PDA

View Full Version : المتلاعبون بالعقول


أندلسي
04-02-2005, 11:51 AM
كتاب " المتلاعبون بالعقول " الوعي إذ يُقدَّم جاهزاً ومعلباً .


قراءة : إبراهيم غرايبة

الكتاب : المتلاعبون بالعقول .
المؤلف : هربرت شيللر .
الناشر : المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت .
الطبعة الأولى : عام 1986م . الثانية : عام 1999م .


*فكرة الكتاب وهي " التلاعب بالعقول " تأكدت بعد الأحداث الأخيرة .

*تجتذب وسائل الإعلام أذكي المواهب ؛ لأنها تقدم لهم أعلى الحوافز ، لكن ينتهي الأمر بالموهوبين إلى العمل في الإعلانات والإعلام . . والتضليل.


*من بين الأساطير الشائعة عن التلفزيون الأمريكي أنه يعمل بوصفه منارة ديمقراطية ثقافية تستجيب كلية لإرادة أغلبية المشاهدين .


*أمام الضغط الإعلامي لا يجد الجمهور فسحة للتأمل والتفكير والتحليل ، ويقدم إليه الوعي جاهزا ، ولكنه وعي مبرمج ومُعَد مسبقاً باتجاه واحد مرسوم .

في تقدم الأحداث مناسبة لاستذكار كتب ودراسات سابقة تساعد على الفهم والتحليل وتذكر الناس بمقولات وآراء عما يجري لم تجد فيها مفاجأة ، وبرغم أن منهجية البحث عن أدلة وشواهد لفكرة جاهزة ومعدة يضلل الفهم ويستدرج الناس إلى غير الحقيقة ، وبخاصة عندما تحشد إمكانات معرفية كبيرة ومتقدمة لحشر هذه الفكرة في أذهان الناس وتأكيدها في عقولهم ، فإن بعضاً من هذه التقاليد تساعد على الفهم ، وتنبه على " التلاعب بالعقول " الذي يمارس بدهاء وتحت غطاء من الديمقراطية والحياد والموضوعية والحرية الإعلامية والسياسية ، وهذا تماما ما يقدمه كتاب "المتلاعبون بالعقول" من تأليف ( هربرت شيللر ) أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة كاليفورنيا ، والذي نشره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت عام 1986 ثم أعيد إصداره عام 1999م ؛ تقديرا لأهمية الكتاب المتجددة والحاجة مرة أخرى لاستعادته , ولكنه اليوم بعد الأحداث الأخيرة يبدو أكثر أهمية برغم التطور الإعلامي الكبير الذي حدث بعد إصدار الكتاب ، ولكنها تطورات تؤكد مقولة الكتاب وفكرته عن التلاعب بالعقول الذي تمارسه وسائل الإعلام الأمريكية.
فقد تمثلت العبقرية المرعبة للنخبة السياسية الأمريكية في قدرتها على إقناع الشعب بالتصويت ضد أكثر مصالحه أهمية دون حاجة للقمع والاضطهاد ، فيقوم مديرو أجهزة الإعلام في أمريكا بوضع أسس عملية تداول الصور والمعلومات ويشرفون على معالجتها وتنقيحها وإحكام السيطرة عليها، تلك الصور والمعلومات تحدد معتقدات الناس ومواقفهم، بل وتحدد في النهاية سلوكهم ، وهذه الدراسة النقدية لوسائل الإعلام والاتصال في الولايات المتحدة تعني العالم كله ، فالإعلام الأمريكي ( كما السياسة الأمريكية ) يصوغ مواقف العالم واتجاهاته ، والثقافة الأمريكية يجري تصديرها عالميا، وقد أصبحت بالفعل النموذج السائد في العالم.
