالتالي فرب ضارة نافعة وربما ادت الحركات المتطرفة الى توليد العكس تماما كرد فعل على حماقاتها وجرائمها التي لا تزال ترتكبها في الداخل والخارج منذ ما لا يقل عن ثلاثين سنة.

لكن فوكوياما يعتقد ان هذا الشيء على اهميته ليس كافيا. فالايديولوجيات الخاطئة او المتطرفة لا تموت عن طريق المعارك الفكرية فقط. والدليل على ذلك تجربة الحركات الفاشية في اوروبا. فقد تم القضاء عليها بقوة السلاح. ولم تفقد هيبتها وبريقها في اعين الشبيبة الاوروبية الا بعد ان هزمت عسكريا على اثر تدخل اميركا في الحرب العالمية الثانية. وربما كان ذلك صحيحا. ولكن الحل العسكري له مخاطره ايضا. ويفضل ان يهتم الغرب بمساعدة العالم العربي والاسلامي على تحسين أوضاعه الاقتصادية وحل قضية فلسطين وتركه يحل مشكلته مع الاصولية بنفسه. فهو قادر على توليد تيار تحرري وانساني مضاد لهذا التيار الجارف الذي يسيطر علينا منذ انتصار الخمينية في ايران عام 1978.

أبو يحى
19-01-2006, 01:31 AM
مفكرو أوروبا يحاكمون الحداثة الرأسمالية ونحن مشغولون بتفكيك الأصولية الدينية
هاشم صالح
نحن الذين اتيح لنا القدوم الى اوروبا والدراسة في جامعاتها نشبه اهل الكهف الذين استيقظوا يوماً ما فوجدوا العالم قد تغير من حولهم. ولكن ربما كان وضعنا اصعب من وضع اهل الكهف لأن نومتنا كانت اطول! هم ناموا ثلاثمائة سنة او اكثر قليلا، ونحن نمنا الف سنة تقريبا! لا يمكن ان تجد لدى هابرماس او ديلوز او ميشيل فوكو أي اهتمام بمسألة الاصولية الدينية او الحركات المتزمتة او اي شيء من هذا القبيل. فهذه مسألة محسومة في تاريخهم ومحلولة منذ زمن بعيد. ولكن تجدهم مهمومين بمسائل اخرى لا تخطر لنا على البال اطلاقا، بل لا نكاد نتخيل انها موجودة اصلا. انها مشاكل المجتمعات المتقدمة، المترفة، الناعمة.
انه لشيء غريب عجيب: عندما اتحدث عن هموم الفكر العربي الاسلامي أجدني وقد عدت الى القرون الوسطى ومشاكل الاصولية والتزمت والاكراه في الدين. وعندما اريد التحدث عن هموم الفكر الاوروبي الحالي، اجد نفسي وقد قفزت على القرون وقطعت مسافات ضوئية في لحظة واحدة! هل اعاني من شيزوفرينيا او في انفصام الشخصية؟ ام انه تختلط في داخلي كل العصور: مما قبل التاريخ الى ما بعد الحداثة؟! وكيف لي ان اجمع بين كل هذه المتناقضات؟ لكن لنخرج من هذه الكوابيس المرعبة ولندخل في صلب الموضوع. ما هي مشكلة هابرماس في هذا الكتاب الضخم الذي يحاذي الخمسمائة صفحة من القطع الكبير؟ اذا ما فهمناها نستطيع ان نفهم القطيعة الابستمولوجية الكبرى التي تفصل بين الفكر العربي والفكر الاوروبي في الحالة الراهنة للامور، وهي نفس القطيعة التي تفصل بين عقلية اسامة بن لادن مثلا وتوني بلير! مشكلة هابرماس هي انه يريد الدفاع عن الحداثة ضد الذين يريدون تدميرها من امثال نيتشه وهيدغر ومدرسة فرانكفورت وتلامذتهم الفرنسيين من امثال فوكو، وجان فرانسوا ليوتار، ودريدا، وبقية العدميين.. انهم جماعة ما بعد الحداثة الذين يريدون تجاوز الحداثة والتخلص منها بأي شكل. فهل لهذا الكلام من معنى بالنسبة للمثقف العربي؟ انه برنامج ضخم، لخصناه في كلمات معدودات.. لماذا يريدون تدميرها او تفكيكها؟ لانها تحولت الى سجن في رأيهم، الى امبريالية تفرض هيمنتها القمعية على الطبيعة والانسان في آن معا. لاحظ هنا الفرق بيننا وبينهم: نحن مشغولون بتفكيك الاصولية الدينية، وهم مشغولون بتفكيك الحداثة التي نشأت على انقاض الاصولية المسيحية على مدار القرون الاربعة المنصرمة! ألا توجد مسافة بيننا وبينهم؟ ألا يمكن ان نقيسها بالمسطرة؟ وهل من المستغرب ان يحصل سوء التفاهم، بل استحالة التفاهم، بين الغرب والعالم الاسلامي؟

لكن لنعد الى صلب الموضوع ولنحاول ان نرافق هابرماس في معركته الفكرية الهادفة الى انقاذ الحداثة، او بالاحرى المكتسبات الايجابية للحداثة، من براثن النيتشويين والعدميين والمحافظين القدماء والجدد على حد سواء. فأولا هابرماس ليس غبيا ولا يستطيع ان يدافع عن تجربة الحداثة بكل قضها وقضيضها. فعلى مدار المائتي سنة الماضية من عمر الحداثة الغربية حصلت اشياء مزعجة ليس اقلها الغولاغ الشيوعي والفاشية والنازية والمجازر الاستعمارية ويمكن ان نضيف اليها الجرح الفلسطيني الذي لا يزال ينزف حتى الآن.

وكما اننا نحاسب الاصوليات الدينية على محاكم التفتيش فإن مفكري اوروبا يحاسبون الحداثة الرأسمالية على انحرافاتها واخطائها. وحتى هذا الحد فإن هابرماس يتفق مع نقاد الحداثة ومدرسة فرانكفورت ويقبل بمحاسبة العقل الغربي حسابا صارما. لكنه يختلف مع اساتذته فيما بعد. فهو لا يستطيع ان يقبل بوأد عقل التنوير لمجرد ان هذه الانحرافات ارتكبت باسمه! انه ليس يائسا ولا متشائما الى حد العدمية كما حصل لادورنو وهوركهايمر مؤسسي مدرسة فرانكفورت. وانما هو يعتقد بوجود حل آخر او مخرج آخر من هذه الازمة الانسدادية التي وصلت اليها الحضارة الغربية. ففي رأيه انه لا يوجد بديل عن عقل التنوير على الرغم من كل فشله وانحرافاته، بل حتى الجرائم التي ارتكبت باسمه. ولا يمكن ان نعود الى الوراء، اي الى المجتمع التقليدي الاصولي الذي خرجت منه اوروبا والى الابد، كما يحنّ الى ذلك بعض المحافظين او الرجعيين في المانيا.

هابرماس يتهم فلاسفة فرنسا النيتشويين من امثال فوكو، وليوتار، ودريدا، بالعمل على تهديم المشروع الاوروبي للتنوير، وبالتالي تدمير الحضارة اليونانية ـ الغربية بأسرها! وهذا اتهام خطير ادى الى اشعال اكبر حرب فلسفية في الثلاثين سنة الاخيرة. فليس من السهل ان تدمر الحضارة التي بنيت على مدار الفين وخمسمائة سنة بدءا من افلاطون وارسطو وانتهاء بالوقت الراهن مرورا بديكارت، ولاينبتز، وفلاسفة التنوير الفرنسيين، وكانط، وهيغل.. فماذا يبقى بعد ذلك؟ هنا يقول لهم هابرماس: قفوا! خط احمر! خطر الموت! فلا حداثة بدون علمنة: اي بدون احلال للنظرة العلمية والدنيوية محل النظرة اللاهوتية او الاخروية. وهذا لا يعني نهاية الدين والقضاء عليه كما يتوهم الجهلة والسذج. وانما يعني توليد فهم آخر للدين غير الفهم الضيق والظلامي الذي كان سائدا اثناء العصور الوسطى. وهذا الفهم الجديد للدين موجود حاليا في كل انحاء اوروبا. وبالتالي فالدين لم يمت في اوروبا بمجيء عصر الحداثة ولكنه تحول وتغير. لم يكن هيغل يستخدم مصطلح الحداثة لانه لم يكن قد ظهر في اللغات الاوروبية بعد. وانما كان يستخدم مصطلح «الازمنة الجديدة» او «الازمنة الحديثة». فحوالي عام 1800 في انجلترا وفرنسا كانوا يستخدمون هذين المصطلحين للدلالة على ثلاثة احداث كبرى حصلت حوالي عام 1500وهي: اكتشاف العالم الجديد (اي اميركا)، عصر النهضة، حركة الاصلاح الديني بقيادة مارتن لوثر. هذه الاحداث الثلاثة تشكل العتبة التي تفصل بين العصور الحديثة والعصور الوسطى في اوروبا، انها الحزّ الفاصل بين القديم والجديد.

نقول ذلك ونحن نعلم انهم يقسمون تاريخ الفكر الاوروبي الى ثلاثة اقسام: فترة العصور اليونانية ـ الرومانية القديمة (500 قبل الميلاد ـ 500 بعد الميلاد)، فترة العصور الوسطى (500 بعد الميلاد ـ 15 بعد الميلاد)، فترة العصور الحديثة (15 ميلادية ـ 20 ميلادية). وهذا التقسيم جاء على اثر هيغل ودروسه حول فلسفة التاريخ.

لكن قطيعة الحداثة مع العصور الوسطى لم تكتمل فعليا الا في زمنه بحسب ما يقول. انها لم تترسخ الا بعد الانوار الفلسفية والثورة الفرنسية التي تعتبر الترجمة السياسية لتلك الانوار وبالتالي فهناك ثورتان لا ثورة واحدة: الثورة الفلسفية، والثورة السياسية. ينتج عن ذلك ان الحزّ الحقيقي الذي يفصل بين العصور الوسطى والعصور الحديثة هو ذلك الذي يتموضع في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر: اي في اللحظة التي كان يكتب فيها هيغل مؤلفاته الكبرى. لقد حصلت عندئذ «اشراقة رائعة للشمس» بحسب تعبير هيغل الشاعري في فينومنيولوجيا الروح. لقد حصلت قطيعة كبرى تفصل ما كان عما سيكون. ولا يمكننا ان نفهم الحضارة الاوروبية الحالية اذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار.

وهيغل يعترف بأن عصر التنوير الذي بلغ ذروته في المانيا على يد كانط وفيخته جعل من العقل معبودا وأحله محل الدين. وهكذا أخذ من الدين اطلاقيته وخلعها على العقل البشري. وبالتالي فالعصمة نزلت من السماء الى الارض، او من فوق الى تحت. وبدلا من ان كانت لاهوتية اصبحت بشرية. ويرى هيغل ان فلاسفة التنوير اخطأوا في هذا التوجه وبالغوا في تصورهم لامكانيات العقل البشري. فالواقع انه محدود وليس لا محدودا او نهائيا كما اعتقدوا. هنا نلاحظ ان هيغل بلور الحداثة وينتقدها في ذات الوقت لكيلا تغتر بنفسها اكثر مما ينبغي. وقد اثبتت الايام اللاحقة صحة توقعاته. فالعقل البشري يصنع المعجزات بدون شك. لكنه اذا ما أفلت من عقاله قد يحرق الارض ومن عليها. انظر الى التجربتين النازية، والشيوعية، وخطر الحرب الذرية الذي كان مسلطا على رؤوس البشر طيلة الحرب الباردة. ولكن هيغل نفسه عاد وسقط في نفس الوهم عندما تحدث عن المعرفة المطلقة واعتقد انه امتلكها! لا استطيع ان اتوغل في كتاب كثيف وضخم كهذا الكتاب اكثر من ذلك. وبالتالي فلا استطيع ان اوفيه حقه. فقط اريد ان اعدد عناوين فصوله مع بعض الايضاحات.

