PDA

View Full Version : «في مواجهة المدافع، رحلة فلسطينية»


أبو يحى
03-03-2005, 07:58 PM
http://www.asharqalawsat.com/2005/03/03/images/books.285860.jpg



البداية كانت هكذا: حين اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سبتمبر 2000، اتخذت الكاتبة المصرية المقيمة في لندن موقعها أمام التلفزيون ترقب الأحداث، تتنقل بين القنوات الغربية والعربية فترصد اتساع الفجوة بينهما يوماً بعد يوم «حتى تكاد تشعر أنك تتابع أحداثاً مختلفة في كوكبين مختلفين حتى فاجأتها دعوة جريدة الغارديان البريطانية للذهاب إلى الأراضي المحتلة وكتابة موضوع عن الأحداث.
وتروي أهداف سويف في كتابها «في مواجهة المدافع، رحلة فلسطينية»، الصادر حديثاً عن مكتبة الأسرة بالقاهرة، أحداث رحلتها إلى فلسطين والتي بدأتها بالسفر إلى عمان ومن هناك إلى جسر الأردن لتزور القدس (الشرقية) والضفة (إن أمكن) وتدخل وتخرج عن طريق الأردن.
وتصف سويف في كتابها الذي يضم مقالات اخرى عن أميركا، والعرب، والعراق، رحلتها الشاقة وما رأته في فلسطين، لكنها تبدأ بالحديث عن التطبيع «أنا لا أفهم معنى الحديث عن التطبيع، متى كانت علاقتنا باسرائيل طبيعية؟ الطبيعي في علاقتنا باسرائيل انها العدو، العدو الذي قاتلناه وقتلنا، الذي قتل أسراه من رجالنا، الذي شرد شعباً شقيقاً لنا وتسبب في مختلف المصائب لشعوب أخرى، العدو المتربص بنا دائماً اذا حاربناه من جهة يأتينا من الأخرى، عدو جالس على عتبة دارنا، عينه علينا، يريد مياه النيل، يريد الهيمنة على الزراعة، يكسر في مرجان شواطئنا على البحر الأحمر، يتسبب في خلق القلاقل في مجتمعنا، العدو اليقظ لنقاط الضعف فينا ينفذ منها، عدو تسبب في تعطيلنا منذ عام 1948 حيث أصبح هو شغلنا الشاغل».
«الجسر» تقولها أم ملاك لأهداف سويف فنراه: بناء خشبي يطابق ما رأته في الصور له أسوار خشبية تمنع من القفز إلى نهر الأردن، يعبرنه، امرأتان وطفلة «وهناك فوق رؤوسنا أرى الجنود الاسرائيليين كما رأيتهم في التلفزيون طوال أربعة عقود: عيونهم وراء المدافع الرشاشة وفوقهم علمان اسرائيليان يتقاطعان: أحدهما يرفرف في النسيم، والآخر مشبوكاً في قضيب معدني».
حين احتجزتهما ادارة المرور يدخل اسرائيلي عليهما ويسألها بعربية مكسرة أن تملأ بعض الاستمارات، ثم يعود ليصطحبها إلى شباك الجوازات، تقول «لا أريد الختم على جواز سفري» يقول «أعلم ذلك».
تظهر أمامها المدينة المقدسة تقترب أهداف لتصفها «أرى البوابة الشامخة وإلى جوارها مصفحة اسرائيلية وخمسة جنود مسلحين بالرشاشات، أربط ايشاربي تحت ذقني وأعبرهم، أمر من خلال باب الزهراء فأجدني في مدينة عربية عتيقة: أورشليم القدس، مدينة من الحجر الوردي شوارعها مرصوفة بالحجر، صقله الزمان فيلمع لمعاناً وردياً خافتاً، درج ثم انحناءه فتمتد أمامي حاره وردية جديدة، تبدو البيوت وكأنها تنمو من الشارع أبوابها الحديدية الخضراء مواربة، وحول كثير منها نقوش تعلن للمارة أن صاحب الدار أدى فريضة الحج الواجبة».
