ثابت الجنان
16-02-2005, 05:00 AM
في حفل دعاني اليه طبيب سوري ثري يعيش علي مقربة من شتوتجارت، قابلت ما يزيد عن عشرين رجلا ميسورا، في أواسط العمر، كانت زوجاتهم صغيرات بعض الشيء، لكنهن بدينات، وأشار الطبيب بشيء من الحيطة الي أنه اعد استقبالا مهيبا لعمه يشارك فيه كل الوجهاء السوريون في المانيا. كان هذا العم جنرالا، الرجل الثاني في النظام بعد 'الاسد' وقد جاء في زيارة غير معلنة.
احتار الضيوف وتضاحكوا من المهمة السرية للجنرال. لكن الضيف رفض ذلك وردد بجفاء 'فحص طبي' وفجأة ضجت الشقة بالحركة. همس الناس، لابد أن الجنرال قد وصل .. عبر الباب ظهر رجل علي مشارف الستينيات، طويل القامة، متراخي الحركة. يرتدي بدلة ضيقة للغاية، غير أنيقة. بدا كرجل كهل قضي يوما عاصفا في سوق الروبابيكيا، لا شخصا يقود المخابرات والوحدات الخاصة!؟
طلب المضيف الانتباه وقدم عمه بطريقة مسرحية نوعا ما. ثم اصطحبه إلي كل واحد منا فبدا الامر برمته منقولا عن مشهد تليفزيوني لاستقبال المستشار فقط كان المناخ المحيط فقيرا للغاية.. وسمع المرء كيف يعلق الجنرال علي وظيفة كل ضيف. فسأل تاجر السيارات عن أحدث أنواع المرسيدس، وطبيب العظام عن حل لآلام الرقبة، وداعب الصيدلي وسأله عن منشط وسأل المهندس المعماري اذا كان لا يمانع في تقديم المساعدة في بناء مسكنه علي البحر المتوسط.
عندما وصل اليٌ المضيف وعمه قال: 'السيد رفيق شامي، كاتب يحبه الالمان' أحسست بشكة دامية في قلبي بسبب تلك المسافة التي غلفتها كلمات المجاملة لكن رد فعل الجنرال حبس أنفاسي: 'ماذا تكتب؟' أجبت: 'روايات وكتب أطفال' فقال بنبرة تستنكر لا تسأل 'لم هذا!' ثم انتقل الي الضيف التالي، مقاول من مدينة حلب السورية، فأدركت ساعتها كم هي تعاسة الثقافة العربية لكونها في قبضة هؤلاء الحقراء.
ان الدبلوماسيين مرآة عاكسة لحكوماتهم. واليوم وبعد 1397 محاضرة طوال 25 عاما يمكنني اقناع كل متشكك بأنه بالرغم من أن كل الدبلوماسيين يجيدون القراءة الا انهم أميون ثقافيا كما لو أنهم ذهبوا مع هذا الجنرال الي المدرسة.
فأينما ذهبت في زيورخ 'باريس' برلين، فيينا، لم اقابل طيلة هذه السنوات دبلوماسي واحد من الدول العربية. لذا اندهشت من توجيه الجامعة العربية لذلك النداء السييء لكتاب المنفي. فلم ينبغ علي المشاركة في معرض فرانكفورت الي جانبها؟ وماذا فعلت الجامعة العربية طيلة عشرات السنين من تواجدها للكتاب المنفيين والمطاردين والمحبوسين؟ أن أعمالي تصدر في 23 لغة ليس من بينها العربية. ذلك لانني في القائمة السوداء، وهو ما اعتبره أكبر 'جائزة أدبية' عربية، رغم ما يسببه ذلك من ألم.
وهل هي مصادفة أن يصبح أشهر الكتاب العرب علي مستوي العالم حتي حصول نجيب محفوظ علي نوبل والذي لم يغادر منزله في القاهرة منذ الاعتداء عليه هم فقط كتاب المنفي: ادوارد سعيد، الطاهر بن جلون، رفيق شامي، أيمن معلوف؟ لا.
أن الامر يعد نتيجة حتمية لليلة طويلة من الدكتاتورية العربية، بل اني أتنبأ بأن يصبح المنفي الوطن الوحيد للأدب العربي الجاد.