بعد ان يشرح هابرماس نظرية الحداثة في الخطاب الفلسفي لهيغل نجده ينتقل الى فصل ثالث بعنوان: ثلاثة منظورات ما بعد هيغلية. فبعد هيغل تفرع الفكر الى ثلاثة تيارات:

تيار اليسار الهيغلي، وتيار اليمين الهيغلي، وتيار خارج كليا على هيغل وعقلانيته هو: تيار نيتشه. اما الفصل الرابع فيتخذ العنوان التالي: الدخول في مرحلة ما بعد الحداثة. نيتشه كصفيحة دوارة، او كمفترق طرق يلتقي فيه كل اعداء الحداثة.

وهنا يصب هابرماس جام غضبه على نيتشه وذرّيته الفلسفية المتمثلة بهيدغر، وفوكو، ودريدا، وليوتار، وديلوز.. الخ. ويعتبرهم المسؤولين عن محاولة تدمير الحداثة وتغذية التيارات اللاعقلانية التي ولّدت الفاشية والنازية! يقول مثلا: لم يخطر على بال هيغل واتباعه قط من يمينيين او يساريين ان يشككوا بفتوحات الحداثة ومكتسباتها. هذه المكتسبات التي تشكل عزها ومفخرتها. وهي تتمثل بالحرية الفردية، ودولة الحق والقانون، والديمقراطية السياسية، والتعددية المذهبية والعقائدية، وحرية النقد والتفكير.

أبو يحى
19-01-2006, 01:32 AM
سؤال عربي ـ فرنسي: كيف أنتج مشروع النهضة العربية أشخاصا من نوع بن لادن والظواهري وصدام حسين؟

غسان تويني وجان لاكوتير وجيرار خوري في كتاب مشترك عن حال العرب منذ الإمبراطورية العثمانية إلى الإمبراطورية الأميركية


هاشم صالح
هذا الكتاب مؤلف من قِبل ثلاثة أشخاص: الأول هو الصحافي الفرنسي المعروف جان لاكوتير، وهو أحد كبار المطلعين على شؤون العالم العربي بمشرقه ومغربه، فمعرفته به قديمة جداً وتعود إلى الخمسينات من القرن العشرين عندما كان يعيش في مصر مع زوجته ويقابل جمال عبد الناصر ويتابع أخبار الثورة المصرية، وقد اخرج أكثر من كتاب عن عبد الناصر والمجتمع المصري وبورقيبة وشؤون المغرب العربي.
أما الثاني، أي غسان تويني، فهو واحد من أشهر الصحافيين العرب في هذا القرن، وربما كان لا يقل أهمية عن محمد حسنين هيكل، إن لم يزد فيما يخص بعض النواحي، هذا بالاضافة إلى كونه رجل سياسة من الدرجة الأولى ومؤسس دار النهار الشهيرة في بيروت، ومعلوم أنها لعبت دوراً كبيراً ـ ولا تزال ـ في المناقشة الفكرية والسياسية العربية.

أما الثالث، أي جيرار خوري، فربما كان الأقل شهرة بين الثلاثة، لكنه لا يقل أهمية من حيث المعرفة العلمية والتخصص في شؤون لبنان والشرق الأوسط، وهو تلميذ للمدرسة التاريخية الفرنسية المعروفة باسم مدرسة «الحوليات»، وهي من أشهر المدارس التاريخية في العالم، إن لم تكن أشهرها. وقد وصل تأثيرها إلى اليابان والهند والصين وروسيا وبقية أنحاء العالم، انه تلميذ لأحد رموزها الكبرى: جورج دوبي. وقد اصدر عام 1993 كتاباً بعنوان «فرنسا والمشرق العربي»، وفي عام 1998 اصدر كتاباً مطولاً من الحوارات مع المستشرق المعروف مكسيم رودنسون تحت عنوان: «ما بين الإسلام والغرب».

* السؤال الذي يهيمن على هذا الكتاب هو التالي: لماذا فشل مشروع النهضة العربية الذي كان واعداً لحظة انبثاقه في النصف الأول من القرن التاسع عشر؟ ما الذي حصل حتى أُجهض هذا المشروع ووصل العرب إلى ما وصلوا إليه الآن من هزيمة وأصولية ووضع مأساوي ضائع أو تائه؟ هل يمكن أن ينتهي المشروع النهضوي الكبير إلى توليد أشخاص من نوعية بن لادن أو أيمن الظواهري أو صدام حسين؟!، لماذا نجحت تركيا في مشروعها النهضوي إلى حد ما، بل وحتى إيران على الرغم من أن المعركة لم تحسم بعد بين الأصوليين والإصلاحيين، وفشل العرب؟..

هذه هي بعض الأسئلة التي يطرحها الكتاب منذ البداية وحتى النهاية، فهل أجاب عنها يا ترى؟، هل نجح في تقديم تشخيص دقيق للوضع أم لا؟ هذا ما سنراه في خاتمة هذا العرض.

في الصفحات الأولى يحاول غسان تويني موضعة مشروع النهضة العربية داخل إطاره الزمني كرد على سؤال لجان لاكوتير، وذلك لأن الكتاب من أوله إلى آخره هو عبارة عن حوار بثلاثة أصوات، وإن كان غسان تويني هو الذي يجيب ويتدخل أكثر من غيره، يقول صاحب دار النهار وأحد كبار المراقبين للساحة السياسية والآيديولوجية العربية منذ أكثر من نصف قرن ما معناه:

في رأيي ان التاريخ الحديث للشرق الأوسط يبتدئ مع محمد علي الذي استوعب التأثير الفرنسي الناتج عن حملة بونابرت، وليس مع سقوط الامبراطورية العثمانية عام 1918 كما يرددون غالبا، فالإمبراطورية العثمانية كانت منغلقة على ذاتها وممنوعة على تأثير الغرب قبل ظهور محمد علي وإنجازاته وانفتاحه على العالم الحديث، ثم يستنتج غسان تويني ان الحدث الكبير الذي زعزع الامبراطورية العثمانية او هزها هزاً وأيقظها هو ظهور محمد علي وابنه ابراهيم باشا وفتح سورية ثم التحالف مع فرنسا، بعدئذ دخلت انجلترا على الخط لمنافسة فرنسا وإنقاذ الامبراطورية العثمانية، واخيرا ظهر التحالف بين القوى العظمى الخمس، أي: فرنسا، انجلترا، روسيا، النمسا، وألمانيا، ثم انضافت إليها لاحقا عام 1864 ايطاليا.

نفهم من كلام تويني ان الشرق النائم على التاريخ في ظل امبراطورية منهكة ومريضة لم يستيقظ من نومه إلا بتأثير من صدمة خارجية، أي صدمة الدول الأوروبية، التي كانت آنذاك في ذروة مجدها وحيويتها وانطلاقتها، هذه القوى العظمى، قوى الحداثة والتنوير والجشع الاستعماري في آن معا، هي التي أيقظت الشرق العتيق من نومة أهل الكهف في ظل امبراطورية لم تقدم أي إنجاز علمي أو فلسفي للبشرية طيلة أربعة قرون من تاريخها!.. ثم يضيف غسان تويني قائلا بأنه لكي نفهم سبب النهضة العربية أو أصولها، فإنه ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار المسائل التالية: تحديث اللغة العربية، الترجمات من الفرنسية والانجليزية بشكل خاص، ادخال المطابع الأولى، ثم المنشورات والكتب، وهذه الحركة الثقافية راحت تتصاعد طيلة القرن التاسع عشر.

ويعمّق جيرار خوري كلام تويني قائلا:

ينبغي التركيز على الدور الذي مارسه التأثير الفرنسي في مصر، فالأفكار الثورية، وأفكار المساواة، وبقية الأفكار التي نادت بها الثورة الفرنسية، أثرت حتماً على محمد علي وابنه إبراهيم باشا، ومعلوم ان بعض ممثلي الفلسفة الوضعية على طريقة سان سيمون، ذهبوا إلى مصر وعاشوا فيها ردحاً من الزمن، وبالتالي فقد ساهموا في تطوير الأفكار داخل مصر وداخل الامبراطورية العثمانية ككل..

على هذا النحو انتشرت الأفكار القومية وأفكار التقدم في المنطقة، يردف غسان تويني، والشيء اللافت للانتباه هو انفتاح العرب لأول مرة على العلم الحديث القادم من أوروبا، فقد أبدوا فضولاً معرفياً كبيراً تجاه المكتشفات والمخترعات الجديدة، وظهرت المجلات التي تلخص النظريات العلمية من فيزيائية وكيميائية وبيولوجية لأول مرة في اللغة العربية، وكانوا يتحدثون عن كيفية اكتشاف الكهرباء وكأنهم يتحدثون عن ولادة عالم جديد كليا (لا ريب في أن تويني يشير هنا إلى مجلة «المقتطف» ليعقوب صروف وسواها ولكن دون ان يذكرها بالاسم).

ويرى تويني ان جميع الأفكار التي كانت تتغذّى منها الحركات الأدبية في سورية ولبنان ومصر وبقية المشرق العربي هي أفكار الثورة الفرنسية، فالكتّاب والشعراء كانوا يتغنّون بسقوط الباستيل بصفته رمزاً لتحرير الشعوب.

ولا يناقضه جيرار خوري عندما يقول بأن المنطقة شهدت تياراً عقلانياً ناتجاً عن فلسفة التنوير الأوروبية، وقد انتشر هذا التيار في الامبراطورية العثمانية كما في مصر ولبنان، وبالتالي فإن ما يمكن ان ندعوه بـ «حركة العقل» كان مضاداً للهوية التقليدية العتيقة القائمة على الانتماء الديني او المذهبي فقط.

وعندئذ يطرح جان لاكوتير هذا السؤال: ولكن النهضة فشلت نسبياً فيجيبه غسان تويني ـ وهنا بيت القصيد ـ قائلا هذا الكلام المهم والأساسي:

لقد فشلت النهضة لأنه كان ينبغي ان تتوصل في نهاية المطاف إلى إصلاح ديني حقيقي، وهذا الإصلاح لم يحصل. وهنا تكمن العقبة الكأداء بالضبط، ويمكن التعليق على كلام تويني بالقول: وهكذا عدنا إلى نقطة الصفر من جديد، وبعد مائة وخمسين سنة على مشروع النهضة العربية لا نزال نراوح في مكاننا!، لقد عدنا إلى السؤال الأساسي الذي حاولنا تحاشيه أو لم نستطع مواجهته آنذاك، أقول ذلك وأنا اعتذر لكل النهضويين العرب من الطهطاوي، إلى خير الدين التونسي، إلى جمال الدين الافغاني، إلى محمد عبده، إلى علي عبد الرازق، إلى طه حسين، إلى عشرات غيرهم.. فهم لم يستطيعوا حسم المسألة.

