PDA

View Full Version : قصتــي مع البيــــــــان ::: عائض القرني :::


العهد
23-07-2003, 11:41 AM
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته


استمعت إلى سلسلة امبراطور الشعراء للدكتور عائض القرني فشدني كثيرا اسلوب الشيخ في طرح المادة و وقفاته الشعريه و تعليقاته .. و لكن أكثر ما أعجبني و بهرني و شدني.. هي المقدمة التي أوردها الشيخ و التي كانت بعنوان قصتي مع البيان ..يذكر فيها قصته مع البيان و مع سحر الكلمه ...
و الحمدلله الذي يسر لي الحصول على هذه السلسله في كتاب مما يسر لي نقلها إليكم فأرجو أن تنال إعجابكم .. :)

العهد
23-07-2003, 11:43 AM
كنت في الصبا أعجب الكلمة الجميلة، و أنصت لها، و أتمتع بحسنها، يشدني جرسها، يخلبني سرها، يدهشني أسرها، أشعر الكلمة البليغة من النثر و الشعر فأجد لذة في سماعها، و تغمرني فرحة في تأمل بيانها، فالبيان سواء كان قرآناً أو حديثاً أو شعراً أو رواية هو منتهى الإبداع لدي، و أحيانا و أتناول كلمات من القرآن فأقرأ ما كتب عنها المفسرون و البلاغييون ثم أعود بنفسي متأملا متفكراً متدبراً، فأجد لها في أعماقي معاني لا أستطيع أحياناً أن أعبر عنها بلساني، و كم هي الآيات التي هزت كياني، و حركت أشجاني، زلزلت أركاني، و قد تكون هذه الآيات وعظاُ، أو قصصاً، أو حوراً، أو خطاباً، أو وصفاً، المهم أنني أعيش مواقف من التأثر لروعة البيان و جمال الخطاب.
في عام 1400هـ كنت مع سماحة الشيخ الإمام العلامه/ عبدالعزيز بن باز في جازان لاقتتاح مخيم دعوي هناك، و بدأ الحفل بآيات من أول سورة فصلت، قارئها طالب جميل الصوت، حسن الأداء، رخيم النغمه، و كنت قريب عهد بقراءة السيره، و قصة السوره، فتأثرت و أنا جالس بين الناس و أصابني اندهاش، و دعيت بعدها بفقرتين لإلقاء قصيده؛ فلما ألقيت ما يقارب عشرة أبيات و كانت أربعين بيتاً لم أستطع المواصلة، و شعرت بتعب و إعياء، فقطعت الإلقاء فجأة و جلست، و كان الموقف لافتاً للنظر، و ما ذلك إلا لما بقي من نفسي من تأثر بالغ أثَّر على مشاعري و عواطفي.
و صلينا في الحرم المكي صلاة التراويح فرفع الإمام صوته بقوله تعالى: (( فاعلم أنه لا إله إلا الله و استغفر لذنبك..)) و ارتج الحرم بالصوت و لكنه بلغ الأعماق فلا أدري هل أعجب من هذا البيان الآسر، أم من هذه الفخامة و الإشراق و الإعجاز، أم من هذا الصدق و اليقين و العدل؟

العهد
23-07-2003, 11:49 AM
كنت أقف على بعض الجمل من القرآن فأفصلها كلمة كلمة كما يفصل الدر من عقده، و الجوهر من خيطه، وفقت مرة عند قوله تعالى : (( و النخل باسقات لها طلع نضيد..)) فتأملت كلمة (باسقات) و جمالها، فإذا لها مدلول غير مدلول طويلات؛ لأن الباسق الطويل في حسن و ورواء، و كذلك (طلع) كيف اختارها من بين كلمة ثمر و حب و تمر ورطب و بسر و نحوها و كلمة: (نضيد) و ما فيها من جمال و دلالة وإشراق يذكرك بالعقد الزاهي من الجوهر.
و قرأت قوله تعالى عن كتابه: (( لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيلمن حكيم حميد )) فهزني هذاالكلام الجليل، ثم عدت إلى مصطفى صادق الرافعي فإذا هو مندهش لهذه الآيه، مأسور بجزالتها و فصاحتها. و مرت به آية (( فجعلناهم أحاديث..)) فوقف متأملاً صامتاً منبهراً من هذه الإجاده و الإيجاز و الاعجاز، ثم طالعت مذكرات الإبراهيمي الجزائري فإذا هو يدبج أروع الكلام عن هذه الآية، و يعلن اندهاشه من هذا الكلام المشرق السامي.

