PDA

View Full Version : كتيب «الحداثة في ميزان الإسلام».. هشاشة خطيرة


أبو يحى
26-05-2005, 11:50 PM
عوض القرني: ميزان يحتاج إلى ميزان!




السيد ولد أباه
يدعي الدكتور عوض القرني، المؤلف السعودي، تقديم قراءة نقدية متكاملة للحداثة في مرجعيتها الغربية والعربية في كتيبه «الحداثة في ميزان الإسلام» الذي انتشر على نطاق واسع في المملكة العربية السعودية وباقي البلدان العربية من خلال طبعات كثيرة ورقية وإلكترونية.
والكتاب كما لا يخفى من العنوان، «محاكمة دينية« لتيار فكري وأدبي متنوع وواسع، بالتركيز على خمسة شعراء، هم عبد العزيز المقالح وعبد الوهاب البياتي ومحمود درويش، وأدونيس وصلاح عبد الصبور، وثلاثة مفكرين، هم حسين مروة وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري، بدون أن يسلم من حراب نقده كل رموز الأدب والفكر العرب المحدثين من العقاد وطه حسين إلى نزار قباني والنقاد السعوديين الذين أدخلوا مفاهيم وآليات النقد الأدبي الحديث للساحة السعودية.

أما العبارات التي تتكرر دوما في محاكمة القرني للحداثة فهي الرمي بالإلحاد والزندقة ونشر الرذيلة والعمالة لليهود والماسونية والغرب.

وليس من همنا مناقشة «الشيخ» القرني في فتاويه الراديكالية التي تستسهل إخراج الناس من الملة وإنما حسبنا الوقوف عند المصادرات التي تتأسس عليها مقاربة القرني في قراءته للحداثة، بإبراز هشاشتها المعرفية وقصورها المنهجي في التعامل مع ظاهرة كونية متعددة المسارات والجوانب، معقدة التشكل والانبناء، لا يمكن استكناهها بمسلمات بالية منتزعة من مراجع ثانوية .

* منطلقات هشة

* ومن الجلي أن مقاربة القرني تقوم على أربعة منطلقات أساسية هي:

أولا: اعتبار الحداثة غزوا استعماريا غربيا، يستهدف الإسلام في عقيدته وقيمه.

ثانيا: اعتبار الحداثة مشروعا ماسونيا صهيونيا قوامه الإلحاد العقدي والفساد الأخلاقي.

ثالثا: تستخدم الحداثة الغموض في التعبير مسلكا لهدم القيم وتقويض الأخلاق.

رابعا: تشكل الشيوعية المادية الإلحادية الجوهر الفكري للحداثة.

وسنكتفي بتقديم ملاحظات مقتضبة على هذه المصادرات الأربع التي تتأسس عليها أطروحة القرني.

أما بخصوص المصادرة الأولى، فلا بد من الإشارة إلى أن الأطروحة تتذبذب تذبذبا جليا في التحقيب للحداثة، التي تبدو أحيانا نتاج القرن التاسع عشر وأثرا لقصيدة بودلير الماجنة، وأحيانا أخرى مرادفة للشيوعية الماركسية، ويربطها تارة أخرى بالماسونية والصهيونية.

والفروق بين هذه الاتجاهات والمدارس لا يهم الكاتب الذي يحل تلك العقدة النظرية بقوله «فإن من الثابت أن الحداثة رغم تمردها وثورتها على كل شيء، حتى في الغرب، فإنها تظل إفرازا طبيعيا من إفرازات الفكر الغربي والمدينة الغربية التي قطعت صلتها بالدين». فمن خلال هذا التعميم المريح، ينتفي التناقض ويغدو من الممكن الربط بين تيارات ومذاهب شتى تختلف من حيث المرجعيات والآليات والأهداف، باعتبارها تلتقي في محددين رئيسيين هما: المرجعية الحضارية الغربية والعداء للدين.

وما غاب عن المؤلف هو أن الحداثة حقبة تاريخية لها محدداتها الزمنية والمفهومية والقيمية التي يستدعي إدراكها جهدا نظريا وبحثيا مستفيضا.

وبدون الدخول في تفصيلات وتحديدات ليس هذا مجالها، نكتفي بالقول أن الحداثة تتحدد من حيث كونها مسارا ثلاثيا متشابكا أساسه:

* الرؤية التقنية للعالم التي تشكلت منذ القرن السادس عشر، وسمحت بتبلور المفهوم الجديد للعلومية، أي النظرة التجريبية للطبيعة التي هي خلفية العلوم الدقيقة التي ارتبطت بها الثورة الصناعية ـ التقنية التي غيرت شكل العالم خلال القرون الثلاثة الأخيرة.

