شفاف الجوهر
28-10-2002, 01:59 PM
ابن الرومي أشعر شعراء العصر العباسي كله، وإن يكن أقل الشعراء حظاً من عناية التاريخ الأدبي وإنصاف النقاد والدارسين قدامى ومحدثين، حتى كان الكتاب الذي ألفه الأديب الراحل عباس محمود العقاد دراسة منهجية نفسية جامعة، وضعته في مكانه من مسيرة الشعر العربي، وأنصفته من عنَت التاريخ وتجاهل المتأدبين.
وصلت لنا صورة ابن الرومي – الشاعر الفذ ـ في إطار من لوحاته الشعرية البارعة وقصائده الممتلئة فناً ذكياً وحياة متدفقة، وكان أقصى ما تقوله عنه كتب الأدب إنه شاعر هجاء لم يسلم أحد من لسانه، برع في وصف الأمور الدنيا للحياة وشؤونها السوقية.
وبقي ديوان ابن الرومي حتى يومنا هذا، في صورته الكاملة شبه مفقود أو مفتقد، اللهم إلا بضعة فصول منه حققها ونشرها الأديب الراحل كامل الكيلاني، وبالرغم من أنه – كما يقول الرواة – أطول ديوان محفوظ في الشعر العربي كله، لكن إهمال القدماء له وحنقهم عليه وضيقهم بهجائه المقذع الذي يحتل مساحة غير يسيرة من الديوان، فضلاً عن أن نسخة الديوان الكاملة لم تكن ميسورة في بعض البلاد العربية التي كان لها قصب السبق في إعادة طبع وتحقيق بعض الدواوين، كل ذلك جعل شعره غير مجموع بين أيدينا حتى اليوم.
يقول ابن خلكان يصف ابن الرومي ويقدره : " هو صاحب النظم العجيب والتوليد الغريب، يغوص على المعاني النادرة فيستخرجها من مكانها ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره ولا يترك فيه بقية".
ويقول عنه العقد :"الطبيعة الفنية هي الطبيعة التي بها يقظة بيّنة للإحساس بجوانب الحياة المختلفة. وتمام هذه الطبيعة أن تكون حياة الشاعر وفنه شيئاً واحداً لا ينفصل فيه الإنسان الحي عن الإنسان الناظم، وأن يكون موضوع حياته هو موضوع شعره وموضوع شعره هو موضوع حياته، فديوانه هو ترجمة باطنية لنفسه يخفي فيها ذكر الأماكن والأزمان ولا يخفي فيها ذكر خالجة ولا هاجسة مما تتألف منه حياة الإنسان".
ثم يقول: "وابن الرومي واحد من أولئك الشعراء القليلين الذين ظفروا من الطبيعة الفنية بأوفى نصيب، فمن عرف ابن الرومي الإنسان حقّ عرفانه ولم ينقصه منه إلا الفضول، والغريب مع هذا أن ابن الرومي الشاعر هو ابن الرومي الذي لم يعرف بعد، وإن عرفت له مزايا ونالت حسنات له حقها من الإعجاب".
وابن الرومي هو أبو الحسن علي بن العباسي بن جريج الرومي، ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين من الهجرة، من أصل رومي غير عربي، فجده جريج أو جورجيس يوناني، وأمه من أصل فارسي، أما أبوه فقد مات عنه وهو حدث صغير.
ويقولون إن حياته اكتنفها الشقاء واليأس والهم من كل جانب، فقد رزق ابن الرومي ثلاثة أبناء ماتوا جميعاً في طفولتهم، ورثاهم بأبلغ وأفجع ما رثى به والد أبناءه، ثم لحقت بهم زوجته فتمّت بها مصائبه وأحزانه.
