PDA

View Full Version : ثقافة الثقافة وثيقة تايخية لغازي القصيبي


أبو يحى
30-09-2004, 08:28 PM
http://www.alriyadh-np.com/Contents/28-09-2004/Mainpage/images/tb01.jpg


ضمن فعاليات الملتقى الأول للمثقفين السعوديين الذي تنظمه وترعاه وزارة الثقافة والإعلام بمركز الملك فهد الثقافي أقيمت مساء أمس الجلسة الأخيرة لهذا الملتقى وهي ورقة بحث قدمها معالي الدكتور غازي القصيبي حملت عنوان ثقافة الثقافة قال فيها:
أردت لهذا الحديث ان يكون حديث مكاشفة ومصارحة وكان هذا قراراً عانيت معه، قبل أن أصل اليه، وللمعاناة سبب: لا توجد مكاشفة لا تحرج المكاشِف أو المكاشَف، ولا توجد مصارحة لا تجرح المصارِح أو المصارَح، في المكاشفة والمصارحة شيء من الألم، وهذا الألم في تصوري، هو الذي يبقي المكاشفة، وما يتفرع عنها من مفاهيم كالشفافية والمسائلة، أحلاماً كثيراً ما تستعصي على التحقيق.
أريد ان اصارحكم، بادئ ذي بدء، أني اصبت بكثير من الخوف عندما قرأت اسم الموضوع الذي طُلب ان اتحدث عنه: "التنمية الثقافية ودور المثقف فيها"، والحق أقول لكم اني لا أعرف، على وجه التحديد، المقصود بالتنمية الثقافية، وأوشك ان اقول اني لم أعد أعرف، على وجه التحديد، المقصود بالتنمية عموماً وإجمالاً، على ان هذا الخطب يهون عند الخطب الآخر: دور المثقف. ينتابني كثير من الحيرة وشيء من القلق كلما دار الحديث عن "دور المثقف" في هذا الشأن أو ذلك، أما الحيرة فمصدرها أني لا أعرف نموذجاً واحداً لمثقف بمواصفات إنسانية راقية، وأهداف مجتمعية عالية، ونزاهة شخصية ضافية بحيث يمكنني أن أقول "وجدته!. هذا هو المثقف! وهذا هو دوره!"، المثقفون الذين أعرفهم، والذين أعرف عنهم، ينتمون الى نماذج عديدة، منها نموذج يسرك ان يكون له دور في شؤون مجتمعك، ومنها نموذج تود لو نفيته من مجتمعك نفياً، بين المثقفين تجد الصادق والكاذب، الجبان والشجاع، ذا المبدأ والانتهازي، الى نهاية القائمة من الصفات، وهي صفات نجدها بين كل أصناف البشر، بدأ بعباقرة التاريخ وانتهاءً بالأميين وأشباه الأميين.
أي دور نستطيع ان نتوقعه من قبيلة المثقفين المليئة بالتناقضات؟ وهل يستقيم الحديث عن دور واحد للمثقف اذا كنا إزاء مثقفين: احدهما همه دفع مجتمعه الى الأمام والآخر هاجسه جر مجتمعه الى الوراء؟ هذا عن الحيرة، أما القلق فيجيء عندما ننتقل من التأمل النظري الى جولة سريعة في التاريخ، سوف نجد، بلا جهد، في كل منعطف وكل زاوية، مثقفاً نتمنى لو لم نلتق به، ولو لم يتلق هو بالتاريخ، ولنا ان نستذكر ان الحجاج بن يوسف كان مثقفاً بامتياز، يعلم القرآن الكريم، ويعشق الشعر، ولم يكن يلحن في جد أو هزل، ولنا ان نلحظ ان مثقفاً كبيراً من مثقفي زمانه اصطنع فرناً يضع فيه اعداءه شاءت عدالة السماء ان يموت فيه، وفي أيامنا هذه قال شاعر عراقي موهوب جداً في طاغية العراق شعراً يتفوق في قبحه وبذاءته على الشعر القبيح البذيء الذي يبدأ:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
ولست بحاجة الى ان يذكرني احد بمثقف استشهادي فضل الموت على تغيير موقفه، ومثقف شجاع فشلت كل الضغوط في تدجينه، ومثقف نبيل لم تفسده السلطة، في المحصلة النهائية، وأمام النماذج المتغايرة للمثقفين، أجد من العسير علي ان اتحدث عن دور للمثقف، دور لا يتغير ولا يتبدل، دور معني بهموم القاعدة العريضة من الناس، دور مسكون بقيم الحق والخير والعدالة.