لقد حاولوا وبذلوا كل ما في وسعهم، كل بطريقته الخاصة، لكن المحاولات لم تنجح في زحزحة الصخرة عن مكانها قيد أنملة!، وهكذا نعود نحن من جديد إلى «معالجة» الصخرة على طريقة سيزيف، فهل سننجح يوماً ما؟ لا ريب، لكن بعد زمن طويل ربما، فالمسألة عويصة، والحركات الأصولية المنغلقة لا تزال تتمتع بثقل سوسيولوجي كبير وتحظى بتأييد أعداد غفيرة من الجماهير الشعبية المهانة والمسحوقة في حياتها اليومية وفي كرامتها.

وبالتالي فهناك أسباب سوسيولوجية (اي اجتماعية واقتصادية) لفشل التنوير العربي أو النهضة العربية، ولا يكفي موضعة النقاش على المستوى الفكري أو النظري فقط كما يفعل المتحاورون في معظم الأحيان، لا ريب في أنهم ألمحوا إليها، لكن بشكل غير كاف. فالأفكار وحدها لا تقود العالم، وإنما تقوده ايضا الصيرورة الاجتماعية ـ الاقتصادية، وهذا شيء أصبح واضحا منذ كارل ماركس.

لكن ينبغي الاعتراف بأن السبب الثاني لفشل النهضة العربية لا يهمله المؤلفون وبخاصة غسان تويني، واقصد به المشروع الصهيوني الذي شغل المنطقة واستنفد طاقاتها على مدار قرن كامل ولا يزال، وهنا نلاحظ مدى التضاد بين وجهة النظر العربية ووجهة النظر الأوروبية، وهذا التضاد يعبر عنه جان لاكوتير على النحو التالي:

هناك اختلاف راديكالي في وجهات النظر بيننا نحن الأوروبيين وبينكم انتم الشرقيين فيما يخص المشروع الصهيوني، فبالنسبة للأوروبيين في تلك الفترة أي بعد الحرب العالمية الثانية والمحرقة والنازية فإن هذا المشروع كان يمثل الخير والتصحيح الضروري للمحرقة، واما بالنسبة لكم فكان يمثل الشر وانتهاك حرمة الوطن المقدس، كانت اوروبا كلها آنذاك متعاطفة مع عودة اليهود إلى فلسطين.

ولكن جان لاكوتير نفسه يعترف في مكان آخر من الكتاب بأن الغرب أجرم في حق اليهود ودفّع الآخرين الثمن!، فالشعب الفلسطيني دفع ثمن شيء لم يسمع به ولا علاقة له به على الاطلاق، وهذا من غرائب الامور وعجائب الاقدار.

ويموضع غسان تويني الامور ضمن منظورها الصحيح اذ يقول: بعض الاسرائيليين اصبحوا واعين لمخاطر السياسة الانتحارية التي تنتهجها الدولة العبرية. فهي تنهض كقلعة محصنة او معزولة وسط بحر من العرب والمسلمين، ويخشى هؤلاء الاسرائيليون الذين يفكرون الى ابعد من أنفهم بأن يتوصل العرب يوما ما الى مستوى اسرائيل من حيث الحضارة والسيطرة على التكنولوجيا العسكرية والمدنية، وهو مستوى توصلت إليه الدولة العبرية بدعم من الأوروبيين اولا، ثم الاميركيين ثانيا، وعندئذ يصبح وجود دولتهم في خطر، لذلك فبدون سلام راسخ الجذور فإن اسرائيل لا تستطيع ان تصمد وسط كل هذا المحيط المعادي، فالدعم الدولي قد لا يستمر الى الأبد، ومصالح الدول متقلبة، وقد تدور الدوائر على الدولة العبرية يوماً ما، وبالتالي فمن مصلحة اسرائيل وشعبها ان يحصل السلام على الرغم من انها اقوى من العرب جميعهم في هذه اللحظة، وعلى الرغم من ان الظروف لصالحها في هذه المرحلة، لكن الدهر دوار كما يقول الشاعر: من سره زمن ساءته أزمان..

فهل سيستمع التيار العقلاني داخل اسرائيل الى نداء السلام؟ ربما.. لكن بشرط ان تستغل الادارة الاميركية الوضع الحالي لفرض السلام على الطرفين فرضا، فهي الآن سيدة الموقف بدون منازع، وعندئذ يمكن للتيار العقلاني في الجهة العربية ان ينتصر على التيار المتطرف والغوغائي وتبتدئ مرحلة جديدة في منطقة الشرق الاوسط. وعندئذ يمكن لمشروع النهضة العربية ان ينطلق فعلا ويتفرغ لتحقيق المهام الأساسية التي عجز عن تحقيقها طيلة المرحلة الماضية بسبب انشغاله بمصارعة المشروع الصهيوني.

ان كل المفكرين ذوي النيات الطيبة في اوروبا واميركا والعالم العربي وحتى داخل اسرائيل ذاتها يحلمون بأن ينتصر صوت العقل أخيرا لكي يستتب السلام وتتفرغ شعوب المنطقة لمعركة التنمية والبناء النهضوي والحضاري.

في نهاية الكتاب هناك فصل مخصص لجريمة (11) سبتمبر واسبابها ومسؤولية التيار المتزمت في العالم الاسلامي عنها. وهناك تحليلات لا بأس بها وسؤال وجيه يطرحه جان لاكوتير على النحو التالي: هل يمثل بن لادن الاسلام حقاً؟ وبأي معنى؟ هل هو وريث ثلاثة ارباع القرن من العصر الاصولي الذي قضى على تحديث الاسلام على يد جمال الدين الافغاني ومحمد عبده؟

ويرد غسان تويني لافتا الانتباه الى التناقض الصارخ بين سيطرة بن لادن وجماعته على أحدث التقنيات التكنولوجية والمعلوماتية من جهة، وعلى تخلفهم الآيديولوجي وعقليتهم القروسطية المتزمتة من جهة أخرى. وهو تناقض مدهش بالفعل، على الاقل للوهلة الأولى، ولكن كبار المفكرين كانوا قد نبهوا اليه عندما اكتشفوا ان الاصوليين يملأون ساحات الكليات العلمية والتكنولوجية والطبية في الجامعات العربية. هذا في حين ان عددهم أقل في كليات الآداب أو الفلسفة، أو العلوم الانسانية. وراحوا يطرحون هذا السؤال: كيف يمكن لشخص درس النظريات العلمية والفيزيائية ان يكون اصوليا متعصبا؟ ولماذا يتعلق المتزمتون عادة بكل المخترعات والآلات التكنولوجية التي يكتشفها الغرب، ويرفضون فلسفته وتقدمه على المستوى الفكري والانساني والحضاري؟ بمعنى آخر: ألا يوجد نوع من انفصام الشخصية في تعلقهم بجانب واحد من الحضارة الحديثة ورفض جانبها الآخر رفضا قاطعا؟

وجواب كبار المفكرين، ومن بينهم اركون، هو ان هذا التناقض الذي يصدمنا يعود الى عدم وجود فكر نقدي عن الظاهرة الدينية المتعصبة في العالم الاسلامي. فالجمود الفكري، فيما يخص هذه المسألة، سائد تاريخيا منذ عدة قرون: اي منذ هزيمة الفلسفة واقتلاع جذورها وحلول الفكر اللاهوتي الغيبي أو الصوفي أو الفقهي محلها. وبالتالي فلا ينبغي ان يدهشنا شيء له مبررات موضوعية في ارض الواقع. المثقف الفرنسي أو الاوروبي الحالي لا يعاني من ظاهرة التزمت أو الاكراه في الدين لسبب بسيط هو انه تقف وراءه شخصيات كبرى ليس أقلها: ابراسم، سبينوزا، لايبنتز، مالبرانش، جان جاك روسو، ايمانويل كانط، هيغل، ماركس، الخ.. اما المثقف العربي. فما الذي يقف وراءه؟ لا شيء تقريبا. جمود تاريخي او عطالة ذاتية لا تعرف كيف تنتهي، وصحراء شاسعة واسعة من الفكر أو اللافكر. على مدار الكتاب نلاحظ ان غسان تويني يضع يده على الجرح اكثر من مرة ويثبت انه مفكر تنويري عربي من الدرجة الأولى. وقد حاول اكثر من مرة اقامة مقارنة بين وضع الاصولية المسيحية في الغرب، ووضع الاصولية الاسلامية عندنا. ولكن الفرق هو ان النهضة عندنا فشلت في اخراج العالم العربي من العصر الاصولي، هذا في حين ان النهضة الاوروبية نجحت في ذلك. فالمذهب الكاثوليكي الروماني البابوي كان ايضا متعصبا، بل وينصب محاكم التفتيش ويشعل النيران لحرق الزنادقة!.. ولكنه استسلم في النهاية لحركة العلم والعصر وانفتح على الآخرين وجدد لاهوته القديم ونفض عنه الغبار بل وطرح منه اشياء وعقائد راسخة كانت أعز عليه من قلبه! وهكذا اصبح متسامحا حتى في اسبانيا والبرتغال حيث استمرت الاصولية المرتبطة بالاستبداد حتى سقوط فرانكو وسالازار.. بل واستمرت محاكم التفتيش هناك حتى القرن التاسع عشر، على الرغم من انها كانت قد انتهت في فرنسا، وهي بلد كاثوليكي بامتياز، منذ زمن طويل.

هذا يعني ان لكل بلد ظروفه التاريخية التي تعجل من عملية التحرير الفكري او تؤجلها، وانا افهم غضب غسان تويني ونفاد صبره عندما يقول: المسلمون لا يقتلون الآن المسيحيين. الاحصائيات تقول لنا بأن المسلمين يقتلون مسلمين آخرين. هنا تكمن مأساة الاسلام! (يشير الكاتب هنا الى قتل المثقفين والعلماء في الجزائر، أو مصر، أو ايران، أو باكستان، أو السودان، الخ..).

ثم يضيف تويني قائلا: الاسلام اليوم ينبغي ان يقفز قفزة واحدة مسافة ستة قرون لكي يخرج من ظلمات العصور الوسطى الى انوار العصور الحديثة. ينبغي ان ينتقل من ذلك الشجار العقيم بين السنة والشيعة الى شجار أوسع وأكثر خصوبة: أي صراع الماضي والحاضر. الاصولية والحداثة. ينبغي ان يطرح مسألة العلمانية في نهاية المطاف لكي نخرج من سجن الطائفية والمذهبية الذي ضاق علينا وكلفنا غاليا من دماء الحروب الاهلية.

بالطبع فقد ترجمت كلام تويني بتصرف كبير، ولكن لا اعتقد اني خرجت عن مضمون فكره. وفي نهاية المطاف سوف أقول ما يلي: لست موافقا على عنوان الكتاب. فهذا القرن لم يكن عبثا، لم يكن من أجل اللاشيء.

وذلك لأنه حتى الفشل له معنى ووظيفة. كان ينبغي ان نجرب أنفسنا، ان ننهض، ان نسقط، ان نتعثر، الخ.. فطريق التحرير طويل، وتجربة اوروبا اكبر شاهد على ذلك.