وفي جولتها تقابل أهداف نساء عائدات من الصلاة، يسألن ان كان لها (مبات) ثم تصف بيت (أم ياسر) الذي يبعد دقيقتين عن سور الحرم، تلتقي فيه بشابتين باسمتين، تشير إلى واحدة منهما «هذه زوجناها من 3 أيام قبل دخول رمضان، على فنجان قهوة والله. مين فيه يعمل فرح والناس كل يوم عم تنطخ».
وتروي أهداف سويف: «أذهب إلى محل البقالة المجاور لأشتري لبن زبادي وتمرا للسحور، جهاز التلفزيون المعلق على الحائط يذيع الأخبار من محطة فلسطينية.
يذيع التلفزيون خبر خمسة من العمال قتلهم المستوطنون. هرب السادس وطلب النجدة وأسرعت سيارات الاسعاف إلى الموقع إلا أن الجيش استوقفها فمات العمال، توقف كل من في المحل عن الكلام وعن الحركة وعيونهم معلقة بالجهاز وتنحدر الدموع على وجهي وزوجة أحد الرجال تولول على الشاشة، أما بقية من في المحل فلا يبدو عليهم التأثر، وحين ينتهي الخبر يعود الكل إلى ما كان عليه».
ويبدو أن الفلسطينيين اعتادوا على هذا، فلم يعد الأمر بالنسبة لهم مدعاه للتوقف، ربما من كثرة ما يحدث وما تصفه أهداف سويف في مدينة الخليل، حيث صادر الاسرائيليون السوق القديمة وسووها بالأرض: «أرفع عينيك من الزحام ترى آثار القنابل والنيران على المباني المحيطة بالميدان، ثقب واسع حيث كان مكتب جريدة الأيام، عيادات الأطباء، محلات اللعب، الكوافيرات : تلال من الطوب، علامات الحريق، الزجاج المهشم، ارفع عينيك إلى أعلى ترى الجيش الاسرائيلي متمترساً وراء أجولة الرمال على أسقف البيوت مدافعهم مصوبة نحو المارة في الميدان «12 طنا من الأجهزة على سقف بيتي» يقول رجل «وهم يقضون حاجتهم في خزانات المياه».
وترى الكاتبة على حائط أحد المنازل صورا لشبان ثلاثة، على كل صورة اسم تسبقه صفة الشهيد، تقول لها صاحبة المنزل «أبناء أختي» ويقول لها المرشد، ان السبت أسوأ أيام الخليل لأن المستوطنين لديهم الوقت لكي يمشوا في البلد فيقلبون عربات الخضار ويركلون الأهالي.
وعن جمعية إنعاش الأسرة حيث يتعلم الأطفال الموسيقى والرسم، تذكر: «لا يسمح للأطفال برؤية خرائط فلسطين أو معرفة أي شيء عن تاريخهم، وقد أغلق الاسرائيليون الجمعية باعتبار أنها تحرض على التمرد، وتعلق فاطمة جبريل التي أسست الجمعية لأهداف «كنا نحاول مساعدة الأمهات على توفير طفولة طبيعية لأطفالهم، تعرفين ماذا يغني الأطفال «بابا جاب لي هدية رشاش وبندقية» كنا نحاول أن نعلمهم أغاني الأطفال العادية، ولم ننجح لأنها ليست لها علاقة بحياتهم حين يقول الأطفال (جاء اليهود وأخذوا ابن خالتي وخلطوا أرزنا بدقيقنا بالسكر) كنا نقول لا تقولوا اليهود إنهم الإسرائيليون الصهاينة، كنا نحارب في أخلاقيات اللغة».
وتضيف «حين يخرج الأطفال للعب يلعبون تحت مدافع الجيش المتمركز فوقهم. هؤلاء الناس يعيشون في حالة طوارئ منذ 33 سنة وبعضهم من عام 48 هم لا يذهبون للبحث عن الجيش، الجيش معسكر على بابهم».
في القدس تفطر أهداف في مطعم شعبي صغير بالقرب من باب الزهراء، على الطاولة المجاورة لها يتذكر ثلاثة رجال أيام عبد الناصر وأيديولوجيا الوحدة العربية، وينتهي بهم الأمر إلى الترنم بأغاني مصر الستينيات.