واستأذنكم قبل أن أغادر مضارب هذه القبيلة ان أشير الى رأي مثقف مشهور في زملائه من المثقفين، هو المفكر الأمريكي أريك هوفر، وهو بالمناسبة مثقف عصامي لم يحمل شهادة من أي نوع، يقول: "هناك نهم مترسخ عند كل اصحاب الكلمة تقريباً يحدد نظرتهم الى أي نظام قائم، ذلك هو نهمهم الى الاعتراف بهم والى اعطائهم مكانة متميزة تختلف عن مكانة سائر البشر، "ويضيف" رغم ما يزعمه المثقف المحتج باستمرار من انه بطل المسحوقين والضعفاء فإن الظلامات التي تحركه وتحفزه، هي باستثناءات بسيطة، ظلامات فردية وشخصية"، لسنا بحاجة الى تصديق ما يقول هوفر الذي قال لنا في مقدمة كتابه الذي نقلت عنه هذه العبارات انه يتحدث بمنتهى الجرأة لأنه يعرف انه لا يوجد التزام عند أحد بتصديق ما يقول.
إذن تعذرونني، مشكورين، إذا سمحت لنفسي بتغيير العنوان الذي أرعبني الى عنوان آخر، قد يبدو غامضاً في البداية، هو "ثقافة الثقافة" ولإزالة الغموض أقول: نحن نتحدث عن "ثقافة السلام" التعبير الذي شاع وذاع بفضل مدير اليونسكو السابق، ونتحدث عن "ثقافة الحوار" وهو تعبير يشيع ويذيع في مجتمعنا السعودي هذه الأيام بعد المبادرة التاريخية التي أطلقها سمو ولي العهد بإطلاق مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، لا ضير، إذن، من ثقافة جديدة نسميها، دون رغبة في التلاعب بالألفاظ، "ثقافة الثقافة"، ونعني بها تلك الروح التي تصادق الثقافة وتشجعها وتعينها.
كيف نوجد ثقافة الثقافة؟ ما أسهل طرح الأسئلة وما أصعب الإجابة عليها، وتزداد الصعوبة عندما يكون من يحاول ان يجيب بطبعه، يرى الظلال الشاحبة كما يرى الألوان الفاقعة، ويدرك خطر التعميمات، ويعرف انه يندر ان يكون للحقيقة وجه واحد، ويوقن ان الفكرة الواحدة عندما تدخل ألف رأس قد تدخله بألف رداء، بهذا التحفظ يمكنني أن أوضح المقصود بثقافة الثقافة، الا ان هناك وقفة ضرورية قبل الاستطراد.
لعلكم لاحظتم اني حاولت، حتى الآن، أن أتملص من الوقوع في مزلق رهيب، وهو تعريف الثقافة الا انه لا بد مما ليس منه بد الثقافة، وما يعادلها في الإنجليزية CULTURE، مفهوم حمال أوجه،
وقد أورد عالم غربي من علماء الأنثروبولوجيا عشرات التعريفات للمفهوم، سأغامر، والحالة هذه بتعريف صغته ولم ابتكر مضمونة: "الثقافة هي تلك الابداعات الانسانية، التي تتجاوز مناهج التعليم الرسمية، والتي تغني فكر الانسان بالتسامح، وتضاعف اهتماماته العقلية، وتطور حسه الجمالي، هذا تعريف تحكمي بعض الشيء، وكل التعريفات التي أعرفها تحكمية بعض الشيء، ولعلكم تلحظون ان هذا التعريف يخرج من حرم الثقافة اناسا يعدون أنفسهم صفوة المثقفين، ويدخل في حرم الثقافة بعض البسطاء الذين لم يتهمهم أحد بالثقافة، وهكذا تفعل التعريفات.
نقارب فكرة "ثقافة الثقافة" عندما نتصور مجتمعين، خيالين او حقيقين، احدهما يعادي الثقافة، والثاني يصادقها، في المجتمع الاول يلحظ المرأ اول ما يلحظ رقابة صارمة قاتمة واجمة تحاول شق الأدمغة عن الأفكار والصدور عن الأحاسيس، هذه الرقابة تستمد شرعيتها من ادعائها انها الحصن الحصين في وجه الانحرافات الفكرية او النزاعات الانحلالية أو الجهات الاستعمارية، او هذه الامور مجتمعة هذا ما تدعيه. اما في حقيقة الأمر فهي تستمد شرعيتها من تفوق فكري وعقائدي وأخلاقي مزعوم وهمي يحسب انه يعرف اكر من القارئ ما يصلح للقارئ، ويعرف أكثر من الأب ما يجوز لابنه أن يقرأه، ويعرف أكثر من المجتمع كله ما ينفع أو يضر المجتمع كله، هذه الرقابة المتضخمة بنرجسيتها تحجب دون تردد، ديوان شعر لأنه يحتوي على كلمة مثل "قبلة " أو "ضمة" او كلمة أخرى من عشرات الكلمات التي لم يخل منها ديوان شعر عربي واحد، وتجيز كتابا يصم نخبة من شعراء الوطن وكتابه بالردة بناء على تأويلات مريضة أمية في أحسن الاحتمالات، ومغرضة في أسوئها، ولايحتاج أحد الى قليل أو كثير ليستنتج ان الفكر الذي ينمو في ظل رقابة كهذه سوف يكون، في مجمله، من قبيل المنشورات الايديولوجية الساذجة او الاعلانات التجارية، الأكثر سذاجة، في هذا المجتمع الذي تغيب عنه ثقافة الثقافة تنمو ثقافات أخرى كالنباتات الشيطانية "ثقافة الانغلاق" حيث لا قول الا ما قالت حذام، وثقافة الاستعلاء، حيث يشرب غيرنا كدرا وطينا، وثقافة الكراهية حيث:
