PDA

View Full Version : ،، الثلاثة الذين خُلِّفوا .. دروسٌ وعبرٌ ،،


كلاسيك
12-09-2001, 08:15 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،



ندب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب إلى الجهاد ، وأعلمهم بغزو الروم ، وذلك في رجب سنة تسع ، فتسابق الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إلى التجهز ، وإلى التصدق ، وتخلف عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقوام ، وقد كانوا أربعة أصناف :

1 - مأمورون بأمر رسول الله ، وهم مأجورون ، كعلي بن أبي طالب ، ومحمد بن مسلمة .

2 - معذورون ، وهم الضعفاء والمرضى والمقِلُّون الذين لا يجدون ما ينفقون ، ولا يجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يحملهم عليه ، كالبكائين .

3 - ملومون مذمومون ، يُظهـرون خلاف ما يبطنون ، وهم المنافقون .

4 - عصاة مذنبون ، وهم أبو لبابة ، وصحاباه الذين ربطوا أنفسهم في سوراي المسجد حتى يتوب الله عليهم ، وهم الثلاثة الذين خلفوا ..

وفي الأسطر التالية سنتعرف على قصتهم وهم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع .
محاولين استخلاص الفوائد والعبر من هذه القصة .
حرصين على إيراد لفظها لأنها قطعة من الأدب النفسي والقولي .
روى البخاري ومسلم وغيرهما ـ واللفظ للبخاري ـ عن كعب قال : لم أتخلَّف عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك ، غير أني كنت تخلَّفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحد تخلَّف عنها ، وإنما خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد .. حتى كانت تلك الغزوة التي غزاها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حرٍّ شديدٍ ، واستقبل سفرًا بعيدًا ، ومفاوز وعددًا كثيرًا .. والمسلمون مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثير لا يجمعهم كتاب حافظ ـ يريد الديوان ـ .
فتجهز إليها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض من جهازي شيئـًا ، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد ، فأصبح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئـًا ، فقلت : أتجهز بعد يوم أو يومين ثم الحقهم ، فغدوت بعد أن فصلوا ـ خرجوا ـ ولم أقض شيئـًا ، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، وهممت أن أرتحل فأدركهم ـ وليتني فعلت ـ فلم يُقَدَّر لي ذلك .
فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصـًا عليه النفاق ـ أي مطعونـًا عليه ـ ، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء .
ولم يذكرني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى بلغ تبوك فقال : " ما فعل كعب " ؟ فقال رجل من بني سَلِمة : يا رسول الله حبسه بُرْداه ونظره في عِطْفَيه ، فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلتَ ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا .
قال كعب : فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادمـًا زاح عني الباطل ، وعرفت أني لن أخرج منه أبدًا بشيء فيه كذب ، فأجمعت صدقه ، فأصبح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قادمـًا ، فكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ، ثم جلس للناس ، فلما فعل جاء المخلَّفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً ، فقيل منهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ علانيتهم ، وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله ـ عز وجل ـ .
فجئته ، فلما سلَّمت عليه تبسم تبسم المغضب ، ثم قال : " تعالَ " فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي : " ما خلَّفك ، ألم تكن قد ابتعت ظهرًا " ؟ فقلت : بلى ـ والله ـ لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنَّ الله أن يسخطك عليَّ ، ولئن حدثتك حديثـًا تجد عليَّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله ، لا والله ما كان لي من عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلَّفت عنك ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك " .
ثم قلت : هل لقي هذا أحد ؟ قالوا : نعم رجلان قالا مثل ما قلت ، وقيل لهما ما قيل لك ، فقلت من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع العمري ، وهلال بن أمية الواقفي .
ونهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف ، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض ، فما هي التي أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي فقد استكانا وقعدا في بيوتهما ، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدَهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين ، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأقول في نفسي : هل حرَّك شفتيه برد السلام عليَّ أم لا ؟ ثم أصلي قريبـًا منه ، فأسارقه النظر ـ أنظر إليه خلسة ـ فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليَّ ، وإذا التفت نحوه أعرض .
حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسوَّرت ـ علا عليه ودخل ـ جدار حائط ـ بستان ـ أبي قتادة ـ وهو ابن عمي وأحبُّ الناس إليَّ ـ فسلمت عليه ، فوالله ما ردَّ السلام ، فقلت : يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلمني أحب الله ورسوله ؟ فسكت ، فعدت له فنشدته فسكت ، فعدت له فنشدته فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي .
قال : وبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط ـ جيل من الناس يسكنون سواد العراق ـ أهل الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدلني على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له ، حتى إذا جاءني دفع إليَّ كتابـًا من ملك غسان ، فإذا فيه : " أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مَضْيَعة فالحق بنا نُواسِك " فقلت : وهذا أيضـًا من البلاء ، فتيمّمت بها التنور ـ الفرن ـ فسجرته بها .
فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسولُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأتيني فقال : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمرك أن تعتزل امرأتك ، فقلت أطلقها أم ماذا أفعل ؟ قال : بل اعتزلها ولا تقربها ، وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك .
فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ، قال كعب : فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت : يا رسول الله ، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم ، فهل تكره أن أخدمه قال : " لا ، ولكن لا يقربك " فقالت : إنه والله ما به حركة إلى شيء ، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومنا ..
قال : فلبثت بعد ذلك عشر ليالٍ وأنا على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل قد ضاقت عليّ نفسي ، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفَى على جبل سَلْع يقول بأعلى صوته : يا كعب أبشر ، فخررت ساجدًا ، وعرفت أن قد جاء فرج ، وآذن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتوبة الله علينا حين صلَّى صلاة الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، وذهب قِبَل صاحبيَّ مبشرون ، وركض رجل إليَّ فرسـًا ، وسعى ساعٍ من أسْلَم فأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه ، والله ما أملك غيرهما يومئذٍ ، واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم فتلقَّاني الناس فوجـًا فوجـًا يهنئونني بالتوبة يقولون : ليهنك توبة الله عليك ، حتى دخلت المسجد فإذا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالس حوله الناس ، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني ، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره ، ولا أنساها لطلحة ، فلما سلمت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يبرق وجهه من السرور ـ : " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " قلت : يا رسول الله إنَّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله ، فقال : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير " قلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر .
وقلت : يا رسول الله إنما نجّاني الله بالصدق ، وإن من توبتي ألا أتحدث إلا صدقـًا ما بقيت ، فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحسن مما أبلاني ، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى يومي هذا كذبـًا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت ، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ) إلى قوله ( وكونوا مع الصادقين )(التوبة/117ـ119) .

