Misrمصر
17-07-2004, 11:52 AM
تقولُ العربُ : ليستِ النائحةُ الثكلى كالنّائحةِ المُستأجرةِ .
ولكنْ ماذا عساكَ أن تفعلُ إذا دعتكَ الأيّامُ لئنْ تكونَ نائحاً على ولدٍ لم يخرجْ من صُلبكَ ، وقريبٍ لم يُزاحمكَ في نسبٍ ، وحبيبٍ لم تجمعكَ بهِ عاطفةٌ أو حنانٌ ؟ .
في يومٍ صائفٍ وقدتْ جمرةُ حرّهِ واستحكمَ لهيبهُ ، وفي أحدِ الطرقِ المُزدحمةِ ، رأى أبو نوّافٍ حادثاً فظيعاً : سيّارةٌ مُسرعةٌ تتجهُ نحوَ طفلٍ دونَ العاشرةِ من عمرهِ ، وتصطدمُ بهِ ، وترفعهُ إلى أعلى قبلَ أن يهويَ بجسمهِ نحوَ الأرضَ ، وتتناثرُ حقيبتهُ المدرسيّةُ أرضاً ما بينَ دفاترَ وأقلامٍ ، وقد سقطَ بجوارها ممدّداً يثعبُ دماً .
كانَ منظراً مُخيفاً ومؤلماً .
نزلَ أبو نوّافٍ من سيّارتهِ ، وبدتْ لحيتهُ المهيبةُ وقد علاها شيبٌ عفّى أثرهُ بالكتَمِ ، واتجهَ نحوَ الطفلِ المُمدّدِ أرضاً ، وما إن وصلَ إليهِ وألقى ببصرهِ نحوهُ ، إلا والأرضُ تميدُ بأبي نوّافٍ ، وعينهُ ترمي بمُحتدِ البصرِ إلى الطفلِ وتهمي منها دمعاتٌ متصلةٌ ، وقد جمدتِ الدماءُ في عروقهِ ، وسرتْ القشعريرةُ في جسمهِ ، ودبّتِ الرعشةُ إلى عظامهِ .
وكانتِ الفاجعةُ أنَّ ذلكَ الطفلَ المُمدّدَ هو نوّافٌ ابنهُ ! .
وبحركةٍ خاطفةٍ رفعهُ من فوقِ الأرضِ المُلتهبةِ ، وأدناهُ إلى وجههِ ، وقد دُقتْ رقبتهُ ، وتهشّمتْ جبهتهُ ، والدمُ يسيلُ من فمهِ عبرَ ثناياهُ المكسورةِ ، وقد شخصَ ببصرهِ نحوَ السّماءِ ، وفغرَ فاهُ ، فلم يتمالكْ أبو نوّافٍ نفسهُ ، وأخذَ يمسحُ الدمُ المنسابَ من بينِ الشفاهِ الغضّةِ ، ثُمَّ ضمّهُ ضمّةٌ حانيةً ، صُبغَ ثوبهُ على إثرها من دمِ ولدهِ نوّافٍ ، وصارتْ لحيتهُ حمراءَ قانيةً ، فأرسلَ على إثرِ ذلكَ تنهيدةً حرّى ، ونطقتْ شفتاهُ بالترجيعِ والحمدِ .
كانتِ الطامّةُ التي لم يحسبْ حسابَها ، أن يموتَ ولدهُ على عينهِ ، ويرى مصرعهُ عياناً .
أبو نوّافٍ رجلٌ مُتقادمُ الميلادِ ، كبيرٌ في السنِّ ، يُحبُّ الذّرّيةَ والولدَ حُبّاً جمّاً ، رُزقَ في سنيِّ عمرهِ بالعديدِ من الولدِ ، ولكنّهم كانوا جميعاً إناثاً ، وكلّما وُلدَتْ لهُ أنثى ازدادَ حبّهُ بالذّكرِ ، وتعلّقتْ روحهُ بهِ ، وفي كلِّ مرّةٍ يأتي فيها أهلهُ طلباً للذرّيةِ والنسلِ تتراقصُ أمامهُ أماني المولودِ الذكرِ ، ويدعو ربّهُ ويسألهُ ذلكَ .
يقولُ الطنطاويُّ - رحمهُ اللهُ - عن رغبتهِ في إنجابِ ولدٍ :
" ولقد كنتُ أتمنّى أن يكونَ بكري ذكراً ، وقد أعددتُ أحلى الأسماءِ ، ما خطرَ على بالي أن تكونَ أنثى ، يقولون في أوروبا : حكَّ جلدَ الروسيِّ يظهر لك من تحته تتري ، ونحنُ مهما صنعنا فإنَّ فينا بقيةً من جاهليتنا الأولى ، أخفاها الإسلامُ ، ولكن تُظهرُ طرفاً منها مصائبُ الحياةِ ، وكانوا في الجاهليةِ (( إذا بشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجههُ مسودّاً وهو كظيمُ يتوارى من القوم ِ من سوءِ ما بشّرَ بهِ : أيمسكهُ على هون ٍ أم يدسّهُ في الترابِ )) ، وأنا لم أبلغْ أن أدسَّ بنتي في الترابِ ، ولكنّي أخفيتُ وجهي من الناس ِ ، وكأنّني أحدثتُ حدثاً ، أو اجترحتُ ذنباً " ، انتهى كلامهُ .