لكن لماذا لا يعرف العالم هذا الجيش من كتاب الدول العربية؟ سؤال معقد؟ ستبدل اجابته الرسمية من قبل الدول العربية السبب والتأثير وغالبا ما تنصب علي معاداة السامية. ان معظم الايضاحات ما هي الا وسائل تعزية لكتاب الدول الذين يعتقدون بضياع كل من ترك عشيرته وموطنه. أن السبب في هامشية الادب العربي متعدد الجوانب اذ يطبع في الوطن العربي عددا قليلا جدا من الكتب. وبمقارنة سريعة مع المانيا أكثر من 700 عمل جديد لكل مليون نسمة يتضح أن الدول العربية صحراء أدبية!
35 كتابا جديدا سنويا لكل مليون نسمة، وقليل جدا منه يجد طريق للغة أجنبية.. لماذا؟
1 تحالف غير مقدس بين الجيش والاصوليين والعصابة الحاكمة يولد استبدادية خانقة. فقد تكلف قصيدة صاحبها عشر سنوات في السجن وقد يقتل مقال كاتبه، ان الادب المعارض ضعيف وفي وضع حرج.
2 أسواق الكتاب تقاوم دوما وبشكل مطرد الترجمة من اللغات الاخري لكننا في المانيا لم نشعر بذلك بعد. فألمانيا جنة للكتب والوحيدون الذين لا يعلمون هذا هم الألمان. وعلي العكس من ذلك فان الوضع بالنسبة للآداب الغربية في الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وشرق أوروبا وايطاليا واليابان والصين يبدو مظلما.أما في المانيا فتترجم آلاف العناوين من كل انحاء العالم، بل وتمول بعض الترجمات من المصالح الحكومية والكنيسة ومؤسسات شتي. فجمهور القراء هناك أحد أهم محبي الاستكشاف في العالم.
3 برغم كل هذه الظروف المواتيةتبقي معظم الترجمات من العربية مجهولة للقاريء، وسريعا ما تباع بأبخس الاثمان، ولهذا أسبابه المقنعة،. فمعظم كتاب الدول العربية والذين يجدلهم الوسطاء طريقا، مقلدون مملون. ولو أجري بحث شيق عن تبعية الادب العربي سيكتشف انها قد تبدلت، اذ قلد الادب العربي أولا نظيره الفرنسي، فالامريكي ثم الروسي وأخيرا الاداب اللاتينية. ورغم أن الموروث العربي يحوي تجارب أدبية، الا ان أحدا لايقدرها بل علي العكس كلما كتب المرء بلغة غير عربية كلما وجد نفسه متجددا. ولعل هذا ما يجعل العرب ينظرون الي اوروبا بشيء من النقص ويدفعهم للمحاكاة من أي ثقافة غربية. لكن وكما كان الامر منذ ثلاثين عاما فمازلت أنادي بفرضية أننا يجب أن نستقي من مخزون خبراتنا وأن نقترب في القص أكثر من أنفسنا.
والأدب بمفرده لا يلعب الدور الحاسم، فهناك الوسطاء أيضا، وللأسف لم يكن للاداب العربية نفس حظا لاداب اللاتينية التي اقتربت من جمهور القراء الالمان عن طريق مترجمين عباقرة أمثال كارت ماير كلاسون.. فعلي العكس يعاني الادب العربي حظا عاثرا مع مترجميه الذين لا يجيدون العربية ولا الالمانية ولا حتي الاثنين معا بشكل جيد، وبدلا من البحث عن كاتبات وكتاب معاندين، تترجم في تلك الاثناء الاعمال الرائعة للديكتاتوريين! فكأن جرائم صدام حسين لم تغن لذا فنحن مجبرون علي ترجمة بخره الادبي. فترجمت دوريس كيلياس هذا العام اسهاما منه في تفاهم الشعوب رواية صدام حسين 'ذبيبة والملك' كما ترجم جرنوت روتر عضو حزب الخضر المعارض قبل سنوات رواية القذافي 'القرية، القرية ، الارض، الارض، وانتحار رائد الفضاء' 'دار نشر Belleville ميونخ' أوراق طيبة'!!
فبدلا من تعلم العربية بصورة أفضل وكتابة الالمانية بطريقة أحسن يتحول هؤلاء المترجمون لخبراء في النفسية العربية وسوق الكتاب الالماني لكن تشخيصاتهم تدعو كل صبي في تجارة الكتب لهز الرأس. لذا يتملكني احساس حزين بأن الادب العربي في الغالب ¬لن يحاط في المانيا بالاصدقاء أو العشاق، وانما بهؤلاء الذين يعالجون الناس بالصلاة أو ممن يسمون أنفسهم معالجون ولو استمر الوضع علي هذا النحو فبالكاد سيجد الشعر العربي الفرصة. ومع ذلك فانني متفائل لا ينتصح: اذ سيكتشف القاريء وسط هذا الزخم أفضل الاشياء.