كلاسيك
12-09-2001, 08:17 PM
يقول الشيخ محمد أبو شهبة ـ رحمه الله ـ :

وإن لنا في هذه القصة لعبرًا وعظات وآيات بينات ، تدل على فضل الصحابة وما وصلوا إليه من سمو في الدين والأخلاق وتقدير للمعاني الروحية والقيم الأدبية ، منها :

1 - صدق الإيمان ، وقوة اليقين ، وحضور القلب ، وكيف يسمو الإيمان بصاحبه حتى يرى السعادة الحقة الكاملة في رضوان الله ورسوله ، والشقاوة كل الشقاوة في غضبهما وإنا لنلمس هذا في قول كعب : " حتى تنكرت لي الأرض ، فما هي بالتي أعرف " ، وفي بعض الروايات : " تنكرت لنا الحيطان ،وتنكر لنا الناس ، حتى ما هم الذي نعرف " ، وهذا المعنى يجده الحزين والمهموم في كل شيء ، حتى قد يجده في نفسه فينكرها ، بل نلمس هذا المعنى بصورة أكبر في قول الله عنهم ( وضاقتْ عليهم أنفسُهم )(التوبة/) .

والإنسان قد تضيق به الأرض من سوء من يجاوره أو لعدم وجود من يشاكله ، ومع هذا يكون في اطمئنان من قلبه ، ورضى من نفسه ، ورحابة من صدره ، ولكن أضيق الضيق أن تضيق بالإنسان نفسه ، وحينئذٍ تصير الحياة مهما أحيطت بمظاهر النعيم جحيمـًا لا تطاق ، ويكون الموت خيرًا من الحياة ، وهذا يدل على مبلغ ما كان يتمتع به هؤلاء الثلاثة من قلوب متيقظة ونفوس شفافة وضمائر حية .