ثم تعدد مطالب رجل الشارع الفلسطيني: نهاية الاحتلال، تطبيق قرار الأمم المتحدة 242 والعودة إلى حدود 4 حزيران 1967 ودولة فلسطينية ذات سيادة في الضفة وغزة والقدس الشرقية، والافراج عن المسجونين الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية، وحق العودة للاجئين. لكنها حين تلتقي مروان البرغوثي في مكتبه حيث يجلس أمام لوحة جدارية ضخمة للمسجد الأقصى يقول لها: «ان الانتفاضة والمفاوضات لا يلغيان بعضهما وان الانتفاضة هي الطريق الوحيد للشعب لكي يبعث بصوته، بارادته، إلى داخل المفاوضات، ويشير إلى صورة لمحمد الدرة ويقول «نريد أن نخرج من صورة الفلسطيني الضحية، هذه صورة أفضل» ويشير إلى صورة طفل يواجه دبابة ويقول: «أعرف أن هذا الطفل استشهد بعد يومين».
في طريق عودتها إلى الأردن تكتب أهداف في مذكراتها «في طريق العودة إلى الجسر أرى أن الجيش قام بحفر خندق جديد بين الطريق ومدينة أريحا» ثم تكتب فيما بعد «أنا غاضبة أكثر من ذي قبل، ولا أصدق أن ما يحدث في فلسطين كل يوم للنساء والرجال والأطفال أمر يسمح له العالم أن يستمر».
«رأيت أطفالاً يرقبون بهدوء قتيلاً جديداً وجنازة جديدة وحين بكيت قالوا «هذه أمور جديدة عليها، في فلسطين يحتفلون بالأعراس حول فناجين القهوة وحين يقتل شاب يمسكون بأمه يسندونها إلى جانب قبره، يقولون «زغردي يا أم الشهيد» يقولها أصحاب الشباب الذين قد يقتلون غداً، تقول لي سيدة: لا تسمعين الزغاريد اليوم إلا في مواجهة الموت. انقلب عالمنا رأساً على عقب».
حين تنتقل أهداف إلى القاهرة تقول إن الاعلام المصري يحاول عدم استثارة مشاعر الشعب في مسألة فلسطين، فلا يعرض صور القمع الوحشي والتدمير والحزن المميت الموجودة بالأراضي المحتلة، حيث نصف سكان القاهرة يشاهدون قناة الجزيرة وترى فوق كل بناية كتائب «الدش» تتطلع نحو «عرب سات»، وكل سائق تاكسي تتحدث معه يقول «والذي يحدث للفلسطينيين أليس ارهاباً؟».
وفي تعليقها على الاعلام الأميركي الموجه تحكي أهداف عن شاب أميركي يحضر دراسات عليا في العلوم السياسية في الجامعة الأميركية بالقاهرة قص عليها كيف أن شبكة CNN، كانت تبحث عن طالب أميركي في القاهرة تجري معه حواراً، واتصلت به فوافق على الحديث معه، قالوا نجري حواراً مبدئياً استطلاعياً ثم نتفق على التسجيل. قال الشاب «كنت أعلم ما يريدون وكنت أريد أن تصل ملاحظاتي إلى المشاهد الأميركي، فحاولت في الحوار الاستطلاعي أن أكون محايداً ـ ومع ذلك رفضوا الاستمرار فلم يكن ما أقوله هو ما يريدون سماعه».
وتسائل سويف توني بلير رئيس الوزراء البريطاني في خطاب توجهه إليه «هل رأيت صور الجيش الاسرائيلي متمركزاً على أسطح بيوت الناس؟ هل تتصور ما يعنيه هذا: يوما بعد يوم، ساعة بعد ساعة؟ حين يستبدل الجيش النوباطشية في الثانية مساء يستيقظ جميع السكان ويبدأ الأطفال في البكاء لا أتذكر التعبير الذي كنت أراه على وجوه السكان حين كنت ألتقيهم على الدرج: انه تعبير ينم عن المهانة».
المؤلف: أهداف سويف الناشر: مكتبة الأسرة ـ الهيئة المصرية للكتاب 2004