الله يعلم إنا لا نحبكم
ولا نلومكم إن لم تحبونا
والمجتمع عدو الثقافة، بخلاف ما قد يبدو لأول وهلة، لا يؤمن بفكر بعينه، ولا يتبنى نظاما سياسيا بذاته بوسع هذا المجتمع ان يكون ثيوقراطيا او علمانيا، يمينيا او يساريا، ويبقى مجتمعا معاديا للثقافة ان نظام طالبان لا يكاد يجمعه شيء بنظام صدام حسين، ومع ذلك فالنظامان ينتميان، بجدارة، الى قائمة أعداء الثقافة.
أما في المجتمع الآخر، حيث تنتشر ثقافة الثقافة، فنجد الصورة مختلفة، في مجملها وتفاصيلها، عن صورة المجتمع الأول، تقتصر الرقابة على حماية الثوابت التي لا يختلف عليها، وتمارس في حدودها الدنيا.
يأخذ الفكر ألف طيف وطيف، لا ينكر طيف على بقية الأطياف حقه في البقاء.. يتعامل المجتمع، بلا مركب نقص او جنون عظمة، مع ثقافة الآخرين، يأخذ بسخاء ويعطي بسخاء، يقبل بمودة ويمنح بمودة ينتقي بثقة ويرفض بثقة.
لابد لي ان اقول، والألم يعتصرني، ان معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية، تندرج بدرجات متفاوتة في ظل النموذج الأول، قامع الثقافة، ولعله من المضحك المبكي، ان نتذكر ان هذه المجتمعات تنتمي، بصلة النسب البعيد، الى حضارة كانت، في أوج ازدهارها المثل العالمي المشرق لثقافة الثقافة، لنتأمل بغداد في عصرها الذهبي، ولنقارن بين ما كان يحدث هناك - وما يحدث الآن، في عالمنا العربي الاسلامي المعاصر، في بغداد القديمة، كان ابوالعتاهية يعيش بقرب ابونواس دون ان يطالب احدهما بسفك دم الآخر، وفي بغداد القديمة عاش شاعر عظيم تخصص في هجاء الدولة، وظل، كما كان يقول، يحمل كفنه اربعين سنة دون أن يجد من يكفنه فيه، وفي بغداد القديمة، كان فكر المعتزلة يحاور فكر اهل السنة والجماعة في جدلية صحية سلمية قبل أن تدخل السياسة ميدان الفكر فتسمم كل شيء، وفي بغداد القديمة كان طبيب أمير المؤمنين نصرانيا، وكانت كتب الحكمة يونانية، وكانت اعظم العقول من فارس وبخارى، ولم يكن اليهود يعيشون في "جيتو" مغلق عليهم يتهددهم فيه، بين الحين والحين، خطر الابادة العنصرية، لا أود أن أضفي على الماضي من البريق ما لم يكن فيه، وهي عادة متأصلة في الكهول والشيوخ، ولا أود أن انفي وجوه القصور على الماضي، وهي عادة راسخة في اليائسين من الحاضر، كل ما أود فعله هو أن ازعم ان اي مقارنة بين بغداد القديمة واي حاضرة عربية أو اسلامية معاصرة لن تكون في صالح الحاضرة المعاصرة، فيما يخص ثقافة الثقافة، على أية حال.
وقبل أن أترك العصور القديمة المزدهرة اذكر اني قرت في كتاب لم اعد للاسف اذكر اسمه ان الاندلس العربية كانت تضم ذات يوم، ستين الف شاعرة، اذا قلصنا هذا العد وشذبناه وهذبناه وأزلنا عنه المبالغة التي ظلت لصيقة بالعرب في ازدهارهم وانحدارهم، سوف يخلص لنا عدد كبير لا اعتقد اننا سنجد عددا قريبا منه في أمة يتجاوز عددها الف مليون انسان وانسانة.
يبادرني السؤال، الآن، قبل أن أواجهه: كيف الوصول الى مجتمع يحتفي بثقافة الثقافة؟ سبق ان قلت ولا أمل التكرار اني على طرح الأسئلة اقدر مني على تقديم الاجوبة، واضيف ان الاجوبة التي تطرح حلولا سهلة نظريا مقبولة منطقيا تجيء بحلول تتطاير مع أول هبة هواء ساخن من عالم الواقع، من الحلول السهلة الشائعة تحميل الدولة المسؤولية عن كل شيء بما في ذلك الثقافة، لقد كنت، واصارحكم اني لا ازال، لا اعلق الكثير من الآمال على وجود مؤسسة حكومية تعنى بالثقافة، هذا لا يعني اني اعتقد ان وجود هذه المؤسسة، في حد ذاته، ظاهرة سلبية بقدر ما يعني اني اعرف الحدود التي لا يمكن لمؤسسة