2 - إن المقاطعة والهجر كان نوعـًا من أنواع التأديب والزجر في صدر الإسلام ، وقد أثمر هذا اللون من التأديب ثمرته ووصل بهم إلى هذه الخاتمة السعيدة الموفقة ، وإن أضر شيء على أي مجتمع أن يجد فيه أهل الفسق والفجور ، وأهل الظلم والابتداع ، وأهل الاستهتار بالقيم الدينية والخلقية صدورًا رحبة ، ونفوسـًا ترضى عن فعلهم ، بل وتحتضنهم ، ولو أن العصاة والمذنبين والمنحرفين عن الصراط المستقيم وجدوا من المجتمعات التي يعيشون فيها نبذًا لهم ومقاطعة وازدراء ، لكان هذا من أقوى العوامل الدافعة إلى أن يرشد الغاوي ، ويستقيم المعوج ، ويصلح الطالح .

3 - إن المتأمل في القصة يعجب كيف أن الصحابة نفَّذوا ما أمر به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المقاطعة حتى ولو كانوا في غيبة عن أعين الرقباء ، فهذا كعب ينشد ابن عمه كلمة عسى أن يجد فيها ما يخفف ما به من حزن وأسى ، ولكنه يأبى عليه هذه الكلمة ،ويكل علم ذلك إلى الله ورسوله ، وهذه غاية ما يطمع فيه مجتمع من أمانة ومراقبة لله .

4 - في أثناء المحنة تعرض كعب لمحنة أخرى كانت أقسى وأشد من الأولى ، فهذا هو ملك غسان يكتب له كتابـًا وهو في أشد أوقات المقاطعة وضيق النفس ، يفسح له من صدره ، ويفتح له باب الأماني الحلوة ، والجاه العريض ، ويستغل ما كانت عليه حالته النفسية ، فيقول له : قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مَضْيعة ، فالحق بنا نواسيك !!

لو أن كعبـًا ـ رضي الله عنه ـ كان رقيق الإيمان ، ضعيف النفس والخلق لوجد في هذه الفرصة السانحة المغرية ما يرغم به أنوف مقاطعيه ونابذيه ، ولكن أدرك بادئ ذي بدء أنها محنة أخرى أقسى من الأولى ، فلا يرضيه أن يجيب الرجل بالسلب ، أو يرمي بالكتاب ويمزقه ، ولكنه رمى به في التنور ليصير رمادًا ، ويصير كل ما به دخانـًا يتبدد في الهواء ، وخرج الرجل من محنته وهو أقوى ما يكون إيمانـًا ، وأصفى ما يكون روحـًا ، وأكرم ما يكون أخلاقـًا ، فيا لعظمة هذه النفوس المؤمنة الكبيرة !! .

5 - هذه القصة توحي بما كان يتمتع به المجتمع الإسلامي آنئذ من تقدير للقيم الدينية والخلقية ، فغاية ما يطمع فيه الفرد أن يكون على كمال في دينه ، ومن أجلِّ النعم عندهم نعمة التوبة ، إنها لجديرة بأن يهنأ بها المسلم ، وإنا لنلمس هذا المعنى في قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكعب : " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " وخَلْعِ كعب ثوبيه الوحيدين لمن بشره بالتوبة ، ومجيء المسلمين أفواجـًا لتهنئة كعب وصاحبيه ، وعدم نسيان كعب لطلحة بن عبيد الله مصافحته وتهنئته له .

6 - إن من أدب الصحابة ـ وهم خير من يمثل الإسلام ـ أن من شكر الله على نعمائه أن يُخرج شيئـًا من ماله صدقة على الفقراء والمساكين والمحتاجين ، برًا بهم ومواساة لهم ، ترى لو أن كل من حصلت له نعمة دينية أو دنيوية جعل شيئـًا من ماله لله فهل كنت تجد بائسـًا أو محرومـًا ، أو جائعـًا أو عاريـًا ؟ فلا تعجب وقد كوَّن الصحابة هذا المجتمع المثالي في عقيدته ، وسلوكه ، وأخلاقه أن خاطبهم الله سبحانه هذا الخطاب الشريف ( كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )(آل عمران/110) .

( وكذلك جعلناكم أمةً وسطـًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا )(البقرة/143) .
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ فيما اشتملت عليه قصة الثلاثة من الحكم والفوائد ما ملخصه :

- منها أن الرجل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة فالحزم كل الحزم في انتهازها والمبادرة إليها ، والعجز في تأخيرها والتسويف بها ، ولاسيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها ، فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلما تثبت ، والله سبحانه يعاقب من فتح له بابـًا من الخير فلم ينتهزه ، بأن يحول بين قلبه وإرادته فلا يمكنه بعد من إرادته عقوبة له ، فمن لم يستجب لله ورسوله إذا دعاه حال بينه وبين قلبه وإرادته فلا يمكنه الاستجابة بعد ذلك قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون )(الأنفال/24) ، وقد صرح سبحانه بهذا في قوله ( ونُقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة )(الأنعام/110) .