محمد أبو زيد

أبو يحى
05-03-2005, 12:45 PM
ككاتبة هل يؤثر عليك الاحتلال؟

أخيراً، تجيب ليانة بدر علي هاتفها المحمول. لي أيام أحاول الاتصال بها، وأجدها الآن في سيارتها في وسط رام الله، غير قادرة علي المضي في الطريق الي مقر عملها، ولا الي العودة الي الدار. صوتها مضطرب: محتلين البلد والولاد بيضربوا حجارة وفيه حكي ان واحد استشهد. الولاد بيهربوا من أهلهم...
تبدو أسئلتي أكاديمية الي حد كبير، لكننا نتفق علي انني ـ علي كل حال ـ سوف أرسلها بالفاكس، ثم أعاود الاتصال بالهاتف:
ككاتبة ـ هل يؤثر عليك الاحتلال؟
طبعاً الوضع يؤثر علي الكتابة. ما أقدر أجلس ساعات علي الكتابة: بتصير الواحد تصفت روحه من التركيز. هنا الموقف يتحكم فيك، مثل المرض، لست داخلة ولا خارجة. أجد صعوبة أن أركز في مشروع واحد فأعمل في أكثر من مشروع في نفس الوقت. تشتيت .
حين التقيت بليانة بدر أول مرة، منذ حوالي عشر سنوات، أُخِذْتُ بالطاقة المتفجرة منها، بانتاجها، باصرارها علي التفاؤل. وحين التقيت بها منذ عام، كانت الهالات السوداء تحيط بعينيها، حديثها مسرع متعجل، الطاقة المنبعثة عنها أكثر هشاشة.
ولدت ليانة بدر في القدس، وتربت في أريحا، ورحلت مع أهلها في العام 1967 الي عمان، حيث طردهم أيلول الأسود الي بيروت عام 1970، ومن بيروت رحلوا أمام الاجتياح الاسرائيلي عام 2891.
عاشت في دمشق، وتونس، وعادت الي فلسطين عام 1994 بعد اتفاقات أوسلو. تقول: الكاتب يقتنص الزمن، يشعر بالاحتياج لخلق الأشياء من البداية ـ ويزداد هذا الاحتياج قوة وأنت تري عالمك يختفي أمام عينيك .
أثناء الترحال من مدينة الي أخري أصدرت أربع روايات، وثبتت قدميها ككاتبة عربية برواية شرفة علي الفاكهاني ( 1983). الـــيوم، تجد الكتابة تحدياً: أنا مشغولة الآن بالمشاعر العميقة التي يواجهها الانسان حين يحاول أن يظل انساناً (وليس شيئاً) في ظروف مثل هذه. المعطيات قبيحة جـــداً، وهو يحاول أن يخلق الجمال، وهذا تحد .
هذا هو التحدي الذي يواجههه كل أدباء فلسطين. قالت لي عدنية شبلي ـ الكاتبة الشابة التي تشغل القراء والنقاد في الضفة الغربية هذه الأيام ـ قالت انها تنسحب أو تنكفئ علي نفسها في حالة من التوحد (autism) . كانت تسرع بي في شوارع رام الله في سيارة صغيرة بيضاء، رهيفة الحجم، قصيرة الشعر، ترتدي البنطلون الجينز. ولدت في بلدة فلسطينية داخل حدود اسرائيل لكنها ـ علي حد قولها ـ لم تعد تتحمل العيش في قريتها: الادارة الاسرائيلية تحول جميع الأمكنة الي مجتمع استهلاكي تماما . تعمل مع مجموعة من شباب الفنانين في مؤسسة ثقافية فلسطينية، زرناها يوم الجمعة. تَجَوَّلْتُ في حجرات يغمرها الضوء أتأمل اللوحات والملصقات وأجهزة الكمبيوتر والمجلات: أدوات النشاط الثقافي. رأيت مجموعة من الكراسات أرسلتها جمعية ترعي أطفال المخيمات،كراسات سجل فيها الأطفال قصص حياتهم. بالصورة والكلمة يعبرون عن أمانيهم. كلما التقطت كراسة وجدت تعبيراً عن صعوبة تكوين أي صورة عن المستقبل. عدد كبير من الأطفال يحلمون بالعمل أطباء، والكثير يتساءل: هل ينتهي الأمر بي الي القيام بعملية استشهادية؟