* الثورات السياسية والدستورية التي أنهت الاستبداد السياسي ـ الديني القائم في العصور الوسيطة أي تحالف المؤسسة الكنسية والدولة، باستبداله بمرجعية الإرادة الذاتية الحرة والتعاقد المدني المحدد لشرعية السلطة ونظام الحكم.

* الفلسفة العقلانية الذاتية، التي أرست قطيعة مع التقاليد الفلسفية الوسيطة، وأناطت مسار التأمل والمعرفة بالذات المفكرة.

ومع أن مسار الحداثة اصطدم بالمؤسسة الدينية معرفيا وآيديولوجيا، إلا أنه من الخطأ الواضح النظر إلى الحداثة بصفتها مشروعا معاديا للدين، إذ ليس في المحددات المذكورة ما يخرج على ثوابت الدين ومقدساته، بل يتعين التنبيه إلى أن الحداثة ارتبطت بالإصلاح الديني في الغرب، وكانت في بعض جوانبها امتدادا له، حتى ولو كان من الخطأ إعطاؤها أي مضامين دينية (كالقول أنها دس صليبي أو يهودي حسب أحكام الشيخ القرني).

ولست أدري ماذا يتهدد الإسلام عقيدة وقيما في مشروع الحداثة المنعوت بالغربي: هل هو النظرة التجريبية، أو نظام الحريات العامة، أو مبدأ العقلانية وحرية الفكر والعقيدة؟

أما مصادرة الربط بين الحداثة والماسونية والصهيونية، فهي مصادرة مألوفة وقديمة في بعض الأدبيات الإسلامية، ولعل مرجعها هو محمد قطب، الذي كرر في كتبه الكثيرة مقولة التأسيس اليهودي للحداثة الغربية من خلال دور اليهود الثلاثة ماركس وفرويد وداروين في الفكر الغربي الحديث.

وفضلا عن كوني لا أعرف بدقة معنى مقولة «ماسونية» التي تستخدم على نطاق واسع بشكل أسطوري سحري بدون تدقيق، فإني أرى أن ربط بعض المفكرين الغرب ذوي الأصول اليهودية بالصهيونية أمر يتسم غالبا بالتسرع والخطأ.

صحيح أن عددا كبيرا من أهم فلاسفة الغرب هم من أصول يهودية من اسبينوزا إلى دريدا مرورا بماركس وهوسرل وسارتر، إلا أن أيا من هؤلاء لم يكن متعصبا للديانة اليهودية أو للآيديولوجيا اليهودية (التي ظهرت في القرن التاسع عشر)، بل هم في الغالب من المرفوضين المنبوذين من المؤسسة الدينية اليهودية، ولا ينفصل فكرهم عن السياق الفلسفي والنظري الغربي الواسع الذي ينتمون إليه.

ولا عبرة بالقول إن مشاريعهم الفكرية من تجسيدات وآثار بروتوكولات حكماء صهيون ومخططات الصهاينة، فتلك نغمة ساذجة .

أما ثالث المصادرات فتتعلق بالحداثة الأدبية التي استأثرت بالجانب الأوفر من كتاب القرني، معتبرا أنها تنزع إلى هدم المقدسات وتقويض القيم بسلاح الغموض الذي هو تعبير عن رؤية كاملة عدمية وإلحادية.

ومن الواضح هنا أن الكاتب الذي يستند أساسا إلى أنور الجندي وسهيلة زين العابدين ، عاجز عن استيعاب أشكال التعبير الأدبية الجديدة التي غيرت جوهريا نمط الذائقة الجمالية ومنطق الدلالة من خلال إعادة تركيب الصيغ والأنساق الدلالية، مما أفضى إلى إبداع منظومة بلاغية جديدة.

ومن الجلي أن الشيخ القرني يستند في محاكمته الشرعية للقصيدة الحديثة إلى منظومة تأويلية ـ جمالية أخرى يعتبرها المنظومة الشرعية الوحيدة للتعبير الإبداعي.

ووجه الخلاف مع المؤلف يتعلق بخلاف منهجي جوهري ليس بالجديد، يتعلق بالطبيعة البيانية المجازية للنص، وهو كما لا يخفى مبحث كلامي لغوي قديم، ليس محسوما مسبقا كما يدعي الشيخ القرني.

ويكفي الرجوع إلى كتب ومباحث الكلام والأصول لإدراك هذه الحقيقة، وما تحامل القرني على الآراء المغايرة لموقفه المنهجي إلا دليل على تعصبه لرأي لا ينعقد عليه إجماع الأمة.

