PDA

View Full Version : >> رمضان بين الماضي والحاضر (مقال رائع ) <<


(+_+)
07-11-2002, 04:07 AM
هذا المقال – في الأصل – حديث إذاعي ، ألقاه الأديب الفقيه الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله - من إذاعة دمشق قبل أكثر من اثنين وأربعين عاماً ... ويقارن فيه شهر الصوم الذي عرفه في طفولته ، وشهر الصوم عام 1377هـ (1975) عندما أذيع حديثُه .
هذا الحديث عن رمضان ، وفي رمضان النور والعطر ، وفي رمضان الخير والطهر ، وفي رمضان الذكريات الكثر ، ففيه نزل الذكر ، وفيه ليلة القدر ، وكان فيه نصر بدر ، وفي آخره عيد الفطر .
ورمضان نور على المآذن ونور في القلوب ، ورمضان صوم عن الطعام ، وصوم عن الحرام .
إن كانت الحياة تنازعا على الحياة ، فهذا الشهر إدراك لسر الحياة ، وإن كان العمر كله للجسم ، فهذا الشهر للروح ، وإن كانت الدنيا للتناحر والخصام ، فهذا الشهر للحب والوئام .
هذا هو رمضان الذي أبصرت وجهه من كوة الطفولية فأحببته ، ورأيت أثره الخير في كل مكان في دمشق , فأكبرته ، ثم لم أعد أراه أبداً , فعلمت أني قد افتقدته واضعته .
عن رمضان الذي عرفته لم يعد يتردد على دمشق . إن هذا رمضان جديد ، يحمل اسم رمضان الأول ، الذي رأيته أول مرة منذ أكثر من أربعين سنة ، ولكنه ليس ذلك ال ( رمضان )
رمضان القديم كان يغمر أرجاء دمشق كلها , فكنت تحس به حيثما سرت . تراه في المساجد الممتلئة بالمصلين والقارئين ، والملتحقين حول كراسي المدرسين , وتراه في الأسواق ، فلا تجد عورة بادية ، ولا منكرا ظاهرا ، ولا مطعماً مفتوحاً ، ولا مدخناً ولا شارباً ، وتشتري البضاعة وأنت آمن من الغش والغبن ؛ لأن أفسق البائعين لا يغش في رمضان ، والمرأة تعمل مطمئنة إلى أنها مهمتا أخطأت فلن تسمع من زوجها كلمة ملام ، لأن المسلم الصائم لا يشتم , ولا يلوم في رمضان ، والرجل يجيء إلى بيته وهو آمن أن يجد من زوجه نكداً أو إساءة ، لأن المرأة الصائمة لا تؤذي زوجها في رمضان ، ولو تركت بابك مفتوحاً لما دخل المنزل لص ، لأن اللصوص يضربون عن العمل ويتوبون عن السرقة في رمضان .
أما رمضان الجديد ، فلا تعرفه هذه الشوارع الجديدة والأحياء الحديثة ، ولم يعرف ـ بعدُ ـ الطريق إليها ، ودمشق القديمة لم يعد يستطيع أن يسيطر عليها ، فالمساجد مملوءة بالمفطرين ، والصائمون تسوء أخلاقهم في رمضان من الجوع وشهوة الدخان ، والشياطين تُصفد في رمضان , لكن الفساق ينطلقون عاملين فيه كما كانوا يعملون قبل رمضان .
ولقد كان أشد الناس بعداً عن الدين إذا سمع مدافع رمضان تاب وأناب إلى الله ، ونزع نفسه الآثمة واستبدل بها نفساً زكية متعبدة ، كما ينزع ثوبه الوسخ ويستبدل به ثوبا نظيفا ، والبيوت التي كان يسودها الخصام تتحول في رمضان إلى دور أمن وسلام والمدينة تصير كلها أسرة واحدة ، أو مدرسة داخلية يأكل الناس فيها في وقت واحد ، وينامون في وقت واحد ، ويقومون في وقت واحد .
إذا دنت ساعة الغروب رأيت الناس ـ جميعاً ـ مسرعين إلى بيوتهم ، وهذا يحمل صحن الفول المدمس ، وهذا يحمل الجرادق ، والبرازق ، وتكون المائدة منصوبة حتى إن أفقر الناس يجد في رمضان فطوراً شهياً ، لأن كل صائم في رمضان يتفقد جيرانه ومن حوله ، فلا يأكل هو الطعم الطيب، والألوان الكثيرة ، وجاره لا يجد الخبز والجبن .