قصص في ظل الانتفاضة

تصف لي شبلي أنها جلست يوما أمام رجل يحدثها كيف ضرب صاروخ سيارته فقتل زوجته وكذلك أطفاله الثلاثة وأنا أفكر في التفاصيل، في شعره الذي دهمه الشيب. هذا هو القص. فالواقع اليوم مخيف حقا، أفظع من أن نمسك به. ويمكن أن نقول ان القص والتأليف يصبح هنا نوعاً من الانحراف .
قصة عدنية شبلي التلاعب بالعديد من ذرات الغبار (2002) دراسة ليوم في حياة امرأة شابة: تذهب الي مكتب البريد في القدس لترسل طردا، تزور صديقة في رام الله، وتفكر أن تشتري لحما، هذا كل ما يحدث. لكن درجة التركيز وحجم الجهد المطلوب للحفاظ علي كم من الحياد أو اللامبالاة يسمح بأن تمر الشابة خلال يومها دون كارثة ـ هما أليق بفنان سيرك يقوم بالألعاب فوق هوة عميقة، فيخرج القارئ من القصة منهكاً من مشاركته في تفاصيل ما يدور في ذهن الشخصية من أفكار وأفكار مضادة تليها أفكار متعلقة.
كانت مجلة الكرمل أول من نشر كتابات عدنية شبلي، هذه المجلة التي أصدرها الشاعر محمود درويش في بيروت عام 1981، وشاركت أقدار حركة التحرير الفلسطينية من البداية، يرأس تحريرها الكاتب والمترجم حسن خضر، وتصدر منذ عام 1996 في رام الله. كان حسن خضر ومازال عضوا في حركة التحرير الفلسطينية، شارك في كفاحها ومعاركها طوال العقود الثلاثة الماضية، ومجلة الكرمل خير مثال للثقافة الفلسطينية كما يراها أبناؤها: ذات قاعدة عربية متينة ومتجذرة ونظرة مستقبلية عالمية. نشرت الكرمل في الشهور الستة الأخيرة ترجمات من كتابات: هربرت بيكر، راسل بانكس، كوتزي، دوايت رينولدز، جوزيه ساراماجو وافرات بن زئيف، الي جانب اسهامات من الكتاب العرب.
يقول محمود درويش، وهو مازال مرشد المجلة وحاميها، ان أعلي ما يطمح اليه الشاعر اعطاء الشعر جماليات تمنحه امكانية العيش، لا في زمن آخر فحسب، بل في وعي آخر أيضاً. .
وفي رأي خضر أن الفوضي والخلط في الظروف المعاصرة تستثير التعبير الابداعي: الفرص مغرية لكنها محفوفة بالمزالق، فقد تخرج الكتابة مبتسرة تفقد حياتها اذا نقلت الي وعي مغاير. هو يعمد الي ترك مساحة بينه وبين الحدث: أن أدع الأحداث تبرد حميتها قليلا، أن أدع مساحة من الزمن (وليس مجرد مساحة عاطفية او سيكلوجية) تحتل مكانا لها ـ هذه وصفات للمحاولة من تقليل خطر الابتسار .
كنت أعيش في الرياض، وحدث أن طفلة أعرفها صدمتها سيارة فماتت. لم أر الحادث أو أشهد موت الطفلة، لكن سمعت به، ورأيت الطريق وقد اختلف، وزرت الأم الحزينة. وعجزت بعدها أن أقوم بأي عمل حتي فرغت من كتابة قصة موت هذه الطفلة، ميلودي . أُحَدِّثُ حسن خضر بهذا علي خط تليفون متقطع يهدد في كل لحظة بالصمت، فيخبرني أنه في طريق عودته الي بيته منذ ساعات، وعلي بعد حوالي مئة متر من خرائب المقاطعة، سمع صوت طلقات رصاص. وفي أخبار الساعة السادسة علم أن رجلا قتل في رام الله عندما حاول القاء المتفجرات علي جنود اسرائيليين. قال شعرت بالخجل وأنا أسمع نشرة الأخبار، لأن الفكرة مرت سريعا في ذهني عندما سمعت الطلقات في الساعة الثالثة والنصف أنها قد تكون مصوبة الي شخص بعينه، وربما لم تستغرق الفكرة أكثر من ثانية لتنطفئ، وفي السادسة اتضح أن الطلقات صوبت بالفعل الي شخص معين، وقد قتل. خجلت مما وقع في الساعة الثالثة والنصف، الا أن ذلك لم يمنعني من تناول غدائي. ولن يقتصر خجلي علي ذلك، فسوف أمر يوميا في طريقي الي العمل وكذلك عند عودتي بالبقعة التي سقط فيها القتيل، فكم مرة سأذكر أن انسانا سقط قتيلا هنا؟ وكم من المرات سأسير في طريقي ولا أتذكر؟ الموقف يسلب الموت فصاحته ورهبته .
حسن خضر يعمل رئيس تحرير الي جانب كونه كاتباً، وحدث أن أرسل (أثناء فرض حظر التجول) بروفات المجلة الي المطبعة في سيارة اسعاف، ولا زال يصدر الكرمل مرتين في السنة. يقول: عندما هاجم الاسرائيليون (مركز خليل) السكاكيني (الثقافي)، وعاثوا فيه الفساد، لم يهتموا كثيراً بمكتبي، لكنهم نثروا الأوراق علي أرض الغرفة، وقد احتفظت بمسودة قصيدة انطبع عليها نعل حذاء عسكري ملطخ بالطين، ولعل الجندي الذي داسها لم يلحظ ما فعل، لكنه ترك توقيعه علي القصيدة .