فرنسا ظلت حتى بعد الثورة الفرنسية بقرن كامل تتخبط في مسألة الاصولية الكاثوليكية وتنقسم الى قسمين، قسم يشد الى الوراء وقسم يشد الى الامام. ولذلك فإن إميل بولا، أحد كبار علماء الاجتماع الديني الف مؤخرا كتابا بعنوان: «الحرية، العلمانية، الحرب بين شطري فرنسا ومبدأ الحداثة». والعنوان بحد ذاته شديد الايحاء والدلالة ويشكل برنامجا كاملا للعمل. فالشطر الكاثوليكي ظل يعارض الشطر العلماني التحديثي حتى استسلم اخيرا بعد ان اقتنع بلا جدوى بمواصلة الصراع الى ما لا نهاية. وهكذا قبل بمبادئ الثورة والجمهورية الفرنسية بعد طول تلكؤ وعرقلة. وقد أخذ «فتوى» من بابا روما في نهاية القرن التاسع عشر بذلك. هذا من ناحية.

واما من ناحية أخرى فإذا ما نظرنا الى الفشل من زاوية فلسفة التاريخ الهيغيلية فإننا نجد ان له وظيفة ايجابية لا تقدر بثمن! فلولا الفشل لما كان النجاح، ولولا الخطأ لما اكتشفنا طريق الصح. ولا ينبغي ان تخدعنا المظاهر الحالية للعالم العربي والاسلامي. فوراء الأكمة ما وراءها، وربما كانت تعتمل في الداخل اشياء كثيرة سوف تعبر عن نفسها لاحقا. وبعد الانفجار الاصولي الذي شغلنا طيلة الثلاثين عاما الماضية اتوقع انفجارا معاكسا عما قريب. ولكن ينبغي التحضير له أو مواكبته بالطبع. ينبغي ان يظهر فكر جديد عن التراث الديني في الساحة العربية، فكر نقدي قادر على تدشين نهضة جديدة لا تقل أهمية عن نهضة القرن التاسع عشر ان لم تزد كما ألمح الى ذلك جيرار خوري. ولكن هذه المرة سوف تنجح النهضة، سوف تحسم الامر، ولن نسمح لها بأن تفشل على الاطلاق!.. فالتاريخ هو عبارة عن صيرورة جدلية بحاجة الى السلب لكي تصنع الايجاب. والتاريخ بحاجة الى تفريغ نفسه من الاحتقانات التاريخية المتراكمة على مدار القرون الانحطاطية. وهذا ما يحصل الآن في العالم الاسلامي. فلننتظر اذن حتى تنتهي مرحلة التفريغ وانفجارات الحمم والبراكين الصاعدة من الأعماق.

* قرن كامل من أجل اللاشيء! الشرق الأوسط العربي من الامبراطورية العثمانية الى الامبراطورية الاميركية.

أبو يحى
19-01-2006, 01:34 AM
القاموس الأوروبي للتنوير والصراع بين الفلاسفة والأصوليين

باريس: هاشم صالح


صدر اخيرا في العاصمة الفرنسية قاموس مهم وضروري لكل من يريد ان يتوسع في فكر التنوير وحيثياته. وقد ساهم فيه عشرات الباحثين من فرنسيين واوروبيين، وكل واحد اختص بمعالجة مادة معينة. فهذا الباحث مثلا يدرس مفهوم الكائن الاعلى، كما تبلور لدى فلاسفة ذلك العصر، وذاك يدرس مفهوم المستبد المستنير، وآخر يدرس مفهوم الالحاد وكيف اختلفوا حوله آنذاك، ورابع يتحدث عن مفهوم الحضارة، وخامس عن مفهوم التقدم... الخ.
يقول صاحب المشروع والمشرف عليه المؤرخ ميشيل ديلون، في المقدمة العامة لهذا القاموس الذي يتجاوز الالف ومائة صفحة من القطع الكبير: ان مفهوم التنوير ينطوي على عدة دلالات او معان. فهو يعني اولا تلك الحركة الفكرية التي ظهرت في القرن الثاني عشر في منطقة معينة من العالم هي اوروبا الغربية. ولكنه لم يكن دائما يشكل الاغلبية من حيث الكم ولا من حيث النوعية احيانا. كما انه يعني بعض الاشكاليات المعروفة التي ورثناها عن تلك الفترة. واخيرا فانه يعني ذلك النظام من القيم التي لا تزال سارية المفعول عندنا او التي عادت الى الواجهة مؤخرا واصبحت رهانا للمناقشات الفلسفية الجارية حاليا في اوروبا واميركا. ويرى هذا الباحث ان الحالة الآيديولوجية في نهاية القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين تشهد متغيرات كبيرة ليس اقلها هموم الصراع بين التيارين الكبيرين اللذين تفرعا عن عصر التنوير وفلسفته، واقصد بهما التيار الليبرالي والتيار الاشتراكي او التيار الرأسمالي والتيار الماركسي، كما نشهد حاليا في جميع الاوساط الفلسفية الاوروبية والاميركية مراجعة نقدية لقيم التنوير وانجازاته. وهذه المراجعة تتخذ احيانا طابعا ايجابيا بنَّاء واحيانا طابعا سلبيا هداما، فنحن بحاجة بدون شك الى نقد التصور الكمي والتقني المحض للعقلانية والتقدم مثلا، وهما من قيم التنوير الاساسية. ولم نعد نثق حاليا، وبعد ان جربنا التنوير لمدة مائتي سنة بان التقدم ينبغي دائما ان يكون كميا، ماديا، احصائيا، مفرغا من الابعاد الانسانية. هنا يحق لنا ان ننقد التنوير وننقد تطرفه او غلوه في الاتجاه المعاكس. فالعقلية اللاهثة وراء التراكم الانتاجي المتزايد والربح السريع والاستغلال الصناعي للطبيعة والانسان والبىئة وعدم مراعاة اي عاطفة انسانية او قيمة روحية واخلاقية اصبحت عرضة للانتقاد من قبل كبار الفلاسفة. وهذا ما يحصل الآن من خلال تيارات نقد الحداثة او مراجعة مشروع الحداثة. ولكن هناك نقدا هداما او عدميا للتنوير وينبغي التنبيه اليه والتحذير منه. وهو صادر ليس فقط عن التيارات الاصولية المتزمتة في الكنيسة الكاثوليكية والتي تحن الى القرون الوسطى وتريد العودة اليها. وانما ايضا عن بعض مفكري ما بعد الحداثة من امثال فوكو وديلوز ودريدا وليوتار، وعموم التيار النيتشوي. وهذا النقد الذي له وجاهته فيما يخص بعض المسائل قد يؤدي الى الاطاحة بفكرة العقلانية والتقدم والحقيقة ذاتها! وبالتالي فانه يشكل خطرا على المكتسبات الاساسية للحداثة والتنوير والمتمثلة بتبني النظام الديمقراطي، والاعتراف بالتعددية الدينية والسياسية داخل المجتمع، واقامة دولة الحق والقانون التي لا تفرق بين المواطنين ايا تكن انتماءاتهم العرقية او الدينية. وهذا التيار اليساري المتطرف يلتقي واعيا او غير واع باليمين المتطرف الذي كان دائما حاقدا على الحداثة والتنوير والثورة الفرنسية. في الواقع ان النزعة التفاؤلية التي سيطرت على عصر التنوير، وكذلك النزعة الكونية والعقلانية لفلسفته تعرضتا لانتقادات شديدة ـ واحيانا هدامة ـ من قبل فلاسفة ما بعد الحداثة على الرغم من حسن نيتهم ومقصدهم. فبحجة انه حصلت انحرافات بشعة في ظل الحضارة التي تنتمي الى التنوير فانه ينبغي التراجع عن مشروع التنوير ذاته! ولكن انجازات التنوير واضحة للعيان.

ويكفي ان نقارن بين بلد ديمقراطي، علماني، حديث، وبين بلد اصولي، متزمت، مستبد، لكي نرى الفرق واضحا جليا. واذن فنحن نقول:

نعم لنقد تجربة التنوير وغربلتها وفرز الصالح عن الطالح فيها. لا، للنزعة العدمية او الاصولية التي تريد ان تطيح بالمكاسب العظيمة للتنوير وفي طليعتها: ارساء دولة الحق والقانون والاعتراف بحرية الاعتقاد والضمير. فهذا مكسب لا ثمن له، ولا تعرف قيمته الا الشعوب المحرومة منه، وما اكثرها على سطح هذه الارض. وبالتالي فاذا كانت الشعوب الاوروبية ـ او بعض شرائحها ـ قد ملت من التنوير من كثرة ما جربته وعاشت في ظله واستمتعت بحرياته معتقدة انها بدهية، فان شعوبا اخرى عديدة لا تزال تحلم بالتنوير والحرية والتعددية والكرامة الانسانية. لذلك قلت اكثر من مرة في مقالاتي السابقة بان نقد الحداثة او التنوير يبدو خطرا بالنسبة للجمهور العربي او الاسلامي الذي هو بأمس الحاجة الى التنوير. وبالتالي فلا ينبغي نقل نظريات ما بعد الحداثة او ما بعد التنوير الى الساحة العربية قبل نقل نظرية الحداثة نفسها ونظرية التنوير نفسها. فقد يتوهم الجمهور الاسلامي او العربي ان التنوير شيء سلبي بدليل ان فلاسفة اوروبا وامريكا ينتقدونه! وهو لا يعرف عندئذ انهم ينتقدون الشوائب السلبية التي لحقت بتجربته طيلة القرنين الماضيين، ولا ينقدون جوهره او مضمونه ولا يريدون بأي شكل العودة الى ما قبل التنوير والحداثة: اي الى عصور التزمت والاصولية اللاهوتية القديمة. وبالتالي فينبغي ان نعرف كيف نميز بين الامور لكيلا نخطئ في التقييم. انها مسألة عويصة وحرجة فعلا مسألة نقل النظريات الفكرية من الغرب الى العالم العربي او الاسلامي. فبسبب التفاوت التاريخي الكائن بين مجتمعاتنا ومجتمعاتهم، بين تأخرنا وتقدمهم، وبسبب انهم عاشوا تجارب سياسية وفلسفية ضخمة لم نعشها بعد ولم نعرفها، فاننا قد نخطئ في كل لحظة في الفهم والتأويل. ولذلك اقول: لا ينبغي نقل اي نظرية فكرية غربية بدون نقل السياق العام المحيط بها، وكذلك حيثياتها ومسبباتها لكي نفهمها على حقيقتها.

فيما يخص هذا القاموس الكبير سوف اتوقف عند احدى مواده المهمة: مادة اللاهوت. نقول ذلك ونحن نعلم ان فلاسفة التنوير اصطدموا برجال الدين ولاهوتهم القديم، بل ودارت هنا رحى معركة اساسية، وربما المعركة الاكبر للتنوير. يرى الباحث الذي كتب هذه المادة ان التنوير الفرنسي يختلف عن التنوير الالماني فيما يخص هذه النقطة. فالاول كان اكثر عداء للعقائد اللاهوتية المسيحية. لماذا؟ لان المذهب الكاثوليكي السائد في فرنسا كان اكثر انغلاقا وتزمتا من المذهب البروتستانتي السائد في المانيا، بلد لوثر والاصلاح الديني. يضاف الى ذلك ان التنوير كحركة عامة كان مرتبطا بازدهار العلوم الطبيعية والفيزيائية. ولذلك اسس ديدرو موسوعته المشهورة لكي تجمع بين دفتيها مجمل المعارف العلمية المتوافرة في عصره. ثم قال بانه ينبغي تطبيق هذه المعارف العلمية من خلال التقنية او الآلات التكنولوجية الوليدة. وهذه التقنية ينبغي ان تستغل بدورها من قبل الصناعة والتجارة لتطوير المجتمع وتحقيق التقدم. في هذه الكلمات المعدودات نجد المشروع الاكبر للتنوير الفرنسي: اي احلال المجتمع العلمي والصناعي محل المجتمع اللاهوتي والزراعي القديم. وهنا تبدو راديكالية الانوار الفرنسية.