والذين يحاولن أن يقدموا له صورة وصفية يقولون إنه كان صغير الرأس مستدير أعلاه، أبيض الوجه يخالط لونه شحوب في بعض الأحيان وتغيّر، ساهم النظرة، بادياً عليه وجوم وحيرة، نحيلاً أقرب إلى الطول، كث اللحية، بادر إليه الصلع والشيب في شبابه، وأدركته الشيخوخة الباكرة فاعتل جسمه وضعف نظره وسمعه، ثم ما لبث في شيخوخته أن تبدلت ملامحه وتقوس ظهره ولحق به ما لا بد أن يلحق بمثله من تغيير نتيجة الأسقام والهموم وتوالي المحن.
ويؤخذ من الروايات الموثوق به أنه توفي سنة أربع وثمانين ومائتين من الهجرة، وأنه أدرك في حياته ثمانية خلفاء من بني العباس هم: الواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد. والمتصفح لأشعار ابن الرومي يدرك على الفور أنه كان شاعراً محباً للحياة، منغمساً في ظواهرها وجوهرها، ملتقطاً لكل ما فيها من صور وأشكال، مشخصاً لمعانيها ومدركاتها.
ولنطالع الآن أشهر قصائد ابن الرومي وهي قصيدة "وحيد المغنية" التي تنطق بقدرته الخارقة على التصوير والتجسيم والتجسيد، والاستقصاء البارع اليقظ في تناول أدق التفاصيل، وذاتيته المنفردة كشاعر، تلك التي تنفجر بها كلماته وموسيقاه وقوافيه.
ويصل ابن الرومي إلى ذروة الإبداع الشعري عندما يرسم بريشته المقتدرة صورة وصفية لوحيد وهي تغني، هنا نجد لوناً من التناول الشعري لا مثيل له في شعرنا العربي كله، بينما يرسم الشاعر العاشق كل خالجة من خوالجها وكل حركة من حركاتها الصوتية هدوءاً وانطلاقاً، بسطاً وقبضاً.
وفي ختام هذه اللوحة الشعرية الفاتنة، يكشف ابن الرومي النقاب عن مدى حبه لوحيد، وعمق تعلقه بها، فهو لا يستمع لنصح يلومه في هواها، بعد أن تملكه هذا الهوى وسد عليه كل الاتجاهات والأبعاد. إنه حب من طراز فريد فهو حب دائم التجدد، دائم المنح والعطاء.
وإليكم بعض الأبيات المقتطفة من هذه القصيدة الرائعة …
يقول ابن الرومي:
نار الحسن:
يا خليلي، تيمتـني وحيد … ففؤادي بها معنى عميد
غادة زانها من الغصن قدّ … ومن الظبي مقلتان وجيد
وزهاها من فرعها ومن الخدّ … ين، ذاك السواد والتوريد
أوقد الحسن ناره في وحيد … فوق خدٍّ ما شأنه تخديد
فهي برد بخدها وسلام … وهي للعاشقين جهد جهيد
لم تضر قط وجهها وهو ماء … وتذيب القلوب وهي حديد
وصف وحيد:
وغرير بحسنها قال: صفها ! … قلت : أمران ، هين وشديد
يسهل القول إنها أحسن الأشيا … ء طرّاً، ويعسر التحديد
شمس دجن، كلا المنيرين – من شمـ … سٍ وبدرٍ – من نورها يستفيد
تتجلى للناظرين إليها … فشقي بحسنها وسعيد
ظبية تسكن القلوب وترعا … ها، وقمرية لها تغريد
شكوى واستعطاف:
أخذ الدهر يا وحيد لقلبي … منك ، ما يأخذ المديل المعيد (المديل: المغير المقلب الأحوال)
حظ غيري من وصلكم قرة العيـ … نِ، وحظي البكاء والتسهيد
غير أني معلل منك نفسي … بعدات خلالهن وعيد (العدات: الوعود والأمنيات)
ما تزالين نظرة منك موت … لي مميت، ونظرة تخليد
نتلاقى، فلحظة منك وعد … بوصال، ولحظة تهديد
قد تركت الصحاح مرضى يميدو … ن نحولاً، وأنت خوط يميد (الخوط: الغصن الناعم)
أرجو أن أكون قد وفقت في هذا الشرح الموجز عن أحد أبرز عناصر الشعر في العصر العباسي.