حكومية، حتى لو كانت مسؤولة عن الثقافة، تجاوزها. لقد قامت الأجهزة المعنية بالثقافة في عالمنا العربي بجهود لا تنكر ولكنها قامت في الوقت نفسه، وفي الدول الانقلابية على وجه الخصوص، بتكريس عبادة الشخص وفكر الشخص، وعبادة الدولة، وفكر الدولة، حتى أصبحت منجزاتها الاخرى بمثابة سكر حلو براق يخفي تحته كعكة مرة المذاق محشوة بالسموم القاتلة وهذا الانحراف، بحمد الله سلمنا منه إلى حد كبير في بلادنا هذه في الماضي، ونرجو أن نسلم منه في المستقبل. ومن هنا، فانني أتردد ألف مرة قبل أن اجعل الثقافة مسؤولية جهاز يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه، جهاز يتعامل مع الثقافة كما تتعامل وزارة النقل مع السكك الحديدية، ووزارة الكهرباء مع محطات التوليد. أوشك أن أقول، ولا أود أن أقول، أن أي جهاز حكومي مسؤول عن الثقافة يؤدي واجبه كاملاً غير منقوص، ويستحق شكر اليوم والغد، إذا هو نجح في فتح الآفاق أمام الثقافة ولم يتحول إلى عقبة كؤود تنتصب في الطريق وتسد الآفاق.
لا أود أن يفهم أحد اني أعارض أن يقوم الجهاز المسؤول عن الثقافة ببناء المسارح ودور السينما والمكتبات ونشر الكتب. كل ما أريده هو الا تكون المسارح مجالاً لعرض تمثيليات من تأليف الدولة واخراجها وإنتاجها، والا تكون دور السينما مخصصة لافلام يلعب فيها السيد القائد كل الادوار، والا يكون في المكتبة مئة ألف كتاب هي في حقيقتها مستنسخة جزئياً أو كلياً، من ثلاثة كتب أو أربعة، ولا أريد للكتب التي تنشر أن تحمل عناوين مثل "اخرج منها يا ملعون"، أو ان لم تخني الذاكرة "القرية القرية الأرض الأرض انتحار رائد الفضاء". اني لا أمقت كتباً بقدر ما أمقت الكتب التي تجيء بلون معين، ككتيب ماوتسي تونغ الأحمر الذي يحمل وصفة لقتل الثقافة باسم الثورة الثقافية، وكتاب العقيد الأخضر الذي يحتوي على شطحاته الغرائبية الاسراطينية، والكتب البيضاء التي تصدرها الدول عندما تريد أن تغلف مجموعة من الأكاذيب البشعة بلون يسر الناظرين.
أنني أعتقد ان ايجاد ثقافة الثقافة هي مسؤولية المجتمع كله، وأسارع فأقول اني لا أعرف كيف يمكن لمجتمع شاء حظه العاثر أن يحرمه ثقافة الثقافة أن يصل اليها. أعرف طائفة من الحلول السهلة نظرياً المقبولة منطقياً ولا أرى ضيراً في استعراضها معكم.في البيت تبذر البذرة الاولى لثقافة الثقافة. حين يكف الاولاد عن النظر إلى الأبوين باعتبارهما كائنين آليين مبرمجين على رفع سوط العقاب، أو فتح كيس الثواب. وحين ينظرون إلى الأبوين بصفتهما إنسانين بعيدين عن الكمال لايميزهما عن غيرهما سوى حب الاولاد، ولا يميز هذا الحب عن غيره من ضروب الحب، سوى انه لا يمارس الاحتكار ولا يعيق نمو من يحب، وسينبري لي من يقول كيف نصل إلى هذه النتيجة إذا كان الأبوان يتصرفان بالفعل وكأنهما مبرمجان على رفع سوط العقاب أو فتح كيس الثواب؟ أطرق عاجزاً، ويتطاير هذا الحل ذرات هباءً.
وبعد البيت يجيء دور المدرسة. تمتد جذور ثقافة الثقافة حين يكف المعلم عن اعتبار طلابه باعتبارهم قادرين، رغم صغر سنهم، على حرية الاختيار وحين يؤمن أن دوره الأساسي هو تدريبهم على حرية الاختيار. سيقول لي من يقول، وكيف تتوقع من معلم وقع هو نفسه في قبضة فكر لا يعرف التسامح أن يعلم طلبته مبادئ التسامح، ويهوي الحل السهل الثاني منهاراً على قواعده.