و عشت في عالم الجن فكأني في عالم الحنين و الأنين، يبهرني اللفظ و يأسرني المعنى، و تذهلني الفصاحة، و يهزني الإعجاز، ثم أعذر الجن و هو يقولون : (( إنا سمعنا قرآنا عجبا)) و أقرأ كلام سيد قطب فإذا هو يعيش تلك اللحظات من الإنبهار و الاندهاش لهذا الكلام، و كم هي الآيات التي أوقفتني و سلبت لبي، و ذهب بي الإعجاب بها كل مذهب، و تمنيت أن عندي من البيان ما يعبر عما يدور بخلدي من معان كامنة مستورة في الحشا، و كنت أردد آية: (( و قيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي و غيض الماء و قضي الأمر و استوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين)) فأعيد النظر فيها و أعرضها على بعض الأصدقاء ليشاركني هذه المتعة، ثم أجد عبدالقاهر الجرجاني يبسط الكلام من إعجاز هذه الآية و وجه البيان البديع فيها.
و وقفت عند آيه : (( و قالت اليهود يد الله مغلوله غلت أيديهم و لعنوا بما قالوا بل يداه مبسطوتان ينفق كيف يشاء)) فعجبت لقوة الحديث الذي ينسف قلاع الباطل، و يحطم أسوار الزور، و يجتث شحرة العناد و التمرد.

يتبع بإذن الله ..

العهد
28-07-2003, 11:42 AM
و طالعت عام البيان في حديثه صلى الله عليه و سلم، و تأملت أحاديثه العذاب الرطاب، و كلامه الجزل الفخم، و ذهبت مع الشعر فحفظت منه الكثير و رويت الكثير، و لكن الذي أحفظه هو الذي يعجبني و يطريني.
و سافرت مع المحدثين، و النقلة و المؤرخين، و المفسرين، و أهل اللغة و الأدباء، أقف مع الرائع الجميل من كلامهم، و أعيد القطعة الماتعة من كلام الذهبي، و الوقفة الصادقة لابن تيمية، و المقولة المؤثرة لابن القيم، و المداخلة الخلابة للجاحظ، و العرض الشائق لابن خلدون ونحوهم، و أكثر ما يشدني في ذلك البيان و حسن السبك، و جمال اللفظ، و قوة المعنى و سطوع البرهان.
و جلست مع صديق لي فقرأت عليه هذه القطعة للجاحظ إذ يقول: جعلت فداك، و إنما أخرجك من شيء إلى شيء و أورد عليك الباب بعد الباب، لأن من شأن الناس ملالة الكثير واستثقال الطويل؛ و إن كثرت محاسنه، و جمت فوائده، و إنما أردت أن يكون استطرافك للآتي قبل أن ينقضي استطرافك للماضي، و لأنك متى كنت اللشيء متوقعاً، و له منتظراً، كان أحظى لما يرد عليك، و أشهى لما يهدى إليك، و كل منتظر معظم، و كل مأمول مكرم، و كل ذلك رغبة في الفائدة و صبابة بالعلم، و كلفاً بالاقتباس، و شحاً على نصيبي منك، و ضناً بما أؤمله عندك و مداراة لطباعك، و استزاده من نشاطك، و لأنك على كل حال بشر، و لأنك متناهي القوة مدبر.
كررت هذة القطعة الفائقة، فكأنني أجد طعمها في فمى قطعة من الشهد، و زلالاً بارداً من معين صاف، و بقيت أقلبها في عيني تقليب الدرة في اليد، و الفكرة في القلب، و الخاطر في الضمير، و أنت لو تأملت هذه القطعة النثرية الفائقة للجاحظ أوجدتها في أوج البيان، و قمة الفخامة، بعيدة عن التزويق و التكلف، سلمية من التبذل و الرعونة، ساحرة قاتنة.