وبعدَ أن كبرَ سنُّ أبي نوّافٍ ورقَّ عظمهُ وولّتْ عنهُ صبابةُ العيشِ ولذّةُ العافيةِ ، جاءهُ من الخبرِ ما يُجدّدُ شبابهُ ، ويُحيي فيهِ الأملَ ، إنّهُ البُشرى بولدهِ نوّافٍ ، بعد سنواتِ الانتظارِ والترقّبِ ، فكانَ كالغيثِ ارتوتْ بهِ الأرضُ المُجدبةُ ، وكالرّوحِ سرتْ في الجسدِ الميّتِ ، ولشدّةِ سعادتهِ بهِ أقامَ عقيقةً كبيرةً تسامعُ النّاسُ من أقاربهِ خبرها في الآفاقِ .
لا أدري كيفَ أصفُ لكم فرحةَ أبي نوّافٍ بولدهِ ، ولكنّي رأيتُ رجلاً كبيراً في السنِّ ، إذا رأى ولدهُ الصغيرَ خلعَ عنهُ رداءَ التحفّظِ والرّزانةِ ، وتحوّلَ إلى طفلٍ فتيِّ العمرِ يأرنُ ويلعبُ في سعادةٍ غامرةٍ وفرحةٍ مُتصلةٍ ، يصرخُ لصراخِ طفلهِ ، ويسكتْ معهُ .
كانا طفلينِ في الرّوحِ والمرحِ ، يلعبانِ سويّاً ، ويمرحانِ معاً ، ولا حدودَ لأحلامهم وأمانيهم ، وكانتْ عينهُ لا تُفارقُ ولدهُ إذا كانَ في حضرتهِ ، ترمقهُ حيثُما ذهبَ .
تمَّ كلُّ ذلكَ لأبي نوّافٍ ، فرحةُ الولدِ ونجابتهُ ، وتجدّدُ الشبابِ بعدَ انصرامِ زمانهِ وتولّي جدّتهِ ، ودينٌ متينٌ يتحلّى بهِ أبو نوّافٍ ، إضافةً إلى زوجةٍ صالحةٍ تُعينُ على نوائبِ الدهرِ ، وبناتٍ هنَّ ريحانتهُ من الدّنيا .
ولكنَّ القدرَ أسبقُ من الأماني ، والموتُ أسرعُ خطواً إلى النّاسِ من العافيةِ ، يدِبُّ فيهم دبيبَ القطا ، فيضربُ بسوطهِ ويتركُ الأمَّ والهةً والأبَ مشدوهاً ، ويُثبتُ للجميعِ أنَّ القدرَ سرٌّ مكتومٌ ، وسهمٌ نافذٌ غيرُ مردودٍ ، وسوطٌ لا يحمي من لهيبهِ الأحصنةُ والقِلاعُ .
كانتْ كارثةً على أبي نوّافٍ ، أنهكتْ بدنهُ ، وأسقمتْ جسدهُ ، وأنهتْ آمالهُ ، وجعلتهُ شخصاً كئيباً ممسوحَ العافيةِ ، كأنّما صيغَ وجههُ من البؤسِ والتعاسةِ ، ولقد خُيّلَ إليهِ أنَّ الدّنيا كُلّها لبستْ مسوحَ الحزنِ ، وأنّتْ لهُ وولهتْ على ولدهِ الصغيرِ .
أذكرهُ رجلاً ذا بأسٍ وحردٍ ، قويّاً صلبَ المراسِ ، لا تلينُ قناتهُ لغامزٍ ، ولا تهونُ عزيمتهُ ، وما انحنتْ قامتهُ أبداً ، فلمّا توخّى حِمامُ الموتِ من بنيهِ نوّافاً حالتهُ عن حالهِ ، وتغيّرَ إلى الغايةِ والمُنتهى ، وأصبحَ لا يعرفُ غيرَ العزلةِ صاحباً ، ولا يستعيضُ عن الخلوةِ إلفاً ، وبينَ جوانحهِ نارٌ من الأسى والولهِ ، إذا عاودهُ طيفُ ولدهِ وذكراهُ اشتعلتْ وأّذكيتْ .
أخفي من البرحاءِ ناراً مثل ما ********** يُخفي من النّارِ الزّنادُ الواري
وأخفّضُ الزفراتِ وهي صواعدٌ ********* وأُكفكفُ العبراتِ وهي جوارِ
وشهابُ نارِ الحُزنِ إن طاوعتهُ ********** أورى وإن عاصـيتهُ مُتواري
وأكفُّ نيرانَ الأسى ولربّـمـا ********** غُلبَ التصبّرُ فارتمتْ بِشرارِ
لكَ اللهُ يا أبا نوّافٍ .
لا أدري واللهِ بمَ أسلّيكَ ، وقد فقدتَ من الدّنيا نعيمها ، ومن الحياةِ عافيتها ، ومن السعادةِ قمّتها ، ومن اللّذةِ غايتها ، وصرتَ كطيرٍ قُصّتْ منهُ أجنحتهُ ، وتركهُ سربهُ يُقاسي شدّةَ الرّيحِ وقوّةَ العاصفةِ بمفردهِ ، فلا الآلةُ تُساعدهُ ولا البدنُ يقوى على الصمودِ .