وقد انتشرت هذه الافكار شيئا فشيئا في الاوساط البورجوازية الصاعدة حتى حرفت ابناءها عن العقائد الدينية والكنسية. فلم يعودوا يصلون ويتعبدون كما في السابق. وراحت الكنائس تفرغ تدريجيا من «المؤمنين» حتى تحولت الى ما يشبه المتاحف. وهذا ما ادى الى علمنة المجتمع الفرنسي في نهاية المطاف. ولكن ذلك لا يعني نهاية الايمان او قمعه، وانما كل ما في الامر هو انه اصبح حرا، شخصيا. فالعلمنة لا تعني الالحاد ابدا وانما الحرية الدينية.

كيف كان موقف اللاهوتيين الفرنسيين من هذا المشروع الخطير الذي يهدد رؤياهم للعالم بأسرها؟

لقد حاربوه بعنف ورفضوه جملة وتفصيلا. وعندئذ حصلت المعركة الضارية بين الاصوليين والعقلانيين. لقد انكفأ معظم رجال الكنيسة على انفسهم وحاربوا هذا المشروع الجديد عن طريق الاحتماء بالفكر التبجيلي والتسليمي اللاهوتي الموروث اباً عن جد منذ مئات السنين. وفعلوا كالنعامة التي دفنت رأسها في الرمال معتقدة بانها تتحاشى الخطر اذا ما رفضت ان تراه.. وهكذا ظل اللاهوت المسيحي في عصر التنوير هو نفسه تقريبا: اي ظل تقليديا، اصوليا، متزمتا، لقد رفض معظم رجال الدين التعامل مع الافكار الجديدة واعلنوا عليها العداء. ونصحوا «المؤمنين» بتحاشيها لانها رجس من عمل الشيطان. فيما بعد، اي في القرن التاسع عشر وبخاصة العشرين، سوف تحصل الثورة اللاهوتية في المسيحية. وسوف ينشأ لاهوت ليبرالي جديد يقبل بالانفتاح على فلسفة التنوير وقادر على التصالح مع الحداثة. ولكن في القرن الثامن عشر كان التشنج لا يزال هو سيد الموقف. وكان الصدام مع الحداثة العلمية والفلسفية امرا محتوما مثلما هو حاصل حاليا في العالم الاسلامي.

سوف انتقل الى مناقشة مفهوم آخر من مفاهيم هذا القاموس العتيد هو: التسامح ومعلوم انه شغل فلاسفة التنوير كثيرا نظرا الى ان التعصب الديني كان مهيمنا آنذاك على الارواح والعقول. وكانت العصبية الطائفية او المذهبية هي الشغل الشاغل لكبار المثقفين.

فقد كانت تنخر في جسد المجتمع وتهدده بحروب اهلية ومذابح مستمرة. وكان الاصوليون يستخدمونها كسلاح سياسي فعال لارهاب خصومهم. يرى فولتير في «قاموسه الفلسفي» ان التسامح هو جوهر النزعة الانسانية، وهو العلاج الوحيد لداء التعصب الذي يمزق المجتمع الفرنسي، لكن كيف نشأ مفهوم التسامح؟ وضمن اية ظروف؟ وكيف تحول الى قيمة كبرى في عصر التنوير او بدءا من عصر التنوير؟ هنا ايضا لا يمكن ان نفهم هذا المصطلح الا اذا موضعناه ضمن سياقه التاريخي. فالافكار لا تنشأ في الفراغ ولا تنتشر الا اذا كانت تلبي حاجة تاريخية معينة. ففلاسفة التنوير قالوا بما معناه: لا يمكن ان نسكت على ما يجري من تعصب لانه يهدد المجتمع في بنيته وتماسكه ووحدته. وعندئذ تجرأوا لاول مرة على تفكيك اللاهوت الاصولي القديم الذي كان يسيطر كحقيقة مطلقة على عامة البشر، بل وحتى على قسم كبير من المثقفين! هنا تتجلى عظمة شخصيات من امثال: ديدرو، فولتير، جان جاك روسو، ليسنغ، كانط، هيغل... الخ. ومن قبلهم سبينوزا. هؤلاء هم ابطال الفكر في اوروبا. عندئذ حصل لاول مرة تفكيك بمفهوم الاصولية المسيحية التي تقدم نفسها بمثابة الحقيقة اللاهوتية: اي الالهية، المطلقة، المقدسة. وكشفوا عن طابعها البشري او الارضي من خلال الحفر عن الاصول التاريخية للعقائد المسيحية.

بل وراحوا يقارنون بين المسيحية والاديان الاخرى لكي يكشفوا بشكل افضل عن تاريخية جميع العقائد اللاهوتية ونسبيتها. ولكن المشكلة هي ان المؤمن التقليدي المنغلق كليا داخل اطار عقيدته الخاصة لا يستطيع ان يرى ذلك على الرغم من انه واضح وضوح الشمس! فلو اراد الله للبشر دينا واحدا او مذهبا واحدا، لكان قادرا على ان يهديهم اليه في رمشة عين، ولكان هذا الدين قد انتشر كونيا وعم البشرية بأسرها. ولكننا نعلم ان هناك اديانا اخرى في العالم غير المسيحية.

وبالتالي فان زعم الاصوليين بأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة لوحدهم من دون بقية البشر شيء لا يصمد امام الامتحان. يضاف الى ذلك ان هذا الزعم شيء خطير جدا لانه يتيح لنا ان ندين لاهوتيا كل من ليس على عقيدتنا او مذهبنا. وهذه الادانة اللاهوتية تجيز شرعا قتل هذا الشخص الخارج على الحقيقة المطلقة! وعلى هذا النحو قامت محاكم التفتيش وملاحقة المفكرين والعلماء، بل وتصفيتهم جسديا في احيان كثيرة.

هكذا راح ينبثق للمرة الاولى، وفي اوروبا التنويرية، تصور جديد عن الدين او التدين. وهو تصور يختلف جذريا عن التصور الاصولي المتزمت والراسخ منذ مئات السنين. على هذا النحو استطاع الفلاسفة ان يفتحوا ثغرة في الجدار المسدود للتاريخ. وكانت بداية التحرير، بداية العصور الحديثة.

أبو يحى
19-01-2006, 01:35 AM
عوامل داخلية وراء التأزم الخطير للعالم الإسلامي

هاشم صالح


في كتابه الصادر قبل بضعة اسابيع في باريس يحاول عبد الوهاب المؤدب ان يشخص المرض العضال الذي نعاني منه حاليا والذي تفاقم مؤخرا وادى الى تفجيرات 11 سبتمبر (ايلول) 2001. والمؤلف المذكور هو شاعر وكاتب تونسي يكتب بالفرنسية ويقيم في باريس منذ سنوات عديدة. وهو استاذ الادب المقارن في جامعة باريس العاشرة (نانتير)، كما انه رئيس تحرير مجلة دولية تدعى «ديدال» اي متاهة باللغة الفرنسية. يضاف الى ذلك انه يشرف على برنامج بعنوان «ثقافات الاسلام» في اذاعة فرنسا الثقافية. ويبدو انه شعر، كمعظم المثقفين العرب المقيمين في الخارج، بل كمعظم ابناء الجاليات العربية والاسلامية، بنوع من الغضب والهم بعد احداث 11 سبتمبر. ولذلك امسك بالقلم وراح يعبر عن انفعالاته ومشاعره تجاه حدث ضخم من هذا النوع. فهو كعربي او كمسلم يشعر بأنه معني بالدرجة الاولى لان الانظار تتركز عليه وكأنها تسأله: لماذا فعلتم ذلك بنا؟ من انتم بالضبط؟ وهل يقر دينكم مثل هذه الاعمال؟ اقصد بذلك بالطبع انظار الفرنسيين او الغربيين بشكل عام.
وبما ان عبد الوهاب المؤدب معتز بأصوله العربية الاسلامية ويحب تراثه وبخاصة في جانبه الروحي والصوفي والشعري منه، فإنه لم يستطع ان يكبت غضبه وانفعاله فكان هذا الكتاب. انه كتاب صادر من الاعماق ويشعر القارئ بلهجة الصدق فيه وبالكثير من الغيرة على المصلحة الاسلامية والعربية. ولهذا السبب فإنه لا يجامل ابناء قومه وانما يواجههم بالحقيقة المرة منذ الصفحة الاولى. يقول بالحرف الواحد:

«ان التفجيرات الهائلة التي حصلت يوم 11 سبتمبر والتي اصابت الولايات المتحدة في الصميم هي جريمة. انها جريمة اقترفها اصوليون متطرفون، لكن لا ينبغي ان نفصل جريمة 11 سبتمبر عن بقية الجرائم السابقة لها والتي ادت الى سقوط مائة وخمسين الف قتيل في الجزائر مثلا، او الى اغتيال عشرات المثقفين والاشخاص العاديين في مصر والسودان وايران وافغانستان وباكستان.. الخ.

وميزة المؤلف هي انه لا يكتفي بمعالجة ظاهرة التزمت من خلال الزمن القصير والاحداث الجارية كما يفعل الصحافيون عادة. وانما يموضعها ضمن منظور طويل وشريحة زمنية تعود الى الوراء مدة ألف سنة على الاقل! وهذه هي المعالجة الجذرية لظاهرة الاصولية. فلكي نفهمها جيدا ينبغي ان نعود الى جذورها العميقة التي تشرش في ماضينا العربي الاسلامي ذاته.

ونفهم من كلام عبد الوهاب المؤدب ان النصوص الدينية المقدسة في الاسلام وغير الاسلام يمكن ان تقرأ بوجهين. فإذا ما اخذنا النص على حرفيته فإنه يمكن ان نجد فيه آيات تدعو للعنف، ويمكن ان نجد فيه آيات اخرى تدعو للعفو والرحمة والمغفرة، والثانية اكثر من الاولى في القرآن الكريم على عكس ما يظن الجهلة في الغرب. ومن الواضح ان الحركات الاصولية المتزمتة لا تأخذ الا بالآيات الاولى ولا تركز الا عليها لتبرير التفجيرات الارهابية التي تقوم بها تحت اسم الجهاد.

هذا يعني ان القراءة المتزمتة للنصوص الدينية واردة، مثلما ان القراءة المنفتحة او المسؤولة واردة ايضا. ولكن حتى الآيات التي قد تخلع المشروعية على مشاريع الاصوليين ظاهريا، يمكن ان تقرأها بطريقة اخرى تسحب البساط من تحت اقدام هؤلاء الاصوليين بالذات. كيف؟ عن طريق الاستعانة بكبار المفسرين الكلاسيكيين الذين كانوا اكثر عقلانية واحساسا بالمسؤولية من جهلة الاصوليين اليوم.