و إنما ذكرت هذا مثلاً، و إلا فكم من مقالة و قطعة و قصيدة توقف اللبيب، و تدهش الفطن من حسنها و روعتها.
أسمع الخطيب و الواعظ، و المعلم و المفتي والشاعر و المحاضر فلا يملك إعجابي إلا المنفرد في بيانه، المتوحد في اختيار مفرداته، و اصطفاء كلماته، و انتقاء جمله، أما الهذر و الحشو و الإكثار، فكل يستطيعه و هو المبذول المملول المرذول المدخول!.
حدثني أحد الأدباء: أن (هتلر) أراد أن يلقي خطاباً للعالم يوم زحفت جيوشه إلى موسكو يملاً به المكان و الزمان، فأمر مستشاريه باختيار أقوى و أجمل و أفخم عبارة يبدأ بها خطابه الهائل للعالم، سواء كانت من الكتب السماوية، أو من كلام الفلاسفة، أو من قصيد الشعراء ، فدلهم أديب عراقي مقيم في ألمانيا على قوله تعالى: (( اقتربت الساعة و انشق القمر)) فأعجب هتلر بهذه الأية و بدأ بها كلماته، و توج بها خطابه.
قف مع هذه الآية و رتلها و تأملها لتجد فخامة في إشراق، و قوة في إقناع، و أصالة في وضوح.
و قرأت مقالة الأديب يهاجم أدبياً آخر سرق له مقالات و نسبها إليه ، فجعل عنوان هذه المقالة قوله تعالى: (( أيتها العير إنكم لسراقون)) فبقيت مع العنوان متأملاً مكرراً و معجباً، و أهملت المقالة!؛ و لهذا فإنك تعذر كل من أسره القرآن و استمال قلبه و سيطر على روحه، حتى إن أحد العرب صلى خلف الرسول صلى الله عليه و سلم فسمعه يقرأ: (( أم خلفوا من غير شيء أو هم الخالقون)) فذهل و تخير من بلاغتها و جمالها، و هذا الذي حمل الوليد بن المغيره ليصيح صيحة المعترف و يقول: ( إن له لحلاوة، و إن عليه لطلاوة، و إن أعلاه لمثمر، و إن أسفله لمغدق، و إنه ليعلو و لا يعلى عليه).

العهد
28-07-2003, 11:47 AM
إن صرعى الشبهات لا يعجبهم القرآن، و إن عبيد الشهوات لا يهزهم هذا الكتاب العظيم، إن القرآن يعجب سليم الفطرة، بريء الضمير، حي القلب، مشبوب العاطفة، متوقد الذهن، ضافي القريحة، هذه أرض طيبة خصبة لغيث البيان و مطر الفصاحة العذب.
مرت بي مئات المقالات و القصائد، فوجدتها ثقيلة وبيلة لا تستحق الاهتمام و المطالعة، مهلهلة السبك ضعيفة البناء، ركيكة اللفظ، ماتت قبل أن تولد، و دفنت قبل أن تحيا جزاءً وفاقاً، و بقيت الكلمات الآسرة الساحرة الساطعة خالدة خلود الحق، لامعة لموع الفجر، جميلة جمال الإبداع.
طالع كتابب (صيد الخاطر) لابن الجوزي، و كرر كلماته، و أعد جمله لتدرك سر شيوع هذا الكتاب و ذيوعه و خلوده، إنها الفكرة الرائدة في ثوب جميل، و التوجيه الصادق في قالب بديع، و المعنى العميق في لفظ بهيج مشرق، يقول ابن الجوزي في كتاب طيب الذكر: ( إلا رجال مؤمنون و نساء مؤمنات يحفظ الله بهم الأرض، بواطنهم كظواهرهم بل أجلى، و سرائرهم كعلانيتهم بل أحلى، و هممهم عند الثريا بل أعلى، إن عرفوا تنكروا، و إن رئيت لهم كرامة انكروا فالناس في غفلاتهم و هم في قطع فلاتهم، تحبهم بقاع الأرض، و تفرح بهم أفلاك السماء، تسأل الله عزوجل التوفيق لاتباعهم، و أن يجعلنا من أتباعهم)... انتهى كلامه، و لكن لم ينته أثره و لا نوره و لا أسره و لا جماله، إن البحث عن البيان في الكلام متعة، لا يعادلها متعة ارتياد الروض الأخضر، و الخميلة المائسة، و لا يعادلها مجلس أنس، أو رحلة سياحة، و قد وصف أحد البغاء كلام أحد الأدباء فقال: إذا تحدث كأن السحر دب في جسمك، و هذا معنى قوله صلى الله عليه و سلم : (( إن من البيان لسحرا)) فهم يفعل السحر في خلبه للب السامع، يقول ابن الرومي:
و كلامها السحر الحلال لو أنه *** لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل و إن هي أوجزت *** ود المحدث أنها لم توجز