كنتُ ترجو من نوّافٍ أن يُحيي فيكَ شبابكَ الفائتَ ، ومجدكَ الغائبَ ، وأمّلتَ فيهِ ورجوتهُ ، ولكنَّ القضاءَ كانَ أسرع من كلِّ الأماني والأحلامِ .
نحنُ في هذه الدّنيا يا أبا نوّافٍ مأمورونَ بالرّحيلِ ، نركبُ سفينةَ الوجودِ إلى غايةِ الموتِ ، ونركضُ في مضمارِ الحياةِ ونتسابقُ للفناءِ :
ولقد جريتَ كما جريتُ لغايةٍ ********** فبلغتَها وأبوكَ في المضمارِ
فمنّا من يسبقُ ومنّا من يلحقُ ، والجميعُ سيموتُ ، والضّاحكُ اليومَ باكٍ غداً ، وسهامُ المنايا مُشرعةٌ ، والأقدارُ نصبتْ فخاخها وأشراكها ، وهاهي ذا تصطادُ وتقتنصُ ، فإذا نجوتَ أنتَ واصطيدَ ولدكَ قدراً نافذاً ، فأنتَ غداً في الشركِ والفخِّ ، لكَ يومٌ لن تحيدَ عنهُ ولو رُزقتَ من القوّةِ ما قسمهُ اللهُ على الجبالِ الرّواسي .
لا أعلمُ من متعِ الدّنيا نعيماً ولذّةً كلذّةِ الولدِ ، فهم العِمادُ والسندُ ، والعضدُ والمُعتمدُ ، وهمُ الأرضُ الذليلةُ والسماءُ الظليلةُ ، ثمراتُ القلوبِ وحسناتُ الأيّامِ ، وريحهم من ريحِ الجنّةِ ، وهم ريحانةٌ لا تملُّ الدهرَ وأنتَ تشمّها ، ووردةٌ لا تسأمُ الدهرَ وأنتَ تضمّها ، ومن الذي يجدُ عنهم سلوةً وأنساً ؟ ، أو يُطيقُ بُعدهم والتنائي عنهم ؟ .
لقد صبرَ الرّجالِ على مُقارعةِ الخصومِ ، ولقاءِ الجيوشِ والجحافلِ ، وثبتوا ثباتَ الأبطالِ في النوازلِ ، ولكنّهم عندَ فراقِ الأبناءِ تذوبُ قلوبهم وتذوي أحلامهم ، وتخورُ عزائمهم ، وترى الرّجلَ الأبيَّ القويَّ ضعيفاً هزيلاً أمامَ ولدهُ وفلذةِ كبدهِ .
قيلَ لرّجلٍ حضرتهُ الوفاةُ وولدهُ غائبٌ : ماذا ترجو من مُتعِ الحياةِ قبلَ أن تموتَ ؟ ، قالَ : أن أرى فلاناً – وسمّى ولدهُ – فأشمّهُ شمّةً وأضمّهُ ضمّةً ثُمَّ أموتُ .
وقالَ يحيى بنُ سعيدٍ التيميُّ :
غذوتكَ مولوداً وعُلتكَ يافعاً ********* تُعَلُّ بما أجني عليكَ وتنهلُ
إذا ليلةٌ نالتكَ بالشكوِ لم أبِتْ ********* لشكواكَ إلا ساهراً أتململُ
كأنّي أنا المطروقُ دونكَ بالذي ********* طُرِقتَ بهِ دوني وعينيَ تهملُ
إنَّ الإنسانَ ليستعذبُ المُرَّ ، ويصبرُ على المضضِ ، ويُكابدُ الألمَ والوصبَ ، حتّى ترتاحُ أولادهُ ، وإنّهُ ليُهينُ نفسهُ ويُتعبُ جسمهُ ، ليؤمّنَ لهم عيشاً طريّاً ، وحياةً رغيدةً ، ولو عانى فيها من الويلاتِ ما عانى ، وفي هذا يقولُ أحدهم :
لولا بُنيّاتٌ كزُغبِ القطا ********** حُططنَ من بعضٍ إلى بعضِ
لكانَ لي مُضطربٌ واسعٌ ********** في الأرضِ ذاتِ الطولِ والعرضِ
وإنّما أولادُنا بـــيننا ********** أكبادُنا تمشي على الأرضِ
لو هبّتِ الريحُ على بعضهم ********* لامتنعتْ عيني من الغمضِ
صدقَ واللهِ ، فهم دفقةٌ من الدمِ ، وجزءٌ من الرّوحِ ، وفلذةُ كبدٍ ، بل هم - واللهِ - بالدّنيا وما فيها ، ولضحكةٌ واحدةٌ بريئةٌ من أحدِ أبناءكَ تُعادلُ مُلكَ الأوائلِ والأواخرِ .
هذه عاطفةُ الأبوّةِ الحقّةِ ، والتي لا تدّخرُ جُهداً ولا تألوا وسعاً ، في سبيلِ إسعادِ أولادِها .