رفضوا جميعا ان نتحدث عن الاوضاع

في أكتوبر الماضي دعيت للحديث في ذلك المركز: قصر عثماني جميل من القرن التاسع عشر يقع في قلب رام الله، أهدته أسرة خليل سكاكيني للمدينة. كانت القاعة مكتظة بالجمهور، وكان كثيرون قد حضروا من القدس، قاطعين الكيلومترات الثلاثة عشر في ثلاث ساعات متحدين الجيش والحواجز. قالوا يندر أن يأتينا أحد من الخارج، نريد أن نستنشق بعض هواء الخارج النقي....
رفضوا جميعا أن نتحدث عن الأوضاع ، أو عن اقتحام جيش الاحتلال للمدينة صباح اليوم نفسه والتوغل فيها والقبض علي شاب اتهموه بقتل اثنين من جنودهم. كان الحضور يريدون الحديث عن الأدب. وفي منتصف الحديث والقراءة دوي انفجار فتوقفت. خرج أحد الشباب ليستطلع الأمر وعاد يقول أنها مجرد أنبوبة غاز، وقال الجميع استمري، ففعلت.
قضيت تلك الليلة في بيت أحدي الصديقات في رام الله، وفي الساعة الثالثة قبل الفجر استيقظت علي أصوات قرع عالية. وصل الاسرائيليون، قلتها لنفسي نكتة، وجذبت الغطاء علي وجهي وعدت للنوم. الا أن القرع الشديد استمر، وبدأ مسجد قريب في تلاوة آيات قرآنية يلف صوتها الحي كله. كان الأمر خطيراً. وجدت مضيفتي واقفة علي سطح بيتها ترقب ما يدور في الشارع الضيق. كانت مجموعة من ستة جنود تنتشر أمام باب بيت في الصف المقابل: يبدأ اثنان بالهجوم علي الباب المغلق بمعاول الهدم بينما يصوب الأربعة من زملائهما بنادقهم الي الشارع والبيوت المجاورة، ثم يقرفصون ويتبادلون المواقع جريا ويعاودون الهجوم علي باب البيت. مشاعلهم تنير فجأة ثم تنطفئ، ونحن نرقبهم من ناحيتنا في الظلام، كأننا نرقب فيلما سينمائيا، ونستشعر ان باقي الجمهور حاضر يرقب في الظلام أيضا، وشريط الترتيل يلفنا وينفذ الي آذاننا يقطعه دوي الرصاص. قالت صديقتي عودي الي فراشك، هذا البيت خال، ولن يرحل الجنود قبل الفجر . في اليوم التالي علمت أن محاميا شابا من أقرباء المقاتل المقبوض عليه كان يعلم أن لديه متفجرات فذهب ليخرجها قبل أن يعود الجنود، ولم يكن خبيرا بها فانفجرت عليه. كان ذلك ونحن نناقش القصة والرواية في مركز السكاكيني.
هل في مقدور الروائي أو الشاعر أن يتجاهل الأوضاع ؟ هل لدينا مساحة للكتابة خارج الأوضاع ؟ محمود درويش أعلن مقولته الذائعة عن حقه في الكتابة في أمور ليست من الشأن الفلسطيني، حقه، كفنان، في اللعب وفي عدم العقلانية، الا أنه في رثائه للشاعرة الفلسطينية فدوي طوقان توفيت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2003 يواجه السؤال الصعب: ماذا يفعل الشاعر في زمن المحنة؟ اذ صار علي الشاعر أن يخرج من ذاته الي خارجها، وصار علي الشعر أن يشهد ؟ نجح الشاعر مريد البرغوِثي، بعد محاولات دامت ثلاثين عاماً، في أن يحصل علي تصريح بزيارة بلده، رام الله، لمدة أسبوعين، في عام 1997. ونتج عن الرحلة كتاب رأيت رام الله (2000). معضلة كتابة ما هو خارجك ـ الكتابة كجزء من مجموع ـ أن هذا لا ينتج أدباً الا اذا تأصلت التجربة في ادراكك الشخصي ـ بحيث لا يظل الخارج خارجا. الخارج يصبح داخلك، يتحول الي مكون في تركيبك الداخلي، في تعريفك لذاتك. أنا صنيعة التاريخ والجغرافيا والأحداث. لا فائدة من اعادة كتابة الأحداث. من منا تمر عليه الأحداث كما يمر الزئبق علي الورق؟ لحظة التماس بين الأنا والخارج هي التي تنتج أدباً .