ويمكن ايضا ان نقرأها على ضوء العقلية الحديثة التي تعرف كيف تميز بين الاشياء وكيف تجعل المضمون العنيف لهذه الآيات نسبيا عن طريق ربطها بسياقها الزمني والتاريخي. فما كان ينطبق على بدايات الاسلام وضمن ظروف معينة لا ينطبق بالضرورة على ظروفنا الحالية التي اصبحت مختلفة تماما.

وبالتالي فإن الاصوليين يتلاعبون بالآيات على هواهم ولخدمة آيديولوجيتهم العدوانية، هذا في حين ان كبار المفسرين الكلاسيكيين وكبار الفقهاء ايضا كانوا حذرين جدا عندما يتعلق الامر بمسائل حساسة كالتكفير او الدعوة للجهاد او تبرير العنف والاغتيالات. وما كانوا يلقون الكلام على عواهنه كما يفعل فقهاء الظلام اليوم.

ولكن التيار المتزمت والعنيف وجد دائما في تاريخ الاسلام بالاضافة الى التيار العقلاني او الروحاني الصوفي. وقد ادى الى الكوارث وارتكاب المجازر اكثر من مرة على مدار التاريخ. كما انه خنق حرية التفكير اكثر من مرة. وبالتالي فلا يمكن اتهام الاسلام ككل بالتعصب كما يفعل المغرضون والمعادون وانما فقط احد تياراته. فما علاقة ابن عربي بالتعصب او ابن رشد مثلا؟ ولكن التزمت حصل في اوروبا ايضا اثناء سيطرة المسيحية وبخاصة في مذهبها الكاثوليكي.

وهنا يستشهد عبد الوهاب المؤدب بفولتير وموقفه الحازم من الاصوليين الكاثوليكيين الذين ارتكبوا مجزرة سانت بارتيليمي الشهيرة بحق ابناء وطنهم البروتستانتيين، وكان ذلك عام 1572، اي في اواخر القرن السادس عشر. ثم استمرت المجازر المذهبية او الطائفية في فرنسا طيلة قرنين من الزمن: اي حتى نهايات القرن الثامن عشر. بعدئذ حصل تنوير العقليات وتراجع التعصب كثيرا بالقياس الى ما سبق حتى اختفى نهائيا من البلدان الاوروبية المتقدمة.

ولكن بما ان التنوير الفكري لم يحصل حتى الآن في العالم الاسلامي فإن الفهم المتزمت للدين لا يزال هو سيد الموقف. واصبحت الفتاوى العشوائية او الفوضوية تنهال علينا من كل حدب وصوب. فكل شيخ صغير او كبير يمكن ان يدلي بفتوى تأمر بقتل هذا او تحلل دم ذاك، او تكفر شخصا ثالثا.. الخ. وهذا الوضع اصبح خطيرا جدا ويهدد السلام الاجتماعي ليس فقط في العالم العربي والاسلامي وانما في العالم ككل، بل يعيدنا الى محاكم التفتيش التي كانت اوروبا قد تجاوزتها منذ مائتي سنة على الاقل.

ثم يحاول عبد الوهاب المؤدب ان يفهم سبب هذا الوضع الفكري والاجتماعي البائس الذي وصلنا اليه. ويرى ان هناك اسبابا داخلية واخرى خارجية ادت الى شيوع التزمت وتفاقم الوضع. ثم يبتدئ بتحليل الاسباب الداخلية لانه لا يريد ان يتهرب من المسؤولية، كما يفعل الكثير من المثقفين العرب. فهو يريد ان يكنس امام بيته اولا قبل ان يتهم الآخرين ويلقي عليهم بمسؤولية ما حصل، وهذا موقف جاد ومسؤول لمفكر عربي ينخرط في نقد الذات ولا يتوانى عن قول الحقيقة حتى ولو كانت جارحة او قاسية بالنسبة لأبناء قومه او دينه.

في الواقع ان هذا الموقف النقدي من الذات هو ما نحتاجه الآن، لان صديقك من صدقك القول لا من صدّقك على طول الخط وجاملك وراوغك. وقد مللنا من تلك الخطابات الآيديولوجية المستهلكة لمعظم المثقفين العرب الذين يرفضون ان يتحملوا مسؤولية ما يجري ويلقون بالتبعة دائما على الامبريالية والاستعمار.. الخ. وهذا موقف لا مسؤول، ولا يؤدي الى اي نتيجة ايجابية. فمن الواضح ان العرب او المسلمين لن يتقدموا الا بعد ان ينخرطوا في عملية نقد جذرية لتراثهم وتاريخهم وماضيهم المتراكم.

وفي ما يخص الاسباب الداخلية للمرض الذي نعاني منه اليوم يرى عبد الوهاب المؤدب ما يلي: ان العالم الاسلامي لا يزال حتى الآن يشكو من انهيار حضارته الكلاسيكية وسبق الآخرين له، انه لم يفق من هول هذه الصدمة حتى الآن. فهو لا يفهم كيف يمكن للمسيحيين الاوروبيين ان يتفوقوا عليه ويصبحوا اساتذته واسياده بعد ان كان هو استاذهم وسيدهم. هذا الوضع المعكوس لا يستطيع المسلم ان يهضمه حتى الآن.

فمن الواضح ان الحضارة العربية ـ الاسلامية كانت رائعة وتشكل منارة لبقية الشعوب، خاصة الشعوب الاوروبية. ولكنها انهارت وزالت واصبحت في خبر كان.. ولهذا السبب فإن المسلم اصبح منفعلاً لا فاعلاً، ومقوداً لا قائداً. وهذا الشيء لا يستطيع ان يفهمه ولا أن يقبله لأنه يعتبر نفسه بمثابة الممتلك للاعتقاد الصحيح والآخرين على ضلال. فكيف اتيح لهم ان يسبقوه اذن وهو المفضل عند الله؟ على هذا النحو وقع العربي أو المسلم في ما يدعوه عبد الوهاب المؤدب بمشاعر الحرارة والنقمة على الآخرين الذين سبقوه حضارياً. وهي مشاعر هدامة ومدمرة ولا تؤدي الى اخراجنا من وهدة الانحطاط اذا ما اكتفينا بها او توقفنا عندها. ولكنها قد تدفع بالمتزمتين فينا الى ارتكاب مالا تحمد عقباه: تفجيرات 11 سبتمبر مثلاً.

لقد كنا مركز العالم حضارياً بين القرنين التاسع والعاشر (بغداد العباسية)، ثم القاهرة الفاطمية (القرن الحادي عشر)، ثم القاهرة المملوكية (بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر).

بعدئذ انتقل مركز الحضارة الى اوروبا وعبر المتوسط الى الضفة الاخرى المقابلة لنا. لقد انتقل الى جنوا وفينيسيا اولاً، قبل ان يبتعد كثيراً عن العالم الاسلامي ويصل الى امستردام في القرن السابع عشر، ثم الى لندن في القرن التاسع عشر، ثم الى نيويورك في القرن العشرين. بعدئذ هجرتنا «الروح» كما يقول هيغل، او الحضارة كما يقول الآخرون ولم تعد الينا قط. ونحن حتى الآن لا نزال نندب حظنا ونبكي ماضينا الغابر وحضارتنا المجيدة التي توقفت وهي في اوجها.

ويرى عبد الوهاب المؤدب ان القصور الحضاري دب في عروقنا وشروشنا بدءاً من القرن الرابع عشر. ولكننا لم نشعر بنتائجه وآثاره الا بعد ان استيقظنا على وقع جحافل نابليون بونابرت في نهايات القرن الثامن عشر. عندئذ ادركنا ان الآخرين سبقونا فعلاً، وبمسافات شاسعة، في جميع الميادين: من عسكرية وتكنولوجية، وعلمية، واقتصادية، وثقافية، وسياسية..

والواقع ان عصر التنوير هو الذي فصل ليس فقط بين الغرب وبيننا، وانما بين الغرب وجميع الحضارات البشرية الاخرى كالحضارتين الصينية او الهندية او سواهما. فبدءا من تلك اللحظة، اي بدءاً من القرن الثامن عشر، اصبحت اوروبا في واد، وبقية العالم في واد آخر. وبدءا منها اقلعت اوروبا حضارياً وتفوقت على العالم كله، بل سبقت عالم الاسلام بسنوات ضوئية.

ثم ينتبه المؤلف الى نقطة اساسية واعتقد انه اخذها عن العالم المصري رشدي راشد. وهي تقول بما معناه: لقد وصل العالم الاسلامي في تطوره العلمي والفلسفي الى عتبة الحداثة الاوروبية ثم انقطعت حضارته فجأة وتوقفت. وانه لشيء مؤلم هذا التوقف في آخر لحظة. ما هي هذه العتبة التي وصلنا الى حافتها ثم سقطنا دونها او تراجعنا عنها؟ انها تتمثل بكل بساطة بثورة العلم الحديث التي تحققت على يد الاسماء الاربعة التالية: كوبرنيكوس، كيبلر، ديكارت، غاليليو. كان يمكن ان نقوم نحن بهذه الثورة لولا انهيار حضارتنا في آخر لحظة.

ثم يشير المؤلف الى سبب آخر داخلي ادى الى انهيارنا الحضاري وهو: انتصار اهل التقليد والتفسير الحرفي على المعتزلة بعد معركة ضارية استمرت منذ عهد المأمون وحتى عهد المتوكل. بعدئذ قصم ظهر المعتزلة ـ اي المذهب العقلاني والتأويلي في الاسلام ـ ولم تقم لهم قائمة حتى الآن. ولهذا السبب فإن الحركات الاصولية المتزمتة تسيطر على الشارع الاسلامي بكل هذه الكثافة. فالتيار العقلاني كان قد اجهض وحورب الى درجة انه اختفى نهائياً من الساحة.

وهكذا توهم الناس ان الاسلام يختزل فقط الى التيار الحرفي المتشدد، وانه كان دائماً هكذا، وسيظل هكذا الى ابد الآبدين. لا احد يذكر ان الاسلام كان تعددياً في الفترة الكلاسيكية الحضارية، فترة العطاء والانتاج والمناقشات الكلامية والفلسفية. كل الناس يعتقدون ان الاسلام هو هذا التيار المتزمت وكفى.

هناك سبب آخر ايضا لانهيارنا الحضاري وهو اقتصادي مادي. فقد تحولت الخطوط التجارية عن منطقتنا لصالح اوروبا بدءاً من القرن الحادي عشر. وضمرت بورجوازيتنا بالتالي، وكانت هي الداعمة للخط العقلاني في الاسلام سواء أكان لاهوتياً على طريقة المعتزلة، ام فلسفياً على طريقة الفلاسفة والادباء الكبار من امثال: الكندي، والفارابي، والجاحظ، والتوحيدي، وابن سينا، وابن رشد، والمعرى، وابي نواس، وابي بكر الرازي، وآخرين عديدين.

وفي العصر الحاضر اجهض التيار العقلاني مرة اخرى. فالفكر التجديدي للامام محمد عبده وجمال الدين الافغاني وعلي عبد الرازق وسواهم هزم امام فكر حسن البنا وجماعة الاخوان المسلمين. وكانت النتيجة ان حصدنا ما حصدناه: اي الصعود الذي لا يقاوم لحركات التزمت والانغلاق الفكري. وبالتالي فهناك اسباب قريبة وبعيدة لهذه الهزيمة الحضارية المتواصلة منذ عدة قرون.