هذه الحياةُ أمانٍ عريضةٌ ، لا ساحلَ لها ولا مرفأ ، تختطفنا الأحلامُ من عالمنا ، وتأخذنا إلى فضاءِ الوهمِ والخيالِ ، ونبني هناكَ عوالمَ جديدةً ، وممالكَ مُختلفةً ، فنؤمّلُ ونرجو ، وهي تختالُ وتتراقصُ ، ونحنُ نسكرُ ونطربُ ، ثُمَّ في فجاءةٍ سريعةٍ تحولُ الأماني إلى سرابٍ مُخادعٍ ، وتتبدّلُ الأحلامُ إلى آلامٍ مُنغّصةٍ ، فنصحو على وقعِ الجِراحِ ووخزِ الألمِ ، ونستنجدُ بالصبرِ فيُعوزنا ، ونطلبُ التأسّي فلا يُجيبُنا ، فنهلكُ أسىً وتوجّعاً ، إلا من رزقهُ اللهُ من اليقينِ ما يُهوّنُ بهِ عليهِ مصائبَ الدّنيا .
هل صفتِ الدّنيا لأحدٍ ؟ ، لقد شربوا منها جميعاً كدراً وطيناً ، وخاضوا في الوحلِ والسِباخِ ، وتساووا في المآسي والمصائبِ ، وجمعهم رحمُ الرزايا ، ورُموا جميعاً بالكوارثِ والأقدارِ ، فمنهم من نالَ نصبهُ نقداً عاجلاً ، ومنهم من رُزقهُ نسيئةً آجلاً ، يقولُ أبو فراسٍ الحمدانيُّ :
المرءُ رهنُ مصائبٍ لا تنقضي ********** حتّى يُوارى في ثرى رمسهِ
فمُعجّلٌ يلقى الرّدى في أهلهِ ********* ومؤجلٌ يلقى الرّدى في نفسهِ
إنَّ هذه الدنيا مهما طالتْ أيّامُ المرءِ فيها وزادتْ لياليهِ ، إنّما هي غفوةٌ وسنةٌ ثُمَّ يقظةٌ وهبّةٌ ، سُكرٌ وصحوٌ ، منزلةٌ تنزلُها ثُمَّ تجوزها إلى غيرِها ، والباكي كالشادي ، المصيرُ واحدٌ مهما اختلفوا في اللحنِ ، من مشى وصلَ ومن ركضَ وصلَ ، غايةٌ واحدةٌ ومضمارٌ واحدٌ وإنّما الاختلافُ في الدابةِ والزّادِ ، لا ينفعكَ الحذرُ ولن تنجوَ من القدرِ ، وماذا عساكَ أن تفعلَ لتغالبَ القدرَ أو تُبادرَ القضاءَ ؟ ، كلٌّ بأجلٍ مُسمّى .
يا أبا نوّافٍ : إنَّ في اللهِ عِوضاً من كلِّ مفقودٍ ، وخلفاً عن كلِّ غائبٍ ، وهو المرجوُّ أن يُخلفَ عليكَ بخيرٍ ، وأن يجبرَ كسركَ بفِراقِ إلفكَ وولدكَ ، وما يدريكَ فما في عالمِ الغيبِ من الأجرِ والعافيةِ أوسعُ ممّا في بقاءِ ولدكَ حياً مُعافىً ، ولا تجري الأقدارُ بعُسرٍ إلا لتأتي بيُسرٍ أو تذودَ عنكَ العظائمَ ، وقدرٌ دونَ قدرٍ ، ورُزءٌ أيسرُ من رُزءٌ ، ومُصيبةٌ جزاءُ صبركَ عليها الجنّةُ لهي واللهِ مصيبةٌ جللٌ ، تهونُ أمامَ النُعمى وتصغرُ عندَ الثوابِ : (( وبشّرِ الصابرينَ الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعونَ )) ، وفي الحديثِ الصحيحِ " ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسهِ وولدهِ ومالهِ حتّى يلقى اللهَ تعالى وما عليه خطيئةٌ " .
نحنَ يا أبا نوّافٍ جميعاً ضعفاءُ وإن أظهرنا التجلّدَ والصبرَ ، ولكنّا نأتسي بغيرنا ، ونذكرُ من باتَ ضجيعَ الهمِّ والغمِّ فنسلو قليلاً ، ونُداري الوجدَ والبوحَ بهِ ، ونُخفيَ الآهاتِ والزفراتِ ، وما منّا إلا وقد أخذَ نصيبهُ من أقدارهِ وافرةً غيرَ منقوصةً ، ومن يتصبّرْ يُصبّرهُ اللهُ .
جاء في الحديث الصحيح كما في السلسلة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات ولد الرجل يقول الله تعالى لملائكته : "أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم .. فيقول وهو أعلم : أقبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم .. فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع،فيقول الله جل وعلا : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد).
روى الإمام أحمد من حديث معاوية بن قرة عن أبيه: ( أنه كان رجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أتحبه ؟ " فقال : يا رسول الله , أحبك الله كما أحبه .. فتفقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما فعل ابن فلان؟ فقالوا : يا رسول الله مات , فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه : " أما تحب أن تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عليه ينتظرك ؟ " فقال رجل : يا رسول الله , أله خاصة أم لكلنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " بل لكلكم ).