وحيث يكون التضليل الإعلامي هو الأداة الأساسية للهيمنة تكون الأولوية لتنسيق الوسائل التقنية للتضليل وتنقيحها على الأنشطة الثقافية الأخرى ، وتجتذب وسائل الإعلام - طبقا لمبادئ السوق - أذكي المواهب ؛ لأنها تقدم أعلى الحوافز وهكذا ينتهي الأمر بالدارسين الموهوبين من حاملي أعلى الشهادات العلمية والأكاديمية إلى العمل في الإعلانات والإعلام.. والتضليل.
تتم السيطرة على أجهزة المعلومات وفق قاعدة بسيطة من قواعد السوق ، فامتلاك وسائل الإعلام والسيطرة عليها شأنه شأن الملكية الأخرى متاح لمن يملكون رأس المال ، والنتيجة الحتمية لذلك أن تصبح محطات الإذاعة وشبكات التلفزيون والصحف والمجلات وصناعة السينما ودور النشر مملوكة جميعها لمجموعة من المؤسسات المشتركة والتكتلات الإعلامية ويصبح الجهاز الإعلامي جاهزا للاضطلاع بدور فعال وحاسم في عملية التضليل.
وتحت غطاء حماية الملكية الخاصة وحراسة رفاه الفرد وحقوقه يتم تشييد هيكل كامل من التضليل الإعلامي ، فهذه الشركات العملاقة من الاحتكار الإعلامي تسوق على أنها مثال للجهد الفردي ، ولكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفعالية أكبر لا بد من إخفاء شواهد وجوده ، أي أن التضليل يكون ناجحا عندما يشعر المضللون بأن الأشياء هي على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية ، أو بعبارة أخرى : إن التضليل الإعلامي يقتضي واقعا زائفا هو الإنكار المستمر لوجوده أصلا ، فقد شاركت وسائل الإعلام على اختلافها في الترويج لأسطورة المباحث الفيدرالية بوصفها وكالة لا سياسية عالية الكفاءة لتنفيذ القانون ، ولكن جهاز المباحث استخدم في الواقع في إرهاب وتطويق أي سخط اجتماعي.
ويبرر المسيطرون على وسائل الإعلام ما تحفل به برامج التلفزيون من جرائم قتل تعرض كل يوم بالعشرات بالقول : إنهم يقدمون للناس ما يحبونه ، ثم يقولون بلا مبالاة : إن الطبيعة الإنسانية تتطلب للأسف ثماني عشرة ساعة من الإيذاء والقتل . وتلقى كتابات تفسير النزوع الإنساني للعدوان والنهب برده إلى السلوك الحيواني سوقا شديدة الرواج .
فكيف يفسر "حلالو عقد " اقتصاد السوق هذه الثقوب الواضحة في النسيج الاجتماعي ؟ الواقع أن المتحكمين في الوعي ليسوا في حاجة إلى أن يصوغوا تفسيرات تؤدي إلى تبلد الإدراك وتخفيف الضغوط المطالبة بالتغيير الاجتماعي ، فالصناعة الثقافية التي يقوم نشاطها على المبادئ التنافسية التقليدية توفر من جانبها أي عدد من النظريات المفسرة وتتكفل أجهزة الإعلام بإمكاناتها الهائلة بأن يحصل الشعب على فرصة قراءة وسماع ومشاهدة كل ما يتعلق بأحداث نظرية تربط الجريمة المدنية بسلوك التزاوج عند الحيوانات آكلة اللحوم.
وقد لقي السود والهنود الحمر والصينيون والشرق أوسطيون والآسيويون والأقليات العرقية الأمريكية الأخرى أقل قدر من الاهتمام في الإبداعات الثقافية المصنوعة ، ومع ذلك فهي أقليات استغلت من جانب كل قطاعات الأغلبية البيضاء، ولم يلق الانقسام الاجتماعي إلى عامل وصاحب عمل أي حظ من الدراسة أو الاهتمام.