وبعد البيت والمدرسة يجيء دور المجتمع بأكمله. المجتمع الذي يقمع الخارجين على كل صغيرة وكبيرة من توجيهات ذلك الكائن الهلامي المخيف العجيب الذي نسميه، التقاليد والعادات، وقد نضيف إليه الخصوصية، لا يمكن أن يسمح بنشوء ثقافة الثقافة. وأكاد أسمع من يردد: وكيف تطلب هذا من مجتمع تعلم من البيوت والمنابر والمدارس، أن الخطوط الحمراء تكاد تملأ صفحة الفكر كلها على نحو لا يترك للمباح والجائز سوى هامش يصغر كل يوم؟ ويذهب الحل السهل الثالث من النافذة.
أتراني أود أن أسحبكم معي إلى دوامة من اليأس العدمي الأسود؟ أتراني أود أن أقنعكم أن الوصول إلى ثقافة الثقافة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية مستحيل ينعم برفقة الغول والعنقاء والخل الوفي؟ لا! ما أريد أن أقوله لكم هو أني، بعد تأمل طويل في شؤون الثقافة أحسبه استغرق معظم سنين عمري، وبعد تأمل قصير خلال الأيام المحدودة التي تطلبها اعداد هذا الحديث، وصلت إلى اقتناع راسخ وهو أن الطريق الوحيد إلى ثقافة الثقافة يمر عبر بوابة اسمها الحرية. مع كل خط اجتماعي متعسف أحمر يختفي، تنمو زهرة جديدة من زهور ثقافة الثقافة مع كل رقيب سلطوي يتقاعد غير مبكي عليه، وبقاء الرقيب في حقبة الإنترنت والعولمة نادرة تضحك الثكلى، يمتد جذر جديد من جذور ثقافة الثقافة. مع كل هامش يتسع للتعبير، تنمو شجرة جديدة من أشجار ثقافة الثقافة.
اسمحوا لي، إذن، أن أنهي حديثي إليكم بحلم أود أن تشاركوني فيه: لنحلم معاً بمجتمعات تؤمن بثقافة الحرية التي تقود، بحتمية لا مناص منها، إلى ثقافة الثقافة. تحدثت قبل قليل، عن ثقافة الثقافة في أوج الحضارة الإسلامية العربية، وأقول هنا أني لا أتوقع، ولم أتوقع قط، لنفسي أو لزملائي في هذه الحرفة الكئيبة، مع الاعتذار للاقتصاديين، هامشاً للحرية يتجاوز ذلك الهامش الذي أعطته الحضارة الإسلامية المزدهرة لمثقفيها، والذي أنتج لنا ضمن ما أنتج روائع الجاحظ وأبو الفرج الاصفهاني وأبن حزم وأبن القيم وأبن الجوزي وجلال الدين السيوطي، بالإضافة إلى نخبة من شعراء فقهاء مبدعين، جمعت من اشعارهم مجموعة صغيرة لايزال الرقيب يتسلى بقراءتها. ولايفسح لها الطريق.
وعلى ذكر جلال الدين السيوطي أحب أن أورد لكم حكاية لاتكاد تصدق. قام أكاديمي مغمور بتحقيق كتاب "نزهة الجلساء في أشعار النساء" - وسمح لنفسه بحذف أبيات وكلمات من أبيات من شعر نسوي قيق وقال انه فعل ما فعل رعاية للخط الذي نسير عليه ونرعى الله فيه. ان شأن هذا الرقيب الصغير لا يختلف عن شأن مدرس طبيعة في مدرسة ثانوية يعطي نفسه حق الاعتراض على انيشتاين - والا فكيف يسمح عما قيل لنفسه أن يزايد في الشريعة على عالم من أبرز علماء الشريعة تجاوز عدد مؤلفاته سبعمائة مؤلف؟! أروي هذه الحكاية لاقول لكم أني في كل ما ذكرته عن الرقابة لا أقصد الرقابة التابعة لزميلي العزيز وصديقي القديم معالي الدكتور فؤاد الفارسي - ولكني أقصد كل رقيب، والرقيب في نظري هو كل من يسمح لنفسه بالتفكير نيابة عن الآخرين - سواء كان في موقع رسمي أوغير رسمي - وأنتم تعرفون، بعد، أن الرقابة غير الرسمية كثيراً ما تكون أشرس وأقسى وأعنف من الرقابة الرسمية، ذريعتها في ذلك طابعها التطوعي والفضولي هي الكلمة الأدق.
أن البلابل لا تغرد وهي سجينة الأقفاص، والمياه لا تعزف سيمفونية الخرير وهي حبيسة في الخزانات (أو قوارير المياه الصحية)، والاغصان لا تشنف الاذان بالحفيف وهي مشدودة إلى الجذوع.
هل نستكثر، اذن، على مبدعي الثقافة حقوقاً اقتضت سنن الخالق العظيم، في خليقته، أن تتمتع بها الحيوانات والجمادات؟..