ولكنْ ماذا عساكَ أن تفعلُ إذا دعتكَ الأيّامُ لئنْ تكونَ نائحاً على ولدٍ لم يخرجْ من صُلبكَ ، وقريبٍ لم يُزاحمكَ في نسبٍ ، وحبيبٍ لم تجمعكَ بهِ عاطفةٌ أو حنانٌ ؟ .
في يومٍ صائفٍ وقدتْ جمرةُ حرّهِ واستحكمَ لهيبهُ ، وفي أحدِ الطرقِ المُزدحمةِ ، رأى أبو نوّافٍ حادثاً فظيعاً : سيّارةٌ مُسرعةٌ تتجهُ نحوَ طفلٍ دونَ العاشرةِ من عمرهِ ، وتصطدمُ بهِ ، وترفعهُ إلى أعلى قبلَ أن يهويَ بجسمهِ نحوَ الأرضَ ، وتتناثرُ حقيبتهُ المدرسيّةُ أرضاً ما بينَ دفاترَ وأقلامٍ ، وقد سقطَ بجوارها ممدّداً يثعبُ دماً .
كانَ منظراً مُخيفاً ومؤلماً .
نزلَ أبو نوّافٍ من سيّارتهِ ، وبدتْ لحيتهُ المهيبةُ وقد علاها شيبٌ عفّى أثرهُ بالكتَمِ ، واتجهَ نحوَ الطفلِ المُمدّدِ أرضاً ، وما إن وصلَ إليهِ وألقى ببصرهِ نحوهُ ، إلا والأرضُ تميدُ بأبي نوّافٍ ، وعينهُ ترمي بمُحتدِ البصرِ إلى الطفلِ وتهمي منها دمعاتٌ متصلةٌ ، وقد جمدتِ الدماءُ في عروقهِ ، وسرتْ القشعريرةُ في جسمهِ ، ودبّتِ الرعشةُ إلى عظامهِ .
وكانتِ الفاجعةُ أنَّ ذلكَ الطفلَ المُمدّدَ هو نوّافٌ ابنهُ ! .
وبحركةٍ خاطفةٍ رفعهُ من فوقِ الأرضِ المُلتهبةِ ، وأدناهُ إلى وجههِ ، وقد دُقتْ رقبتهُ ، وتهشّمتْ جبهتهُ ، والدمُ يسيلُ من فمهِ عبرَ ثناياهُ المكسورةِ ، وقد شخصَ ببصرهِ نحوَ السّماءِ ، وفغرَ فاهُ ، فلم يتمالكْ أبو نوّافٍ نفسهُ ، وأخذَ يمسحُ الدمُ المنسابَ من بينِ الشفاهِ الغضّةِ ، ثُمَّ ضمّهُ ضمّةٌ حانيةً ، صُبغَ ثوبهُ على إثرها من دمِ ولدهِ نوّافٍ ، وصارتْ لحيتهُ حمراءَ قانيةً ، فأرسلَ على إثرِ ذلكَ تنهيدةً حرّى ، ونطقتْ شفتاهُ بالترجيعِ والحمدِ .
كانتِ الطامّةُ التي لم يحسبْ حسابَها ، أن يموتَ ولدهُ على عينهِ ، ويرى مصرعهُ عياناً .
أبو نوّافٍ رجلٌ مُتقادمُ الميلادِ ، كبيرٌ في السنِّ ، يُحبُّ الذّرّيةَ والولدَ حُبّاً جمّاً ، رُزقَ في سنيِّ عمرهِ بالعديدِ من الولدِ ، ولكنّهم كانوا جميعاً إناثاً ، وكلّما وُلدَتْ لهُ أنثى ازدادَ حبّهُ بالذّكرِ ، وتعلّقتْ روحهُ بهِ ، وفي كلِّ مرّةٍ يأتي فيها أهلهُ طلباً للذرّيةِ والنسلِ تتراقصُ أمامهُ أماني المولودِ الذكرِ ، ويدعو ربّهُ ويسألهُ ذلكَ .
يقولُ الطنطاويُّ - رحمهُ اللهُ - عن رغبتهِ في إنجابِ ولدٍ :
" ولقد كنتُ أتمنّى أن يكونَ بكري ذكراً ، وقد أعددتُ أحلى الأسماءِ ، ما خطرَ على بالي أن تكونَ أنثى ، يقولون في أوروبا : حكَّ جلدَ الروسيِّ يظهر لك من تحته تتري ، ونحنُ مهما صنعنا فإنَّ فينا بقيةً من جاهليتنا الأولى ، أخفاها الإسلامُ ، ولكن تُظهرُ طرفاً منها مصائبُ الحياةِ ، وكانوا في الجاهليةِ (( إذا بشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجههُ مسودّاً وهو كظيمُ يتوارى من القوم ِ من سوءِ ما بشّرَ بهِ : أيمسكهُ على هون ٍ أم يدسّهُ في الترابِ )) ، وأنا لم أبلغْ أن أدسَّ بنتي في الترابِ ، ولكنّي أخفيتُ وجهي من الناس ِ ، وكأنّني أحدثتُ حدثاً ، أو اجترحتُ ذنباً " ، انتهى كلامهُ .