وتصطف الأسرة كلها حول المائدة ، يجمعها شعور واحد ، شعور يجمع الغني والفقير ، والأمير والأجير ، هو الجوع ، أغنى الناس يشتهي قبل المغرب ملعقة من حساء أو رشفة من شراب . والأولاد يقفون على الشرفات ، أو على جوانب الطرق ، فإذا رأوا مصباح المنارة ، أو سمعوا المدفع ، صاحوا بنغمة موزونة ولحن موقع : أذّن . أذّن . أذّن . وطاروا إلى بيوتهم كما تطير العصافير إلى أعشاشها إذا رأت طلائع الليل ، وتخلو الطرق ، وتهدف الأصوات ثم ترتفع من كل مكان ، من الكوخ ومن القصر على السواء ، كلمة : الحمد لله ، كلهم شبع ، وكلهم رضي ، وكلهم شكر ، الذي أكل السبعة الألوان والذي أكل الخبز والمسبحة والفول .
ثم يمضي الرجال إلى المساجد ؛ ليصلوا التراويح ، أو يصبّوها مع أهليهم وأولادهم ، وتكون الأسواق مضاءة ، والأولاد مزدحمين فيها ، على بائع المثلجات إن كان الوقت صيفاً أو بائع الفول النابت . ومن أراد لهوا لم يجد إلا الحكواتي يقص قصة عنتر - وكلها بطولة ونبل - ، لا كهذه القصص الآثمة الداعرة التي تغضب الكلاب ولو وصفت مجتمعاتها بمثل ما وصف به المجتمع الأمريكي في قصة "الطريق التبغ " التي طبعت من سنين قليلة عشرين مرة ، وبيع ملايين ، أو الكراكوزاتي ..
فإذا مضت ساعة بعد صلاة العشاء ، انطفأت الأضواء ، وخلت الأسواق وانصرف الناس إلى دورهم ليناموا ، والمسحر لا يجيء إلا في وقت السحور ، لا يجيء نصف الليل ، ليوقظك من نومك ، ويقرع بطبلته رأسك ، كما يفعل الآن ، وأنت مجبر أن تقول له أشكرك ، وتدفع له أجرته على أنه كسر دماغك وحطم أعصابك ، ولم تكن هذه الإذاعات التي لا تسكت لحظة في رمضان ، ولا كانت في البيوت هذه الأجهزة الشنيعة ، مصيبة المصائب الراد ( الراديو لأنه يرد الصوت المنتشر في الفضاء ) الذي تستطيع كل امرأة جاهل ، وكل ولد لعاب أن يزعج به مئة بيت ، ولا يكلفه ذلك إلا أن يمد أصبعه وهو نائم فيدير زره أنملة ( سانتي متر ) فيدخل الداء العصبي على كل ما سكن هذه البيوت ، ويهرب رمضان المسكين بتأمله وخشوعه وطهره .
إن رمضان لا يستطيع أن يعيش إلا في الهدوء والسكون ، فكيف يعيش في هذه الضجة الهائلة ، وكيف يتوجه إلى ربه ؟ وكيف ينام ليقوم إلى السحور ، إذا كان كل صاحب رادّ لا يسمع وحده بل يسمع أربعين جاراً ، وكانت الأصوات لا تنقطع طول الليل ، والمسحر يجيء من الساعة الواحدة ، وهؤلاء الموسيقيون الفاشلون الذين عجزوا عن أن يكون رجال فن، فأسبغوا على غنائهم ثوب الدين ، والدين يبرأ منهم وتغزلوا بالرسول r بدلا من التغزل بليلى وسلمى، والبياعون يأتون من طلوع الشمس ، مصلح البوابير ، ويباع الحليب ( واللي عنده سجاد للبيع) والأولاد الذين يتخذون الحارات والجادات ملاعب للكرة .
وكيف يشعر بوجود رمضان من يركب الترام فيرى أمامه من يدخن وينفخ في وجهه الدخان ، ويرى المطاعم مفتحة والأكلة يأكلون ، ويرى الناس إن صاموا عن الشراب وعن الطعام ، لا يصوم إلا القليل منهم عن الكذب والغش والغيبة والبذاءة والحلف بغير الله ، أو الحلف كاذبا بالله ، ولا يصوم إلا القليل عن الغضب والبطش والأذى . وليس الصيام ـ في الحقيقة ـ إلا تدريب خلقي ، ليس الصوم جوعا وعطشا فقط ، خلق الله ملائكة ، وخلق شياطين وخلق وحوشا وسباعاً. فالملك خير كله ، والشيطان شر كله ، والسبع طبيعته البطش ، لولاه ما عاش ، وخلق الإنسان من الثلاثة جميعاً ، ففي الإنسان ملك وشيطان وسبع ، الملك له الإيمان والرحمة والطاعة والخشوع والسمو النفسي ، والشيطان له الشهوة المحرمة والكذب والاحتيال والإفساد ، والسبع له الغضب والبطش والقهر . والصيام في الحقيقة صيام عن السبعية والشيطانية ؛ لتخلص النفس في هذا الشهر للملكية . فإذا لم تظهر على الصائم أخلاق الملائكة ، وإذا بقي يغضب ويبطش كالسبع ، ويشتهي ويفسد كالشيطان ، فإنه لم يعرف حقيقة الصيام .