رفيق شامي / ترجمة: علاء عزمي
عن جريدة تاجس شبيجل الالمانية
احتار الضيوف وتضاحكوا من المهمة السرية للجنرال. لكن الضيف رفض ذلك وردد بجفاء 'فحص طبي' وفجأة ضجت الشقة بالحركة. همس الناس، لابد أن الجنرال قد وصل .. عبر الباب ظهر رجل علي مشارف الستينيات، طويل القامة، متراخي الحركة. يرتدي بدلة ضيقة للغاية، غير أنيقة. بدا كرجل كهل قضي يوما عاصفا في سوق الروبابيكيا، لا شخصا يقود المخابرات والوحدات الخاصة!؟
طلب المضيف الانتباه وقدم عمه بطريقة مسرحية نوعا ما. ثم اصطحبه إلي كل واحد منا فبدا الامر برمته منقولا عن مشهد تليفزيوني لاستقبال المستشار فقط كان المناخ المحيط فقيرا للغاية.. وسمع المرء كيف يعلق الجنرال علي وظيفة كل ضيف. فسأل تاجر السيارات عن أحدث أنواع المرسيدس، وطبيب العظام عن حل لآلام الرقبة، وداعب الصيدلي وسأله عن منشط وسأل المهندس المعماري اذا كان لا يمانع في تقديم المساعدة في بناء مسكنه علي البحر المتوسط.
عندما وصل اليٌ المضيف وعمه قال: 'السيد رفيق شامي، كاتب يحبه الالمان' أحسست بشكة دامية في قلبي بسبب تلك المسافة التي غلفتها كلمات المجاملة لكن رد فعل الجنرال حبس أنفاسي: 'ماذا تكتب؟' أجبت: 'روايات وكتب أطفال' فقال بنبرة تستنكر لا تسأل 'لم هذا!' ثم انتقل الي الضيف التالي، مقاول من مدينة حلب السورية، فأدركت ساعتها كم هي تعاسة الثقافة العربية لكونها في قبضة هؤلاء الحقراء.
ان الدبلوماسيين مرآة عاكسة لحكوماتهم. واليوم وبعد 1397 محاضرة طوال 25 عاما يمكنني اقناع كل متشكك بأنه بالرغم من أن كل الدبلوماسيين يجيدون القراءة الا انهم أميون ثقافيا كما لو أنهم ذهبوا مع هذا الجنرال الي المدرسة.
فأينما ذهبت في زيورخ 'باريس' برلين، فيينا، لم اقابل طيلة هذه السنوات دبلوماسي واحد من الدول العربية. لذا اندهشت من توجيه الجامعة العربية لذلك النداء السييء لكتاب المنفي. فلم ينبغ علي المشاركة في معرض فرانكفورت الي جانبها؟ وماذا فعلت الجامعة العربية طيلة عشرات السنين من تواجدها للكتاب المنفيين والمطاردين والمحبوسين؟ أن أعمالي تصدر في 23 لغة ليس من بينها العربية. ذلك لانني في القائمة السوداء، وهو ما اعتبره أكبر 'جائزة أدبية' عربية، رغم ما يسببه ذلك من ألم.
وهل هي مصادفة أن يصبح أشهر الكتاب العرب علي مستوي العالم حتي حصول نجيب محفوظ علي نوبل والذي لم يغادر منزله في القاهرة منذ الاعتداء عليه هم فقط كتاب المنفي: ادوارد سعيد، الطاهر بن جلون، رفيق شامي، أيمن معلوف؟ لا.
أن الامر يعد نتيجة حتمية لليلة طويلة من الدكتاتورية العربية، بل اني أتنبأ بأن يصبح المنفي الوطن الوحيد للأدب العربي الجاد.
لكن لماذا لا يعرف العالم هذا الجيش من كتاب الدول العربية؟ سؤال معقد؟ ستبدل اجابته الرسمية من قبل الدول العربية السبب والتأثير وغالبا ما تنصب علي معاداة السامية. ان معظم الايضاحات ما هي الا وسائل تعزية لكتاب الدول الذين يعتقدون بضياع كل من ترك عشيرته وموطنه. أن السبب في هامشية الادب العربي متعدد الجوانب اذ يطبع في الوطن العربي عددا قليلا جدا من الكتب. وبمقارنة سريعة مع المانيا أكثر من 700 عمل جديد لكل مليون نسمة يتضح أن الدول العربية صحراء أدبية!