وبعدَ أن كبرَ سنُّ أبي نوّافٍ ورقَّ عظمهُ وولّتْ عنهُ صبابةُ العيشِ ولذّةُ العافيةِ ، جاءهُ من الخبرِ ما يُجدّدُ شبابهُ ، ويُحيي فيهِ الأملَ ، إنّهُ البُشرى بولدهِ نوّافٍ ، بعد سنواتِ الانتظارِ والترقّبِ ، فكانَ كالغيثِ ارتوتْ بهِ الأرضُ المُجدبةُ ، وكالرّوحِ سرتْ في الجسدِ الميّتِ ، ولشدّةِ سعادتهِ بهِ أقامَ عقيقةً كبيرةً تسامعُ النّاسُ من أقاربهِ خبرها في الآفاقِ .
لا أدري كيفَ أصفُ لكم فرحةَ أبي نوّافٍ بولدهِ ، ولكنّي رأيتُ رجلاً كبيراً في السنِّ ، إذا رأى ولدهُ الصغيرَ خلعَ عنهُ رداءَ التحفّظِ والرّزانةِ ، وتحوّلَ إلى طفلٍ فتيِّ العمرِ يأرنُ ويلعبُ في سعادةٍ غامرةٍ وفرحةٍ مُتصلةٍ ، يصرخُ لصراخِ طفلهِ ، ويسكتْ معهُ .
كانا طفلينِ في الرّوحِ والمرحِ ، يلعبانِ سويّاً ، ويمرحانِ معاً ، ولا حدودَ لأحلامهم وأمانيهم ، وكانتْ عينهُ لا تُفارقُ ولدهُ إذا كانَ في حضرتهِ ، ترمقهُ حيثُما ذهبَ .
تمَّ كلُّ ذلكَ لأبي نوّافٍ ، فرحةُ الولدِ ونجابتهُ ، وتجدّدُ الشبابِ بعدَ انصرامِ زمانهِ وتولّي جدّتهِ ، ودينٌ متينٌ يتحلّى بهِ أبو نوّافٍ ، إضافةً إلى زوجةٍ صالحةٍ تُعينُ على نوائبِ الدهرِ ، وبناتٍ هنَّ ريحانتهُ من الدّنيا .
ولكنَّ القدرَ أسبقُ من الأماني ، والموتُ أسرعُ خطواً إلى النّاسِ من العافيةِ ، يدِبُّ فيهم دبيبَ القطا ، فيضربُ بسوطهِ ويتركُ الأمَّ والهةً والأبَ مشدوهاً ، ويُثبتُ للجميعِ أنَّ القدرَ سرٌّ مكتومٌ ، وسهمٌ نافذٌ غيرُ مردودٍ ، وسوطٌ لا يحمي من لهيبهِ الأحصنةُ والقِلاعُ .
كانتْ كارثةً على أبي نوّافٍ ، أنهكتْ بدنهُ ، وأسقمتْ جسدهُ ، وأنهتْ آمالهُ ، وجعلتهُ شخصاً كئيباً ممسوحَ العافيةِ ، كأنّما صيغَ وجههُ من البؤسِ والتعاسةِ ، ولقد خُيّلَ إليهِ أنَّ الدّنيا كُلّها لبستْ مسوحَ الحزنِ ، وأنّتْ لهُ وولهتْ على ولدهِ الصغيرِ .
أذكرهُ رجلاً ذا بأسٍ وحردٍ ، قويّاً صلبَ المراسِ ، لا تلينُ قناتهُ لغامزٍ ، ولا تهونُ عزيمتهُ ، وما انحنتْ قامتهُ أبداً ، فلمّا توخّى حِمامُ الموتِ من بنيهِ نوّافاً حالتهُ عن حالهِ ، وتغيّرَ إلى الغايةِ والمُنتهى ، وأصبحَ لا يعرفُ غيرَ العزلةِ صاحباً ، ولا يستعيضُ عن الخلوةِ إلفاً ، وبينَ جوانحهِ نارٌ من الأسى والولهِ ، إذا عاودهُ طيفُ ولدهِ وذكراهُ اشتعلتْ وأّذكيتْ .
أخفي من البرحاءِ ناراً مثل ما ********** يُخفي من النّارِ الزّنادُ الواري
وأخفّضُ الزفراتِ وهي صواعدٌ ********* وأُكفكفُ العبراتِ وهي جوارِ
وشهابُ نارِ الحُزنِ إن طاوعتهُ ********** أورى وإن عاصـيتهُ مُتواري
وأكفُّ نيرانَ الأسى ولربّـمـا ********** غُلبَ التصبّرُ فارتمتْ بِشرارِ
لكَ اللهُ يا أبا نوّافٍ .
لا أدري واللهِ بمَ أسلّيكَ ، وقد فقدتَ من الدّنيا نعيمها ، ومن الحياةِ عافيتها ، ومن السعادةِ قمّتها ، ومن اللّذةِ غايتها ، وصرتَ كطيرٍ قُصّتْ منهُ أجنحتهُ ، وتركهُ سربهُ يُقاسي شدّةَ الرّيحِ وقوّةَ العاصفةِ بمفردهِ ، فلا الآلةُ تُساعدهُ ولا البدنُ يقوى على الصمودِ .