* توظيف القاموس الديني

* أضف إلى هذه الخلفية، أن توظيف القاموس الديني في القصيدة المعاصرة، لا يراد به في الغالب هدم الدين والخروج عليه، وإنما توليد دلالات جديدة، باعتبار أن الشعرية (أو الإنشائية حسب الترجمة المشرقية لمقولة poétique) بالمنظور الحديث تتحدد بالانزياح عن درجة الصفر في الدلالة، أي الخروج من حرفية العبارة ودلالتها الأولية طلبا لتوسيع التجربة وإثرائها.

ولذلك نستغرب الحكم القاسي المتشدد الذي حكم به القرني على الحداثيين بقوله: «فهم يسعون من خلال الغموض إلى إنشاء وإيجاد واقع فكري جديد، منفصل ومقطوع عن واقع الأمة الفكري وماضيها العلمي والعقلي والأدبي، في الشكل والمضمون، بالإضافة إلى أن غموضهم فيه من الرموز الوثنية والإشارات الإلحادية ما يفك طلاسم الرموز أمام الباحث، ويحدد له وجهة أهلها وغايتهم في الحياة».

فما هو مضمون هذا الواقع الفكري؟ وهل مجرد تغيير الأوزان الشعرية والأشكال الأدبية ونمط العبارة مؤذن بخراب العقيدة والدين؟ وهل للعمود الخليلي ونحو سيبويه وبلاغة الجاحظ قدسية توازي قدسية القرآن الكريم والسنة المطهرة؟

ولا شك أن الدكتور القرني يتجاهل مسار الإبداع الأدبي العربي في العصور الوسطى، وأنماط التجديد الكثيرة التي أدخلت على القصيدة العربية في العهدين العباسي والأندلسي، وقد طالت الأشكال والمضامين، بل أن هذه التحولات طالت الخطاب الديني نفسه، خصوصا في عصور تقعيد وتدوين العلوم الشرعية. فاصطلاحات الأصوليين وعلماء الحديث هي مفاهيم وأدوات مبتكرة استحدثت بعد العصر النبوي وعهد الخلافة الراشدة، وإن كانت تعتبر اليوم اصطلاحات ملزمة، فإنها في حقيقتها حصيلة تعامل بشري مع النص المقدس، ولذا فهي عدة تأويلية لا يمكن أن تكتسب قدسية النص المرجعي.

ومن يراجع كتب الملل والنحل يستنتج بوضوح أن منظومتنا التأويلية الحالية تحولت إلى سلط معرفية نتيجة لظروف تاريخية وثقافية معينة في مقابل مذاهب وطوائف ومدارس عقدية اختفى بعضها وتقلص البعض الآخر وإن كانت له الغلبة في بعض السباقات والمراحل.

* إدماج المناهج في التأويل قديم وليس بجديد

* اضف إلى هذا العامل، حقيقة إدماج علوم ومناهج غير إسلامية في المنظومة التأويلية الإسلامية لأغراض منهجية، مما لم يثر في الغالب اعتراضا عقديا. فالمنطق الأرسطي الذي هو الخلاصة النظرية للميتافيزيقا اليونانية، أدمج في قلب الممارسة التأويلية الإسلامية الوسيطة، إلى حد قول العلامة أبي حامد الغزالي وهو من أراد القطيعة مع المعقول اليوناني «إن من لم يتمنطق لا يوثق بعلمه». فما الفرق بين من اعتمد المنهج الأرسطي (الذي ظهر في بيئة وثنية غير مسلمة) ومن تبنى اليوم المنهج البنيوي أو التفكيكي؟

وما الفرق بين اعتماد نموذج قصيدة امرئ القيس الجاهلي (غير المسلم) والتأسيس بقصيدة رامبو أو اليوت؟

ولماذا كان مجون عمر بن أبي ربيعة متداولا مقبولا في نوادي الحجاز، يستمع إليه حبر الأمة عبد الله بن عباس في الحرم بإعجاب بدون إدانة فقهية في حين تنبذ غزليات نزار قباني لخروجها عن الحشمة والوقار؟

ولماذا لم يكفر المعري لقصائده الفلسفية الحائرة ولا المتنبي لميوله الفلسفية وأبى العتاهية لزهدياته الصوفية وأبي نواس لخمرياته الماجنة، بل كانوا من مرتكزات الثقافة العربية الإسلامية الوسيطة؟

لا شك أن السبب في التسامح مع هؤلاء وقبول أدبهم هو ما تقرر لدى النقاد العرب القدماء من حقيقة كون الأدب ليس خطابا معرفيا يقدم حقائق ونظريات، بل هو شكل من التخييل والاستعارة والذوق الجمالي، ولا معنى لمحاكمته عقائديا.