وتقبلوا تحياتي …
وصلت لنا صورة ابن الرومي – الشاعر الفذ ـ في إطار من لوحاته الشعرية البارعة وقصائده الممتلئة فناً ذكياً وحياة متدفقة، وكان أقصى ما تقوله عنه كتب الأدب إنه شاعر هجاء لم يسلم أحد من لسانه، برع في وصف الأمور الدنيا للحياة وشؤونها السوقية.
وبقي ديوان ابن الرومي حتى يومنا هذا، في صورته الكاملة شبه مفقود أو مفتقد، اللهم إلا بضعة فصول منه حققها ونشرها الأديب الراحل كامل الكيلاني، وبالرغم من أنه – كما يقول الرواة – أطول ديوان محفوظ في الشعر العربي كله، لكن إهمال القدماء له وحنقهم عليه وضيقهم بهجائه المقذع الذي يحتل مساحة غير يسيرة من الديوان، فضلاً عن أن نسخة الديوان الكاملة لم تكن ميسورة في بعض البلاد العربية التي كان لها قصب السبق في إعادة طبع وتحقيق بعض الدواوين، كل ذلك جعل شعره غير مجموع بين أيدينا حتى اليوم.
يقول ابن خلكان يصف ابن الرومي ويقدره : " هو صاحب النظم العجيب والتوليد الغريب، يغوص على المعاني النادرة فيستخرجها من مكانها ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره ولا يترك فيه بقية".
ويقول عنه العقد :"الطبيعة الفنية هي الطبيعة التي بها يقظة بيّنة للإحساس بجوانب الحياة المختلفة. وتمام هذه الطبيعة أن تكون حياة الشاعر وفنه شيئاً واحداً لا ينفصل فيه الإنسان الحي عن الإنسان الناظم، وأن يكون موضوع حياته هو موضوع شعره وموضوع شعره هو موضوع حياته، فديوانه هو ترجمة باطنية لنفسه يخفي فيها ذكر الأماكن والأزمان ولا يخفي فيها ذكر خالجة ولا هاجسة مما تتألف منه حياة الإنسان".
ثم يقول: "وابن الرومي واحد من أولئك الشعراء القليلين الذين ظفروا من الطبيعة الفنية بأوفى نصيب، فمن عرف ابن الرومي الإنسان حقّ عرفانه ولم ينقصه منه إلا الفضول، والغريب مع هذا أن ابن الرومي الشاعر هو ابن الرومي الذي لم يعرف بعد، وإن عرفت له مزايا ونالت حسنات له حقها من الإعجاب".
وابن الرومي هو أبو الحسن علي بن العباسي بن جريج الرومي، ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين من الهجرة، من أصل رومي غير عربي، فجده جريج أو جورجيس يوناني، وأمه من أصل فارسي، أما أبوه فقد مات عنه وهو حدث صغير.
ويقولون إن حياته اكتنفها الشقاء واليأس والهم من كل جانب، فقد رزق ابن الرومي ثلاثة أبناء ماتوا جميعاً في طفولتهم، ورثاهم بأبلغ وأفجع ما رثى به والد أبناءه، ثم لحقت بهم زوجته فتمّت بها مصائبه وأحزانه.
والذين يحاولن أن يقدموا له صورة وصفية يقولون إنه كان صغير الرأس مستدير أعلاه، أبيض الوجه يخالط لونه شحوب في بعض الأحيان وتغيّر، ساهم النظرة، بادياً عليه وجوم وحيرة، نحيلاً أقرب إلى الطول، كث اللحية، بادر إليه الصلع والشيب في شبابه، وأدركته الشيخوخة الباكرة فاعتل جسمه وضعف نظره وسمعه، ثم ما لبث في شيخوخته أن تبدلت ملامحه وتقوس ظهره ولحق به ما لا بد أن يلحق بمثله من تغيير نتيجة الأسقام والهموم وتوالي المحن.