كنتُ ترجو من نوّافٍ أن يُحيي فيكَ شبابكَ الفائتَ ، ومجدكَ الغائبَ ، وأمّلتَ فيهِ ورجوتهُ ، ولكنَّ القضاءَ كانَ أسرع من كلِّ الأماني والأحلامِ .
نحنُ في هذه الدّنيا يا أبا نوّافٍ مأمورونَ بالرّحيلِ ، نركبُ سفينةَ الوجودِ إلى غايةِ الموتِ ، ونركضُ في مضمارِ الحياةِ ونتسابقُ للفناءِ :
ولقد جريتَ كما جريتُ لغايةٍ ********** فبلغتَها وأبوكَ في المضمارِ
فمنّا من يسبقُ ومنّا من يلحقُ ، والجميعُ سيموتُ ، والضّاحكُ اليومَ باكٍ غداً ، وسهامُ المنايا مُشرعةٌ ، والأقدارُ نصبتْ فخاخها وأشراكها ، وهاهي ذا تصطادُ وتقتنصُ ، فإذا نجوتَ أنتَ واصطيدَ ولدكَ قدراً نافذاً ، فأنتَ غداً في الشركِ والفخِّ ، لكَ يومٌ لن تحيدَ عنهُ ولو رُزقتَ من القوّةِ ما قسمهُ اللهُ على الجبالِ الرّواسي .
لا أعلمُ من متعِ الدّنيا نعيماً ولذّةً كلذّةِ الولدِ ، فهم العِمادُ والسندُ ، والعضدُ والمُعتمدُ ، وهمُ الأرضُ الذليلةُ والسماءُ الظليلةُ ، ثمراتُ القلوبِ وحسناتُ الأيّامِ ، وريحهم من ريحِ الجنّةِ ، وهم ريحانةٌ لا تملُّ الدهرَ وأنتَ تشمّها ، ووردةٌ لا تسأمُ الدهرَ وأنتَ تضمّها ، ومن الذي يجدُ عنهم سلوةً وأنساً ؟ ، أو يُطيقُ بُعدهم والتنائي عنهم ؟ .
لقد صبرَ الرّجالِ على مُقارعةِ الخصومِ ، ولقاءِ الجيوشِ والجحافلِ ، وثبتوا ثباتَ الأبطالِ في النوازلِ ، ولكنّهم عندَ فراقِ الأبناءِ تذوبُ قلوبهم وتذوي أحلامهم ، وتخورُ عزائمهم ، وترى الرّجلَ الأبيَّ القويَّ ضعيفاً هزيلاً أمامَ ولدهُ وفلذةِ كبدهِ .
قيلَ لرّجلٍ حضرتهُ الوفاةُ وولدهُ غائبٌ : ماذا ترجو من مُتعِ الحياةِ قبلَ أن تموتَ ؟ ، قالَ : أن أرى فلاناً – وسمّى ولدهُ – فأشمّهُ شمّةً وأضمّهُ ضمّةً ثُمَّ أموتُ .
وقالَ يحيى بنُ سعيدٍ التيميُّ :
غذوتكَ مولوداً وعُلتكَ يافعاً ********* تُعَلُّ بما أجني عليكَ وتنهلُ
إذا ليلةٌ نالتكَ بالشكوِ لم أبِتْ ********* لشكواكَ إلا ساهراً أتململُ
كأنّي أنا المطروقُ دونكَ بالذي ********* طُرِقتَ بهِ دوني وعينيَ تهملُ
إنَّ الإنسانَ ليستعذبُ المُرَّ ، ويصبرُ على المضضِ ، ويُكابدُ الألمَ والوصبَ ، حتّى ترتاحُ أولادهُ ، وإنّهُ ليُهينُ نفسهُ ويُتعبُ جسمهُ ، ليؤمّنَ لهم عيشاً طريّاً ، وحياةً رغيدةً ، ولو عانى فيها من الويلاتِ ما عانى ، وفي هذا يقولُ أحدهم :
لولا بُنيّاتٌ كزُغبِ القطا ********** حُططنَ من بعضٍ إلى بعضِ
لكانَ لي مُضطربٌ واسعٌ ********** في الأرضِ ذاتِ الطولِ والعرضِ
وإنّما أولادُنا بـــيننا ********** أكبادُنا تمشي على الأرضِ
لو هبّتِ الريحُ على بعضهم ********* لامتنعتْ عيني من الغمضِ
صدقَ واللهِ ، فهم دفقةٌ من الدمِ ، وجزءٌ من الرّوحِ ، وفلذةُ كبدٍ ، بل هم - واللهِ - بالدّنيا وما فيها ، ولضحكةٌ واحدةٌ بريئةٌ من أحدِ أبناءكَ تُعادلُ مُلكَ الأوائلِ والأواخرِ .
هذه عاطفةُ الأبوّةِ الحقّةِ ، والتي لا تدّخرُ جُهداً ولا تألوا وسعاً ، في سبيلِ إسعادِ أولادِها .
