ابن الرومي
04-01-2003, 08:28 PM
يلتقط ابن الرومي عيوب المهجو التقاطاً سريعاً لا يتركها إلا بعد أن يجعل منها سخرية للناس جميعاً ومصدراً للضحك لأنه لا يرسم عيوب المهجو بقدر ما يرسم نموذج العاهة التي تسبب هذا العيب.
ومن أجمل هذه الصور النادرة قوله في رجل طوَّل شعر مؤخر رأسه ليغطي صلعته:
يـا أَيُّها الهَارِبُ منْ دَهْرِهِ ؛؛؛ أَدْرَكَـكَ الـدَّهْرُ على خَيْلهِ
يَـسُـوقُ مـنْ نُـقْرَتِهِ طُـرَّةً ؛؛؛ إلـى مَدَى يَقْصُرُ عنْ نَيْلِهِ
فـوَجْـهُهُ يـأْخُذُ مـنْ رَأْسِـهِ ؛؛؛ أَخْذَ نَهَارِ الصَّيْفِ منْ لَيْلِهِ
مِـثْلُ الذي يَرْفَعُ منْ جَيْبِهِ ؛؛؛ وَهْـباً بـما يَـأْخُذُ مـنْ ذَيْلِهِ
ويـروى في أحد الدواوين
مـثْلُ الذي يَرْقَعُ منْ جَيْبِهِ ؛؛؛ وَهْـياً بـما يـأْخُذُ مـنْ ذَيْلِهِ
إن ابن الرومي في هذه المقطوعة يرسم معاناة الإنسان الحضاري في القرن الثالث الهجري حيث يسحقه مجتمعه المترف ويحرقه زمنه الذي يتجه نحو الفناء بسرعة.
فلننظر الآن إلى هذه الصورة التي وصل الفن فيها إلى ذروته.
ابن الرومي يصف هذا الإنسان الذي يهرب من دهره عندما يغطي صلعته بشعر مؤخر رأسه.
فانظر كيف استعمل هذا التعبير الجميل (أدركك الدهر على خيله) للدلالة على عجز الإنسان عن تغيير الواقع، فهو لا يستطيع أن يهرب من الدهر فالدهر يلحقه أينما ذهب ويظفر به.
ثم انظر إلى تعبيره أيضاً (يسوق من نقرته طرة) ترى أن هذه الاستعارة وحدها ضمن هذه الصياغة أوحت لنا بالكثير عن حالة هذا الأصلع الذي يتعب كثيراً في رد شعر مؤخر رأسه إلى الأمام لأن هذا الشعر بطبيعته لا يرجع إلى الأمام، وهذا ما حمل ابن الرومي على هذا الأسلوب الذي اعتمد على الغلو والخيال في وصفه وبخاصة عندما يقول: (إلى مدى يقصر عن نيله) ثم وصل ابن الرومي إلى قمة الجمال الفني في هذا البيت الذي يقول فيه:
فوجهه يأخذ من رأسه ... أخذ نهار الصيف من ليله
إن الخيال الخصب المبدع عند ابن الرومي هو الذي أتى بهذه الصورة الجميلة، كيف استطاع هذا الخيال أن يقابل بين الوجه والنهار من ناحية البياض وبين الشعر الأسود والليل، وبين نهار الصيف الطويل ووجه الأصلع الذي يكبر تجاه رأسه (فكأن وجهه يطول بطول نهار الصيف)، وبين ليل الصيف الذي يقصر ويتراجع أمام النهار كما يتراجع شعر هذا الأصلع إلى الوراء.
فاستطاع بهذا الخيال الشعري النابض بالحس والحياة أن يخلق هذه المقابلات ويأتي بالوصف دقيقاً نابضاً بالحياة.
إن ابن الرومي يقدم لنا لوحات فنية متتابعة في هذه الأبيات، ولكنها تكون في النهاية باتحدها لوحة فنية إنسانية خالدة، فاللوحة التصويرية الأولى في قوله :
(يا أيها الهارب من دهره) فهذه صورة الإنسان الهارب من الدهر، واللوحة الثانية (أدركك الدهر على خيله) واللوحة الثالثة (فوجهه يأخذ من رأسه) واللوحة الرابعة (أخذ نهار الصيف من ليله) واللوحة الخامسة (مثل الذي يرفع من جيبه) واللوحة السادسة (وهبا بما يأخذ من ذيله)، ثم نرى في النهاية أن هذه اللوحات المتتابعة وكأنها شريط سينمائي تتحد في لوحة فنية متكاملة تصف هذا الأصلع الذي يحاول بما تبقى له من شعر في مؤخرة رأسه أن يستر صلعته، ولكن هيهات.