واما في ما يخص الاسباب الخارجية للمأساة العربية والاسلامية الراهنة فتعود الى عدة عوامل ايضا. نذكر من بينها خيانة الغرب لمبادئ التنوير وحقوق الانسان وتغليب مصالحه عليها في كل مرة يضطر فيها الى الاختيار بين المبادئ والمصالح.

ونذكر من بينها ايضا استعمار فلسطين وموافقة الغرب على هذا المشروع اللاأخلاقي بشكل صارخ. وهنا ايضا فإن الغرب خان مبائ التنوير والعدالة. ثم يطرح عبد الوهاب المؤدب عدة اسئلة متلاحقة على الاميركان والاسرائيليين ويقول لهم: لماذا لا تضغط اميركا بكل ثقلها لايجاد حل عقلاني بين فلسطين واسرائيل، حل يؤدي الى اقامة دولة فلسطينية بجانب الدولة الاسرائيلية مع القدس كعاصمة مشتركة؟ الا تكفي جريمة 11 سبتمبر لكي تفتح اميركا عينيها؟ لماذا لا تجبر اميركا اسرائيل على تفكيك مستوطناتها الاستعمارية؟ لماذا لا تعترف اسرائيل بالمسؤولية الاخلاقية عن تهجير الفلسطينيين من ديارهم؟ لماذا لا تعترف، مجرد اعتراف، بأن تأسيسها كان السبب في التراجيديا الفلسطينية التي شغلت القرن العشرين كله؟

اسئلة متلاحقة يطرحها عبد الوهاب المؤدب وهو لا يكاد يتمالك نفسه من الغضب! وهو يطرحها من منظور الايمان بالسلام والاعتراف بالواقع الاسرائيلي بشرط تأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة واعادة الاعتبار الى هذا الشعب المنكوب الذي اقتلع اقتلاعاً من جذوره، وتاريخه وارضه.

واخيراً فإنه يتفق مع ارنست رينان على القول بأنه اذا كانت الأديان تفرق بين البشر، فإن العقل يجمع بينهم لأنه لا يوجد الا عقل واحد. وهذا صحيح فالمنهجية العقلانية المستخدمة في كلية العلوم في هارفارد هي نفس المنهجية المستخدمة حالياً في جامعات بكين او طوكيو او الرياض او باريس او الرباط.. الخ. نعم هناك وحدة للروح البشرية وينبغي التركيز عليها وتنمية الحوار التفاعلي بين الثقافة الاسلامية والثقافات الاخرى. نعم ان المستقبل هو للحضارة العربية الاسلامية المتجددة والانسانية.

أبو يحى
19-01-2006, 01:36 AM
كيف وأين يلتقي الإخوان المسلمون وبرنارد لويس

باحث تونسي يطرح أسئلة حارقة بالفرنسية حول الدين والسياسة في الساحة الإسلامية


باريس: هاشم صالح

يتناول هذا الكتاب الرائع بكل المقاييس المشكلة التي تشغل العالم كله حالياً: أقصد مشكلة العلاقة بين الدين والسياسة في الاسلام. وهو لا يتحاشى طرح الاسئلة الحارقة أو الحرجة من نوع: هل حقاً ان الاسلام دين عنف كما تزعم وسائل الاعلام الغربية بعد (11) سبتمبر وما تلاه؟ هل حقاً انه يختلف جذرياً عن بقية الأديان كما يزعم برنارد لويس وقسم كبير من الباحثين والمستشرقين والصحافيين الغربيين؟ هل حقاً انه يرفض التفريق بين الدين والدنيا أو بين الروحي والزمني على عكس المسيحية التي فرقت بينهما منذ البداية كما يزعم برنارد لويس ايضاً وعشرات المثقفين الآخرين بمن فيهم المثقفون العرب؟

بمعنى آخر: هل هو في جوهره دين مضاد للعلمانية والحرية في حين ان المسيحية دين يحبذ العلمانية ويسمح بها؟ وبكلمة اخرى، ولنقلها بالعربي الفصيح، هل هو دين التخلف والجهل والتعصب، في حين ان المسيحية هي دين التقدم والحضارة والتسامح؟

أسئلة عديدة يطرحها كتاب محمد شريف فرجاني. وهو يجيب عليها بكل جرأة وسعة اطلاع وقدرة على التحليل والتركيب والاستنتاج. وهو يخوض المعركة على جبهتين اثنتين: جبهة أصوليي الاستشراق وعلى رأسهم الثعلب العجوز برنارد لويس، وجبهة الاصوليين الاسلامويين من كل الانواع والاصناف وعلى عكس ما نظن فإن هذين التيارين المعاديين جداً لبعضهما البعض يلتقيان موضوعياً حول عدة اطروحات أساسية تخص الاسلام ويرسخان نفس الأحكام المسبقة والشائعة عنه في الشرق والغرب. وأولها اطروحة أن الاسلام دين ودنيا ويرفض الفصل بينهما على عكس المسيحية. فالاخوان المسلمون يقولون نفس الشيء عن هذه المسألة ولا يختلف كلامهم اطلاقاً عما يقوله برنارد لويس. هناك فرق واحد فقط: هو انه يعتبر ذلك علامة تخلف حضاري في حين انهم يعتبرونه علامة تفوق للاسلام على جميع الاديان!... فبما انه يشمل كل شيء من المهد الى اللحد فإنه أهم من غيره وأفضل كما يظنون.

كل القسم الأول من كتاب هذا الباحث التونسي الفذ مكرس لتفكيك هذه الاطروحة ونقضها من أساسها. من هنا تجيء أهمية هذا الكتاب التحريري للعقول والذي جاء في وقته. فالواقع انه من كثرة هيمنة هذه الاطروحة على الأوساط الثقافية وحتى الناس العاديين في الشرق والغرب كدنا نتوهم انها حقيقة مطلقة لا تقبل النقاش، هذا ناهيك عن المراجعة والنقد. فالاسلام في نظر هؤلاء دين شمولي، توتاليتاري، كلياني، لا يقبل اطلاقاً بالتمييز بين المجال الديني والمجال الدنيوي ناهيك عن الفصل بينهما. فلا تعذبوا أنفسكم اذن أيها العرب أو المسلمون ولا تحاولوا ان تتقدموا الى الأمام أو تتطوروا لان دينكم يرفض ذلك رفضاً قاطعاً. وبالتالي فكل محاولاتكم ستبوء بالفشل الذريع وما عليكم الا ان تستسلموا للمقادير وللتفسير القديم لرجال الدين وللحكم الثيوقراطي والانظمة الاستبدادية.

بل وحتى مكسيم رودنسون الماركسي، المادي، التقدمي، وقع في فخ برنارد لويس واطروحته الشهيرة (التي هي اطروحة المسلمين المحافظين ايضاً، ينبغي ألا ننسى ذلك). فهو ايضاً يقول بخصوصية الاسلام قياساً الى عائلة الأديان التوحيدية كلها. فهو على عكسها يرفض الفصل بين الدين والسياسة، أو بين القضايا اللاهوتية بحسب تعبيره والقضايا السياسية، هذا في حين ان اليهودية والمسيحية تقبلان بالفصل وبالتالي تسمحان بالتطور.

وهكذا أغلقت علينا الأبواب من كل النواحي وما عاد بالامكان الخروج منها. فما العمل؟ ما الحل؟ الحل، بحسب المؤلف، يكمن في النظر الى التاريخ المحسوس كما جرى في كلتا الجهتين: أي الجهة الاسلامية الشرقية، والجهة المسحية الأوروبية. وعندئذ نكتشف ان المسيحية فعلت نفس الشيء في المجتمعات التي هيمنت عليها، تماماً كالاسلام. ولم تقبل بالعلمانية وفصل الكنيسة عن الدولة الا بعد سلسلة من المعارك الفكرية والسياسية بل وحتى العسكرية. وبالتالي فلا خصوصية للاسلام فيما يخص هذه الناحية ولا من يحزنون. وكل اطروحة برنارد لويس، والاخوان المسلمين معه، تسقط من تلقاء ذاتها! وسبب تخلف المجتمعات الاسلامية حالياً لا يعود الى الدين في جوهره وانما الى الفهم الخاطىء للدين: اي الفهم الظلامي التوتاليتاري بالذات.

لننظر الى التاريخ الواقعي المحسوس، وبشكل مقارن ودقيق. صحيح ان الانجيل قال: ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. ولكن هذا لم يمنع المسيحية من ان تقفز على السلطة السياسية عندما سنحت الظروف واعتنقها الامبراطور الروماني قسطنطينوس الكبير عام (330)م ثم اصبحت بعدئذ دين دولة في عهد كل الأباطرة والملوك، تماماً كالاسلام في عهد الخلفاء والسلاطين بدءاً من الامويين وانتهاء بالعثمانيين، بل وحتى الآن. ولم تقبل المسيحية ان تفلت السلطة السياسية من أيديها الا بالقوة وبعد الثورة الفرنسية التي أزاحت رجال الدين عن عروشهم، بل وحتى بعد انتصار الثورة الفرنسية وقيام النظام الجمهوري العلماني الجديد على أنقاض النظام الكاثوليكي الملكي القديم ظلت المسيحية تقاوم حركة التقدم والتطور لمدة مائة سنة اضافية: أي حتى نهاية القرن التاسع عشر تقريباً. ولم تستسلم للأمر الواقع الا بعد ان شعرت بانه لم يعد هناك أي جدوى للمقاومة، بل وسوف تخسر كل مواقعها المتبقية اذا ما أصرت على معاندة حركة التاريخ والتقدم. ثم يقولون لك بعد كل ذلك: المسيحية هي دين العلمانية، أو هي الدين الوحيد الذي يسمح بالخروج من النظام الثيوقراطي القروسطي الظلامي، الخ..!..

هذا كلام مناقض لحقائق التاريخ المحسوس.. ولحسن الحظ فإن محمد شريف فرجاني يجد أنصاراً له في جهة الباحثين والمستشرقين الغربيين. فليسوا جميعهم من أتباع برنارد لويس وعقليته الجامدة ويقينياته القطعية. ومن بين هؤلاء المستشرقين المنفتحين والموضوعيين نذكر أوليفييه كاريه الاستاذ في جامعة السوربون بباريس. وكان قد نشر كتاباً عام 1993 بعنوان: الاسلام العلماني أو عودة التراث الكبير (للاسلام). وفيه يقطع بشكل واضح مع الاطروحة والتي تقول بأن المسيحية كانت منذ البداية وفي جوهرها ديناً لا علاقة له بالسياسة، ديناً يفصل بين الروحي والزمني بشكل واضح، وانها بالتالي هي التي مهدت للتطور العلماني والحريات الفردية في المجتمعات الأوروبية المعاصرة. أما الاسلام فهو على عكسها ثيوقراطي متخلف: أي لا يسمح الا بالانظمة الاستبدادية ولا يمكن للديمقراطية اطلاقاً ان تنتعش في ظله.