الحق في الكتابة

لم أجد كاتباً فلسطينياً لا يصر علي حقه في أن يتخذ قراراً حِرَفِياً أو جماليا ألا يكتب عن الأوضاع ـ الا أنه حق نظري الي حد كبير، فالأحداث التي تمس الروح غالبا ما يكون لها علاقة بالحياة في ظل الاحتلال. ليانة بدر: يقتحمون حياتنا بكل الطرق. ليست عندي حياة الا وكانت تحت السيطرة الكاملة لهم. تدخل في أطبائنا، تدخل في صداقاتنا، ما قدرتش أشوف فدوي طوقان في نابلس، عزلت عن الناس حتي ماتت. البوابات الالكترونية. بطاقات لكل الشعب علي الكمبيوتر لنكون مثل عبيد القرون الوسطي. حياتي كتير صغرت .
لعل هذا ما دعا كثيرين الي كتابة المقال أو ما يسمونه شذرات. أي استجابات أدبية لأحداث يلزمهم ككتاب أن يعالجوها مباشرة بدون انتظار تجليها فنيا في قصص أو شعر. يعالج حسن خضر في شظايا الواقع والزجاج (الكرمل ـ خريف 2002) تجربة معايشة الاحتلال في الشارع وعلي شاشة التلفزيون في نفس الوقت، فيصوّر ببراعة العلاقة الديناميكية بين العنف من ناحية، سواء ارتكبه الفلسطينيون أو وقع عليهم، والاعلام من ناحية أخري فلسطينيا كان أو عربيا أو دوليا، وكيف ابتعلت الصورة الحدث، ثم شكلته. لم استغرب أن من حدثتهم من الكتاب أجمعوا علي النتائج السلبية لعسكرة الانتفاضة والعمليات الانتحارية، لكن ما مدي المساحة التي يفسحها الاعلام الغربي، مثلا، للمقاومة المدنية للجدار الاسرائيلي في القري الفلسطينية اليوم؟
كتب جان جينيه، في عام 1985، يصف الفدائيين الفلسطينيين وهم يقفون أمام الكاميرات عن طيب خاطر، حاملين بنادقهم، كاميرات اعلام لا يدركون مقاصدها ولن ينتفعوا منها، يجاملون الاعلام الغربي الذي لن ينصفهم. ويصف جينيه كيف أساء ذلك الاعلام للفلسطينيين: ان الصحافيين، اذ يصفون الفلسطينيين بشكل مغاير لحقيقتهم، استبدلوا الحقيقة بالشعارات. قد عشت مع الفلسطينيين وعجبت من التصادم بين الرؤيتين. كانوا مناقضين تماما لما وصفوا به، حتي ان اشعاع ضوئهم كان ينبثق من هذا التناقض، ان كل التفاصيل السلبية التي تجدها علي صفحات الجرائد، من أصغرها الي أكبرها، وجدتُ لها قرينا ايجابيا في الواقع... (سجين محب).