أندلسي
01-10-2004, 01:48 AM
بارك الله فيك اخوي ابو عاصم
واشكر على هذه الاختيارات الراقيه، كما عودتنا دائما

في الحقيقه كم تشدني كتابات هذا المثقف النابغه ( غازي القصيبي)
ولا اعتقد اني استمتعت بقراءة كتاب او رواية بقدر مااستمتعت بكتابات غازي القصيبي
فالقصيبي مثقف سعودي يتميز بعقليته الناقده والفذه، وبثقافه واسعه تتضح اكثر ماتتضح من خلال الكوميديا السوداء التي يقدمها في كتاباته...

اتفق مع القصيبي في ان (ثقافه الثقافه) كما يحلو للقصيبي ان يسميها لاتتحقق الا من خلال الحرية
وكما قلت لك اخي ابو عاصم في رد سابقا عن معارض الكتب
كم نعاني من الرقيب في دولنا العربيه
وللاسف ، كيف يوجد الرقيب في عصر الانترنت!!!!
تصور كل مارجعت دولتي وانا احمل كتبي التي اشتريتها من خارج الكويت، يكون هناك استنفار لتفتيش الكتب التي احملها!!!
استغرب واقول للمسؤؤل والرقيب في وزارة الاعلام :
كيف تفتش وتبحث عن الممنوع ونحن في عصر استطيع قراءة كل هذه الكتب عبر الانترنت؟؟؟
وثم الا تعلم ان هذه الاجراءات تزيد من رغبه البحث عن الكتاب الممنوع ( كل ممنوع مرغوب)
طبعا لايوجد رد ، ماعدا ابتسامه باردة من هذا المسؤؤل....

