PDA

View Full Version : رواية إبراهيم الكوني تقطع الصحراء


أبو يحى
02-05-2005, 10:43 AM
رواية إبراهيم الكوني تقطع الصحراء
فخري صالح الحياة 2005/04/27



نال الروائي والكاتب الليبي إبراهيم الكوني جائزة الدولة الاستثنائية الكبرى التي تمنحها الحكومة السويسرية، وذلك عن مجمل أعماله الروائية المترجمة إلى الألمانية. وستسلم الجائزة للكوني في العاصمة السويسرية برن في بداية حزيران (يونيو) المقبل. ومنح المترجم السويسري هارتموت فيندريش الجائزة التقديرية لدوره في تعريف قراء الألمانية على أدب الكوني. هنا قراءة للثيمات الأساسية في عمل الكوني الروائي.

يغري عمل إبراهيم الكوني بمقاربة نقدية مختلفة تستند إلى معارف متعددة تتضافر فيها الأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع، بصورته الأولى في عمل ابن خلدون «علم العمران» وصوره الحديثة كذلك، ودراسة الأساطير والفلسفة والتاريخ والتراث العربي القديم. ويعود هذا الإغراء، بالأخذ من كل حقل معرفي بطرف، إلى طبيعة روايات الكوني، وتشكلها على هيئة أسطورية بل وتخليقها للأسطورة وإقامتها علاقة حميمة معها، ما يجعلها نموذجاً بدئياً قابلاً للتحليل على هذا الأساس، كما في عمل كلود ليفي شتراوس في الأنثروبولوجيا أو عمل الناقد الكندي نورثروب فراي في نقده الذي خصصه لتحليل الأسطورة والطقس والتأويل الباطني العميق للأدب. وتعود تلك الإمكانات التي يتيحها عمل الكوني الى كونه يقيم على حواف الرواية والأسطورة والبحث في الكون الصحراوي بكل ما فيه من عوامل الامتداد وندرة العناصر والانفتاح على شسوع المكان وتأبد الزمان والانضواء تحت مظلة السماء الواسعة بشمسها وقمرها ونجومها التي تصبح جزءاً من المعتقد الديني لساكن الصحراء. فبسبب من ندرة العناصر والمواجهة الدائمة مع الموت واتصال الإنسان مع الطبيعة الممتدة وحيواناتها ونباتاتها، وعناصر الكون الأولى ورموزه المؤثرة من شمس وقمر وسماء، تتحدد حياة ساكن الصحراء بعدد من التمثيلات الرمزية للوجود التي تتكرر بصورة شديدة الغزارة، شديدة الدلالة في الآن نفسه، في كتابات الكوني.

يقوم عمل إبراهيم الكوني الروائي على عدد من العناصر المحدودة، على عالم الصحراء بما فيه من ندرة وامتداد وقسوة وانفتاح على جوهر الكون والوجود. وتدور معظم رواياته على جوهر العلاقة التي تربط الإنسان بالطبيعة الصحراوية وموجوداتها وعالمها المحكوم بالحتمية والقدر الذي لا يُردّ. في هذا العالم تبدو العناصر، والعلاقات التي تربط بينها، ثابتة لا ينتابها التغير، ويُحكم على الشخصية المحورية في العمل بالموت كأضحية تجلب الخصب إلى الطبيعة الصحراوية القاحلة، فيهطل المطر وتتصالح الصحراء الجبلية مع الصحراء الرملية كما تقول الأسطورة التي يوردها الكاتب في روايته «نزيف الحجر».

في هذا السياق يشكل عملا الكوني «نزيف الحجر» و»التبر» ثنائية روائية تصف العلاقة المدهشة التي تقوم بين إنسان وحيوان في الصحراء؛ في الرواية الأولى يُصعّد الكاتب هذه العلاقة ليحل الحيوان في الإنسان ويحل الإنسان في الحيوان، أما في الرواية الثانية، فإن الكاتب يبلغ بهذه العلاقة درجة الأخوة الصافية التي لا يفرقها إلا الموت.

في «نزيف الحجر» يفتتح الكوني عمله الروائي بآية قرآنية: «وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم». (سورة الأنعام، الآية 37)، ويتبع هذا الاقتباس القرآني باقتباس من العهد القديم يدور حول قتل قابيل أخاه هابيل. ومن ثمّ يهيئ الكاتب القارئ، من خلال هذين الاقتباسين، لاستقبال الحكاية المحورية في الرواية، إذ ينبه الاقتباسان إلى التماثل القائم بين عالمي الحيوان والإنسان، وإلى ما يجرّه قتل الإنسان لأخيه الإنسان من جدب وفقر في عناصر الطبيعة، ويُردّ هذان الاقتباسان على المكان الصحراوي الذي تدور فيه الأحداث ويعتمل الصراع في جو أسطوري يشهد فيه تمثال الكاهن والودّان على تراجيديا الموت الذي يُخصِب الصحراء ويُجري الماء والعشب في عروقها.