35 كتابا جديدا سنويا لكل مليون نسمة، وقليل جدا منه يجد طريق للغة أجنبية.. لماذا؟
1 تحالف غير مقدس بين الجيش والاصوليين والعصابة الحاكمة يولد استبدادية خانقة. فقد تكلف قصيدة صاحبها عشر سنوات في السجن وقد يقتل مقال كاتبه، ان الادب المعارض ضعيف وفي وضع حرج.
2 أسواق الكتاب تقاوم دوما وبشكل مطرد الترجمة من اللغات الاخري لكننا في المانيا لم نشعر بذلك بعد. فألمانيا جنة للكتب والوحيدون الذين لا يعلمون هذا هم الألمان. وعلي العكس من ذلك فان الوضع بالنسبة للآداب الغربية في الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وشرق أوروبا وايطاليا واليابان والصين يبدو مظلما.أما في المانيا فتترجم آلاف العناوين من كل انحاء العالم، بل وتمول بعض الترجمات من المصالح الحكومية والكنيسة ومؤسسات شتي. فجمهور القراء هناك أحد أهم محبي الاستكشاف في العالم.
3 برغم كل هذه الظروف المواتيةتبقي معظم الترجمات من العربية مجهولة للقاريء، وسريعا ما تباع بأبخس الاثمان، ولهذا أسبابه المقنعة،. فمعظم كتاب الدول العربية والذين يجدلهم الوسطاء طريقا، مقلدون مملون. ولو أجري بحث شيق عن تبعية الادب العربي سيكتشف انها قد تبدلت، اذ قلد الادب العربي أولا نظيره الفرنسي، فالامريكي ثم الروسي وأخيرا الاداب اللاتينية. ورغم أن الموروث العربي يحوي تجارب أدبية، الا ان أحدا لايقدرها بل علي العكس كلما كتب المرء بلغة غير عربية كلما وجد نفسه متجددا. ولعل هذا ما يجعل العرب ينظرون الي اوروبا بشيء من النقص ويدفعهم للمحاكاة من أي ثقافة غربية. لكن وكما كان الامر منذ ثلاثين عاما فمازلت أنادي بفرضية أننا يجب أن نستقي من مخزون خبراتنا وأن نقترب في القص أكثر من أنفسنا.
والأدب بمفرده لا يلعب الدور الحاسم، فهناك الوسطاء أيضا، وللأسف لم يكن للاداب العربية نفس حظا لاداب اللاتينية التي اقتربت من جمهور القراء الالمان عن طريق مترجمين عباقرة أمثال كارت ماير كلاسون.. فعلي العكس يعاني الادب العربي حظا عاثرا مع مترجميه الذين لا يجيدون العربية ولا الالمانية ولا حتي الاثنين معا بشكل جيد، وبدلا من البحث عن كاتبات وكتاب معاندين، تترجم في تلك الاثناء الاعمال الرائعة للديكتاتوريين! فكأن جرائم صدام حسين لم تغن لذا فنحن مجبرون علي ترجمة بخره الادبي. فترجمت دوريس كيلياس هذا العام اسهاما منه في تفاهم الشعوب رواية صدام حسين 'ذبيبة والملك' كما ترجم جرنوت روتر عضو حزب الخضر المعارض قبل سنوات رواية القذافي 'القرية، القرية ، الارض، الارض، وانتحار رائد الفضاء' 'دار نشر Belleville ميونخ' أوراق طيبة'!!
فبدلا من تعلم العربية بصورة أفضل وكتابة الالمانية بطريقة أحسن يتحول هؤلاء المترجمون لخبراء في النفسية العربية وسوق الكتاب الالماني لكن تشخيصاتهم تدعو كل صبي في تجارة الكتب لهز الرأس. لذا يتملكني احساس حزين بأن الادب العربي في الغالب ¬لن يحاط في المانيا بالاصدقاء أو العشاق، وانما بهؤلاء الذين يعالجون الناس بالصلاة أو ممن يسمون أنفسهم معالجون ولو استمر الوضع علي هذا النحو فبالكاد سيجد الشعر العربي الفرصة. ومع ذلك فانني متفائل لا ينتصح: اذ سيكتشف القاريء وسط هذا الزخم أفضل الاشياء.
رفيق شامي / ترجمة: علاء عزمي
عن جريدة تاجس شبيجل الالمانية