و الكلمات الجميلة هي التي نفشت في أذهاننا، و كتبت في قلوبنا، فبقيت و عاشت: أقرأ كلام علي بن أبي طالب- رضى الله عنه – فأكرره كأنني أشرب زلالاً بارداً حلواً على ظمأ في قيظ، حتى عقد ابن كثير في تاريخه فصلاً عنوانه: باب في كلماته الحاصلة التي هي إلى القلوب واصلة، و لما افتتح البخاري كتاب الرقائق من صحيحه ذكر قول على: ((إن الدنيا ارتحلت مدبرة، و إن الآخرة ارتحلت مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، و لا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل و لا حساب، و غداً حساب و لا عمل)) فانظر إلى هذا الإيجاز مع قوة المعنى وحسن الفواصل، و براعة الإيراد، و جمال العرض.
و لما بدأت في مطالعة ( الكشاف) للزمخشري بدأ ليصلي على الني صلى الله عليه و سلم فقال: و الصلاة و السلام على حامل لواء العز في بنى لؤي، و صاحب الطود المنيف في بنى عبدمناف بن قصي، صاحب الغرة و التحجيل، المذكور في التوراة و الإنجيل..إلى آخر هذا الكلام الجزل الفخم، و لحسنه حفظته.
إن أول طبعة لمصنف ابن أبي شيبة طبعت في الهند، فدم له أحد علماء الهند مقدمة باردة سامجة متفككة متهالكة، حتى صارت مصدر نادرة في المزاح، و ما هذا إلا لأن الرجل يكتب بغيرلسانه، و ما غاص في مفردات اللغةالعربية، و ما تمتع بجمالها فهو غريب، و إنك لتسمع العالم يفتي، و المعلم يدرس، و الخطيب يتحدث، و الشعر يلقي، فتعرف قوة هؤلاء من ضعفهم و بيانهم من عيََّهم من أول وهلة، لأن الكلام الباهر الجميل الساطع لا يخفي حسنه، و لا يجهل قدره.
إن أساطين البيان حفروا كلماتهم في ديوان التاريخ و ذاكرة الأجيال لأن الإبداع له خلود، و التفوق له ذيوع، و التفرد له امتياز.
فال أحد الخلفاء لبليغ: ما البلاغه؟ قال هي: أن لا تبطىء و لا تخطىء . قال مثل ماذا؟ قال مثل هذا!، و انظر كيف أوجز و أعجز. وقال لشاعر: نراك تسرع في الكلام. قال: لأن القوافي تزدحم في فيًّ - أي في فمي - فما أسرع جوابه و أحسن صوابه.
و مدح رجلاً علياً-رضى الله عنه- و كان يبغض علياً-فقال له علي: أنا فوق ما في نفسك و دون ما تقول، و قال له رجل: لماذا اتفقت الأمة على الشيخين و اختلفت عليك؟ قال لأن رعيتهم أنا و أمثالي، و رعيتي أنت و أمثالك! فقل لي بربك أي جواب هذا الذي كأنه أعده من شهر.
لقد حرمنا متعة البيان بسبب هذا الهذيان، كلام طويل ثقيل و بيل، و تكرار و تبذل، حتى إنك تسمع الخطيب يتكلم ساعة كاملة و لو جمع ما قال في خمس دقائق لأحسن إلى نفسه و إلى السامعين.
إن السيلان الخطابي، و الثرثرة في الحديث شيء، و البيان و البلاغة شيء آخر، إن البيان هو أن تصيب المحز و تشفي النفس و تبلغ حجتك.
و لولع النفس بالبيان، و تعلق القلب بالفصاحة، سافرت مع أبي الطيب المتنبي لجمال شعره و روعة بيانه، و جزالة لفظه، و براعة عرضه، و أما مبادئه و مذهبه في الحياة قلنا معه حدث آخر في هذا الكتاب.

انتهي