إن براعة ابن الرومي في صور هجائه تأتي أيضاً من ناحية هذه المزاوجة الناجمة بين المعنى والشكل بكل جزئياته. ففي هذه الصورة التي يقول فيها:
يا أيها الهارب من دهره ... أدركك الدهر على خيله
ماذا نجد في هذا البيت؟ أو بماذا يوحي إلينا؟ لقد اختار ابن الرومي البحر السريع ليلائم الصورة التي رسمها لهذا الإنسان الهارب من دهره، فالإنسان الهارب من شر أو مكروه يجري بسرعة، فأتت الموسيقى الشعرية سريعة متلائمة مع الموقف النفسي لهذا الإنسان الذي يركض بسرعة هارباً من دهره المخيف.
ونستطيع أن نقول إن ابن الرومي يمتاز بالموسيقى التصويرية في شعره كما هي الحال في الأفلام السينمائية.
وقد استخدم ابن الرومي براعته اللفظية في اختيار الألفاظ ذات الدلالة الموسيقية التي تلائم صورته فمجيء حرف (الهاء) أربع مرات في الشطر الأول ومرتين في الشطر الثاني قد يكون عفوياً، ولكنه يشكل جانباً من فن ابن الرومي.
فوجود هذا الحرف يدل على موقف نفسي لهذا الإنسان الهارب، ألا وهو التعب الشديد الناتج من الجري السريع أمام خيول الدهر.
إن هذا الحرف (الهاء) وهو حرف حلقي يوحي إلينا بإنسان يلهث تعباً لأن (الهاء) تخرج من أعماق الصدر، والإنسان الذي يتعب من عمل نراه دائماً يتنفس من خلال الهاء القوية حتى تسمع في الآذان متكررة متقطعة.
حتى حرف النداء (يا) في أول الكلام استعمل في مكانه ليدل على إنسان هارب، بعيد.
إن ابن الرومي استطاع أن يهيئ الجو النفسي لهذا الرجل من خلال الرسم بالكلمات.
المصدر:
((قصيدة الهجاء عند دعبل الخزاعي وابن الرومي))..
للدكتور عبد الحميد جيده.
.....
ومن أجمل هذه الصور النادرة قوله في رجل طوَّل شعر مؤخر رأسه ليغطي صلعته:
يـا أَيُّها الهَارِبُ منْ دَهْرِهِ ؛؛؛ أَدْرَكَـكَ الـدَّهْرُ على خَيْلهِ
يَـسُـوقُ مـنْ نُـقْرَتِهِ طُـرَّةً ؛؛؛ إلـى مَدَى يَقْصُرُ عنْ نَيْلِهِ
فـوَجْـهُهُ يـأْخُذُ مـنْ رَأْسِـهِ ؛؛؛ أَخْذَ نَهَارِ الصَّيْفِ منْ لَيْلِهِ
مِـثْلُ الذي يَرْفَعُ منْ جَيْبِهِ ؛؛؛ وَهْـباً بـما يَـأْخُذُ مـنْ ذَيْلِهِ
ويـروى في أحد الدواوين
مـثْلُ الذي يَرْقَعُ منْ جَيْبِهِ ؛؛؛ وَهْـياً بـما يـأْخُذُ مـنْ ذَيْلِهِ
إن ابن الرومي في هذه المقطوعة يرسم معاناة الإنسان الحضاري في القرن الثالث الهجري حيث يسحقه مجتمعه المترف ويحرقه زمنه الذي يتجه نحو الفناء بسرعة.
فلننظر الآن إلى هذه الصورة التي وصل الفن فيها إلى ذروته.
ابن الرومي يصف هذا الإنسان الذي يهرب من دهره عندما يغطي صلعته بشعر مؤخر رأسه.
فانظر كيف استعمل هذا التعبير الجميل (أدركك الدهر على خيله) للدلالة على عجز الإنسان عن تغيير الواقع، فهو لا يستطيع أن يهرب من الدهر فالدهر يلحقه أينما ذهب ويظفر به.