شكرا على اتحافنا بهذه الورقه اخي ابو عاصم والتي قراتها كلمه كلمه وساعيد قرائتها....

بوركت ابو عاصم :)

أبو يحى
01-10-2004, 07:46 PM
حياك الله أندلسي ......
وأشكر لك تواجدك هنا في هذا القسم

وأتوقع يصدر كتاب ذات يوم اسمه << حكايتي مع الرقيب >>...
والمؤلف تتوقع من ...:think: :think:

طبعاً أندلسي .....:cool: :cool: :cool:

أهم شيء الفكرة ...
ولا تنسى تدز لي نسخة يا معود ....
وترى أنا أحب أمزح معك ..:D :D :D

وهذه الخلاصة لمن لايستطيع أو ليس لديه الوقت :

أن الطريق الوحيد إلى ثقافة الثقافة يمر عبر بوابة اسمها الحرية. مع كل خط اجتماعي متعسف أحمر يختفي، تنمو زهرة جديدة من زهور ثقافة الثقافة مع كل رقيب سلطوي يتقاعد غير مبكي عليه، وبقاء الرقيب في حقبة الإنترنت والعولمة نادرة تضحك الثكلى، يمتد جذر جديد من جذور ثقافة الثقافة. مع كل هامش يتسع للتعبير، تنمو شجرة جديدة من أشجار ثقافة الثقافة.