اليوم نعيش نفس المشكلة. فاذا كان الانتحاريون او الاستشهاديون أو حاملو السلاح أو أعضاء السلطة الفلسطينية قد أسهموا في سلبيات الصورة التي تمثلهم، فمن الصعب تبرير ما يقال عن كثير من الفلسطينيين ـ الكتاب مثلا. ولعل أقرب مثال ورد في مقال للكاتبة ليندا غرانت، في ملحق الغارديان ، علي لسان الكاتب الاسرائيلي ديفيد غروسمان.
كتبت غرانت ان عددا من أصدقائها في بريطانيا اقترحوا أن يشكل كتاب من اسرائيل اتحادا مع كتاب من الجانب الفلسطيني، ليساند بعضهم بعضا.. يصف غروسمان كيف شكل مجموعة في أوائل التسعينيات، وكانوا يجتمعون سرا تحت مظلة عدد من السفارات الأجنبية لمدة 3 سنوات، ولكن، علي حد قوله، لا يكاد يوجد أي اتصال اليوم بين الأدباء الاسرائيليين والفلسطينيين بسبب تلميحات من عرفات للكتاب الفلسطينيين ألا يساهموا في التطبيع مع اسرئيل . ويقول أيضا ان الكتاب الفلسطينيين ظنوا ان الكتاب الاسرائيليين بامكانهم أن يغيروا سياسة دولتهم، واذ أدركوا استحالة ذلك يئسوا من جدوي أي عمل مشترك .
وهذا الكلام يصور الكتاب الفلسطينيين كأدوات في يد عرفات، كما يظهرهم بمظهر الغفلة سياسيا اذ يلتقون بالاسرائيليين في سفارات أجنبية، ويتوقعون منهم أن يغيروا سياسة الدولة!

سألت الكتاب الفلسطينيين الذين
حادثتهم عن رأيهم في كتاب اسرائيل؟

وكانت الاستجابة الأولي في كل الأحوال أدبية: ليانة بدر تقول قرأت الكتاب الاسرائيليين جيدا. أدبهم أدب فردي. أي أدب أفراد وليس أدب ظاهرة مثل أدب امريكا اللاتينية، فمرجعياتهم لثقافات مختلفة . يمتدح حسن خضر أدب ديفيد غروسمان وأهارون أَبلْفِلْد. يعلن مريد البرغوثي حبه لشعر يهودا أميشاي. أسأل ان كان موقف الكاتب السياسي يُلَوِّن استجابتنا له كأديب؟ تعلق عدنية شبلي أن أكثر الكتاب الاسرائيليين اثارة لاعجابها هو تشاي عجنون ولم يكن معروفاً بلطفه مع الفلسطينيين .


اهداف سويف، روائية مصرية تعيش في بريطانيا، لها العديد من الروايات في عين الشمس ، عيشة ، نافخ الرمل ، خريطة الحب التي رشحت لجائزة بوكر التي تعتبر من ارفع الجوائز الادبية البريطانية. وتساهم في الكتابة الصحافية ومراجعات الكتب. وترجمت رحلة مريد البرغوثي رأيت رام الله ، وهي الترجمة التي اصدرتها دار بلومزبري في لندن