- ومنها معاتبة الإمام والمطاع أصحابه ومن يعز عليه ويكرم عليه ، فإنه عاتب الثلاثة دون سائر من تخلف عنه وقد أكثر الناس من مدح عتاب الأحبة واستلذاذه والسرور به .

- ومنها توفيق الله لكعب وصاحبيه فيما جاءوا به من الصدق ، ولم يخذلهم حتى كذبوا واعتذروا بغير الحق ، فصلحت عاجلتهم وفسدت عاقبتهم كلّ الفساد ، والصّادقون تعبوا في العاجلة كل التعب فأعقبهم صلاح العاقبة ، والفلاح كلّ الفلاح ، وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة ، فمرارات المبادئ حلاوات في العواقب

- وفي نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر من تخلف عنه دليل على صدقهم وكذب الباقين ، فأراد هجر الصادقين وتأديبهم على هذا الذنب ، وأما المنافقون فجرمهم أعظم من أن يقابل بالهجر ، فدواء هذا المرض لا يعمل في مرض النفاق ولا فائدة فيه ، وهكذا يفعل الرب سبحانه بعباده في عقوبات جرائمهم ، فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده بأدني زلة وهفوة فلا يزال مستيقظـًا حذرًا ، وأما من سقط من عينه وهان عليه فإنه يخلي بيه وبين معاصيه ، وكلما أحدث ذنبـًا أحدث له نعمة ، والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه ، ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة وأنه يريد به العذاب الشديد والعقوبة التي لا عقوبة معها .

- وفيه دليل على أن خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يوم توبته إلى الله ، وقبول الله توبته ، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك " .
وقال الحافظ ـ رحمه الله ـ وفيها عظم أمر المعصية ، وقد نبه الحسن البصري على ذلك فيما أخرجه ابن أبي حاتم عنه قال : يا سبحان الله ما أكل هؤلاء الثلاثة مالاً حرامـًا ، ولا سفكوا دمـًا حرامـًا ، ولا أفسدوا في الأرض ، أصابهم ما سمعتم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر .

- وفيها أن القوي في الدين يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ الضعيف .
وقال الدكتور مصطفى السباعي ما ملخصه : وفي قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن الجهاد إيثارًا للراحة على التعب ، والظل على الحر ، والإقامة على السفر ، مع أنهم مؤمنون صادقون درس اجتماعي من أعظم الدروس ، فقد استيقظ الإيمان في نفوسهم بعد قليل فعلموا أنهم ارتكبوا بتخلفهم عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين إثمـًا كبيرًا ، ولما علم الله منهم صدق التوبة ، وبلغ منهم الندم والألم والحسرة مداه تاب الله عليهم ، فلما بشروا بذلك كانت فرحتهم لا تقدر ، حتى انسلخ بعضهم عن ماله وثيابه شكرًا لله على نعمة الرضى والغفران ، إن مثل هذه الدروس تمنع المؤمن الصادق في إيمانه عن أن يتخلف عن عمل يقتضيه الواجب أو يرضي لنفسه بالراحة والناس يتعبون ، والنعيم والناس يبتئسون ، وتلك هي طبيعة الإيمان أن تشعر دائمـًا وأبدا أنك فرد من جماعة وجزء من كل ، وأن ما يصيب الجماعة يصيبك ، وما يفيدها يفيدك ، وأن النعيم لا معنى له مع شقاء الأمة وبؤسها ، والراحة لا لذة لها مع تعب الناس وعنائهم ، وأن التخلف عن الواجب نقص في الإيمان وخلل في الدين وإثم لابد فيه من التوبة والإنابة .

كلاسيك
12-09-2001, 08:18 PM
1 - السيرة النبوية : د.محمد محمد أبو شهبة .

2 - وقفـات تربوية مع السيرة النبوية : للشيخ " أحمد فريد " .

3 - زاد المعاد : للإمام ابن القيم .

4- السيرة النبوية دروس وعبر د.مصطفى السباعي .