PDA

View Full Version : قصة مشهورة و لكن غير حقيقية


قراقوش
01-02-2005, 03:00 PM
يشيع بين المتأدبين في مجالسهم و في بعض منتدياتهم و محاضراتهم قصة تقول : إن علي بن الجهم كان بدوياً جافياً ، فقدم على المتوكل العباسي ، فأنشده قصيدة ، منها :

أنت كالكلب في حفاظك للود (م) وكالتيس في قِراع الخطوب

أنت كالدلو ، لا عدمناك دلواً .. من كبار الدلا كثير الذنوب

فعرف المتوكل حسن مقصده وخشونة لفظه ، وأنه ما رأى سوى ما شبهه به ، لعدم المخالطة وملازمة البادية ، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة ، فيها بستان حسن ، يتخلله نسيم لطيف يغذّي الأرواح ، والجسر قريب منه ، وأمر بالغذاء اللطيف أن يتعاهد به ، فكان – أي ابن الجهم – يرى حركة الناس ولطافة الحضر ، فأقام ستة أشهر على ذلك ، والأدباء يتعاهدون مجالسته و محاضرته ، ثم استدعاه الخليفة بعد مدة لينشده ، فحضر وأنشد :

عيون المها بين الرصافة والجسر .. جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

فقال المتوكل : لقد خشيت عليه أن يذوب رقة و لطافة .

أقول : هكذا وردت القصة – بتصرف يسير – في محاضرات الأبرار و مسامرات الأخيار لابن عربي الصوفي ( 2/3 ) و عنه نقل محمد أحمد جاد المولى و صاحباه في قصص العرب (3/298) و خليل مردم في تحقيقه لديوان علي بن الجهم (حاشية ص 143) فالمصدر واحد لا ثاني له ، و قد حاولت أن أجد لها أصلاً في كتب المتقدمين كالجاحظ و ابن قتيبة و المبرد و ابن عبد ربه و آخرين فلم أقع على شيء من ذلك ، و هذا وحده كاف في توهينها .


فإذا عرفت أن ابن عربي أسند روايتها إلى مجهول فقال : ( حكى لنا بعض الأدباء …) زاد وهنها عندك ، علما أن بين ابن الجهم ( ت 249هـ) و ابن عربي ( ت 638هـ) ما يقارب أربعة قرون ، فأين انزوت هذه القصة الطريفة طوال أربعمائة سنة ؟!

زد إلى ذلك أن ابن عربي نفسه متّهم في دينه ، مطعون في إيمانه ، بل متهم بالكفر ، نقل ذلك فيمن نقل الذهبي (سير أعلام النبلاء : 23/48 ) فقال : إن الشيخ العز بن عبد السلام يقول عن ابن عربي : ( شيخ سوء كذاب ) ، وقال الذهبي نفسه : ( و من أقبح تواليفه كتاب الفصوص ، فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر ) . فهذا الذي يتهم بالكفر كيف لا يتهم بصناعة قصة طريفة يأنس بها الناس و يهشون إليها ؟

أما و قد تسرّب الشكّ إلى نفسك في صحة هذه القصة - من حيث تفرّد امرئ مغموز في دينه ، متأخّر زمنه بروايتها _ فاعلم أن متن القصة يحوي شيئاّ يكذبها :


قال إن علي بن الجهم كان بدوياً جافياً ) ،والتاريخ يقول خلاف هذا ، ففي معجم الشعراء للمرزباني ( ص 286) أن أصله من خراسان ، ولا يعني هذا أنه غير عربي ، ونقل عمر فروخ ( تاريخ الأدب العربي 2/289) أنه ولد ببغداد عام 188هـ ، و في طبقات الشعراء لابن المعتز (ص 319) ما يدل على أنه حضري لا صلة له بالبادية ، فقد روي أنه حبس في المكتب ، فكتب إلى أمه :

يا أمّـنا أفـديك من أمّ .. أشكو إليك فظاظة الجهم


قد سرّح الصبيان كلهم .. وبقيت محبوسـاً بلا جرم


و في تاريخ الطبري ( 9/152) أن علي بن الجهم مدح الواثق بعد أن ولي الخلافة ، و هذا يدلّ على صلته بالخلفاء قبل المتوكل ، و على معرفته بما يلائم و ما لا يلائم من فنون القول و ضروب التشبيه .

و في هذه القصة لفحة شعوبية تريد تصوير العرب أجلافاً لا يعرفون ذوقاً ، و لا يدركون الحسن من السيئ ، و لذا جاء هذا البدوي فشبه الخليفة بالتيس و الكلب و الدلو _ على سليقته زعموا _ و عنده أن هذه الأشياء خير ما يشبه به.


و التاريخ الأدبي يكذب هذه الفرية ، فالعرب لم تمدح أحداً بتشبيهه بالحمار أو التيس أو الكلب ، و هذا أدبهم بين أيدينا ، إنما شبّهوا بالبحر و القمر و الشمس و السماء و الجبل و غيرها من المشبهات الحسنة ، أما عند الهجاء فلا عجب أن يشبهوا بالكلب أو الدلو أو ما قلّ و حقر في عيونهم .

هذا و قد وصف خليل مردم هذه القصة بأنها خيالية ، و قال : إن أثر الوضع ظاهر عليها (انظر ديوان ابن الجهم ص 117،143) و لكنه لم يبيّن سبب شكّه ، و مع ذلك أثبت البيتين الواردين فيها ضمن الديوان (ص117) و اكتفى بقوله : ( والذي نراه - إن صحت نسبة البيتين له - أنه قالهما في أحد مجالس المتوكل يعبث ببعض الندماء أو المضحكين ) .

أقول : إذا ثبت فساد القصة – و قد ثبت - فلا يصحّ أن يلحق البيتان بديوان ابن الجهم ؛ لعدم ورودهما في المصادر المتقدمة ، و لو أن مردماً جعلهما في آخر الديوان في ضمن ما ينسب للشاعر مع تحقيق ذلك لكان أولى ، و الله أعلم .


كتبه الدكتور عبد الله بن سليم الرشيد

نشر في المجلة العربية - عدد ( 250 ) ذو القعدة 1418 ص 58