* الحداثة.. ماركسية!

* أما رابعة المصادرات، فتتعلق باعتبار الشيوعية الإلحادية المادية جوهر للفكر العربي الحديث، انسياقا وراء وهم كرسته الصراعات الآيديولوجية السياسية القائمة في الساحة العربية.

ففضلا عن كون الماركسية تيار شديد الاختلاف والتنوع امتزج في بعض السياقات باللون الديني (كما في إيطاليا وأميركا اللاتينية)، فإنها لا تمثل سوى تيار آيديولوجي وسياسي ضيق ضمن ديناميكية الحداثة الواسعة، سواء على الصعيدين العالمي أو العربي.

وليست الأمثلة التي يوردها المؤلف برهانا على حكمه بالموفقة فالمفكر اللبناني حسين مروة نعت بالإلحاد وإفساد البلاد والعباد بدون الرجوع إلى أي من مؤلفاته (وهي مجلدات ضخمة منشورة)، بل بالاكتفاء بالإحالة إلى مجلة «المجتمع« الكويتية التي أوردت إهداء لزوجته يقر فيه بشيوعيته .

أما المفكر المغربي المرموق عبد الله العروي فينعت بالنعت نفسه بالرجوع دوما لمجلة «المجتمع» التي أوردت اشتشهادات مقتضبة من بعض كتبه، لا تتعرض أصلا للدين، وإنما وردت في إطار تحليل تاريخي اجتماعي لمسار الثقافة العربية.

النموذج الثالث هو المفكر المغربي المرموق محمد عابد الجابري الموسوم بالعداء للإسلام، لأنه طالب باتخاذ مسافة من التراث ونقد العقل العربي، ولا تتجاوز معلوماته عن الجابري (الذي هو دون شك أغزر المفكرين العرب إنتاجا وأكثرهم تأثيرا في الساحة الثقافية) عمودا كتبه في مجلة «اليمامة» ومقالات مختصرة عن فكره في ثلاث صحف سعودية.

ولا يخفى على أحد أن الجابري الذي يعتبره الجميع مفكرا إسلاميا غيورا على الدين وثقافة الأمة، لم يطالب في مشروعه الفكري بأكثر من نقد التراث الذي هو سياق تأويلي تاريخي لا يتماهى مع الدين ولا يلتبس به، ومن الخطأ وعدم الموضوعية نعته لمجرد هذه المطالبة بالشيوعية والعداء للإسلام.

* هشاشة خطيرة

بقي لنا الختم بملاحظتين أخيرتين:

أولاهما: أن الكتاب وإن كان يطمح إلى قراءة نقدية في الحداثة من منطلق إسلامي، فإنه يندرج في سياق الجدل السعودي الداخلي حول تجربة الحداثة. ويتعلق الأمر بجدل يتمحور حول أشكال النقد والأدب الحديثة، ومن المثير منحه غطاء دينيا وعقديا غير مبرر (من آخر تجلياته كتاب حكاية الحداثة للناقد عبد الله الغذامي الذي أثار ضجة متواصلة).

فالكاتب وقف عاجزا دون تتبع مسار نشأة وتشكل الحداثة في السياقين الغربي والعربي. ولذا فإن قراءته النقدية للحداثة ليست أكثر من محاكمة عقدية متسرعة.

وقد تكون مرجعيته الفكرية في الإطلاع على الحداثة لا تتجاوز أدبيات محمد قطب وسفر الحوالي وأنور الجندي، وهي كتابات لا تفيد شيئا في إدراك كنه الحداثة، وتلمس إشكالاتها المعقدة.

ثانيتهما: أن الكتاب وإن كان يقوم على أحكام هشة، إلا أنه على درجة عالية من الخطورة، بما يبث من أحكام تكفير وتبديع لتيار واسع ومتنوع في الثقافة العربية. وهو بذا نموذج بارز لثقافة الكراهية التي هي البيئة الفكرية والنفسية للإرهاب والعنف.

فهذا الخطاب بدون شك سبب رئيسي لما تعيشه الأمة من فتن ومآس وعنف اكتوت بها العديد من الساحات العربية والإسلامية، وأتت على الأخضر واليابس، بقدر ما هو نموذج بارز لصورة الإسلام المشوهة التي أضحت للأسف الصورة الشائعة عنه لدى الآخر، خصوصا في الغرب.

لقد برزت للعيان خطورة وقائع هذا الخطاب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وما تلاها من فتنة دامية.