تتمثل مادة الحكاية في سر العلاقة التي تقوم بين الشخصية المحورية في الرواية (أسوف) والودّان، وهو تيس جبلي تقول لنا الكتب إنه انقرض في أوروبا منذ بدايات القرن السابع عشر ولكنه ظل موجوداً في الصحراء الكبرى. ثمة غموض يحيط بهذا الحيوان الذي يقول عنه أسوف إنه «روح الجبل»، فهو يعتصم بالجبل إذا طورد، وفي لحمه يكمن سر من أسرار الوجود، كما يقول شيوخ الصوفية.

تقوم بين أسوف والودّان علاقة سرية معقدة يحل فيها الودّان في جسد أسوف ويرى فيه الأخير أباه الذي صرعه الودّان لأنه لم يحافظ على نذره بعدم صيده. وعندما يجز قابيل رأس أسوف، وهو مصلوب على تمثال الكاهن والودّان، يمتص جسد الودّان دم الإنسان وتهطل شآبيب المطر على جسد الصحراء العطشان.

في بدايات الفصول التالية يعمل إبراهيم الكوني على التوطئة للأحداث، والعلاقات التي يقيمها بين الشخوص، باقتباسات تُعلّق على طبيعة الصحراء وموجوداتها، وتدور حول صيد الودان (اقتباس من هنري تاسيلي)، وشعب الجرامنت الذي يتجنب البشر ويعيش مع الوحوش التي تعمر جنوب ليبيا (اقتباس من هيرودوت)، والصبر بصفته مادة من مواد القوة، التي هي بدورها مادة من مواد الولاية (اقتباس من النفّري)، والودّان الذي يتسكع في الأدغال وقد أنهكته الأحزان («أوديب ملكاً» لسوفوكليس)، وليبيا التي تصحرت وجفت فيها الينابيع والبحيرات (كتاب «التحولات» لأوفيد).

تضيء هذه الاقتباسات، التي يشرح معظمها طبيعة الحياة الصحراوية والصفات التي ينبغي لأهل الصحراء أن يتمتعوا بها، حكاية أسوف وقابيل والودّان، أي حكاية الصراع الأزلي بين البشر أنفسهم، وصراعهم كذلك مع الطبيعة القاسية. إنها حكاية الوجود في عناصره الأولى، صراع الإنسان ضد النُدرة التي تمثلها الصحراء حيث يعمل الكوني على تحوير علاقات الصراع هذه وتوجيهها في سياق علاقتين محوريتين: علاقة أسوف الحلولية مع الودّان حيث يصبح الودّان أخاً بالدم بعد موت الأب، ويتم تصعيد هذه العلاقة إلى علاقة ذات طابع أسطوري تتوازى مع أساطير الخصب في وادي النيل وفي منطقة الرافدين حيث يخصب دم أسوف جسد الصحراء العطشان؛ أما العلاقة الثانية فتتمثل في حكاية أسوف مع قابيل، آكل اللحم النيء الذي شرب دم الغزالة ليعيش بعد موت أبويه فتاق إلى دم أخيه الإنسان. وتُرجّع هذه الحكاية صدى حكاية قابيل وهابيل التي تمثل بدورها الصراع الأزلي بين بني البشر.

تتقاطع في الرواية حكايات وأساطير مستدعاة من ثقافات مختلفة؛ مشهد الصلب وسط الصحراء على مذبح وثني، وقابيل الذي يُستدعى من أسطورة بدايات الخلق وتعمير الأرض ليقوم بفعل القتل. كل هذه الأساطير تتضافر لتجسد في النهاية مشهداً من مشاهد أساطير الخصب وحلول القتيل في جسد الأرض العطشى، مما يُرجّع، كما أشرت من قبل، صدى أسطورة الخصب بنسخها الفرعونية والفينيقية والرافدينية.