لقد كان رمضان الذي يجيء دمشق من أربعين سنة رمضان حقيقيا ، وما أدري أمات وجاء غيره ، أم قد شاخ وعجز أن يطوف دمشق كلها فصار يثبت وجوده في المفكرة والتقويم وفي أضواء المآذن ومدافع القلعة فقط ، فقط لا غير ، أم أنا الذي تغير وتبدل ؟ كنت أنظر قبل أربعين سنة بعين صبي لم يقترف إثماً . فكنت أرى رمضان ، فلما أثقلت الآثام أجفاني لم أعد أراه !
وكان أهل دمشق في مثل طهارة الأطفال ، لم تشوه أصباغ الحضارة طبيعة الحسن في نفوسهم ، ولم تفسد الشبه والعصبيات جمال الأخوة بين أفرادهم ، ولم تكن قد هتكت أستار الصيانة ، ولا مزقت براقع الحياء ، كانت المرأة لزوجها وولدها وربها ، والرجل لزوجته وولده وربه ، فكانوا يرون رمضان كلهم. يرون هلاله في الأفق ، ونوره في القلوب ،وأثره في البيوت والأسواق والمدارس والمساجد ، يشعرون ـ حقا ـ أن قافلة العمر كانت تمشي بهم في صحراء مجدبة ، فإذا كان رمضان مشت في الواحة التي تعقب بريّا الأزاهير وترقص على أنغام الشحارير ، فيكون من ذلك أنس للنفس وراحة للروح .
فأين ذلك الرمضان ؟ أين هو ؟ دلوني عليه دلوني عليه أجد فيه ماضي الذي فقدته ، وأُنسي الذي أضعته . رمضان الذي يتوب فيه كل عاصٍ ، ويتصل فيه كل منقطع ، ويشهد فيه كل محجوب ، وتسطع فيه الأنوار في كل قلب ، حتى لتمتلئ بالرضا والاطمئنان والحب ، ويقوم الناس في الأسحار ساعة يتجلى الله على الوجود تجلي الرحمة والغفران وينادي المنادي من السماء : ألا من سائل فأعطيه ألا من مستغفر فأغفره ، فيهتفون من أعماق قلوبهم : يا أرحم الراحمين ، ويسألون الله ويستغفرونه ، فيحسون أن قد صعدوا بأرواحهم إلى حيث يرون الأرض كلها ومن عليها ذرة تجول في هذا الفضاء . الدنيا كلها بأطماعها وأحقادها ومغرياتها ، ويتذوقون اعظم اللذات ، اللذة التي لا تقاربها لذة ، لذة الاتصال بالله ، ومناجاته في سكنات الليل ، وهدآت الأسحار , فتسطع أنوار الإيمان في كل قلب ويمتلئ بالرضا والاطمئنان والحب ، والقلب كالنسر الذي يضرب بجناحه في طباق السماء ولكنا قيدناه بقيود المادة ، ثم أغرقناه في حمأة المطامع والشهوات . فكيف يطير نسر مقيد الجناح غارق في الطين ؟
هذا هو رمضان .؟.. فحلوا القيود عن قلوبكم واغسلوها من أوضار الحمأة التي غمستموها فيها ، ودعوها ترتفع لتطلّع على جمال الوجود ، وترى من هذا المرقب العالي جمال رمضان .

(+_+)
07-11-2002, 03:45 PM
^
Y

المبتسم
07-11-2002, 04:13 PM
يا هلا اخوي (+_+)..
ما شالله عليك...داخل حماس من اول يوم :D ;)
شكرا لك علي هذا المقال الرااااااااااائع ..
يعطيك العافيه .

(+_+)
07-11-2002, 04:24 PM
عزيزي
انت لا تصدق بالشعور الذي اشعر به عندما ترد علي انت بالذات:D :D :D :D :D :D :D :D :D :D :D

المبتسم
07-11-2002, 04:38 PM
طيب روح قسم الطرائف...
راح يعجبك الوضع هناك:D ;)