هذه الحياةُ أمانٍ عريضةٌ ، لا ساحلَ لها ولا مرفأ ، تختطفنا الأحلامُ من عالمنا ، وتأخذنا إلى فضاءِ الوهمِ والخيالِ ، ونبني هناكَ عوالمَ جديدةً ، وممالكَ مُختلفةً ، فنؤمّلُ ونرجو ، وهي تختالُ وتتراقصُ ، ونحنُ نسكرُ ونطربُ ، ثُمَّ في فجاءةٍ سريعةٍ تحولُ الأماني إلى سرابٍ مُخادعٍ ، وتتبدّلُ الأحلامُ إلى آلامٍ مُنغّصةٍ ، فنصحو على وقعِ الجِراحِ ووخزِ الألمِ ، ونستنجدُ بالصبرِ فيُعوزنا ، ونطلبُ التأسّي فلا يُجيبُنا ، فنهلكُ أسىً وتوجّعاً ، إلا من رزقهُ اللهُ من اليقينِ ما يُهوّنُ بهِ عليهِ مصائبَ الدّنيا .
هل صفتِ الدّنيا لأحدٍ ؟ ، لقد شربوا منها جميعاً كدراً وطيناً ، وخاضوا في الوحلِ والسِباخِ ، وتساووا في المآسي والمصائبِ ، وجمعهم رحمُ الرزايا ، ورُموا جميعاً بالكوارثِ والأقدارِ ، فمنهم من نالَ نصبهُ نقداً عاجلاً ، ومنهم من رُزقهُ نسيئةً آجلاً ، يقولُ أبو فراسٍ الحمدانيُّ :
المرءُ رهنُ مصائبٍ لا تنقضي ********** حتّى يُوارى في ثرى رمسهِ
فمُعجّلٌ يلقى الرّدى في أهلهِ ********* ومؤجلٌ يلقى الرّدى في نفسهِ
إنَّ هذه الدنيا مهما طالتْ أيّامُ المرءِ فيها وزادتْ لياليهِ ، إنّما هي غفوةٌ وسنةٌ ثُمَّ يقظةٌ وهبّةٌ ، سُكرٌ وصحوٌ ، منزلةٌ تنزلُها ثُمَّ تجوزها إلى غيرِها ، والباكي كالشادي ، المصيرُ واحدٌ مهما اختلفوا في اللحنِ ، من مشى وصلَ ومن ركضَ وصلَ ، غايةٌ واحدةٌ ومضمارٌ واحدٌ وإنّما الاختلافُ في الدابةِ والزّادِ ، لا ينفعكَ الحذرُ ولن تنجوَ من القدرِ ، وماذا عساكَ أن تفعلَ لتغالبَ القدرَ أو تُبادرَ القضاءَ ؟ ، كلٌّ بأجلٍ مُسمّى .
يا أبا نوّافٍ : إنَّ في اللهِ عِوضاً من كلِّ مفقودٍ ، وخلفاً عن كلِّ غائبٍ ، وهو المرجوُّ أن يُخلفَ عليكَ بخيرٍ ، وأن يجبرَ كسركَ بفِراقِ إلفكَ وولدكَ ، وما يدريكَ فما في عالمِ الغيبِ من الأجرِ والعافيةِ أوسعُ ممّا في بقاءِ ولدكَ حياً مُعافىً ، ولا تجري الأقدارُ بعُسرٍ إلا لتأتي بيُسرٍ أو تذودَ عنكَ العظائمَ ، وقدرٌ دونَ قدرٍ ، ورُزءٌ أيسرُ من رُزءٌ ، ومُصيبةٌ جزاءُ صبركَ عليها الجنّةُ لهي واللهِ مصيبةٌ جللٌ ، تهونُ أمامَ النُعمى وتصغرُ عندَ الثوابِ : (( وبشّرِ الصابرينَ الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعونَ )) ، وفي الحديثِ الصحيحِ " ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسهِ وولدهِ ومالهِ حتّى يلقى اللهَ تعالى وما عليه خطيئةٌ " .
نحنَ يا أبا نوّافٍ جميعاً ضعفاءُ وإن أظهرنا التجلّدَ والصبرَ ، ولكنّا نأتسي بغيرنا ، ونذكرُ من باتَ ضجيعَ الهمِّ والغمِّ فنسلو قليلاً ، ونُداري الوجدَ والبوحَ بهِ ، ونُخفيَ الآهاتِ والزفراتِ ، وما منّا إلا وقد أخذَ نصيبهُ من أقدارهِ وافرةً غيرَ منقوصةً ، ومن يتصبّرْ يُصبّرهُ اللهُ .
جاء في الحديث الصحيح كما في السلسلة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات ولد الرجل يقول الله تعالى لملائكته : "أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم .. فيقول وهو أعلم : أقبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم .. فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع،فيقول الله جل وعلا : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد).
روى الإمام أحمد من حديث معاوية بن قرة عن أبيه: ( أنه كان رجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أتحبه ؟ " فقال : يا رسول الله , أحبك الله كما أحبه .. فتفقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما فعل ابن فلان؟ فقالوا : يا رسول الله مات , فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه : " أما تحب أن تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عليه ينتظرك ؟ " فقال رجل : يا رسول الله , أله خاصة أم لكلنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " بل لكلكم ).