في «التبر» يستكمل الكوني بحثه في جوهر العلاقة التي تقوم بين إنسان وحيوان بحيث تصل هذه العلاقة الأخوية إلى نقطة لا تفصم فيها. إنها حكاية العلاقة الصافية التي لا يكدرها طمع في الحياة الفانية، حكاية عشق خالصة تشهد بها طبيعة الصحراء المفتوحة العامرة بالأسرار. ونحن نعثر على جذور العلاقة التي تربط أوخيّد بجمله الأبلق في الرواية السابقة. وعلى رغم أن الراوي يمر مروراً سريعاً على شرح العلاقة التي تربط الأب بجمله الأبلق (مما يوضح أن الحكاية في «التبر» هي حكاية الأب، فيما الحكاية في «نزيف الحجر» هي حكاية الابن)، إلا أن إيراد الحكاية يربط العملين الروائيين برباط يتجاوز كون موضوع العملين هو العلاقة التي تقوم بين إنسان وحيوان.

إن واحدة من الروايتين تطلع من الأخرى، وما لم تقله «نزيف الحجر» عن الطبيعة الغادرة الطماعة للإنسان تقوله «التبر». وفي هذا السياق من تعالق النصوص الروائية، وتكامل العالم الروائي لدى كاتب بعينه، يمكن القول إن إبراهيم الكوني يشكل عالمه الروائي من المفردات والعناصر نفسها، إذ يقوم بتوسيع منظوره للأشياء والعالم وجوهر الوجود من خلال تفحص هذه العناصر وإعادة النظر فيها عملاً روائياً وراء عمل، وكأنه يُقلّب عالم الصحراء على مهل كاشفاً عن امتدادها اللانهائي وأسرارها التي لا تنتهي، وقدرتها على عكس جوهر تجربة البشر في مواجهة ندرة العناصر وقسوة الحياة. ولعل «التبر» تكون واحدة من الروايات القليلة المكتوبة بالعربية التي تضيء، من خلال العلاقة الجميلة المدهشة التي تقوم بين إنسان وجمل، جوهر طبيعة الإنسان وقدرته على تجاوز البرزخ الفاصل بين طبيعتي الخير والشر ليتسامى في العشق الذي لا منفعة ترجى من ورائه، ويخرّ في النهاية صريعاً على مذبح هذا العشق.

تقوم هذه الرواية، مثلها مثل الرواية السابقة، على تثبيت الاقتباسات في مفتتح الفصول لإضاءة عالمها الداخلي. وفي الاقتباس من ابن فضل الله العمري في كتابه «مملكة مالي وما معها» يهيئ الكاتب قارئه للحكاية، حكاية «التبر والإنسان والجمل الأبلق» التي تتحول من خلال إضاءة الاقتباس لها إلى أمثولة. إن الكوني ينسج من العلاقة بين أوخيّد وجمله الأبلق حكاية العشق الخالص والتحلل من كل وهق الدنيا وأطماعها. من هنا يبدو عنوان الرواية خادعاً مضللاً من هذه الزاوية. إنه يصرف نظر القارئ عن جوهر الحكاية، وإن كان يهيئه للمشهد الأخير في العمل حيث تقود حفنة التبر التي تلقاها أوخيّد من سالب زوجته وابنه الرجلين إلى حتفيهما، وتنتهي الرواية نهاية تراجيدية يمثل فيها الإنسان بجسد الإنسان ويتحد الجسد الممثل به بالأبدية الخالصة.

تمثل ثنائية إبراهيم الكوني الروائية، التي تدور حول علاقة إنسان بحيوان، تجلية رمزية لعالم الصحراء، للفضاء المفتوح على الأفق والمجهول. وكما لاحظنا من خلال كلامنا السابق على الروايتين، فإن علاقة الشخصيتين البشريتين مع الحيوان، في صفائها الخالص المدهش وجذورها الضاربة في الطبيعة الخيّرة للموجودات، هي بمثابة تعبير بالرمز عن جوهر التجربة الإنسانية، حيث يعمل المسرح الصحراوي الفقير، بندرته وعناصره القليلة ومحدودية ما يخاض الصراع من أجله، على الكشف بصورة مدوية عن جوهر الطبائع البشرية، وعن تعالق الأساطير والخرافات والموجودات الوثنية الصحراوية التي تدخل في نسيج حياة أهل الصحراء. وكما يقول الراوي في «التبر» فإن: «الصحراء وحدها تغسل الروح. تتطهر. تخلو. تتفرغ. تتفضى. فيسهل أن تنطلق لتتحد بالخلاء الأبدي. بالأفق. بالفضاء المؤدي إلى مكان خارج الأفق وخارج الفضاء. بالدنيا الأخرى. بالآخرة. نعم. بالآخرة. هنا، فقط، هنا، في السهول الممتدة. في المتاهة العارية. حيث تلتقي الأطراف الثلاثة: العراء - الأفق - الفضاء لتنسج الفلك الذي يسبح ليتصل بالأبدية، بالآخرة.»