ويبدو في الظاهر ثمة تنوع كبير في البث الإعلامي مستمد من العدد الكبير للصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون ، ولكن النتيجة كما لو كان ثمة مصدر واحد، فالمادة الترفيهية والأخبار والمعلومات العامة والتوجهات والأفكار يجري انتقاؤها جميعا من الإطار المرجعي الإعلامي نفسه من جانب "حراس" للبوابة الإعلامية تحركهم دواع تجارية لا يمكن التخلي عنها، وقد يختلف الأسلوب والتعبير المجازي لكن الجوهر واحد، فقد تبين أن من بين الأساطير الشائعة عن التلفزيون الأمريكي أنه يعمل بوصفه ديمقراطية ثقافية تستجيب كلية لإرادة أغلبية المشاهدين فيما يتعلق باستمرار برامج معينة واختفاء أخرى، والأدق أن يقال أنه يمثل رغبة واتجاه المعلنين ، وأن المصمم الحقيقي للبرامج هو صناع المواد الغذائية والأدوات المنزلية ومستحضرات التجميل والسيارات والأدوية، والواقع أن برامج كثيرة اختفت برغم شعبيتها والإقبال عليها ولكنها لم تجذب اهتمام المعلنين.
وبرغم ذلك فإن شرط التعددية الاتصالية هذا والخالي تماما من أي تنوع حقيقي هو الذي يوفر أسباب القوة للنظام السائد لتعليب الوعي فالفيض الإعلامي المتدفق عبر العديد من القنوات يخلق الثقة ويضفي المصداقية على فكرة الاختيار الإعلامي الحر في الوقت الذي يتمثل فيه تأثيره الأساسي في توفير الدعم المستمر للوضع القائم في حين يعتقد المشاهد والمستمع والقارئ أنه في جو تلقائي من الحرية والتعددية وتختفي الحقيقة فأجهزة الإعلام لا تلفت أنظار جمهورها لأسلوب عملها.
وعند وقوع أزمة فعلية أو كاذبة أو مفتعلة ينشأ جو هستيري محموم بعيد تماما عن المعقولية ، يؤدي إلى الإحساس الزائف بالطابع الملح للأزمة المترتب على الإصرار على فورية المتابعة ، كما يؤدي إلى النفخ في أهمية الموضوع ، ومن ثم تكون الخطوة التالية هي إفراغه من أهميته ونتيجة لذلك تضعف قدرة الجمهور على التمييز بين درجات الأهمية ، فالإعلان متلاحق السرعة عن تحطم طائرة وعن هجوم إرهابي وعن جريمة ما واختلاس وعن إضراب وعن موجة الحر أو البرد يتحول العقل إلى غربال تصب فيه التصريحات والإعلانات ، أقلها مهم وأكثرها لا أهمية له ، وبدلا من أن يساعد الإعلام في تركيز الإدراك وبلورة المعنى نجده يسفر عن الإقرار الضمني (اللاشعوري) بعدم القدرة على التعامل مع موجات الأحداث المتلاحقة التي تطرق بإلحاح على وعي الناس فيتعين عليه دفاعا عن النفس أن يخفض درجة حساسيته واهتمامه، فتكنولوجيا الاتصال باستخداماتها الحالية تروج لتوجهات بلا تاريخ فيه توجهات مضادة للمعرفة.
وهكذا يبقى الجمهور في دوامة من الأحداث والتدفق والإغداق ، ولا يجد فسحة للتأمل والتفكير والتحليل ، ويقدم إليه الوعي جاهزاً ، ولكنه وعي مبرمج ومعد مسبقا باتجاه واحد مرسوم ، وعندما يجد البعض فرصة للتساؤل والشك فإنهم يتحولون إلى أقلية تفكر عكس التيار وتخالف المجموع العام ويبدون مغفلين ومجانين ولا يفهمون، وقد يضطرون ( وهذا ما يحدث غالبا ) إلى إخفاء تساؤلاتهم وقناعاتهم وهاتف ضميرهم ، ويتظاهرون بأنهم مثل كل الناس ، ويقتلون بالتدريج ملكة التساؤل والضمير المزعج ، أو يقبلون على مضض ويمارسون سرا متعة اللوم والتأنيب كأنما يهربون من أنفسهم أو يكفرون عن ذنوبهم.