ثم انظر إلى تعبيره أيضاً (يسوق من نقرته طرة) ترى أن هذه الاستعارة وحدها ضمن هذه الصياغة أوحت لنا بالكثير عن حالة هذا الأصلع الذي يتعب كثيراً في رد شعر مؤخر رأسه إلى الأمام لأن هذا الشعر بطبيعته لا يرجع إلى الأمام، وهذا ما حمل ابن الرومي على هذا الأسلوب الذي اعتمد على الغلو والخيال في وصفه وبخاصة عندما يقول: (إلى مدى يقصر عن نيله) ثم وصل ابن الرومي إلى قمة الجمال الفني في هذا البيت الذي يقول فيه:
فوجهه يأخذ من رأسه ... أخذ نهار الصيف من ليله
إن الخيال الخصب المبدع عند ابن الرومي هو الذي أتى بهذه الصورة الجميلة، كيف استطاع هذا الخيال أن يقابل بين الوجه والنهار من ناحية البياض وبين الشعر الأسود والليل، وبين نهار الصيف الطويل ووجه الأصلع الذي يكبر تجاه رأسه (فكأن وجهه يطول بطول نهار الصيف)، وبين ليل الصيف الذي يقصر ويتراجع أمام النهار كما يتراجع شعر هذا الأصلع إلى الوراء.
فاستطاع بهذا الخيال الشعري النابض بالحس والحياة أن يخلق هذه المقابلات ويأتي بالوصف دقيقاً نابضاً بالحياة.
إن ابن الرومي يقدم لنا لوحات فنية متتابعة في هذه الأبيات، ولكنها تكون في النهاية باتحدها لوحة فنية إنسانية خالدة، فاللوحة التصويرية الأولى في قوله :
(يا أيها الهارب من دهره) فهذه صورة الإنسان الهارب من الدهر، واللوحة الثانية (أدركك الدهر على خيله) واللوحة الثالثة (فوجهه يأخذ من رأسه) واللوحة الرابعة (أخذ نهار الصيف من ليله) واللوحة الخامسة (مثل الذي يرفع من جيبه) واللوحة السادسة (وهبا بما يأخذ من ذيله)، ثم نرى في النهاية أن هذه اللوحات المتتابعة وكأنها شريط سينمائي تتحد في لوحة فنية متكاملة تصف هذا الأصلع الذي يحاول بما تبقى له من شعر في مؤخرة رأسه أن يستر صلعته، ولكن هيهات.
إن براعة ابن الرومي في صور هجائه تأتي أيضاً من ناحية هذه المزاوجة الناجمة بين المعنى والشكل بكل جزئياته. ففي هذه الصورة التي يقول فيها:
يا أيها الهارب من دهره ... أدركك الدهر على خيله
ماذا نجد في هذا البيت؟ أو بماذا يوحي إلينا؟ لقد اختار ابن الرومي البحر السريع ليلائم الصورة التي رسمها لهذا الإنسان الهارب من دهره، فالإنسان الهارب من شر أو مكروه يجري بسرعة، فأتت الموسيقى الشعرية سريعة متلائمة مع الموقف النفسي لهذا الإنسان الذي يركض بسرعة هارباً من دهره المخيف.
ونستطيع أن نقول إن ابن الرومي يمتاز بالموسيقى التصويرية في شعره كما هي الحال في الأفلام السينمائية.
وقد استخدم ابن الرومي براعته اللفظية في اختيار الألفاظ ذات الدلالة الموسيقية التي تلائم صورته فمجيء حرف (الهاء) أربع مرات في الشطر الأول ومرتين في الشطر الثاني قد يكون عفوياً، ولكنه يشكل جانباً من فن ابن الرومي.
فوجود هذا الحرف يدل على موقف نفسي لهذا الإنسان الهارب، ألا وهو التعب الشديد الناتج من الجري السريع أمام خيول الدهر.
إن هذا الحرف (الهاء) وهو حرف حلقي يوحي إلينا بإنسان يلهث تعباً لأن (الهاء) تخرج من أعماق الصدر، والإنسان الذي يتعب من عمل نراه دائماً يتنفس من خلال الهاء القوية حتى تسمع في الآذان متكررة متقطعة.
حتى حرف النداء (يا) في أول الكلام استعمل في مكانه ليدل على إنسان هارب، بعيد.
إن ابن الرومي استطاع أن يهيئ الجو النفسي لهذا الرجل من خلال الرسم بالكلمات.
المصدر:
((قصيدة الهجاء عند دعبل الخزاعي وابن الرومي))..
للدكتور عبد الحميد جيده.
.....