ويؤخذ من الروايات الموثوق به أنه توفي سنة أربع وثمانين ومائتين من الهجرة، وأنه أدرك في حياته ثمانية خلفاء من بني العباس هم: الواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد. والمتصفح لأشعار ابن الرومي يدرك على الفور أنه كان شاعراً محباً للحياة، منغمساً في ظواهرها وجوهرها، ملتقطاً لكل ما فيها من صور وأشكال، مشخصاً لمعانيها ومدركاتها.
ولنطالع الآن أشهر قصائد ابن الرومي وهي قصيدة "وحيد المغنية" التي تنطق بقدرته الخارقة على التصوير والتجسيم والتجسيد، والاستقصاء البارع اليقظ في تناول أدق التفاصيل، وذاتيته المنفردة كشاعر، تلك التي تنفجر بها كلماته وموسيقاه وقوافيه.
ويصل ابن الرومي إلى ذروة الإبداع الشعري عندما يرسم بريشته المقتدرة صورة وصفية لوحيد وهي تغني، هنا نجد لوناً من التناول الشعري لا مثيل له في شعرنا العربي كله، بينما يرسم الشاعر العاشق كل خالجة من خوالجها وكل حركة من حركاتها الصوتية هدوءاً وانطلاقاً، بسطاً وقبضاً.
وفي ختام هذه اللوحة الشعرية الفاتنة، يكشف ابن الرومي النقاب عن مدى حبه لوحيد، وعمق تعلقه بها، فهو لا يستمع لنصح يلومه في هواها، بعد أن تملكه هذا الهوى وسد عليه كل الاتجاهات والأبعاد. إنه حب من طراز فريد فهو حب دائم التجدد، دائم المنح والعطاء.
وإليكم بعض الأبيات المقتطفة من هذه القصيدة الرائعة …
يقول ابن الرومي:
نار الحسن:
يا خليلي، تيمتـني وحيد … ففؤادي بها معنى عميد
غادة زانها من الغصن قدّ … ومن الظبي مقلتان وجيد
وزهاها من فرعها ومن الخدّ … ين، ذاك السواد والتوريد
أوقد الحسن ناره في وحيد … فوق خدٍّ ما شأنه تخديد
فهي برد بخدها وسلام … وهي للعاشقين جهد جهيد
لم تضر قط وجهها وهو ماء … وتذيب القلوب وهي حديد
وصف وحيد:
وغرير بحسنها قال: صفها ! … قلت : أمران ، هين وشديد
يسهل القول إنها أحسن الأشيا … ء طرّاً، ويعسر التحديد
شمس دجن، كلا المنيرين – من شمـ … سٍ وبدرٍ – من نورها يستفيد
تتجلى للناظرين إليها … فشقي بحسنها وسعيد
ظبية تسكن القلوب وترعا … ها، وقمرية لها تغريد
شكوى واستعطاف:
أخذ الدهر يا وحيد لقلبي … منك ، ما يأخذ المديل المعيد (المديل: المغير المقلب الأحوال)
حظ غيري من وصلكم قرة العيـ … نِ، وحظي البكاء والتسهيد
غير أني معلل منك نفسي … بعدات خلالهن وعيد (العدات: الوعود والأمنيات)
ما تزالين نظرة منك موت … لي مميت، ونظرة تخليد
نتلاقى، فلحظة منك وعد … بوصال، ولحظة تهديد
قد تركت الصحاح مرضى يميدو … ن نحولاً، وأنت خوط يميد (الخوط: الغصن الناعم)
أرجو أن أكون قد وفقت في هذا الشرح الموجز عن أحد أبرز عناصر الشعر في العصر العباسي.
وتقبلوا تحياتي …