يقول هذا الباحث الفرنسي ما معناه: الاسلام كدين تسيَّس وبقوة بعد ثلاث عشرة سنة فقط من ظهوره (أي بعد وصول النبي الى يثرب). ثم انفصل عن السياسة بعد ثلاثة قرون لاحقاً لكي يعاد تسييسه أخيرا على يد الاخوان المسلمين ومن تلاهم من الحركات الاصولية أو «الجهادية» المعاصرة. أما المسيحية فمسارهما التاريخي كان مختلفاً. فهي لم تتسيس الا بعد ثلاثة قرون من ظهورها، ثم استمرت على ذلك عدة قرون قبل ان تنفصل عن السياسة من جديد بعد ظهور عصر النهضة والتنوير والحداثة.

وبالتالي، يستنتج أوليفييه كاريه، ان كلا الدينين كان سياسياً وبنفس الطريقة. ولا داعي للتمييز بينهما من هذه الناحية. وحكاية ان المسيحية دين علماني أو لا سياسي منذ البداية هي اسطورة لا تصمد أمام الامتحان التاريخي. وعندما تتطور الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات الاسلامية فإنها ستصبح علمانية مثلها في ذلك مثل المجتمعات الأوروبية. وبالتالي فالمسألة مسألة وقت وارتفاع مستوى المعيشة وانتشار التعليم المستنير ليس الا.

ويؤيد هذه الاطروحة باحث فرنسي آخر غير مستشرق هو إيمانويل تود. ففي دراساته الأخيرة يقول بما معناه: كفوا هجومكم على العرب والمسلمين والاسلام والتعصب والتخلف، الخ.. فالعرب ليسوا كلهم متعصبين دمويين على طريقة بن لادن والزرقاوي وأشكالهما كما تتوهمون. وانما هم يعيشون الآن مرحلة العبور الحضاري الكبير وهي مرحلة انتقالية، مترجرجة، عسيرة، مليئة بالعنف والانفجارات البركانية. وكنا قد شهدنا نحن الاوروبيين، في العصور الماضية: عصور محاكم التفتيش والحروب الاهلية بين المذاهب المسيحية، ثم وصلنا بعدئذ الى شاطئ الامان واصبحنا مجتمعات هادئة، مسالمة، متحضرة بعد ان حلت مشاكلها الاساسية. وبالتالي فلا أحد احسن من أحد. والمسلمون، من عرب او غير عرب، سوف يصلون الى نفس النتيجة بعد ان يجتازوا هذه المرحلة الانتقالية الحرجة: مرحلة العبور الحضاري الكبير. وبالتالي فحذار من السقوط في فخ الاحكام العنصرية او الطائفية ذات الكليشيهات الواسعة الانتشار كأن نقول: العرب متخلفون لانهم من عنصر همجي يستعصي على النظام والتقدم. والمسلمون متعصبون لان دينهم في جوهره متعصب على عكس المسيحية واليهودية. فهذا كلام اولاد شارع لا كلام علماء ومثقفين. ثم ينتقل محمد شريف فرجاني الى مسألة اخرى اساسية ذات علاقة بالأولى هي التالي: هل الاسلام دين عنف منذ البداية وفي جوهره ومحتواه أم لا؟ هل يختلف من هذه الناحية عن المسيحية واليهودية وبقية اديان العالم كما يقولون؟ بمعنى آخر، وبكلمة لا لبس فيها ولا غموض: هل القرآن الكريم مسؤول عن اعمال العنف والتفجيرات التي ترتكبها الحركات المتطرفة حاليا سواء داخل العالم العربي ام خارجه؟

هنا ايضا نلاحظ ان الباحث التونسي (الاستاذ في جامعة ليون الثانية) لا يتحاشى المسائل الشائكة ابدا. وبكل صراحة ووضوح وبدون لف او دوران، نلاحظ انه يدخل في صلب الموضوع، ثم يخلص الى النتيجة التالية: القرآن الكريم كبقية النصوص الدينية والتأسيسية الكبرى ذو موقف مزدوج من قضية العنف. بمعنى انه يحتوي على آيات تحل العنف، وآيات تنصح بالسلم والابتعاد عن العنف. والسبب هو انه مرتبط بالظروف التاريخية التي عاشها النبي والمسلمون الاوائل. وهي ظروف كانت مليئة بالتحديات، ومحاطة بالخصوم والاعداء، لكن روح الاسلام تتغلب في القرآن الكريم وفي نهاية المطاف على روح العنف والعداء للآخرين. وبالتالي فهناك آيات تشرع العنف وآيات تشرع السلام وآيات تدعو للتعصب وآيات تدعو للتسامح والغفران. فبأيها نأخذ يا ترى؟ ان الثانية هي: اكثر من الاولى، كما ان الروح العامة للنص القرآني هي روح الرحمة والتسامح والمغفرة ولا يجوز اطلاقا ان نقلل من اهمية هذا البعد من ابعاده او ان نغض الطرف عنه كما تفعل الحركات الاصولية المتطرفة حاليا. فهذا الموقف يعتبر خيانة للقرآن الكريم وخروجا على جوهر تعاليمه ومقصده الأسمى، فلم تكن غايته اطلاقا العنف الاعمى او المجاني كما يفعل الزرقاوي الآن في العراق، حيث يستشهد في كل مرة بآية قرآنية مقطوعة عن سياقها قبل ان يذبح احد الرهائن الاجانب امام كاميرات التلفزيون! هذا مستحيل. هذه ليست روح القرآن ولا تعبر عن جوهره بأي شكل.

ثم يتهم المفكر التونسي برنارد لويس قائلا بأن رؤيته عن الاسلام تدعم رؤية الاصوليين المتعصبين وتشد من ازرهم، فهو يقول بما معناه: الاسلام دين عنف من اساسه. وهو قائم على الجهاد والقتال وتقسيم الارض المسكونة الى دار الاسلام ودار الحرب، وان الجهاد ينبغي ان يتواصل حتى تخضع البشرية كلها للاسلام. واما قبل ذلك فلا..

ويقول فرجاني بأن هذا الكلام لا اساس له من الصحة حتى ولو كان منتشرا في ادبيات الاصوليين والاخوان المسلمين بشكل واسع فمصطلح دار الاسلام /ودار الحرب لا أساس له في القرآن. ولو انكم فتحتم القرآن وقرأتموه كله لما وجدتم فيه اي شيء من هذا القبيل.

وبالتالي فهو مصطلح متأخر ولا مشروعية له. يضاف الى ذلك ان كلمة السلم او السلام واردة في القرآن 49 تسعا واربعين مرة، والآيات التي تدعو الى التسامح وعدم الاكراه في الدين واردة عشرات المرات.. فماذا نفعل بكل ذلك؟ هل نحذفه او نلغيه كما يفعل الزرقاوي وبن لادن والظواهري وكل من يحذو حذوهم؟ هل يحق لنا ذلك اذا كان واردا في صريح القرآن الكريم؟ الا يعني ذلك اننا نخرج على القرآن ونخون تعاليمه؟

لنستمع الى بعض هذه الآيات البينات: «يا أيها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان انه لكم عدو مبين» (البقرة 208).

«وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله انه هو السميع العليم» (الانفال61).

«وقال يا رب ان هؤلاء قوم لا يؤمون. فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون» (الزخرف 88 ـ 89) الخ..

واما الآيات التي تدعو الى التسامح وعدم التعصب في الدين فهي عديدة ايضا. ولذلك نكتفي هنا بذكر بعضها: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». (الكهف 29).

«لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم» (البقرة 256).

ومن اعظم الآيات التي تشرع التسامح والانفتاح الواسع في الاسلام الآيتان التاليتان: «يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير» (الحجرات 13).

«وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما اتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تخهاتف» (المائدة 48).

ويمكن ان نضيف اليهما الآية التالية الشديدة الاهمية والواردة ثلاث مرات في القرآن الكريم مع تغييرات طفيفة وأعتقد انها يمكن ان تؤسس للحوار بين الاديان او لاعترافها ببعضها بعضا على الاقل: «ان الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من أمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (البقرة 62).

ثم يردف البروفيسور محمد شريف فرجاني قائلا بما معناه: اما الآيات التي تدعو الى العنف او تشرعه فهي موجودة ولا داعي لانكارها. ولكنه عنف مشروط باستمرار: «فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين» (البقرة 191). «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين» (البقرة 190).

ثم هناك الآية الخامسة من سورة التوبة والتي يعتبرونها من اعنف الآيات ويدعونها لذلك بآية السيف، ومع ذلك نلاحظ انها تنتهي بالكلمات التالية: ان الله غفور رحيم! كما وتتلوها آية تدعو للرأفة بالمشركين ومعاملتهم بالحسنى: «فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ان الله غفور رحيم. وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون» (التوبة 5 ـ 6).

ثم يطرح المؤلف السؤال التالي: كتاب اليهود، التوراة، مليء بالعنف من بعض اجزائه، ومع ذلك فلا احد يقول بأن اليهودية هي دين عنف في جوهرها واصلها كما يقال عن القرآن او الاسلام! (انظر سفر تثنية الاشتراع، وسفر صموئيل الاول والثاني على سبيل المثال لا الحصر). وحتى كتاب المسيحيين، الانجيل، المشهور بالرحمة والتسامح لا يخلو احيانا من مقاطع تدل على العنف: «لا تظنوا اني جئت لاحمل السلام الى الارض، ما جئت لأحمل سلاحا بل سيفا: جئت لأفرق بين المرء وأبيه، والبنت وأمها، والكنة وحماتها، فيكون اعداء الانسان اهل بيته» (متى).

ولكن على الرغم من ان المقاطع العنيفة قليلة جدا في الانجيل على عكس التوراة والقرآن الا ان ذلك لم يمنع قسما من المسيحيين من ارتكاب المجازر باسم دينهم على مدار التاريخ القديم بشكل خاص. وبالتالي فالناس ليسوا اوفياء لنصوصهم الدينية على طول الخط ولا يتقيدون بتعاليمها بالضرورة. واحيانا يفسرونها في اتجاه السلم واحيانا يفسرونها في اتجاه العنف بحسب الظروف والمنعطفات التاريخية (انظر محاكم التفتيش في القرون الوسطى، وانظر المجازر الطائفية والحروب المذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت).

ويمكن ان نقول الشيء ذاته عن الاديان الاخرى غير التوحيدية: كالبوذية والهندوسية وسواهما. فهي ايضا استخدمت من اجل الفتح وخوض الحروب لتوحيد الهند والخلاصة هي ان جميع الاديان تحتوي على مبادئ نبيلة وتدعو الى محبة الآخر. ولكنها في ذات الوقت لجأت الى القوة لنشر ذاتها والتوسع بقدر الامكان في شتى انحاء الارض وبالتالي فهناك المبادئ السامية من جهة وهناك التطبيق العملي على ارض الواقع من جهة اخرى.

وشتان ما بينهما! وهذا يعني انه ينبغي ان ننظر الى الدين داخل التاريخ وليس فوق التاريخ كما يفعل المؤمنون التقليديون. فهؤلاء يشكلون عن اديانهم صورة مثالية عذبة لا علاقة لها بالواقع. وهناك دائما فرق بين الدين كتنزيه وتعال او كروحانيات سامية ومبادئ اخلاقية رائعة وبين الدين كايديولوجيا سلطوية او سياسية هدفها التوسع على حساب الآخرين واخضاعهم. وكل الاديان تحولت في لحظة ما الى ايديولوجيا سلطوية، بل وقمعية. وهذا هو معنى دراسة الدين داخل التاريخ وليس فوق التاريخ.